انطلق الحديث عن العولمة الليبرالية عمليا مع انهيار سور برلين وشروع البلدان الاشتراكية سابقا في الخضوع للبرامج التقويمية لصندوق النقد الدولي. لكن هذه الفترة تزامنت أيضا مع خضوع جل بلدان العالم الثالث لبرامج التقويم الهيكلي، حيث بدأت في اعتماد هذه البرامج ما بين 1982 و1985 واستمرت رسميا الى حدود 1993 و1995. وبطبيعة الحال فإن خضوع البلاد الاشتراكية سابقا وبلدان العالم الثالث لسياسات موحدة للتقويم الهيكلي جاء نتيجة تعرض هذه البلدان في مراحل متفاوتة لأزمة المديونية الخارجية. كما أصبح من الطبيعي أن نشاهد هذا الانتشار المنقطع النظير للشركات متعددة الاستيطان عبر العالم، نتيجة لتطبيق سياسات التقويم المشار اليها. من هنا يمكننا التأكيد منذ البداية على العلاقة الوثيقة القائمة ما بين ظاهرة العولمة الليبرالية والمديونية الخارجية. فالمديونية الخارجية كانت هي السبيل الناجع للتحكم المطلق للرأسمال على الصعيد العالمي، ويعتبر هذا التحكم المطلق هو التعبير الاقتصادي والسياسي عن بلوغ مرحلة العولمة الليبرالية.
ويسود اعتقاد خاطئ اليوم لدى العديد من الناس بأن هذا النمط من العولمة الليبرالية السائدة حاليا أصبحت بمثابة قضاء وقدر أي أنها ذات طابع حتمي وأن كل من يتصور وضع آخر للمجتمع العالمي فهو متوهم. لكن العولمة الليبرالية في الواقع هي كأي نظام إيديولوجي اقتصادي واجتماعي آخر عبارة مجموعة من القوانين الاقتصادية التي تمكنت المنظومة الرأسمالية من فرضها على العالم في مرحلة معينة من تاريخها. كما تؤكد الشواهد التاريخية على أن التاريخ لا يترتب نتيجة قوانين اقتصادية خالصة، وإنما نتيجة هذه القوانين من جهة وردود فعل المجتمع عليها من جهة أخرى. فإذا كانت العولمة الليبرالية تشكل التعبير الصريح للتحكم المطلق لرأس المال على الصعيد العالمي، فإن ردود فعل المجتمعات ونضالاتها السياسية والاجتماعية من شأنها تغيير موازين القوى لصالحها.
إن الحديث عن المديونية الخارجية والعولمة الليبرالية يجعلنا ننطلق من طرح عدد من التساؤلات التي تحدد الاجابات عنها الدور الحقيقي الذي تلعبه المديونية الخارجية في زمن العولمة الليبرالية. وأهم الأسئلة التي يمكن الانطلاق منها هي كما يلي:
– ما هو السياق التاريخي الذي تطورت فيه المديونية الخارجية لبلاد العالم الثالث؟
– ماهي دوافع الدول الرأسمالية لإغراق بلاد العالم الثالث بالديون؟
– ما هي دوافع افراط بلاد العالم الثالث في الاستدانة من الخارج؟
- ما هي عواقب المديونية الخارجية على بلاد العالم الثالث؟
– ما هي الحلول المقترحة لعلاج اشكالية المديونية الخارجية على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
أولا: السياق التاريخي لأزمة المديونية الخارجية:
دون الرجوع الى الدور الذي لعبته المديونية الخارجية في التمدد الاستعماري للقوى الرأسمالية في بلاد العالم الثالث منذ أواسط القرن التاسع عشر وإلى غاية أواسط القرن العشرين. نكتفي هنا بالإشارة إلى أن فرض الحماية الفرنسية على المغرب جاء عقب تعرضه لأزمة مالية خطيرة نتيجة تفاقم حجم مديونيته الخارجية وإفلاس السياسة العامة في تدبير هذه الأزمة. الشيء الذي اضطر المغرب آنذاك، فيما يشبه تحويل مديونيته الخارجية إلى استثمارات أجنبية، إلى فتح حدوده على مصراعيها أمام المعمرين الأجانب الذين سيطروا آنذاك على المراسي، والمناجم والاستغلاليات الفلاحية وتم توسيع أنشطة المستثمرين الأجانب الكبار من أمثال بنك باريس والأراضي المنخفضة والكونسرتيوم المكون من الأبناك الفرنسية وشركتا شنايدر وروتشيلد ومناجم الريف والشمال الإفريقي.
فقد سهلت هذه الهيمنة المالية ثم الاقتصادية الأجنبية عملية فرض معاهدة الحماية على المغرب، من جهة لحماية استغلالات رؤوس الأموال الأجنبية ومن جهة أخرى لردع انتفاضة بعض المغاربة الغيورين على استقلال بلادهم . والملاحظ أن التاريخ يعيد نفسه اليوم، حيث يوجد المغرب في وضع لا يحسد عليه من جراء مديونيته الخارجية أو من جراء سيطرة الأجانب على مختلف هياكله الاقتصادية.
إن ما يهمنا هنا هو التاريخ الحديث للمديونية الخارجية والذي بدأ منذ عقد السبعينات من القرن العشرين، وهنا لا بد من الاشارة الى التحول الذي طرأ على العلاقات الاجتماعية الدولية من الحرب العالمية الثانية، والذي قاد نحو التحكم المطلق للرأسمال العالمي وإلى ما يسمى بالعولمة الليبرالية. فمعظم الأبحاث تؤكد على أن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تميزت بالاستقرار والرواج الاقتصادي والذي ساد الى أواسط عقد السبعينات. ثم بعد ذلك ستسود فترة جديدة من الفوضى والأزمة.
1 – التوازن بين رأس المال والعمل عقب الحرب العالمية الثانية
ففي الفترة المتراوحة ما بين 1945 و1975 عاش العالم في وضع من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لم يسبق له مثيل منذ ولادة النظام الرأسمالي منذ قرنين من الزمان.
- ففي الغرب جاء الانتصار على الفاشية في صالح الطبقات العاملة مما أتاح تسوية تاريخية بين رأس المال والعمل، حيث ساد مشروع الدولة الاشتراكية الديموقراطية في الغرب. وهو مشروع دولة الرفاه الذي تميز بسيادة الأداء الاقتصادي الكينيزي الذي ارتكز على عدالة توزيع الدخل عبر العديد من الميكانيزمات وقيام الدولة بتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية.. الخ بالمجان.
- كما أدى انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب واندلاع الثورة الصينية الى خلق إطارا آخر ملائم للنضال السياسي شجع بدوره على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من خلال التحدي الذي فرضه النمط الاشتراكي على رأس المال فألزمه بقبول التسوية مع الطبقة الكادحة. ورغم المؤاخذات على النظام السوفيتي الذي تم نعته برأسمالية الدولة وباستغلال البيروقراطية للمشروع الاشتراكي وغياب الديموقراطية وحرمان النظام من فرصة إعادة إنتاج نفسه مما أدى إلى انهياره، فإن كل ذلك لا يخفي المفعول المشجع لهذا النظام على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على الصعيد العالمي والذي ترتب نتيجة المنافسة السياسية والإيديولوجية بين "الشرق" و "الغرب".
- كما استغلت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ظروف الحرب ومساهمة شعوبها فيها من أجل تحقيق الاستقلال، وتبني ما يسمى بإيديولوجية التنمية في بلدان الجنوب انطلاقا من مؤتمر باندونغ المنعقد في اندنوسيا سنة 1955، وقد استغلت الحركات الوطنية المنافسة القائمة بين الشرق والغرب لتدعيم استقلالها وشروط تنميتها.
◄ فالازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي الذي تلى الحرب العالمية الثانية كان يدين بالأساس بقيام رأس المال بتكييف استراتيجياته مع مقتضيات العلاقات الاجتماعية التي فرضتها القوى الديموقراطية والشعبية. وهو الوضع الذي أفرزته تنافسية المشاريع المجتمعية الثلاثة في الشرق والغرب والجنوب.
2 – اختلال التوازن لصالح رأس المال منذ عقد السبعينات
لكن التوازن الذي حصل بين رأس المال والعمل سيبدأ في التآكل تدريجيا مع بداية عقد السبعينات.
- فمشروع دولة الرفاه سيتآكل نتيجة الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي التي انفجرت مع بداية عقد السبعينات. فقد استغلت الأحزاب اليمينية والرأسمال العالمي هذه الأزمة لتسليط هجومها على النهج الاقتصادي الكينيزي وعلى الدور التدخلي للدولة، حيث تم تبني حلول جديدة لتدبير الأزمة تقوم على اطلاق الحرية الكاملة لرأس المال على الصعيدين المحلي والعالمي، كما تخول لكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقيات الكات مهمة دعم ومواكبة هذه الحلول.
- أما المشروع الاشتراكي السوفيتي فقد بدأ هو الآخر في التآكل نتيجة تغييب الديموقراطية ومركزة القرارات وعدم القدرة على إعادة إنتاج النظام، فبدأ الاتجاه تدريجيا من نموذج رأسمالية الدولة إلى رأسمالية الأفراد نتيجة تحكم المافيات الكومبرادورية في هرم السلطة ونتيجة إغراق البلاد في المديونية الخارجية.
- أما مشروع باندونغ لتنمية بلاد العالم الثالث فقد انهار هو الآخر مع تفاقم مديونية هذه الدول وهيمنة المؤسسات المالية الدولية على عملية صنع القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عملت على تكييفها مع شروط تراكم الرأسمال العالمي. وتوجد أغلب دول العالم الثالث اليوم تحت هيمنة الكومبرادوريات التي تقوت بفعل تأثير سياسات التقويم الهيكلي التي اعتمدت كسياسات لتدبير أزمة المديونية الخارجية المستفحلة.
◄ النتيجة إذن هي أن انهيار التوازنات السابقة خلق ظروفا جديدة ملائمة للعودة الى التحكم المطلق لمنطق رأس المال الأحادي الجانب في مختلف بقاع العالم. حيث أستطاع هذا المنطق اغراق مختلف الحكومات بمديونية خارجية لا تطاق ومن تم اخضاعها لشروط تتماثل مع شروط التراكم الرأسمالي العالمي. وقد استطاع تحكم رأس المال من خلال فرض شروطه عبر المؤسسات المالية الدولية من إلغاء المكاسب التاريخية للطبقات الكادحة والشعوب. فمع تزايد حدة الأزمة الاقتصادية الهيكلية للمنظومة الرأسمالية تزايدت شراسة النظام وتصميمه على بسط نفوذه على مختلف المصادر الاقتصادية على الصعيد العالمي.
3 – دوافع الدائنين والمدينين في تصدير واستيراد رؤوس الأموال
أ – دوافع الدائنين لتصدير رؤوس أموالهم
هناك دوافع كثيرة تدفع الرأسمال العالمي الى تصدير أمواله على شكل قروض خارجية أو استثمارات أجنبية خاصة، وقد تحدث العديد من الاقتصاديين عن هذه القضية، حيث يتفق أغلبهم على ارجاع هذه الدوافع الى دافع رئيسي يتمثل في الأزمة الهيكلية الداخلية للنظام الرأسمالي ومحاولات الخروج منها، وتشكل العلاقة الجدلية القائمة بين الأزمة وسبل تدبيرها المحور المحرك لدينامية النظام الرأسمالي وتطوره.
فهناك حقيقة أكدتها مختلف المدارس الاقتصادية، كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الماركسية والمدرسة الكينيزية على الرغم من اختلاف منطلقاتها وتوجهاتها، وتتمثل هذه الحقيقة في أن معدل الربح يتجه في النظام الرأسمالي في الأجل الطويل نحو التدهور.
كما تؤكد هذه الظاهرة نظرية الدورة الاقتصادية، سواء القصيرة الأمد المكونة من ثلاث سنوات (مثل دورة كيتشن) أو المتوسطة المكونة من عشر سنوات (مثل دورة جاجلر ) أو الطويلة المكونة من خمسين أو ستين سنة (مثل دورة كوندراتيف)، فنظرية الدورة الاقتصادية تفسر باتجاه معدل الربح نحو التناقص، حيث تبدأ الدورة الاقتصادية عموما بمرحلة قصيرة نسبيا من الإزدهار تم يليها بعد ذلك مرحلة طويلة نسبيا من الأزمة. من هنا صيغت المقولة الشهيرة التي تؤكد على أن تاريخ الرأسمالية عبارة عن سلسلة من الأزمات الدورية. وتجدر الاشارة هنا الى أن المتضرر الأساسي من هذه الأزمات هي الطبقات الكادحة، ففي فترة الرواج تكون تحت طائلة الاستغلال البشع، وفي فترة الكساد تعاني من البطالة ومن تخفيضات الأجور أو تجميدها.
وعلى العموم فإن اتجاه معدل الربح نحو التناقص على المدى الطويل يحدث نتيجة التفاوت بين قدرة النظام الرأسمالي الكبيرة على الانتاج والتراكم المالي من جهة // وبين التدهور الكبير في القدرة على تصريف المنتجات واستهلاكها نتيجة سوء توزيع الدخل الوطني وتدهور القدرة الشرائية لدى العمال الذين يشكلون القوة الاستهلاكية الرئيسية للنظام من جهة أخرى. وتتجسد الأزمة في انتشار الكساد وتجميد الاجور وتسريح المئات من العمال وتفاقم حدة البطالة وتراجع مستوى الاستثمار وتفاقم معدلات التضخم. من هنا يشرع النظام في البحث عن سبل تدبير أزمته بدلا من علاجها، حيث يكون الهدف هو انتاج نفس الشروط السابقة للإنتاج والتراكم على الصعيدين الداخلي والخارجي ثم السقوط بعد ذلك في ازمة جديدة.
ويشكل التفاوت الدائم بين القدرة الهائلة على زيادة حجم الانتاج وبين القدرة المحدودة على تصريف المنتجات، تناقضا أساسيا يهدد النظام الرأسمالي بعدم التوازن وبصعوبات تكرار الانتاج الموسع واندلاع الأزمات، لذلك يصبح تصريف فائض الانتاج داخل الاقتصاد الرأسمالي مع مرور الوقت مستحيلا. لذا وجد النظام الرأسمالي أن حل هذا التناقض يجب أن يكون خارجيا، أي خارج دائرة الاقتصاد الوطني، وفي بيئات غير رأسمالية، أي في مناطق وبلاد لم تتحول بعد الى النظام الرأسمالي، لأنه لو تمت محاولة التصريف في بيئات رأسمالية مماثلة ، فإن المشكلة تستفحل أكثر.
من هنا يمكن ملاحظة أن توسع النظام الرأسمالي خارجيا وسيطرته وإخضاعه للبلاد الأقل تقدما في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية قد خفف كثيرا، من الميل المتأصل في الرأسمالية نحو الركود والبطالة والأزمات. لذلك فإن الازدهار والاستقرار الاقتصادي النسبي الذي عاشته الدول الرأسمالية الكبرى خلال الحقبة الاستعمارية كان رهينا بمدى توسعها وسيطرتها على شعوب أخرى.
فغزو المناطق غير الرأسمالية ودفعها إلى أن تقوم بدور المنافذ المعوضة، وتكييفها لكي تحد من ميل معدل الربح نحو التدهور في العواصم الاستعمارية تطلب جعل أسواق هذه المناطق تبادلية. ولهذا عملت الرأسمالية الاستعمارية على تحطيم الاقتصاد الطبيعي في تلك المناطق وتدعيم علاقات الملكية الخاصة، واجبار سكانها على استعمال النقود وتوسيع العلاقات السلعية النقدية، وإغراقها في الديون الخارجية لإخضاعها.
ودون الدخول في التفاصيل فإن الشواهد التاريخية تؤكد على مدى تطرف الحلول التي لجأت اليها الرأسمالية، للتخفيف من تناقضاتها وتخفيف أزماتها الهيكلية الداخلية، فالاستعمار والحروب شكلت الحلول الأكثر تطرفا حيث كانت تؤدي الى تهجير أعداد ضخمة من الموارد البشرية للتخفف من حدة الانفجارات الاجتماعية كما كانت البلاد المستعمرة تعد مجالا حيويا لاستيراد المواد الأولية وأسواقا لتصريف المخزون من الانتاج السلعي الفائض ومجالا لاستثمار رؤوس الأموال الفائضة.
ورغم انتهاء فترة الاستعمار المباشر، ضل تصدير رؤوس الأموال الى الخارج بمثابة الحل السحري للحفاظ على توازن النظام الرأسمالي وحمايته من الانهيار، لذلك يتركز كامل اهتمام الدول الصناعية الكبرى اليوم على الدفاع عن استراتيجية اقتصادية تضمن من خلالها انفتاح جميع دول العالم أمام رؤوس أموالها وسلعها التي تشرف عليها شركاتها متعددة الاستيطان. ويقف اليوم وراء بلورة وتطبيق واستمرارية هذه الاستراتيجية كل من مجموعة الدول السبعة الأكثر تصنعا والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للتجارة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وكذا المؤسسات الأمنية والعسكرية كمجلس الأمن والحلف الأطلسي.
إن شروط تحقيق التراكم الرأسمالي تتطلب كما هو الشأن في اطار حدود الدولة الأمة وجود مناخ ملائم لاستغلال اليد العاملة والموارد الطبيعية والاراضي اللازمة، نفس الشيئ أصبح يتحقق تدريجيا على الصعيد العالمي عبر تكييف مختلف البلاد المتخلفة مع هذه الشروط في ظل ما يعرف بسياسات التقويم الهيكلي. لذلك تحرص المراكز الرأسمالية الكبرى على اقناع بلدان العالم الثالث باتاحة الامتيازات والضمانات والحوافز الكافية لاستقبال استثماراتها الخارجية.
ب – دوافع الدول المدينة لاستيراد رؤوس الأموال
عقب استقلالات البلاد النامية كان الهاجس الذي يتملك حكومات هذه البلاد هو التعجيل بالتنمية الإقتصادية ورفع مستوى معيشة شعوبها. وكان حل مشكلة التراكم وتمويل التنمية الاقتصادية يعد أحد الشروط الأساسية للنجاح. ذلك لأن الارتفاع بمعدل التراكم يعد شرطا هاما للارتفاع بمعدل نمو الدخل الوطني وزيادة فرص التوظيف وتغيير الهيكل الاقتصادي المشوه، ورفع مستوى اتناجية العمل الانساني ... الخ. ومعلوم أن انخفاض معدل التراكم في الدول النامية أعتبر أحد السمات الهامة لظاهرة التخلف الاقتصادي. لكن الاشكالية التي واجهتها هذه الدول هي اتساع الفجوة القائمة بين معدل الادخار المحلي المتواضع ومعدل التراك (الاستثمار) المطلوب. ولسد هذه الفجوة لجأت الدول النامية الى الاقتراض والتمويل الخارجي بصفة عامة.
وقد استمرت الحاجة الى التمويل الخارجي قائمة ومتزايدة عبر الزمن، مما أدى الى أن يصبح رأس المال الأجنبي، على اختلاف أنواعه، مستأثرا بتمويل نسب هامة من اجمالي الاستثمارات المتحققة في هذه البلاد.
على أن الخطأ الفادح الذي وقعت فيه معظم البلاد النامية في صدد استعانتها بالموارد الأجنبية لتمويل برامج تنميتها انها لم تنظر الى هذه الموارد على أنها عنصر ثانوي ومكمل للموارد الداخلية، بل اعتبرته العنصر الحاسم والحاكم في مسار عملية التنمية. فقد نظرت كثير من البلاد النامية الى رأس المال الأجنبي على أنه بديل لجهد الإدخار الوطني. ففي الوقت الذي كان من المفروض فيه على المسؤولين عن السياسة الاقتصادية العمل بشتى الطرق لكي تزيد قيمة المدخرات المحلية –على الأقل بقيمة الأعباء السنوية المترتبة على الديون الخارجية- سنجد أن السياسة الاقتصادية في هذه الدول لا تعمل على تحقيق ذلك، بل تترك الزيادة في الاستهلاك تلتهم معظم ثمار التنمية. فالفلسفة السائدة كانت تهدف الى رفع مستوى الاستهلاك في أقصر فترة ممكنة تحت دعوى تعويض الحرمان الذي عانته هذه البلاد في الماضي.
لكن الاستمرار في التنمية –في ضل هذه الفلسفة لا بد أن يؤدي الى تزايد الاعتماد على التمويل الخارجي لتعويض النقص الذي يحدث في معدلات الادخار والاستثمار. ونظرا لتزايد أعباء التمويل الخارجي فإن المسار الحتمي الذي انتهت اليه هذه الفلسفة هو نقل عبء تمويل الزيادة التي حدثت في الاستهلاك في الأجل القصير والمتوسط الى كاهل الأجيال الأخرى التي تعيش الآن أزمة الديون الخارجية لمجتمعاتها ونتائج هذه الأزمة.
وتبدو ضخامة مسؤولية البلاد النامية في تفاقم مشكلة ديونها في تفاقم مشكلة ديونها الخارجية بشكل أوضح فيما انتهجته هذه البلاد من استراتيجيات خاطئة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي خلال العقد الأول للتنمية (1960 – 1970). حيث اختارت كثير من هذه الدول استراتيجيات غير ملائمة لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، ولا تتناسب مع طبيعة الامكانات المتاحة بها، وتتعارض مع ما تتطلع اليه الجماهير العريضة من رفع حقيقي لمستوى معيشتها.
فقد اعتمد واضعوا السياسة الاقتصادية في الدول النامية عند وضع استراتيجيات التنمية والخطط المتفرعة عنها على تطبيق نماذج جاهزة للنمو، وضعها الفكر الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتقدمة دون مراعاة للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في هذه البلدان.
وحينما لجأت الدول النامية الى أشكال التمويل الخارجي لم ترسم لنفسها سياسة واضحة وسليمة للاقتراض، وقد أدى غياب هذه السياسة الى حدوث أخطاء جسيمة ساهمت بشكل مباشر في تفجير أزمة الديون الخارجية لهذه الدول. وتتجلى السياسة الخاطئة للاقتراض الخارجي في:
1 – عدم وجود رؤية واضحة حول حدود المدى الزمني للتمويل الخارجي
2 – تمويل الواردات من السلع الاستهلاكية التي لا تساهم في زيادة الطاقة الانتاجية للبلد ولا تخلق موردا مباشرا أو غير مباشر، لتسديد أعباء هذه القروض.
3 – كما تم استخدام قروض قصيرة الأجل ذات تكلفة عالية لتمويل استثمارات طويلة الأجل.
4 – عدم مراعاة التزامن بين سداد القروض وتشغيل الطاقات الانتاجية الممولة بواسطة هذه القروض
5 – حدوث أخطاء جسيمة في تقييم المشاريع الممولة بواسطة القروض الأجنبية
6 – تنفيذ أنواع من المشاريع لا تلبي الاحتياجات الأساسية للجماهير ولا تؤدي الى الاستخدام الأمثل للموارد.
4 – تطور المديونية الخارجية ابتداء من عقد السبعينات
أ – سياق المديونية الخارجية:
بدأ التاريخ الحديث للمديونية الخارجية مع بداية عقد السبعينات، حيث لم تكن تتجاوز المديونية الخارجية للمغرب مثلا في بداية هذا العقد 2 مليار دولار. غير أن عددا من العوامل ساهمت منذ ذلك الحين في انفجارها زكتها الفوضى التي أحدثتها الصدمتين النفطيتين الأولى والثانية (1973 و1979)، وكذلك ارتفاع سعر الدولار ومعدلات الفائدة التي بلغت مستويات خيالية، اضافة الى اشتعال اسعار صرف العملات نتيجة تعويمها، وما صاحب كل ذلك من توافر سيولة مفرطة في الأسواق المالية الدولية نتيجة بروز ظاهرتي اليورودولار والبترودولار.
في ظل هذه الفوضى حدث تفاعل بين حاجة البلاد النامية المتزايدة الى السيولة المالية لتمويل وارداتها وانجاز بعض الاستثمارات العمومية؛ وحاجة الدول المتقدمة والأبناك دولية النشاط والشركات متعددة الجنسية التي تراكمت لديها فوائض مالية هائلة الى ايجاد منافذ لتوظيف هذه الفوائض درءا لاحتمالات تبخيس قيمتها.
في ظل هذا الوضع تسارعت حدة استدانة البلاد النامية لدى الدول المتقدمة والأبناك والمؤسسات والشركات الدولية النشاط. ففي فترة وجيزة تتراوح مابين سنة 1975 و1982 عرفت المديونية الخارجية في البلاد النامية اشتعالا خطيرا في فترة تتسم بارتفاع معدلات الفائدة وارتفاع سعر صرف الدولار واسعار الطاقة، وهو ما يعني أن الاستدانة كانت تتم بأسعار مرتفعة باهضة التكلفة.
وقد أدت هذه الظاهرة الى عواقب خطيرة على البلاد النامية مع حلول عقد الثمانينات، فقد انتقل حجم المديونية في المغرب مثلا من 2 مليار دولار في بداية عقد السبعينات الى 11 مليار دولار سنة 1983 مما دفع البلاد الى حالة من العجز عن الوفاء بمستحقاتها اتجاه الدائنين. فقد بلغت المديونية الخارجية الى حوالي 97 % من الناتج الداخلي الاجمالي وهي وضعية غير مقبولة من طرف الدائنين. حيث تقدم المغرب خلال سنة 1983 بطلب عروض دولي لاستيراد مادة السكر دون أن يستجيب العارضون الدوليون لطلبه نظرا لعدم ثقتهم في قدرته على الوفاء بالتزاماته.
من هنا انطلق المسلسل المعروف والمتمثل في وضع المغرب تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية، صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ابتداء من صيف 1983 في اطار ما يسمى بمرحلة برنامج التقويم الهيكلي. وتقوم هذه الوصاية على المنطق الميكانيكي الذي طوره صندوق النقد الدولي والذي يقول: بما أنك دولة تعيش حالة من العجز عن الوفاء بالتزاماتك اتجاه الدائنين، فأنت في حاجة الى طلب اعادة جدولة الديون المتراكمة، بمعنى أنه عليك أن تعمل على تأجيل استحقاقات الدفع لمدة ثلاث سنوات مع امكانية مراجعة هذا التأجيل لعدة مرات، لذلك عليك أن تتحمل كلفة هذه التأجيلات.
إن كلفة اعادة الجدولة لا تكون مالية فقط وإنما اقتصادية واجتماعية كذلك. فعلى المستوى المالي تعتبر عملية اعادة الجدولة باهظة الثمن، لأن المدين لا يؤدي فقط المتأخرات والتسديدات المؤجلة، وإنما يؤدي كذلك وجيبات التأخير المتزايدة بالإضافة إلى الفوائد، علما بأن هذه الأخيرة كانت جد مرتفعة خلال عقدي السبعينات والثمانينات. أما على مستوى السياسة الاقتصادية فتظهر كلفة اعادة الجدولة من حيث ضرورة الخضوع لسياسة اقتصادية ومالية واجتماعية انكماشية، تدعى بسياسات التقويم الهيكلي.
ويشير منطق صندوق النقد الدولي هنا الى أنك إذا ما طبقت هذه السياسات فيجب أن تكون قادرا على استعادة التوازنات الهيكلية لإقتصادك، وبالتالي أن نستخلص ما أمكن من الفوائض المالية المتزايدة لتتمكن من الوفاء بالتزاماتك اتجاه الدائنين، وكسب ثقتهم مما يفتح المجال أمامك الى المزيد من الاستدانة. ويؤكد هذا المنطق على حقيقة صارخة تتمثل في أن العملية تصبح عبارة عن دائرة مفرغة بين نقطتين أولها الاستدانة وآخرها المديونية ثم العودة مرة أخرى الى الاستدانة فالمديونية.
إن برامج التقويم الهيكلي لا تتضمن تدابير تستهدف الرفع من مستوى معيشة المواطنين، بل يقتصر هدفها الوحيد على استعادة التوازنات الهيكلية لاستعادة ثقة الدائنين لسداد المديونية وفتح المجال لاستدانات جديدة. ويحق لنا هنا أن نتساءل عن مآل هذه القروض التي لا دخل للشعوب في اقرارها أو الرقابة عليها بينما تتحمل عبئها بدمائها؟ فغياب الديموقراطية في بلاد العالم الثالث وكذا فساد الحكومات والبرامج السياسية يؤكد على أن استخدام هذه القروض لا يتم لفائدة الشعوب وإنما لاستغناء الكومبرادورية والطبقات الحاكمة.
وقد اعتبر العقد المتراوح ما بين 1983 و1993 عقد التقويم الهيكلي واعادة الجدولة بامتياز، حيث وقع المغرب خلال هذا العقد على تسع اتفاقيات لاعادة الجدولة، منها خمس اتفاقيات مع نادي باريز وأربع اتفاقيات مع نادي لندن. علما بأن نادي باريز يعتبر ناديا للدول الدائنة، ؛ أما نادي لندن فيضم الدائنين الخواص من أبناك دولية ومستثمرين دوليين وشركات متعددة الاستيطان...الخ. فهناك نادي الدائنين الرسمي العمومي الدولتي، وهناك نادي الدائنين الخواص.
وخلال عشر سنوات كان المغرب عند كل اعادة جدولة يستفيد من تأجيل إرجاع بعض ديونه التي لم يتمكن من سدادها. وفي المقابل كان عند كل اعادة جدولة يلتزم بفوائد ووجيبات التأخير الاضافية والباهظة التكلفة. ومنذ انتهاء عقد اعادة الجدولة سنة 1993 أصبح المغرب يوجد في قمة منحنى ما يسمى بدورة المديونية، حيث تكون أعلى درجات سداد الفوائد والأقساط والمتأخرات، فالمغرب لا يسدد اليوم فقط القروض المعقودة خلال عقد السبعينات أو في بداية عقد الثمانينات، وانما يسدد كذلك ما لم يقم بتسديده من قبل، أي ما تم تأجيله عبر اتفاقيات اعادة الجدولة لعقد الثمانينات. فالسداد أصبح يتم بعد سنة 1993 بانتظام وفي الآجال المعلومة لذلك.
تلك إذن هي الصورة الاجمالية لمسار المديونية سواء في المغرب أو في بقية البلاد النامية، فجل الدول النامية سقطت فيما يسمى بحالة العجز عن الأداء ما بين سنة 1980 و1985 ثم انخرطت جلها في عمليات اعادة جدولة الديون الخارجية ما بين سنة 1985 و1995 وهناك حاليا العديد من الدول التي لا زالت تعيد جدولة ديونها. لكن على العموم فإن نفس المسار نجده يتكرر لدى هذه الدول أي التوقف عن السداد ثم اعادة الجدولة مع تطبيق برامج التقويم الهيكلي، وبعد مرور 10 الى 15 سنة يتم الخروج من مرحلة اعادة الجدولة لتبدأ المرحلة التي نعيشها حاليا من السداد الأقصى للمديونية.
وتجدر الاشارة الى أن بداية الحديث عن العولمة الليبرالية وعن مقولة نهاية التاريخ تزامن مع عقد تطبيق الاصلاحات الاقتصادية في بلاد العالم الثالث وسقوط جدار برلين وخضوع البلاد الاشتراكية سابقا لما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي وهي الفترة المتراوحة ما بين 1985 و1995. فتطبيق هذه السياسات فسح المجال للشركات متعددة الاستيطان من بسط سيطرتها على مختلف الاقتصاديات تقريبا.
ب – المعطيات الرقمية للمديونية الخارجية
على مستوى الأرقام انتقلت المديونية الخارجية في المغرب من حوالي 2 مليار دولار في بداية عقد السبعينات الى حوالي 8 مليار دولار في نهاية هذا العقد ثم الى حوالي 12 مليار دولار سنة 1982، ثم الى 14 مليار دولار سنة 1985، ثم الى حوالي 22 مليار دولار في بداية عقد التسعينات، ثم ارتفع حجم المديونية بعد ذلك الى 23 مليار دولار سنة 1995، وانطلاقا من سنة 1997 بدأ نوع من التراجع البطيء نحو 21 و20 مليار دولار، ويوجد المغرب اليوم فيما بين 14 و16 مليار دولار، نتيجة ما سمي بالتدبير النشيط للمديونية.
وتبرز المبالغ التي تم سدادها لحد الآن برسم المديونية الخارجية ما بين سنتي 1980 و 2000 مفارقة غريبة لا يجب تجاهلها، وتتمثل في أنه بعد مرور 20 سنة من محاولة علاج مشكلة المديونية، نجد أنفسنا نتحمل عبء دين تضاعف في المجموع مرتين، وبعبارة أخرى أنه خلال 30 سنة أي منذ بداية عقد السبعينات تضاعف حجم المديونية في المغرب 8 مرات، وطيلة هذه المدة كان المغرب سنويا يسدد جزءا مهما من مداخيل ميزانيته العامة برسم خدمة الدين. وهذا يعني أن المغرب منذ ذلك الحين لم يتوقف عن السداد، فحتى خلال مرحلة اعادة الجدولة كان يسدد هذا الحجم، لأن مسألة اعادة الجدولة لا تهم كل الديون خصوصا ديون المؤسسات المالية الدولية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تعتبر غير قابلة لاعادة الجدولة.
إن علامة الاستفهام التي تطرح هنا هي كيف أننا كنا نسدد سنويا وطيلة عشرين سنة ما يقارب ثلث مداخيل الميزانية العامة برسم خدمة الديون، ثم نجد أنفسنا في نهاية المطاف في مواجهة مديونية تمثل ضعف إن لم تكن تشكل ثلاث مرات الحجم الأصلي للمديونية. إنها إذن احدى المفارقات الغريبة، ونجد أن هذه الوضعية تتقاطع عندها تجارب جل البلاد النامية.
فإذا ما نظرنا الى وضعية المديونية الخارجية للدول الافريقية جنوب الصحراء سنجد أن هذه الدول قد سددت ما بين 1980 و1997 ما يساوي ضعفي مديونيتها الخارجية الأصلية، حيث كانت هذه المديونية تصل سنة 1980 الى حوالي 80 مليار دولار ثم انتقلت سنة 1997 الى 235 مليار دولار، حيث سددت هذه الدول خلال 18 سنة حوالي 160مليار دولار بمعنى أنها سددت مرتين مديونيتها الاصلية، ومع ذلك لازال حجمها يساوي ثلاث مرات هذا المبلغ أي 235 مليار دولار.تلك إذن هي المفارقة الكبرى.
ثانيا: عواقب المديونية الخارجية على بلاد العالم الثالث
وقع العديد من البلدان النامية ومن بينها المغرب في فخ المديونية الخارجية وبلغ حجمها مستويات حرجة باتت تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهذه الدول.
لكن هل ساعدت هذه الأموال الدول النامية على تحقيق التنمية المنشودة؟ وما هي انعكاسات المديونية الخارجية على مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية؟ وإلى أي حد أثرت أزمة المديونية الخارجية على القرار السياسي؟.
1 - انعكاسات المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية
إن المديونية الخارجية تشكل عرقلة أساسية أمام طموحات التنمية لدول العالم الثالث. فقد شكلت بالنسبة للمغرب عرقلة أساسية للتنمية على على مستوى التوازنات الماكرو اقتصادية وعلى مستوى النمو، وهو ما قاد الى تأثير عميق على مستوى التوازن الاجتماعي. وتتداخل هذه المستويات الثلاث فيما بينها لتشكل معا سببا ونتيجة في نفس الوقت.
فالتوازنات الماكرو اقتصادية تتأثر بظاهرة المديونية انطلاقا من تأثير هذه الأخيرة على ميزانية الدولة. فالمديونية الخارجية هي بالأساس مديونية عمومية، سواء تم إبرامها مع الدولة أو مباشرة مع مؤسسة عمومية بضمانة الدولة. ومن هنا يكون سداد هذه المديونية من خلال الميزانية العامة، مما يؤكد العلاقة المباشرة ما بين دور الدولة كفاعل ماكرو اقتصادي والمديونية والميزانية العامة. فإذا ما أخذنا بنية ميزانية المغرب لعام 2002 فإن حوالي 53 % تذهب إلى نفقات التسيير و33 % أي ما يقارب الثلث تخصص لخدمة الدين أما ما يتبقى والذي يبلغ حوالي 14 % فيخصص لنفقات الاستثمار.
فخلال عقد السبعينات لم تكن نسب خدمة المديونية تمثل سواء بالنسبة للمغرب أو بالنسبة لعدة بلدان نامية أخرى سوى 1 أو 2 % من الناتج الداخلي الإجمالي، بينما كان معدل الاستثمار يمثل ما بين 20 و25 %. لكن الوضع تغير خلال عقد الثمانينات حيث وصلت نسب خدمة الديون إلى 6 %، أما إذا أضفنا أصل القرض فتصل إلى 12 % ، وفي المقابل تراجع معدل الاستثمار من 25 % إلى 20 % ثم إلى 18 % ف 14 % . فقد حصل تراجع في الجهد التراكمي، الذي يعتبر المحرك الأساسي للنمو، بينما ارتفعت في المقابل التكاليف المستنزفة للفائض الاقتصادي.
النتيجة هي تدهور مستوى النمو. فالأمر لا يتعلق فقط بانخفاض أو انكماش في المداخيل، فالدولة عندما لا تستثمر وبالتالي لا تخلق مناصب للشغل وتوزع المداخيل فإن أثر ذلك ينعكس على الطلب الإجمالي، وعلى نفقات الاستهلاك، بحيث تتعرض بطبيعة الحال إلى الانخفاض وتفقد الدولة عبر ذلك إمكانياتها في تحقيق النمو.
وعموما تسببت المديونية الخارجية على المستوى الاقتصادي في مشاكل اقتصادية كثيرة للمغرب ولباقي البلاد النامية من بينها :
- إضعاف القدرة على استيراد المواد والخدمات الضرورية الاستهلاكية و الوسيطة والاستثمارية. ويمكن أن يتسبب هذا الضعف في انفجار التضخم وفي تدهور الناتج الداخلي الإجمالي ومعدل النمو الاقتصادي.
- الضغط على سعر صرف العملة الوطنية بحيث تتعرض للتدهور.
- استنزاف الاحتياطات الدولية من ذهب وعملة صعبة وحقوق سحب خاصة إلى آخره ... بحيث يمكنها أن تبلغ مستويات حرجة جدا كما حدث في بلادنا صيف 1982 حينما لم تعد تكفي هذه الاحتياطات لضمان أيام معدودة من الواردات.
- إضعاف الجدارة الائتمانية للبلاد في أسواق النقد الخارجية، مما يضعف من قدرة البلاد على الاقتراض الخارجي.
تؤدي كل هذه النتائج إلى طلب تدخل صندوق النقد الدولي الذي يجد في هذه الفرصة مناسبة لجعل الاقتصاد الوطني يخضع كلية لتحكم الرأسمال المالي العالمي.
الجمعة ديسمبر 17, 2010 5:18 pm من طرف سميح القاسم