الشباب المسلم والعولمةربما
كانت (العولمة) أو(Globalisation) ، ومثلها (النظام العالمي الجديد) (New
World Order) - تعابير حديثة دخلت في قاموس السياسة المعاصرة ، وحددت
اتجاهاً جديداً في التعامل الدولي إلا أن الجوهر أو المحتوى ليس بالشيء
الجديد على الإطلاق ، كما سنرى بعد قليل ؛ فقد أوضحت مسيرة التاريخ
الإنساني الطويل أنه ما من قوة دولية تظهر على المسرح إلا حاولت التمدد على
حساب الجيران أولاً ، قبل أن تتربع على خارطة العالم بعد ذلك .
ومن هنا ظهر ما سمي Pax Romana أوPax Britanica أو السلام الروماني ،
والسلام البريطاني ، أو غير ذلك من أنواع السلام التي بدأت بحروب صغيرة
لتدمير المقاومة المحلية أو الإقليمية ، ثم حاولت فرض نمط خاص من السلام
على المنافسين الأقوياء نسبياً ، قبل أن تُذوى القوة الجديدة وتضمحل ، إما
بعوامل الزمن وأمراض الشيخوخة ، أو الصدام مع قوة جديدة تظهر في الأفق ،
وهكذا دواليك ، وفي كل هذه الأحوال يكون التوسع والامتداد هو أحد العوامل
التي تؤدي للانهيار في المدى الطويل ، كما عبر عن ذلك نابُليون في مقولة
مشهورة ، حين قال : (إن الإمبراطوريات تموت دائماً بمرض التخمة!) ، وكأن
جوفها يعجز عن هضم ما يدخل فيه من الأقاليم والشعوب المختلفة ، ويُلاحَظ
دائماً أن الأهداف الحقيقية للتوسع الإمبراطوري - وهي السيطرة والاستغلال
وحكم الآخرين - كثيراً ما تختفي وراء ادّعاء مرغوب وهو إقرار السلام
العالمي ، لكنه سلام القبور والجُثَث الهامدة ، التي لا تبدي معارضة أو
مقاومة للغزاة الجُدُد ، كما قال الشاعر الروماني تاسيتوس في أشعاره عن
حروب الرومان: (إنهم ينهبون ، إنهم يذبحون ، إنهم يسرقون!) ، هذه الألقاب
الشنيعة يسمونها إمبراطورية ، وحين يحيلون الأرض إلى صحراء جرداء يسمونه
سلاماً! ، وهذه النزعة القديمة الحديثة تبدو واضحة كلما تحدث السياسيون في
الولايات المتحدة والدول الغربية عن فهمهم للسلام العالمي والاستقرار
الدولي بقوة الأحلاف العسكرية ، والتدخل المسلح ، وفرض الحصار والعقوبات
على كل مَن يحاول أن يشذ عن الخطوط المرسومة لدوام الهيمنة الغربية على
مصائر الشعوب ، وتبدو هذه النزعة أوضح ما تكون في تخطيط الصهيونية العالمية
المتحالفة مع الغرب ، والتي استطاعت أن تتسلل لقلب التحرك الغربي ، حين
تدعي هي أيضاً العمل للسلام ، ولكن من خلال ديمومة الظلم ، وبقاء الاحتلال ،
وتصفية الشعب الفِلسطيني ، والانطلاق بعد ذلك للسلام العالمي الإسرائيلي
Pax Judaica ، وهم يغنون أنشودة السلام التي صوّرها تاسيتوس!
هذه النزعة الإمبراطورية وجدت في الغرب طبقة من الفلاسفة والكُتاب الذين
يرتادون آفاق التوسع ، ويتطوعون برسم الإطار الفكري للاستعمار الجديد أمام
الساسة والقادة ، أو يتخيلون الأخطار المستقبلية التي يمكن أن تهدد
الإمبراطورية من الداخل أو الخارج ، ويصعب تحديد مَن يقوم بالدور الأول في
المعادلة ، إلا أن المسلّم به أن المؤسسة السياسية الغربية تستفيد فائدة
كبرى من إنتاج مراكز الدراسات الإعلامية والاستراتيجية ، عكس دول المشرق
حيث يقع طلاق بائن بين الفكر وصناعة القرار السياسي ، وحيث ينظر كل فريق
للآخر بعين الريبة والحذر!
لقد نشر الباحث الاستراتيجي صموئيل هنتنجتون مقالاً مشهوراً في مجلة الشئون
الخارجية في صيف عام 1993 تحت عنوان (صدام الحضارات) ، ثم ضم إليه أبحاثاً
أخرى في كتاب ، وأضاف على العنوان القديم جملة (إعادة رسْم النظام
العالمي) ، وقد التزم الكاتب عبْر مقالاته تقسيم العالم إلى نوعين من الناس
: الغرب والباقي West and the rest ، وكأننا نشهد عودة نزعات القرن الثامن
عشر العنصرية التي صوّرها كيبلنج : (الشرق شرق ، والغرب غرب ، ولن
يجتمعا!) .
لقد أخذ الكاتب على عاتقه تحليل ملامح الحضارات المعاصرة ومكوناتها بهدف
واحد هو تأكيد حتمية مصادمتها للغرب ، وكيفية الوقاية من الخطر ، ثم ينتهي
للتساؤل التحذيري : (عَمّ إذا كانت المؤسسات الدولية وتوزيع القوة ،
وسياسات واقتصاديات الدول في القرن الواحد والعشرين ستعكس قيم الغرب
ومصالحه ، أم أنها ستتشكل أولاً بقِيَم الإسلام والصين ومصالحهما ؟!) ،
وقال : (إن النظرة الواقعية في العلاقات الدولية توحي بأن الدول التي تمثل
الحضارات غير الغربية سوف تتحالف لتقيم توازناً مع قوة الغرب المسيطرة).
{1} ، وقد عكس هذا الاتجاه الكاتب الأمريكي الياباني الأصل (فرانسيس
فوكوياما) في كتاب - أثار نشره أصداء واسعة - بعنوان (نهاية التاريخ والرجل
الأخير) ، والكتاب كله يدور حول فكرة واحدة هي أن الحضارة الغربية هي
نهاية المطاف ، وآخر ما يمكن أن تفرزه العبقرية الإنسانية ، وليس أمام
الآخرين سوى أن ينتظموا في هذا الصف!
ومن الضروري القول إن مولد الإمبراطوريات ونموها وتوسّعها لا يأتي - تماماً
- وفق تخطيط مسبق ، ترتبط فيه المقدمات بالنتائج ، وكثيراً ما يأتي ثمرة
لعوامل (ديناميكية) داخلية يصعب تحديدها في الدولة نفسها ، أو في المنطقة
المحيطة بها ، وهي أقرب ما تكون إلى قوانين الطبيعة (التي تكره الفراغ) كما
يقول رابيليه ؛ ذلك أن الرياح تندفع من مناطق الضغط العالي إلى الضغط
المنخفض ، في سلسلة من الأسباب ، يعرف الإنسان بعض حلقاتها حتى يصل إلى
الأسباب المجهولة ، والأسئلة الحائرة التي لا يجيب عنها سوى القرآن الكريم
في قوله : {الله الَذِي يُرْسِلُ الرِيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
فَيَبْسُطُهُ فِي السَمَاءِ} [الروم:48] ، وأسلوب التتابع في الأسباب
الطبيعية (Cosmologique) - هو الذي اعتمده بعض الفلاسفة لتأكيد وجود الذات
الإلهية ، والخلاصة أن في أسباب قيام الإمبراطوريات واتساعها جوانب يصعب
إخضاعها للبحث العلمي المجرد .
نقول كل ذلك لكي نصل إلى مجموعة من الحقائق أولها أن (العولمة) الراهنة -
كما نراها الآن - هي الشراب القديم في آنية جديدة ، وأنها لا تعدو أن تكون
أسلوباً مختلفاً تمليه ظروف الزمن وطبيعة المرحلة ، وأن أهم دواعي نجاحه -
وخصوصاً في المنطقة العربية الإسلامية - هو حالة (الفراغ) والتفكك التي
تصبغ حياتنا السياسية والاقتصادية والفكرية ، وسوف نتعرض لذلك باختصار .
الغرب والعولمة والنظام العالمي الجديد في دراسات حول الأدب الألماني قال
توماس كارليل : (إن عناصر ثلاثة هي عُمد الحضارة الغربية : البارود
والطباعة والديانة البروتستانتية) ، وإذا اعتبرنا العنصر الثالث أمراً يعكس
حماس الكاتب للمسيحية عموماً ولمذهبة بشكل خاص ، ويشكل اعترافاً بعلاقة
(التنصير) بالتوسع الاستعماري للدول المسيحية ، وأن ذلك التوسع قام - ولا
يزال - على دعامتين هما القوة المسلحة ، ووسائل النشر والإعلام ، ولا تزال
هذه السمات واضحة للعين ، بل تزداد ضراوة مع تطور وسائل الحرب وأسلحة
الدمار ، واتساع حقول الإعلام الغربي عبْر أجهزة وأدوات غير مسبوقة في
قوتها ومدى انتشارها وتأثيرها .
واندفاع الحضارة الغربية نحو العالمية ظاهرة قديمة قبل عصر كارليل في القرن
الثامن عشر ، فحين كانت قوة الدول الغربية في طريقها للنمو كانت الدولة
العثمانية - أهم مراكز المقاومة - في طريق الانحدار ، وكانت تحتل - بجدارة -
مكانة (رجل أوروبا المريض) ، وتفقد مواقعها ، واحداً بعد الآخر ، ولم تعطل
الحربان العالميتان الأولى والثانية قوة المد الغربي على الرغم من أنهما
كانتا حربين بين الدول الغربية نفسها - على الأغلب - إلا أن الطرف المنتصر
كان يواصل مسيرة التقدم ، ومثال ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية استفادت
من الأبحاث الألمانية حول الطاقة النووية ، وورثت إنجازات الرايخ الثالث
واليابان في مجال الصناعات الحربية الأخرى ، كما أن الصراع بين الدول
الغربية لم يؤدّ لظهور محور جديد حقيقي على المستوى العالمي ، وهذه الظاهرة
- في ذاتها - تستحق الاهتمام ؛ ذلك أن الحروب - وخصوصاً الحروب الكبيرة -
كانت دائماً تهيىء الظروف لظهور قُوى جديدة ، إلا أن عجز الحربين
العالميتين عن إفراز مثل تلك القوى لم يكن - أيضاً - من قبيل المصادفة ؛
لأن الدول (الغربية) المنتصرة حرصت قبل نهاية الحرب الثانية على تعطيل
مسيرة التاريخ ، أو خُيّل إليها أنها تفعل ذلك ؛ فكان مؤتمر يالطا - فبراير
عام 1945 - الذي ضمن توزيع أسلاب المحور على الدول المنتصرة ، وقسّم مناطق
العالم بينها ، حتى تلك التي لم تصلها الحرب ؛ وذلك لكي تمنع قيام محاور
جديدة ، وتعطل ما سُمي حينذاك New Polarisations {الاستقطاب الجديد} .
قد يثير التساؤل أننا أدخلنا الاتحاد السوفييتي في المنظومة الغربية ،
والحقيقة أن هناك أكثر من سبب لذلك ؛ فروسيا القيصرية كانت تعتبر نفسها -
دائماً - دولة أوروبية وشريكاً أصيلاً في الحضارة الغربية (المسيحية) ، ولم
يغير الاتحاد السوفييتي هذه النظرة ، وكانت الشيوعية هي الأسلوب المختار
لتوسيع تخوم الإمبراطورية الروسية ، وسحْق مقاومة الشعوب المغلوبة ، ولا
سيما الشعوب الإسلامية في القوقاز ، فالخلاف - إذن - لم يكن على الأهداف
النهائية بقدر ما كان على الوسائل وأسلوب الخطاب لتحقيق تلك الأهداف.
وإذا كانت (العولمة) المعاصرة قد اعتمدت الغزو الثقافي كأحد الأسلحة لحماية
الغزو السياسي والاقتصادي ، وشل القدرات الوطنية عن المقاومة - فهو سلاح
قديم أيضاً استخدمه الاستعمار القديم على نطاق واسع ، وخصوصاً في العالم
الإسلامي ؛ فالدولة الشيوعية حرّمت دراسة القرآن الكريم ، وأغلقت المدارس
الدينية ، ومنعت بناء المساجد إلا في الإطار الذي يخدم السياسة الشيوعية ،
ويفتح لدعاياتها مسارب في العالم الإسلامي ، في الوقت الذي اعتبرت
(الإلحاد) المحور الأساسي للثقافة والفكر ، وفرضته مادة إجبارية في برامج
التعليم ، وتعاملت مع الدين كقوة (معوقة للحضارة ، ويجب أن تقاوَم
بشدة).{2}.
ومع اكتمال دائرة الشيوعية نحو الدمار الشامل ظهر أن هذه الأساليب المصطنعة
لم تستطع أن تكبح تطلعات الإنسان نحو الله ، أو تعلّقه بتراث الأجداد ،
لقد زرت الاتحاد السوفييتي خلال العهود الأخيرة المتقلبة ، وشاهدت التجرِبة
عن كثب ، وأذكر في منتصف السبعينات - إِبّان حكم بريجنيف - أنني تابعت صحف
الحزب الشيوعي ، ونشراته تتحدث عن (فضيحة) كبرى في بشكوريا ، وتدعو
لمحاكمة المحافظ وقوميسار الحزب {وكيل أو مسؤول الحزب} ، أما الفضيحة فقد
كانت العثور على مدارس قرآنية سرية بعد عقود مستمرة من غسل الأدمغة ومطاردة
الدين ، وقد ظهر أن هذه (الفضيحة) كانت أوسع مدًى حين زرت موسكو في أواخر
حكم جورباتشوف ، وهو عاكف على تفكيك آلة الحزب الشيوعي الصدئة ، حيث قال لي
الوزير المختص بشئون الأديان - في جلسة ودية - : (لقد اكتشفنا وجود أكثر
من خمسة آلاف مسجد ومدرسة تعمل سراً طيلة هذا الوقت دون علم الحكومة أو
سلطات الحزب!).
وقد التقت الشيوعية مع الفكر الغربي في أن كليهما كان يعتقد أنه يملك
النظرية الحضارية المتفوقة ، وأنه مدعوّ لفرض هذه الحضارة على الشعوب
المختلفة ، التي لا تعرف مصلحتها ؛ ومن هنا برز الحديث عن (الرسالة
الحضارية) لبريطانيا وفرنسا في الشرق (Mission Civilatrice) ، ومن ذلك ما
لخّصه جول هيرمند)Jules Harmand) - أحد أهم الدعاة للاستعمار الأوروبي في
بداية هذا القرن - حيث قال: (إن من الضروري القبول بمبدأ مهم كنقطة انطلاق ،
إن هناك طبقات من السلالات والحضارات ، وإننا {يقصد الغربيين} ننتمي إلى
السلالة العالية والحضارة المتفوقة ، إن القاعدة الشرعية للفتوحات الغربية
ضد السكان المحليين هي الاقتناع ليس فقط بقوتنا العسكرية والاقتصادية
والآلية ولكن بتفوقنا الأخلاقي ، إن شرفنا يرتكز على هذه الموهبة ، ويؤكد
حقنا في قيادة الإنسانية ، والقوة العسكرية ليست إلا وسيلة لتحقيق هذه
الغاية).{3} .
دور الولايات المتحدة الأمريكية جاء دخول الولايات المتحدة الأمريكية في
حلبة السياسة الدولية وسط هالة عريضة من الآمال والتوقعات الزاهية (أليست
هي الأرض الموعودة للمهاجرين الأحرار الذين فروا بأديانهم وعقائدهم من
الاضطهاد والتعصب في القارة القديمة ؟!) ، كما أشار صموئيل آدامز - أحد
قادة الثورة الأمريكية - في إحدى خطبه : (طُردوا من كل زوايا الأرض ، لكن
عشقهم لحرية الفكر - وحق الاختيار في قضايا الضمير - قادهم لهذا البلد
السعيد كملجأ أخير!) ، وقد ساعد على رسوخ هذه الآمال عوامل كثيرة منها أن
الولايات المتحدة قارة مترامية الأطراف كثيرة العدد ، غزيرة الثروات ، ولا
تحتاج للتوسع الإقليمي ، أو المزيد من مصادر الثروة ، وهذه الحقائق يمكن أن
تجعل منها قاعدة لتحقيق التوازن العالمي ، ومناصرة قضايا الحرية
والاستقلال ، ومن الإنصاف القول إن التاريخ الأمريكي قد اشتمل على مواقف
شدت إليها عواطف الشعوب الصغيرة ردحاً من الزمن ، كإعلان مبادئ (ويلسون)
الشهيرة التي أكدت الالتزام بحرية الشعوب ، والعدالة للعدو والصديق ،
والسلام الدولي عن طريق عصبة الأمم ، أو كما حددها ويلسون نفسه في خطاب
شهير ، حيث قال : (تعاون عالمي لإحقاق الحق ، تقوم به شعوب حرة لجلب السلام
والأمن لجميع الأمم ، والتي تجعل من العالم - أخيراً - عالماً حراً) ، غير
أن هذه الآمال لم تلبث أن ذابت واحدة بعد الأخرى أمام رغبات السيطرة
وأطماع السياسة الواقعية ، ونفوذ الشركات الصناعية الكبرى ، ووصلت إلى
الحضيض مع قوة (اللوبي) الصهيوني وتأثيره الواسع في دنيا المال والإعلام
على النحو المعروف .
لقد اكتسب الدور الغربي زخماً مضاعفاً مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية
إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ، ولم يكن دخولها سعياً وراء
مصالح استراتيجية ، أو دفاعاً عن النفس بقدر ما كان انحيازاً للأصل ، ونجده
للأسرة الواحدة ، التي عبر عنها ونستون تشرشل ، حين قال في إحدى خطبه:
(كثيراً ما ننسى حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تتحدثان
لغة واحدة هي الإنكليزية) .
لقد قيل الكثير عن الهجوم الياباني على بيرل هاربور - 7 من ديسمبر عام 1941
- ، وأنه كان السبب المباشر في دخول أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء
الغربيين ، ولكن الحقيقة هي أن الرئيس روزفلت كان يعمل - بجد - لإقناع
الشعب الأمريكي بالانضمام للحلفاء وسط معارضة قوية ، خصوصاً من جانب
الانعزاليين ، ولم يمنعه ذلك من استفزاز اليابان بكل الوسائل ، واستدراجها
للحرب ، كقيامه بإرسال الخبراء والأسلحة لدعم المجهود الحربي الصيني ضد
اليابان.{4} ، وفي الوثائق التي نُشرت بعد الحرب ظهر أن روزفلت قد ابتهج
بالهجوم الياباني أيما ابتهاج ؛ لأنه أعانه على اكتساح معارضة المعارضين .
لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية شريكاً رئيسياً نشطاً في التحالف
الغربي في الحرب العالمية ، وكان دخولها ساحة الحرب سبباً مباشراً لرجحان
الكفة ضد المحور ، وهي التي دعمت الاتحاد السوفييتي ، وساعدته على استيعاب
الهجوم الألماني ، وباشرت تنظيم مؤتمر يالطا الذي أشرنا إليه ، ثم أخذت
تدريجياً تتسلم زعامة المعسكر الغربي ، وتمهد - بعد ذلك - لدورها
(الأُحادي) على المسرح الدولي ضاربة بعرض الحائط مصالح حلفاء الأمس
وآراءهم.
في عدد خاص أصدرته مجلة الشئون الخارجية الأمريكية سبتمبر/أكتوبر عام1997 -
عن عالم المستقبل - حدد الكاتب (يوسف جوف) حلقات الاستراتيجية الأمريكية
بين الحربين وحلّل الظروف التي انتقلت بها من دور الشريك في التحالف الغربي
إلى مقعد الزعامة العالمية المنفردة ، وعقد مقارنات ذكية مع عدد من
الخيارات السياسية العالمية والاستراتيجية ابتداءاً من فردريك الكبير ،
مروراً بنابُليون وبسمارك ، والساسة البريطانيين ، وأوضح أن الولايات
المتحدة قد استفادت من دروس التاريخ ، وانتهت إلى نمط جديد من القوة
الإمبراطورية أطلق عليها القوة الناعمةSoft Power ، وقد جاء في مقاله ما
يلي: (لا يجب أن نقع في التقدير الخاطئ فإن القوة الضاربة Hard Power لا
يزال لها مكان في السياسة الأمريكية ؛ لأنها المحصّلة النهائية في منطق
القوة ، ولكن في منطقة التعامل اليومي فإن القوة الناعمةSoft Power هي
العملة الناجحة ؛ لأنها الأقل إكراهاً ، والأقل ظهوراً!) ، ومضى الكاتب
قائلاً: (لقد كان الأسلوب التقليدي هو أن تضطر الدول الأخرى إلى أن تفعل ما
تريد ولو باستخدام القوة المسلحة ، ولكن اليوم تتحقق الفائدة الكبرى حين
تجعل الآخرين يريدون ما تريده ، وذلك يتوقف على مقدار الإغراء الذي تحمله
الأفكار ، والبرامج والعقائد ، والمؤسسات ، ونوع الجوائز التي تقدّم ثمناً
للتعاون!).{5} ، ومضى الكاتب في عقد المقارنات بين مغريات التعامل مع
الولايات المتحدة في حقول الصناعة والتجارة ، مروراً بتفوق الجامعات
الأمريكية على نظيراتها الأوروبية ، ولم ينسَ أفلام هوليود ، ومسلسلات
التلفاز الأمريكي!
لقد اعتمدت الولايات المتحدة وسائل كثيرة لإرساء قواعد (العولمة) الأمريكية
الأحادية ، أحياناً بمشاركة من حلفائها الغربيين ، وأحياناً بأعمال فردية
ضد معارضة أولئك الحلفاء ، ومن أبرز تلك الوسائل إنشاء منظمة الأمم المتحدة
، وأجهزتها السياسية والمالية والثقافية كالبنك الدولي ، ومنظمة اليونسكو
ومنظمة حقوق الإنسان ، وغيرها ، وكلها تخضع للتوجيه الأمريكي الواضح أو
المستتر ، وقد وضح الآن أن من أهداف إنشاء الأمم المتحدة هو منع قيام
المحاور الجديدة ، بدعوى الحفاظ على السلام والاستقرار الدولييْن ، أما
الغرض الحقيقي فهو تنفيذ السياسة الأمريكية ، وكان أول البراهين على ذلك -
ولما يمضِ على إنشاء المنظمة سوى بضع سنين - إصدار قرار تقسيم (فِلسطين)
بإنشاء الدولة العبرية خلافاً لمنطق العدالة والتاريخ {1947} ، ثم الهجوم
الأمريكي على كوريا الشمالية تحت أعلام الأمم المتحدة {1950} ، ولا تزال
الأمم المتحدة - حتى اليوم - تقوم بدور الغطاء الدولي لسياسات الولايات
المتحدة في مهاجمة الدول الصغيرة ، أو فرض الحصار عليها لأتفه الأسباب ،
وحين تحاول الكتل الدولية أو الإقليمية أن تعيد منظمة الأمم المتحدة إلى
الدور الذي حدده ميثاقها المعلَن تبادر الولايات المتحدة إلى استخدام حق
النقض ، وإبطال أي قرار لا ترضى عنه ، وخصوصاً فيما يتعلق بإسرائيل ،
ويساعدها على ذلك وجود مقر المنظمة الدولية وأكثر المؤسسات المعاوِنة على
الأراضي الأمريكية ، وقد أشهرت الولايات المتحدة سلاح التهديد عند أول
مبادرة استقلالية من جانب الأمم المتحدة ؛ فقلّصت اشتراكاتها المالية
لسنوات طويلة ، ومارست الضغط لمنع إعادة ترشيح بطرس غالي للأمانة العامة ،
أما اليونسكو فقد حرصت علي أن تغطي هذه المؤسسة الجانب الثقافي من المخطط
الأمريكي ، وحين حاول مديرها العام السنغالي أحمد مختار أمبو أن يسلك
طريقاً محايداً في مسألة (إسرائيل) والقدس أوقفت دفع اشتراكاتها السنوية
لإحراج المدير العام ، ثم عملت على إخراجه من المنظمة .
وحين شعرت الولايات المتحدة أن خطة (العولمة) الأُحادية تمضي في ريح رُخَاء
دون أي معارضة جدية - أخذت تعزز هذا الانتصار في ميادين أخرى ، وتمهد
السبيل أمام إمبراطورية حقيقية تتفق مع سابقاتها في الأهداف ، وتختلف عنها
في وسائل السيطرة ، من ذلك المؤتمرات الدولية التي تُعقد لترويج النظريات
الأمريكية حول الإرهاب ، وحقوق الإنسان ، ودور المرأة والإسكان ، وغيرها من
القضايا ، وكان أقرب المشاهد - وليس آخرها حتماً - ما يسمى قانون مكافحة
التمييز الديني ، الذي يعطي للولايات المتحدة - وحدها - حق تصنيف الدول ،
وموقفها من الأقليات الدينية ، ثم توقيع العقوبات عليها من خلال الأمم
المتحدة والبنك الدولي وغيرها من الأجهزة الدولية العاملة معها ، وكما
استطاعت أن تضع حركة التحرر الوطني الفِلسطيني تحت لافتة الإرهاب الدولي
فقد تنجح في وضع أي حركة للتوعية الدينية أو الانبعاث الإسلامي تحت مظلة
اضطهاد الأقليات الدينية!
لقد ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشادر نيكسون في كتابه المشهور -
(انتهاز الفرصة) - الضوء على اتجاهات السياسة الأمريكية ، بل واجبها في فرض
(العولمة الغربية في مرحلة تاريخية جعلت منها الظروف القوة الدولية
الوحيدة دون منافس) ، فبعد أن استعرض التطورات التي أدت لانهيار الاتحاد
السوفييتي (كدولة عظمى ، وقيام حكومة غير شيوعية لا تستطيع أن تلعب دوراً
مؤثراً في الخارج).{6} ، وبعد أن استعرض - مطولاً - المجالات السياسية
والاقتصادية التي يمكن للولايات المتحدة أن تؤكد فيها زعامتها المنفردة -
خلص للقول (تقليدياً ، فإن الدول قد اختارت أن تشن الحرب تبعاً لمنطقة
مصالحها ، وليست الولايات المتحدة استثناءاً من هذه القاعدة ، وإن كان
قادتها - مثل وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت - قد استطاعوا بمهارة أن يضعوا
لجوءهم للحرب في نطاق المبادئ المثالية للشعب الأمريكي ، وإلى حد كبير
حاول الرئيس بوش أن يتبع هذا التقليد خلال حرب الخليج ، وهذا الأسلوب لا
يجب أن يُدمَغ باعتباره (ميكيافيلية) انتهازية ؛ وذلك لأن مبادئنا المثالية
ليست قوة أخلاقية محركة فحسب ، ولكنها وسيلة رئيسية لخدمة مصالحنا
الوطنية).{7} ، ويلاحظ أن الرئيس نيكسون حرص - طوال الكتاب - على أن يضع
للسياسة الأمريكية أهدافاً (مثالية) - كالديمقراطية والعدالة والسلام - على
الصورة (الأحادية) التي تحقق مصالح الولايات المتحدة .
بعض مجالات العولمة تعرضنا - حتى الآن - للعولمة ، وصِنوها {النظام العالمي
الجديد} ودوافعها الحقيقية ، ومن النقاط البارزة التي أثرناها - ونرجو أن
نذكّر بها - حقيقة أن الظروف الدولية المعقدة في مرحلة من المراحل تجعل
أمثال هذه التطورات تبدو وكأنها مصادفة ، أو قدر محتوم نرى نتائجه ، ولا
نرى {كل} دوافعه ، بحيث يصبح الدور البشري هو دور (انتهاز الفرصة) ؛ كي
نستعير تعبير نيكسون ، أو استغلال الظرف ، وركوب الموجة المندفعة ، وهذه
الحقيقة لا تصلح لتشخيص الموقف الأوروبي الأمريكي فحسب ، ولكن يجب أن تؤخذ
في الاعتبار عند البحث في موقفنا - كعرب ومسلمين - من (العولمة) و(النظام
العالمي الجديد) ، وقدرتنا على المقاومة المباشرة لتيار دولي غلاب ، أو
مسايرة التيار وأخْذ حسناته الواضحة والتوقّي من سيئاته الكثيرة ، وكيف
يمكن ذلك ؟ ، هذا ما سنتعرّض له بعد قليل .
يتحدث الغربيون عن الديمقراطية - مثلاً - ويعتبرونها شرطاً للتعامل مع
الدول ، غير أنهم يستخدمون مقياسين يظهر بينهما التناقض الواضح ، أولهما:
فهمهم هم للنظام الديمقراطي السائد عندهم ، والثاني اختيار النمط الذي يتفق
مع سياستهم ، ويخدم أغراضهم ، بصرف النظر عن الظروف الخاصة بالمجتمعات
الإنسانية التي يتعاملون معها ، مما يذكّرنا بكلمة الاستعماريّ العتيق
(اللورد بلفور) - حين وقف في مجلس العموم يُثني على اللورد كرومر وسياسته
في قمع المصريين - ويقول عنهم : (إنهم فقدوا كل حس بالنظام ، وإن الفوضى هي
قاعدة حضارتهم!).{8} .
ويقال ذلك عن حزمة المبادئ الأخرى كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمرأة ،
على الرغم من ظهور شقوق كثيرة في تطبيق هذه المبادئ في الولايات المتحدة
نفسها ، وفي الغرب بصورة عامة ، وإذا كان من مظاهر (العولمة) انهيار السدود
بين الحضارات والثقافات فعلينا أن نتوقع المزيد من العادات الغربية في
القرية العالمية الصغيرة .
ولدينا من ذلك بدايات لا تخطئها العين ، تظهر في المطاعم والأزياء
والتقاليد الاجتماعية ، التي تأتي مع الكتاب وشريط التسجيل (الكاسيت)
والأفلام والمسلسلات التلفازية ، وليس لدينا حتى تلك (الحميّة) الفرنسية
التي تحاول أن تصدر قوانين لحماية تراثها الثقافي أمام اندفاع المد
الأمريكي! ، وقد ينبري من السطحيين مَن يقول: وأي خطر حقيقي يمكن أن يهددنا
إذا شاعت هذه المطاعم والأزياء والتقاليد ؟! ، والجواب هو المثل الفرنسي
المشهور الذي يقول: (أَخبرْني ماذا تأكل أُخبرْك مَن أنت!) ؛ فالأكل
والمشرب والتسلية واللباس تجلب معها مفاهيم بلد المنشأ وعاداته ، وذلك يوضح
الصلة الوثيقة بين هذه (الخدمات) وبين انفراط الأسرة ، وضعف التدين ،
وانتشار الكحول والمخدرات ، والجريمة المنظمة .
وإذا كانت هذه هي المؤثرات الثقافية والاجتماعية فإن الجانب الاقتصادي أكثر
خطراً ؛ لأن أمام كل مطعم أو مقهى أو متجر من (الماركات) الغربية المشهورة
يقام في بلادنا - ينهار أمامه عشرات المؤسسات الوطنية الوليدة ، التي لا
تملك أسباب المنافسة ؛ مما يزيد من معدلات الفقر والبطالة ، ويهز أركان
الاستقرار الاجتماعي ، ناهيك عن النزيف الدائم الذي يمثله هروب رؤوس
الأموال الوطنية .
غير أن مجال الاقتصاد يتجاوز هذا المدى المحدود إلى صميم الهيكل الاقتصادي
الوطني والقومي ، فحين يقع الضغط لتأكيد حرية التجارة - والاستيراد
والتصدير ، والعمالة ، وحرية الاستثمار ، وغير ذلك من التسهيلات - فإن
الطرف المستفيد حتماً هو الدول المتقدمة صناعياً ، والشركات المتعددة
الجنسيات ، التي تملك رؤوس الأموال الضخمة ، وتستطيع أن تصبر على المنافسة
حتى تقضي على المؤسسات المحلية ، وتخلو لها الأسواق ؛ فتفرض الأسعار التي
تعوض خسارتها أضعافاً مضاعفة ، وقد ظهرت بوادر الخطر في بعض الدول العربية
التي استخفّت بالشركات الإسرائيلية ، وفتحت لها المجال في بلادنا .
ومن الواضح أن المؤسسات المالية الدولية - كالبنك الدولي وصندوق النقد
والصناديق الأخرى - تمارس دوراً خطراً ينسجم مع هذا التخطيط ، وقد رأينا أن
الضغط التحكمي الاعتباطي على سياسة التخصيص ، وإبعاد الدولة عن واجبها في
التخطيط المتكامل والرقابة - وخصوصاً أمام ضعف استعداد القطاع الخاص في
أكثر البلاد - قد أدى لانهيار كثير من الشركات الاستثمارية في البلاد
العربية ، علاوة على أن تطبيق ما يسمى (التصحيح الاقتصادي) العشوائي
المفروض من الخارج - قد أضعف القدرة الشرائية للمواطن العربي ، وجعله
عاجزاً عن تأمين السلع الضرورية للعيش ؛ مما تسبب في انتفاضات الخبز ،
وثورات الجِيَاع .
هذه بعض العناوين العامة للآثار السلبية التي يمكن أن تأتي بها (العولمة)
في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ، ولا شك أنها تحتاج لدراسات تفصيلية
متخصصة يضيق عنها هذا المجال ، غير أن الجذر الذي يحكمها كلها هو ما بدأنا
به البحث ، وهو أن هدفها الأوحد هو (إزالة الحدود والقيود أمام ثقافة
مغايرة ، وما يتبعها من القيم والتقاليد ، والاستيلاء على الثروات الوطنية ،
وتقليص الأسواق الوطنية إلى أسواق استهلاك لترويج منتجات الشركات الأجنبية
، وتراكُم أرباحها) .
المسلمون والإسلام أمام العولمة والآن: ماذا بوسع الدول الإسلامية أن تفعل ؟
لا يمكن لأحد أن ينصح بمحاربة (العولمة) ، أو التصدي لها ، ومقاطعتها لأسباب كثيرة منها :
أولاً : أنها ظاهرة عالمية يصل تأثيرها عبْر أقنية مفتوحة لا حصْر لها في وسائل الإعلام وحركة السياحة والاتصال المباشر بين الشعوب .
ثانياً : أن طبيعة النظام العالمي تقوم على التبادل ، والتعامل المشترك ،
والاعتماد المتبادل ، ويستحيل على أي طرف أن يحبس نفسه داخل أسوار العزلة .
ثالثاً : أن الدول العربية والإسلامية لا تزال في أُولى مراحل البناء
الاجتماعي والاقتصادي ، وهي بحاجة لرؤوس الأموال والأجهزة والخبرات المدربة
.
رابعاً : أن أغلب الدول العربية والإسلامية لا تزال تعيش نهاية مرحلة
الاستعمار الأجنبي ، وما تركه من حدود وعداوات وخلافات ، ولا تزال جسورها
موصولة بالسيد القديم أكثر من اتصالها بالجيران والإخوة .
خامساً : أن مؤسسات الوحدة والتضامن - كجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر
الإسلامي - لم تُثْبت وجودها للأسباب السابقة ، وعجز أو تمنع الدول
الأعضاء عن الوفاء بالالتزامات المقررة ، أو التقيد بالقرارات التي تشارك
في وضعها ، والأرجح أن يحاول مد العولمة اكتساحها حتى لا يُبقي مجالاً
للمقاومة .
الواقع - إذن - أن المقاطعة أمر مستحيل ، ولا يبقى إلا الحل الآخر وهو
أسلوب (التخيّر) ، وقبول الجوانب الحسنة ، ورفض المساوئ ، ولا يتأتّى ذلك -
بطبيعة الحال - إلا بسياسة مستقلة ، وقدرات مادية ومعنوية تحمي ذلك
الاستقلال.
وهنا يبدو واضحاً أنه لا غِنى عن توحيد مواقف الدول العربية والإسلامية ،
وتقنية مواردها وطاقاتها في خطط موحدة ، وبعث الحياة في مؤسسات التنسيق
والتعاون العربية والإسلامية ، وفي طليعتها منظمة المؤتمر الإسلامي ،
وجامعة الدول العربية ، كما أنه لا بد من تنفيذ قرارات كثيرة علاها الغبار
حول السوق المشتركة ، وإعادة النظر في الرسوم الجمركية ، وحرية انتقال
البضائع والأيدي العاملة ، والمشاريع المشتركة في ميادين الإعلام ، أي
باختصار أن تعمل - طواعية بين دولنا - ما يطلبه منا قصْراً أسياد (العولمة)
ودُعاتها .
هذا عن الظروف الواقعية التي تضع المسلمين أمام العولمة ، فماذا عن موقف الإسلام نفسه ؟.
لكي يستطيع المسلم أن يحدد دوره إزاء (العولمة) - و(النظام العالمي الجديد)
- لا بد أن يعرف أولاً موقف الإسلام - كعقيدة - من هذه التبدّلات ؛ فمن
المفروض أن الإنسان المسلم يبني مواقفه كلها على أساس الفهم الصحيح للإسلام
، والالتزام بتعاليمه ومبادئه ، وأول آثار الالتزام أنه يمنح صاحبه
مقياساً ثابتاً يزن به الأمور ، ويحدد الجوانب التي تتفق مع نظرة الإسلام
الكلية للحياة والناس ، كما يحدد المصلحة الإسلامية أيضاً ، وفي قضية شديدة
التعقيد كثيرة المداخل والشبهات (كالعولمة) تزداد الحاجة لهذا الميزان
العقائدي الثابت ، ولو كانت ظاهرة (العولمة) الراهنة تتفق مع باطنها -
وشعاراتها مع حقيقتها - فيجب أن تلقى من المسلمين تأييداً غير محدود .
إن الإسلام يتجه - بطبيعته - نحو العالمية ، وينظر للكون والجنس الإنساني
الذي يسكنه ككِيان واحد وأسرة واحدة ، ويُذْكر في هذا السياق التذكير
القرآني الكثير بالأب الأول ، والأم الأولى ، وما في ذلك من تطابق الصفات ،
ووحدة المصير ، ورفض التمايز بسبب العصبية أو اللون أو اللغة ، وقد جاء في
الحديث الشريف: (الناس لآدم ، وآدم من تراب) ، وحدد الإسلام ميزاناً
وحيداً للتفاضل بين بني البشر ، هو ميزان التقوى ، وما تنطوي عليه هذه
الكلمة الجامعة المانعة من استحضار مخافة الله في كل أمر ، والحدب على
عباده ، والحرص على إعمار الكون ، وإشاعة الخير والصلاح بين ربوعه {إنَ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
وقد تحدث القرآن الكريم عن الأمة الواحدة أكثر من مرة ، وكان التذكير
برابطة النسب (الإيماني) يأتي مباشرة بعد ذِكر السلسلة الطويلة من النبوات
السالفة ، وكان المقصود هو رفض العلاقات العصبية السلالية ، وإرجاع الجيل
المسلم إلى مكانه من الدوحة التي اتصلت أسبابها بالسماء ، {إنَ هَذِهِ
أُمَتُكُمْ أُمَة واحِدَةً وأَنَا رَبُكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:92] ،
وقد تقع في بداية النقلة من حال الجاهلية للإيمان هفوات وأخطاء تخالف روح
العقيدة ؛ فيأتي الرد عليها حاسماً حتى يصبح الخطأ نفسه هو الدرس الباقي
المتألق ، فحين يغفل القرشي العبقري خالد بن الوليد عن الأسس الاجتماعية
الجديدة ، ويذكر زِنجياً بلونه وأصله يتدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بنفسه ليقول له: (إنك امرؤ فيك جاهلية)! ، ويشيد الرسول - صلى الله عليه
وسلم - بسلمان الفارسي وبلال الحبشي ، ويرفع من شأنهما في جمع من وجوه قريش
وساداتها .
ولم تقف هذه المبادئ عند الحدود النظرية المثالية ، ولكن طُبقت عملياً في
المجتمع الإسلامي الأول ، حتى رأينا الموالي من غير العرب يتصدرون مكان
القيادة ، ومع اتساع الرقعة الإسلامية واحتواء حضارات عريقة ولغات عديدة -
ترعرعت العلوم والمعارف ، وبرز ساسة ومفكرون وفلاسفة من الفرس والترك
والروم واليهود ، واستطاع موسى بن ميمون أن يكتب أشهر كُتبه في أصول الدين
اليهودي ، ويوجه الرسائل للجاليات اليهودية المنتشرة في العالم ؛ يحثها على
التمسك بدينها وثقافتها ، وهو يعمل طبيباً للأسرة الأيوبية في مصر ،
واستطاع يوحنا الدمشقي أن يكتب كتباً في الإلهيات المسيحية ، وهو يعمل
وزيراً للمالية في قصر الخليفة الأموي في دمشق ، وفي الحالتين حصل العالمان
على إذن ولي الأمر المسلم ، مع أن كتبهما اشتملت على غمز مباشر أو غير
مباشر في الإسلام ، ولم يكن هناك حرج أن تنتقل القيادة السياسية للعالم
الإسلامي برمتها من ديار العرب ، وأن تصبح الجزيرة العربية نفسها - مهد
الرسالة ، ومتنزّل الوحي - جزءاً من الإمبراطورية العثمانية (التركية) ،
وأن يقود دولاً إسلامية ملوك من الترك والألبان والأكراد وغيرهم .
والإسلام يحث الناس على التعايش الآمِن ، والجيرة الحسنة ، والمشاركة
الفاعلة في الخير العام ، ومع أنه يركز على الإيمان بالله وتوحيده توحيداً
خالصاً ، إلا أنه لا يعتبر ذلك شرطاً للمعاملة الحسنة ومنع الظلم وحفظ
الحقوق ، وإتاحة فرص العيش الكريم أمام الناس جميعاً ، كما لم يفرض على
الشعوب - التي ارتضت الانتماء إليه - ثقافة خاصة أو لغة بعينها ، بل وصف
اختلاف اللغات والحضارات بأنه آية من آيات الله التي تدل على قدرته
ووحدانيته ، وينبغي احترامها والمحافظة عليها {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ}[الروم:22] .
ووجود الآية الكريمة في سورة الروم تنطوي على دلالة عميقة ؛ ذلك أن بدايات
السورة حملت البُشرى لأسرة الإيمان من العرب والرومان بنصر قريب بعد هزيمة
ساحقة على يد الفرس والوثنيين في ذلك الحين ، كما أن الآية جاءت وسط آيات
أخرى من آيات الله الباهرة في الخليقة والطبيعة وسريان الرياح ونزول المطر ،
وإنبات الشجر والثمر ، حتى لكأنّ المقصود هو تركيز المقارنة ، فكما أن
الاختلاف في الأوقات والمواسم سبب في الخصب والخير والجمال ؛ فالاختلاف في
الحضارات والثقافات والتقاليد يُغني التجربة الإنسانية ، ويحفّز الإنسان
ليقتبس من غيره ، ويقدم له أحسن ما لديه من علم أو معرفة .
إن (العولمة) التي نرجوها لنا وللناس - هي التي تسير وفق هذه الخطوط
الربانية: أن تكون متصلة بنور الخالق ، والإيمان به ؛ حتى لا تضل ولا تتعسف
، ولا تحيل العالم إلى غابة كبيرة ، يأكل فيها القوي الضعيف ، ويجب ألا
تعني طغيان ثقافة على ثقافات الآخرين ، أو تستغل عوامل القوة المتاحة لها؛
لكي تمحو حضاراتهم وتقاليدهم وثقافاتهم ، فمثل هذا الهدف جدير بأن يخلق
عوامل المقاومة والرفض ، ويهيىء المجال للعنف والحروب الصغيرة والكبيرة ،
فوق أنه يحرم العالم من التجارب الإنسانية العزيزة التي يستحيل احتكارها ،
والتي أسهم فيها العلماء والحكماء في كل أرض ، وصدق الله العظيم إذ يقول :
{ولَوْ شَاءَ اللَهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَةً واحِدَةً}[المائدة:48] ، وقوله -
تعالى - : {ولَوْ شَاءَ رَبُكَ لَجَعَلَ النَاسَ أُمَةً واحِدَةً}[هود:118]
.
شبابنا والعولمة من الطبيعي أن ينتهي اجتماع الشباب إلى السؤال الطبيعي عن دور الشباب المسلم من هذه الهجمة الضارية ؟ .
ونقول - ابتداءاً - إن النظرة الواقعية تجعل من الصعب أن تحدد دوراً للشباب
المسلم بمعزل عن دور الأمة كلها - بحكوماتها وشعوبها وأجهزتها السياسية
والاقتصادية - ذلك أن طبيعة (العولمة) تتجه إلى كل مناحي حياتنا ؛ لتؤثر
فيها ضمن تخطيط شامل متكامل ، وينبغي أن يكون التعامل معها من نفس المعيار ،
وسواء كنا ننشد الإفادة من الفرص الإيجابية التي تقدمها - وهي موجودة
فعلاً - أو نريد التوقّي من المحاذير والأخطار ، ومن المؤسف أننا حين
نستعرض مواقف الدول العربية - الإسلامية فُرادَى أو جماعة - إزاء مخاطر
(العولمة) لا نملك سوى أن نقول مع القرآن الكريم: {يَنقَلِبْ إلَيْكَ
البَصَرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4] إلا أن ميدان الحكومات يبقى هو
الميدان الأول للعمل الإسلامي المنظم ، والتأثير فيها كي تنفض غبار الكسل
والتواكل يبقى أوجب الواجبات .
إن المنظمات الإسلامية الشعبية - التي تتميز بأنها تضم أعداداً كبيرة من
القادة الناضجين الواعين الذين صقلتهم التجربة ، ولهم حضورهم المؤثر
ونفوذهم الواسع في بلادهم ، وتمنحهم صلتهم المباشرة بقطاعات عريضة من الشعب
المسلم - هذه المنظمات تستطيع أن تمارس ضغوطاً (ودية) مؤثرة على مواقف
الحكومات ، شريطة أن تنسق خطواتها ضمن برامج مدروسة تضمن الاستمرار
والمتابعة ، ومواكبة ظروف الحركة ، وتطوّراتها الكثيرة المعقدة .
إن بعض الأسلحة المعاوِنة للعولمة - بقصد أو غير قصد - هي تشجيع الفساد
والانحلال ، والاستغراق في الشهوات ، وتبذير المال القليل على مسايرة
المظاهر وحُمّى الاستهلاك ، ويُحسن الشباب المسلم صُنعاً إذا تعاون على
مكافحة هذه الأوبئة من خلال المساجد ، والمراكز الثقافية ، ووسائل النشر
المتاحة .
لا شك أن من الجوانب الإيجابية للعولمة - التي لا يستطيع أحد أن يتحكم فيها
- أن انهيار الحدود ، وسهولة الاتصال ، وانفتاح الأسواق ، وتداوُل
المخترعات سوف يجعل كل ذلك المعرفة متاحة ميسورة ، وواجب الشباب المسلم أن
يُقبِل بشجاعة وحماس على العلم ، واكتساب المعارف والمهارات ، ولا سيما
استخدام التقنية الحديثة التي باتت تفتح آفاقاً واسعة لإنسان الغد .
لقد أُتِيحت لنا فرص عدة للقاء أنماط من الشباب المسلم الذين تنعكس فيهم
هذه الآمال ، شباب يتفجرون حماساً وغَيرة على الإسلام ، ويبنون محيطهم
الاجتماعي العائلي على أساسه ، لكن ذلك لا يمنعهم من تحصيل أرقى مراتب
العلم والخبرة في الفنون الحديثة ، ويحتلون أدق المناصب الفنية في الحكومات
الأجنبية والشركات ، التي تثق بأمانتهم وكفاءتهم معاً ، وهو أمر يدعو
للإعجاب والاعتزاز ، هذا النمط من الشباب المسلم هو مَن ندخره لرفعة الدين
وعزة المسلمين ، وهذا هو النموذج الذي ندعو للاقتداء به ، والسير على
منواله .
إن العولمة - بقدر ما يظهر عليها من علائم القوة والسطوة - تحمل معها بذور
ضعفها وانهيارها ، ومن شأن هذه البذور أن تزداد نمواً كلما اتسعت الدائرة ،
وتعددت مناطقها ومساربها ، وأولى نقاط الضعف أنها نظام مادي صِرف يقوم على
الجشع والسيطرة والاستغلال ، وشهوة الكسب ، ويثير أكثر الميول وضاعةً في
النفس الإنسانية: ميول التقليد الأعمى ، وعشق المظاهر ، والتبذير ،
والاستسلام للشهوات ، وبتعبير آخر إطلاق الوحش البُدائي الذي يقطن في أعماق
الإنسان ، وتحطيم تلك الكوابح الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء.
ومن شأن هذه الميول أن تزداد ضراوة كلما اشتدت التناقضات التي تفد مع
المادية كالطبقية والظلم الاجتماعي ، وتفاوُت الدخول ، وغَلَبَة الاستهلاك
على الإنتاج ، وفي غيبة التدين وانحسار القيم والأخلاق - تصل هذه التناقضات
ذروتها في موجات العنف ، والإرهاب ، والحروب الأهلية ، وتقع الصورة التي
حذر منها القرآن الكريم أمثال هذه المجتمعات {قَدْ مَكَرَ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَهُ بُنْيَانَهُم مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَ
عَلَيْهِمُ السَقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ}[النحل:26] .
وعلى شبابنا أن يحيطوا أنفسهم علماً بنقاط الضعف في هذه الظاهرة ، وأن
يستعينوا بالله ، والإيمان به ، والتمسك بالإسلام ؛ حتى يحصّنوا أنفسهم
وأهليهم ، والبيئات التي يعملون فيها ، وهذا الميدان الواسع يحتاج إلى
تعاون منظم بين المنظمات الإسلامية المعنية بالشباب.
و(العولمة) - بعد ذلك - هي نوع جديد من أنواع الاستعمار ، فيه كل ما في
الاستعمار القديم من صفات ، وله ما لسَلفه من الأهداف والغايات ، غير أنه
ظن أنه استفاد من دروس الماضي حين أخفى مخالب الاستعمار القاسية تحت ألفاظ
ناعمة كالتعاون ، والشراكة ، والتعاون المتبادل ، وحشد - إلى جوار القوة
العسكرية - هيمنة المال والاقتصاد والتقنية الحديثة ووسائل الثقافة
والإعلام ، وأسباب التسلية والترفيه .
وهذه الهجمة الكاسحة - على مناطق الضعف والفراغ - سوف تُحدث أثرها دون شك ،
لكن ذلك سوف يكون لمدى محدود ، يطول أو يقصر وفقاً للظروف ، وهو ما تنبّأ
به أيضاً هنتنجتون وفوكوياما وغيرهما من الكُتاب الاستراتيجيين الذين أشرنا
إليهم ، ودون أن نُضطر للاقتباس من نظرياتهم ونبوءاتهم ، فإن تاريخ
الاستعمار القديم يؤكد أن كل موجة من موجاته قد حملت معها عوامل انهيارها
منذ البداية ، بحيث بانت خطوط الصلة واضحة بين مراحل النشوء ومراحل النهاية
والدمار ، كما صوّرها الحكيم الروماني (بلوتارك) - وهو يقف على أطلال روما
-حين قال: (إن أول رجل تسبّب في خراب الإمبراطورية هو الذي بدأ يقدم لها
الغنائم والأسلاب) ؛ لأنه أثار - لدى أهلها - غُول النهب والسيطرة من ناحية
، والرفض - في المدى الطويل - من سحْق الهوية ، وتدمير الثقافة ، واستلاب
خيرات الشعوب .
نقول كل ذلك من منطلق التحليل الواقعي للتاريخ والظروف القائمة ، دون أن
يغيب عن الذهن أن دور المسلمين ليس بالضرورة محاربة العولمة ، أو الحرص على
إجهاضها ، ولكن محاولة إكمال النقص ، وإضفاء المسحة الإنسانية (الإسلامية)
عليها ، ومنْعها من التغوّل ، والانفرادية ، والاستبداد .
ونختم هذا المقطع من البحث بما بدأنا به بأن قدرة الشباب المسلم والأمة
الإسلامية على مواجهة هذه التحديات الكبيرة - وتأدية الواجب في حماية
الإسلام والمسلمين ، والإسهام الإيجابي في المسيرة العالمية - هي الفهم
الصحيح للإسلام ، وأبرز ما فيه من حسنات يحتاجها الإنسان المعاصر ،
والترفّع عن الخوض في الفرعيات الهامشية ، وكبْح النزعات المذهبية
والطائفية الضيقة ، التي كثيراً ما تحجب نور الإسلام وإنسانيته وعالميته ،
واتساع آفاقه