لا أملك إلا أن أغبط شعراء قصيدة النثر على قتالهم الشرس، لا من أجل استملاك شرعية هذه القصيدة، فقد تم تعميدها وشبّت عن الطوق. وإنما للرهان عليها بديلاً كلياً للبنية الشعرية العربية السابقة بشقيها: الخليلية والتفعيلة.
هذا لا يعني أنني أقف في الخندق ذاته، وأقاتل لأجل الهدف ذاته أيضا. ولكنه يعني إعجابي اللامتناهي بمقدرة هؤلاء الشعراء على الإيمان بمشروعهم الإبداعي، بصرف النظر عن رأينا فيه.
لقد نجح شعراء قصيدة النثر في اجتياز العديد من العقبات التي واجهت مشروعهم. وأستطيع القول إنهم ربحوا معاركهم التي خاضوها واحدة إثر أخرى. ولكنهم لم يكلّوا ولم يتعبوا، رغم الجراح التي ترك بعضها ندوبا وبعضها لم. ولا يفوتني التنويه بأنهم هم الذين أثاروا هذه المعارك أكثر من خصومهم. هم الذين افتعلوا العديد من الخصومات مع آخرين موجودين وآخرين مفترضين، من أجل الدفاع عن مشروعهم، وتقديمه في كل مرة بكل ما يستجد لديهم من إضافات أو شروحات وإضاءات، مقرونة دائما بكثير من الكتابات في سياق المشروع نفسه. تمكن شعراء قصيدة النثر من وضع أنفسهم موضع تشكيك ومساءلة واستجواب، وقاموا بالرد على ذلك كله كجيش متماسك، أمام مشهد ثقافي عربي اتسم بالتفكك والتناثر وانعدام الانسجام حيال قضية واحدة. أثاروا كثيرا من الزوابع حول أنفسهم، ونجحوا في الخروج من دواماتها سالمين قادرين على مواصلة السير في قافلة متراصة. ظلوا سنوات يصرخون، تعبيرا عن الضيم الوهمي الذي يحيق بهم، بينما هم في الواقع يحققون انتصارات في أكثر من جبهة وجدوا عليها.
كانوا يتباكون على ما أسموه الإقصاء والتهميش والإلغاء الذي يتعرضون له، بينما هم ـ ومن سنوات عدة ـ يتصدرون المشهد الشعري في المهرجانات العربية والكونية. ويتصدرون خارطة النشر الشعرية في المطبوعات الشعبية والرسمية. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ فبينما أعلنوا مرارا أنهم يتعرضون للتهميش والإقصاء والعزل، نجدهم يعقدون اللقاءات، وينظمون المهرجانات الخاصة بقصيدة النثر.. أي أنهم أصبحوا هم الذين يمارسون التهميش والعزل والإقصاء في حق الشعر الآخر.
واليوم، نقرأ عن تأسيس مجلة خاصة بقصيدة النثر! اليوم يكتمل مشروع قصيدة النثر، التي بدأت على استحياء تطالب باعتراف الآخرين بها وبشرعيتها، لتصل إلى فرض نفسها بديلا معرفيا وجماليا مطلقا للقصيدة العربية السابقة. ورغم ذلك كله، فإن قصيدة النثر التي تؤسس مجلة خاصة بها في الوطن العربي، لن تتخلى عن وسائل الإعلام والنشر الأخرى، التي تعترف بالشعر الآخر. أي أنها ستكون حاضرة في المشهد الشعري العربي المتنوع من جهة، نشراً ولقاءات ومهرجانات وما إلى ذلك. ولكنها في المقابل سوف تحتكر وسائلها الخاصة بالنشر والانتشار من جهة ثانية.
وما نزال نقول، إن أحداً لن يتمكن من الوقوف في وجه قصيدة النثر، وسوف تصل هذه القصيدة إلى مسافة ربما لم تتخيلها من قبل، ولن نعترض. ولكن، دعونا نرى أولا ما الذي سوف يستبطنه هذا المشروع الشعري، لأن ما رشح حتى الآن لا يكفي لاعتماده بديلاً كلياً على خارطة الشعر!