نحن لا ندعي، وانتم لا تنكرون أن ثمة صراعا بين القديم والجديد دائما بين أشكال الفنون قاطبة، وتلك هي سنة الحياة، فمن رحم القديم يولد الجديد، ومن رحم الأم يولد الجنين. تلك حقيقة نعتقدها، إلا أن بعضنا ما زال محكوما بالثقافة العربية المتعالقة ـ منذ قرون ـ بعقلية القبيلة، أي بالتفرد والواحدية، ورفض التعددية. لهذا تشهر السكاكين والحناجر ضد كل جديد يمكن أن يخلخل نمط القبيلة، فالقصيدة العمودية كانت لعدة قرون هي النمط الشعري السائد في الذهنية العربية. وحين أعلنت قصيدة التفعيلة عن وجودها، اعتبرت في وقتها خارجة عن السائد والمألوف، وسلت السيوف وصدحت الأبواق بكل الاتهامات ضد هذا النمط الشعري الجديد، إلا أن شعراء التفعيلة استطاعوا إثبات حضورهم وتأثيرهم، وترسخت لهم المكانة بعد انزياح نسبي للقصيدة العمودية، فشكلت واحديتها وتفردها على مستوى المشهد الشعري العربي. وعندما خرجت قصيدة النثر لكي تبحث لها عن مكانة في هذا المشهد، دون أن تدعو إلى إلغاء القديم بل تجديده على مستويي الشكل والمضمون، وقف لها شعراء التفعيلة بالمرصاد، واعتبروها قصيدة خنثى، ووجهوا لكتابها اتهامات وصلت إلى حد العمالة للاستعمار. إن شعراء التفعيلة يحاربون شعراء قصيدة النثر بنفس السلاح الذي حاربهم به شعراء القصيدة العمودية، فهم يرفضون التجديد ويقاومون الانزياح عن المشهد خوفا من اندثار مكانتهم. تلك هي المسألة.
إن السجال القائم بين فريقي الشعرية العربية، هو سجال عقيم، أضاعوا فيه وقتا ثمينا، وأراقوا حبرا غزيرا في معركة وهمية زائفة، فلا بيانات شعراء قصيدة النثر قادرة على انتزاع الاعتراف بهم وبشرعية ما يكتبون، ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمس وجودهم كشعراء يجددون في شكل القصيدة. لهذا على شعراء قصيدة النثر الترفع عن المماحكات، والتوجه للاستفادة من تجارب الآخرين وخصوصا خصومهم من شعراء التفعيلة، فلم يكتسب شعر التفعيلة مكانته الفنية عن طريق البيانات أو التنظيرات، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات جمالية فنية عالية المستوى، تجاوبت مع نبض الناس واحتياجاتهم الفنية والذهنية والاجتماعية والوطنية والقومية، فأحسنوا استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعر الحقيقي للمتلقين.
قصيدة النثر ... تأصيل معرفي:
تخلقت قصيدة النثر من الصدع الاجتماعي، بمعنى شعور المرء بحالة من الاغتراب داخل مجتمعه، وعدم قدرته نفسيا على التكيف مع واقع زائف يفرض عليه قيما وأنماطا اجتماعية وسياسية تجاوزها الزمن، هذا الوضع خلق لدى الشاعر ما يشبه الرفض لكل ما هو ماض أو موروث، مما جعله يلج إلى عالم القصيدة متسلحا بذاتيته العالية لكي يثبت حضورها في واقع يسعى إلى تهميشها أو الهيمنة على تفكيرها, دون أن يلتفت إلى مسألة الوزن أو القافية، أو البحث في القاموس عن كلمة ليستقيم بها شطر البيت، في محاولة يسابق بها الزمن الحاضر.
وكانت قصيدة النثر عنوانه المعبر عن حالته النفسية المغتربة، نحو سعي الذات لكي تعبر عن ما يمور بداخلها من مكبوتات، وتعلن ثورتها الاحتجاجية ونضالها الفكري ضد العبث بمصيرها أولا، ومصير مجتمعها ثانيا، في محاولة لهدم القيم والأنماط الاجتماعية السائدة، وبناء مجتمع يستقيم فيه سلم القيم والأخلاق بعيدا عن قهر الذات. تقول سوزان برنار: "لقد شب الجيل الذي خرج من المراهقة ما بين 1880و1885 في المرارة والهزيمة وصخب الثورة، وانهارت من حوله القيم كلها، ولم يعد يؤمن بالجمهورية المهانة المستضعفة، ولا بالفعل التافه الخالي من المثل، ولا بالأساتذة الذين يجلهم، لأنهم ما عادوا يلبون حاجاته".
هذا هو الواقع الغربي الذي أنتج قصيدة النثر، أي أن الجيل الشاب تمرد على واقعه وأساتذته في محاولة للبحث عن ذاته في واقع مهزوم. وإذا نظرنا إلى الواقع العربي، نجد أن جيل الشعراء العرب، وخاصة الفلسطينيين، الذين تبنوا قصيدة النثر وكتبوها، كانوا يحسون بالمشاعر نفسها التي أحس بها أقرانهم الفرنسيون في عهود سابقة أو بما هو قريب منها. فقد عاش هؤلاء الشعراء مرارة الخيبة والهزيمة، بعد نكبة عام 1948، وانهيار القيم القومية والأيديولوجية بعد نكسة 1967، ومازالت النكبات والنكسات متواصلة.
السرد والقصيدة:
لقد عنونا هذا القسم من الدراسة، السرد والقصيدة، وليس السرد والشعر، لان مفهوم القصيدة في رأينا أوسع وأشمل من مفهوم الشعر، فالشعر في أبسط تعاريفه هو الكلام الموزون المقفى، وكما نرى فهو تعريف عام وشامل يمكن أن يطلق على أي شيء يوحي بالشعر، مثل ألفية ابن مالك، وشعر التقاريظ والمناسبات، قائمة على النظم الشعري ولكنها لا تعتبر قصيدة شعرية رغم الكلام الموزون والمقفى. أما القصيدة فإنها كلمة محددة تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته، سواء التزم الوزن والقافية أو لم يلتزم فهو قصيدة.
وإذا كانت الشعرية كقيمة جمالية تتحد بمعارضة النثر بالشعر، حسب رولان بارت، فالنثر ذو طبيعة تتمتع بخاصية تلقائية ذات بنية عادية كالكلام المتداول بين الناس، بينما الشعر هو ما يحطم هذه الطبيعة الوظيفية، فيرفع الكلام إلى مستويات جديدة قوامها الرمز الموحي الذي يخلق دلالات متعددة ومناخات نفسية توسع القدرات التخيلية.
وبعد أن أوضحنا الفرق بين القصيدة والشعر، علينا أن نوضح دلالة السرد وعلاقته بالقصيدة.
يعرف السرد بأنه الحكي القائم على دعامتين أساسيتين: الأولى، انه يحتوي على قصة ما تضم أحداثا معينة. والثانية، انه يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، وتسمى هذه الطريقة سردا، ذلك أن القصة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، وأشكال متباينة.
وكون الحكي هو بالضرورة قصة محكية يفترض وجود شخص يحكي، وشخص يحكى له، أي وجود تواصل بين طرفين: سارد، ومتلقي، وبينهما نص. وهذا تماما ما يتأتى للقصيدة فهي نص يحكي موضوعا ما أو قيمة جمالية ما، سواء بالشعر أو بالنثر، إذن ثمة شاعر ومتلقي وبينهما نص. وهنا تبرز العلاقة بينهما في الشكل العام بان السرد والقصيدة يطلبان المتلقي، وتبقى الوسيلة التي يوصلان بها رسالتهما لهذا المتلقي مغايرة. فنجد أن السرد يتواصل مع المتلقي من خلال القصة أو الرواية أو النص المسرحي أو السيرة، أي أن السرد يختار الشكل النثري لكي يوصل رسالته. وبهذا نلاحظ أن ثمة ترابطا بين السرد والنثر من حيث الشكل والمضمون.
إذن ما العلاقة التي تربط بين السرد وهو النثر، والقصيدة وهي شعر أو نثر؟ وهنا ثمة قاسم مشترك يجمع بين السرد والقصيدة النثرية، فما هو هذا القاسم المشترك وما دلالته؟، وهل ثمة قاسم يجمع بين السرد والشعرية؟.
إن القصيدة بشكليها الشعري والنثري، تعد حالة وجدانية فكرية، يتركز فيها الذهن على نقطة معينة من صورة، من فكرة، من قضية، وهي لذلك تتأثر بالعصر، وبالبيئة، وبظروف الحياة التي تتطور باستمرار، والضرورة تستلزم أن يرافق تطور الحياة تطور مماثل في شكل ومضمون القصيدة، خاصة بعد أن خلخلت التحولات الحداثية ثوابت نظرية الأنواع الأدبية التي كانت تحدد مواصفات كل جنس أدبي بقوانين وشروط أدبية صارمة، فتلاقحت الأجناس والفنون، وانهمرت خواصها الفنية على بعضها، فظهرت تقنيات تشكيلية وسينمائية وسردية في القصيدة. وكذلك تداخلت الأجناس الأدبية في السرد نفسه، حيث تداخل الشعر في النص السردي سواء قصة أو رواية أو مسرحية، وعديد من النصوص المسرحية كتبت شعرا.
ورغم هذا التلاقح والتمازج بين السرد والقصيدة، إلا انه تبقى ثمة حدود بين الجنسين الأدبيين، بحيث لا يطغى احدهما على الأخر ويخرجه من جنسه الأدبي، فيبقى السرد كجنس أدبي له خصائصه، وتبقى القصيدة جنس أدبي مستقل تستعين بمجموعة من خصائص السرد لغايات جمالية.
السرد والموروث الشعري العربي:
آثرنا قبل الشروع في إبراز دلالات السرد في قصيدة النثر، أن نعود إلى مرجعية تاريخية أدبية استفادت من السرد في بناء عالمها الشعري، ونقصد بذلك التراث الشعري العربي.
إن علاقة السرد بالقصيدة قديمة قدم الشعر نفسه، وقد تحدثت الملاحم الشعرية الأولى في الأدب العالمي عن أبطال وأحداث وسير وأمكنة، وخير مثال على ذلك، ملحمتي الإلياذة والاوديسا في الأدب الإغريقي، وملحمة جلجامش في الأدب العربي. كذلك ثمة قصائد في الشعر العربي بدأ من العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث أو المعاصر، نجد فيها مكونات سردية. ولسنا مبالغين إذا قلنا، بان وراء كل قصيدة قصة هي المثير أو الدافع، مثل قصائد الحب والعشق، أو قصائد المعاناة والألم، أو القصائد التاريخية.
لقد استخدم الشاعر العربي بعضا من تقنيات السرد، واتكأ على الحكاية أو القصة كوسيلة تعبيرية يبني عليها حدث قصيدته. فنجد (امرؤ القيس) في معلقته يصف مغامراته في "دارة جلجل" ومع "بيضة الخدر" التي تجاوز أهلها وتبادل معها مختلف صنوف الحب واللهو. وهذا (المنخل اليشكري) يصف لنا في رائيته الشهيرة مشهد دخوله الخدر على فتاته في اليوم المطير. ولم يكن (عنترة بن شداد) بعيدا عن صاحبيه في قص الأخبار ورواية الحكايات عن حبه لـ(عبلة) ومتذكرا إياها بين ضربات السيوف وطعن الرماح. وهؤلاء الشعراء لم يكن هدفهم القص بحد ذاته، وإنما رواية ما وقع لهم من أحداث ومغامرات في أسلوب قصصي متخذا من القصيدة الشعرية شكلا فنيا.
إن فن القص جزء من النفس البشرية، تخلقه إذا لم تكن تعرفه، كوسيلة تعبيرية حينما تعجز الوسائل الأخرى عن التعبير. فنجد في العصور الإسلامية تطور ملموس للسرد في القصيدة حيث أدرجت قصص شعرية كاملة من حيث بناؤها ورسم شخصياتها وحبكتها في الشعرية العربية. فهذا (الحطيئة) في قصيدته التي مطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
يحكي القصة/ القصيدة عن مشاعر الأب وخشيته على سمعته بين القبائل إذا لم يكرم ضيفه الذي حل بدياره، وتنتقل مشاعر الهم والخوف إلى احد أبنائه، فيدنو من أبيه ويحاول حل الأزمة بطريقة مأساوية "يا أبت اذبحني ويسر له طعاما"، وتبلغ الحبكة ذروتها عندما يهم الأب بذبح ابنه، حينها يسمع صوت قطيع من حمر الوحش تقصد بئر مجاور، فينسل الأب نحوها ويرسل سهما فتصيب إحداها، وهكذا يحل الشاعر عقدة قصته/ قصيدته سريعا.
هي قصة بكل مستويات السرد، ولكن لم يقل احد عنها قصة أو حكاية شعرية، لأنها قدمت للقارئ مرتدية الزي العام للشعر، وهو إيقاع البيت ذي الشطرين، حيث كانت السمة الشعرية الوزنية فيها طاغية على السرد ومكوناته.
وقد كان للشعراء العذريين حكايات وقصص كثيرة أيضا مع محبوباتهم نظموها شعرا، أمثال: قيس وليلى، وقيس ولبنى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهم.
وحين أحس الشعراء القدامى بوطأة السرد على خطابهم الشعري، حاولوا أن يفتتحوا القصيدة بالغزل أو بالحكمة، فمثلا قصيدة (أبو تمام) عن فتح عمورية وهي قصيدة سردية، ولكنها تبدأ بحكمتها الشعرية "السيف اصدق أنباء من الكتب". وكذلك قصيدة (المتنبي) عن قلعة الحدث تحكي عن واقعة فيها بطل وحدث ومكان، لكنها تتقدم بلباس الحكمة "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".
وتستمر مسيرة القصة الشعرية لتصل ذروتها مع قصائد الرعيل الأول من شعراء النهضة أو الإحياء، بتأثير من التراث الشعري العربي الذي تم إحياؤه، أمثال: احمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، ومعروف الرصافي، والأخطل الصغير، والياس أبو شبكة، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم، وإيليا أبو ماضي، وغيرهم.
وفي تجربة شعر التفعيلة ثمة إمكانات هائلة استثمرها الشعراء ليصلوا بالسرد الشعري إلى مدى أوسع وآفاق أرحب، ومن يقرأ قصائد (نزار قباني) يجد قصائد كثيرة تؤكد هذا الحضور السردي الشعري. وكذلك لدى شاعر العربية (محمود درويش) قصائد عديدة تحاكي فن السرد، في قصيدتي "الحديقة النائمة" و"كان ما سوف يكون" من ديوان أعراس، و"الحوار الأخير في باريس" و"بيروت" من ديوان حصار لمدائح البحر، ويتوج المحاكاة السردية في عمله الإبداعي"في حضرة الغياب". وهذا بالإضافة إلى تجارب أخرى عند معين بسيسو، وأمل دنقل، واحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور، واحمد دحبور، ومحمد الفيتوري، وسعدي يوسف، وغيرهم.
ومهما توغلت قصيدة التفعيلة في السرد واعتمدت مكوناتها على حكاية أو قصة شعرية، ونجد أن مفرداتها البنائية والدلالية هي مفردات قصة بحدثها وحوارها الداخلي، إلا أن إيقاعها شعري يؤكد انتماؤها إلى الشعر لا إلى السرد.
السرد وقصيدة النثر:
انطلاقا مما تحدثنا عنه من سرد في الشعرية العربية القديمة والحديثة، نؤكد أن قصيدة النثر في علاقتها بالسرد أو تمازج السرد في مكوناتها الجمالية، لم يأت من فراغ، بل ارتكز إلى أشكال أخرى سابقة. واعتماد قصيدة النثر على التجريب واختيار سبل عديدة، هذا لا يعني أنها أضحت بديلا عن الأنماط الشعرية الأخرى، بل هي جزء لا يتجزأ من المشهد الشعري الراهن، تتجاور وتتجاوز وتتشابك مع تلك الأنماط.
لقد استندت قصيدة النثر في بنيتها ـ بشكل جوهري ـ إلى السرد، فهي بتواطئها باستمرار مع أجناس قريبة منها، كما عبرت سوزان برنار، تحطيمها للإيقاع الخارجي، وجدت نفسها تعتمد بشكل كبير على السرد والحكي والحوار والخبر والاستغراق في تصوير الجزئيات، والتركيز على المفارقة، وهي كلها من خصائص فن القص. وتؤكد "مارغوريت مورفي" على تمازج قصيدة النثر بفن السرد، تقول: هذا الجنس الأدبي المبتدع، والذي يشبه بسهولة شديدة أنواع النثر الأخرى، لهذا كثيرا ما يتم خلطه مع مقتطفات من أشكال خطابية أخرى، فالكثير من قصائد النثر قد تشبه الحكايات أو الأمثال الرمزية أو القصص أو غيرها من الشذرات النثرية. لهذا رفض النقاد بعض ما تضمنه كتاب بودلير "سوداوية باريس" على اعتبار أنها ليست قصائد نثر، بل هي أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياته تطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية.
ولم يبتعد الكتاب والنقاد والشعراء العرب عن هذه المواقف، إذ أكدوا على تمازج السرد في قصيدة النثر واعتباره مكون أساسي من مكوناتها، يقول عبد القادر الجنابي: أن قصيدة النثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: كان ذلك في ...، وبعد أن ...، فطوفت في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر ....، ثم راح ...، بقعة صفراء أشبه بقمر توقف عن الحركة. ويؤكد ادونيس على حضور السرد في قصيدة النثر، إلا أن ذلك يبقى مشروطا بان يتسامى بالقصيدة ويعلو بها لغاية شعرية خالصة، بمعنى أن تغلب الشعرية على السرد وليس العكس، وإلا تحولت إلى جنس أخر. ويرى أمجد ناصر أن قصيدة النثر لها خاصية القص تارة، والسرد تارة أخرى، والأمثولة حينا، والاستطراد حينا أخر، ولها ما للنثر أيضا من أخبار وبرهنة وتحليل.
ومع هذا فليست لها أبدا الغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. فالسرد في قصيدة النثر هدفه خلق عنصر تأثير أخر على المتلقي يضاف إلى عناصر التأثير الأخرى المبثوثة في جسد النص، مما يجعل المتلقي يشعر حينما يقرأ نصا شعريا، كأنه يسمع صوت الشاعر يحول النص الشعري إلى نص بصري وسمعي، بالإضافة إلى انه نص فكري وتأملي ووجداني، لان بناء قصيدة النثر السردية سيوحي للقارئ بأنه يشاهد منظر الشاعر أمامه ويتخيل سماع صوته, ومعبرا عن ذات المتلقي.
وقد حفلت التجارب الإبداعية في مشهد قصيدة النثر العربية بالعديد من النماذج التي تؤكد حضور السرد ضمن جماليتها. يقول الشاعر (عباس بيضون): "الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة"، سرد نثري، كأنه يحكي قصة فيها شخصيات "أربعة"، ومكان "وسط الجبال"، وحدث "لم يشعروا بخيال الطائر ..".
ويشير الناقد "حسن ناظم" إلى أن ديوان (سركون بولص) (شاعر عراقي توفى في المنفى) الأخير الذي صدر بعد وفاته بعنوان "عظمة أخرى لكلب القبيلة" عام 2008، يرتكز قوامه الشعري على السرد، حيث تربو قصائد السرد فيه على النصف، نقرأ من قصيدة الكرسي:
في البدء يشخص الكرسي:
كرسي جدي ما زال يهتز على
أسوار أوراك
تحته يعبر النهر، يتقلب فيه
الأحياء والموتى.
نص سردي يحضر فيه الجد والأب والصديق، وشخصيات حقيقية ومتخيلة يروي عنها آلامها وشدائدها، فالديوان قصائد سرد عن حكايات الأحياء والأموات في الزمن الغابر من الأيام والحاضر.
وفي ديوان الشاعر (سيف الرحبي)الأخير "حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة" الصادر عام 2010، يذكر الناقد "فيصل عبد الحسن" أن الديوان يضم نصوصا تقترب في تقنياتها إلى فن القص والحكاية الشعرية، وتحتمل التأويل أكثر مما تحتمله القصيدة الاعتيادية. ونقرأ في نصه "قمر الهضاب" نصا سرديا بامتياز، حيث ينقلنا إلى عالم نثري ثري، يجوس من خلاله حول مفردة قالتها الحبيبة عن قمر الشاعر، الذي يسألها هاتفيا، إن كانت ترى القمر في بيتها مثلما يراه في بيته في هذه اللحظة، فتجيبه انه "ضاح" في البيت وعلى الشرفات وعلى هضاب المكان. وتحيل مفردة "ضاح" الشاعر إلى طفولته وتصير بؤرة مشعة ينطلق منها النص القصصي.
ويكتب (جبرا إبراهيم جبرا) في قصيدة "في يومي ذاك الأخضر" من ديوان "تموز في المدينة"، نصا سرديا يروي فيه ملامح من سيرته الذاتية في زمن الطفولة قبل خروجه من فلسطين إلى ولديه (سدير، وياسر) المهداة إليهما القصيدة. يقول:
في يومي ذاك الأخضر
إذ كنت كالعود الطري
اخضر يومي وليلي
بين فروع التينة
أكل التين الندي
مع رفقتي الحفاة
(أقدامنا صخر مرمري)
وأبو خليل يصيح
راكضا في قنبازه
في أثرنا
وسوطه في يده:
"والله لاذبحنكم
أكلتم التوت والتين،
وقطعتم الجلنار
والله لاذ ... بـ ... حنـ ... كم ..."
تبرز تقنيات السرد واضحة في النص، إذ يفتتح الشاعر قصيدته بضمير المتكلم "في يومي ذاك الأخضر، إذ كنت كالعود الطري". ثم يتابع بوصف أحواله المرحة مع رفاقه في البساتين، رغم أنهم فقراء "مع رفقتي الحفاة". وتمثل شخصية أبو خليل جزءا من أحداث القصة وعقدتها، حين يكتشف بأنهم يأكلون التوت والتين من بستانه، فيركض خلفهم. ويروي الراوي العليم بكل شيء وهو هنا الشاعر حالة أبو خليل حين اكتشفهم، يصرخ وفي يده سوط يهددهم به. الراوي هنا يروي حكاية الوطن قبل الاحتلال والهجرة، وكيف كان الأطفال أمثالهم (نقصد ولديه) يمرحون ويلعبون في بساتين مليئة بالخير والحياة، ويصف لهم الأماكن التي كانوا يلعبون فيها، ويرسم لوحة تشكيلية بصرية لحياة تنبض بالجمال والمتعة البصرية، ويعرج على حوار الأمهات مع أبنائهن "يا شياطين تعالوا واحملوا السلال عنا". ويستحضر شخصية الأب ويصف علاقته مع ابنه بأنها علاقة محبة وحنو "وأبي واقف كالشجرة، يفيئني بمنكبيه، يلقمني من مقلتيه، وطراوة من شفتيه".
في قصيدة النثر أصبحت الذات هي بؤرة الشاعر، وحل صوت الفرد محل صوت الجماعة، وان كان ينطوي على معاناة الجماعة الإنسانية.
يعد الشاعر (محمد حسيب القاضي) من الشعراء الذين كتبوا الضدين، قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وفي كليهما أجاد وأبدع، وتميزت قصيدته النثرية بالركون إلى التراث العربي والعالمي، والميثولوجيا، وقراءة الواقع الفلسطيني برؤية جديدة بعيدا عن السوداوية. في ديوانه "السدى قطرة قطرة"، كتب أكثر من قصيدة نثرية تمازجت مع السرد، منها: كابوس، لمجرد أغنية، الخوف، غبار، قصيدة في الليل. استخدمت جميعها تقنيات سردية، مثل ضمير الأنا، والحوار، ووصف المكان، وضمير المخاطب. نقرأ من قصيدة كابوس (ص21):
كل شيء هنا ...
بالضبط كما هو
الطاولة، المرآة، البرداية، اللمبة، ديوان إبراهيم طوقان،
آخر سيجارة في العلبة، قصاصات صحف ومجلات، نظارة ..
الخ .. الخ
مد يده. حمل الصمت برفق. اجتاز الغرفة إلى الصالة.
صمت رجراج. كاد أيفلت من يده. افلت بالفعل.
تهشم فوق الأرضية
تبرز تقنية السرد منذ افتتاح القصيدة بضمير الغائب "كل شيء هنا .. بالضبط كما هو"، ثم يصف تفاصيل الأشياء في المكان "الطاولة، المرآة، البرداية، اللمبة، ..."، وينتقل بعدها إلى سير الأحداث وتفاصيل الحركة في المكان الذي تمثله "الغرفة" التي يجتر فيها الراوي الصمت والكآبة. وتحضر العقدة حينما "فجأة سمع خطواته خلف الباب .." وهنا تدخل القصيدة/ القصة في الفانتازيا، حيث تنقسم الشخصية إلى شخصيتين، لكنها هي نفسها، ويحل الراوي عقدة القصة/ القصيدة باكتشاف الذات لنفسها. هي بلا شك قصيدة سردية تحكي شعور المرء بالاغتراب في المكان البعيد عن الوطن، ورغم ذلك لم تتخل عن طرائق الشعر في التكثيف والإيحاء، فهي قصيدة أولا توسلت السرد ثانيا.
والشاعر (عثمان حسين) منذ أن تفتحت بداياته الشعرية رسخ نموذج قصيدة النثر كمنطلق شعري يعبر به عن ذاته، وليصدم مجتمعه برؤية جديدة بعيدا عن السائد والمألوف، فشكل تمرده الذاتي دون أن يبتعد عن هموم مجتمعه. وقد خلق جمالياته الشعرية في قصائد نثرية توسل في بعضها السرد كتقنية فنية وجمالية ليعبر بها عن ذاته وعن الواقع المحيط به. ففي ديوان "من سيقطع رأس البحر"، يهيمن ضمير الأنا المتكلم كتقنية سردية على معظم القصائد، وهذا الضمير يعبر عن الذاتية ويوحي للقارئ بان الشاعر يحكي سيرته وتفاصيل حياته وتجاربه، ويمنحنا ضمير المتكلم دلالة مزدوجة على الفعل والحركة. ومثال على ذلك قصيدتي: "لم يعد في القلب متسع" (ص42)، و"رأيته جميلا" (ص43). كما تجلى ضمير المخاطب في قصيدة "أمنية" (ص60)، كتقنية سردية. وهي قصائد سردية تأخذ منحى القصة الوصفية التي تعتمد على وصف المكان ورسم تفاصيل الأشياء.
وفي ديوان "الأشياء متروكة إلى الزرقة"، تحفل قصائد الديوان النثرية بالعديد من تقنيات السرد، ويهيمن عليها ضمير المخاطب، فنجد: الرؤية الاستباقية، والحوار في قصيدة "دعاء الاقتحام" (ص32). ويستعرض يوميات ومواد إخبارية في قصائد: "مخيم بلوك 5 فجر 11تموز 2001" (ص35)، حيث يسرد يوم في حياة المخيم في ظل الاحتلال. وقصيدة "الهزيمة" (ص68). و"دعاء السماء" (ص42)، و"دعاء الرحمة" (48)، و"دعاء الفجر" (ص54). ويورد قصة قصيرة كاملة بتقنياتها السردية في قصيدة "جدارية" (76). نقرأ من القصيدة:
"كانوا عائدين مساء إلى بيوتهم، مثقلين بحقائبهم المشبوحة خلف ظهورهم الطرية، وكانوا أيضا أغصانا طرية تحلقت راسمة نصف دائرة على الرصيف المحاذي لجدار مدرسة خولة الابتدائية المطل على شارع البحر، أما النصف الأخر يبدو في هيكل دبابة إسرائيلية مرسوما على الجدار محاطا بشعارات وطنية/ معادية. ..."
وفي ديوان "له أنت" تنزاح القصائد ما بين ضمير المتكلم، والوصف، والسيرة الذاتية، وهي تقنيات سردية. ففي قصيدة "في غزة" (ص23) يأتي ضمير الأنا ليروي حكاية غزة بكل همومها وتفاصيلها، راسما معالم المكان وتفاصيل الأشياء. وفي قصيدة "انتظر المفاجأة منذ وقت بعيد" (ص63)، يعتمد على تقنية الوصف ورسم تفاصيل المكان. ونلمس ملامح من السيرة الذاتية في قصائد: " ضدان" (ص31)، و"صباح الخير" (ص43)، "طاحونة جائعة" (ص68). فنجد ضمير المتكلم، والمنولوج الداخلي، ووصف الأماكن، وتحديد مكان الحركة والأحداث.
ويأتي الشاعر (شجاع الصفدي) من جيل الشباب الذين تمردوا على كل شيء، بدأ من القصيدة العمودية وصولا إلى التفعيلة، وكونوا لأنفسهم عالما مستقلا تأخذ فيه الذاتية الشعرية المتمثلة في قصيدة النثر أبعادا تغوص في الميثولوجيا الإغريقية كمرجعية يناظرها بها الواقع الراهن، وهذا ما لمسناه في ديوانه "اتكئ على حجر"، وفما بين القصيدة وقصيدة النثر المصاحبة للسرد تشكلت عوالم الديوان.
إن الاتكاء على البنى السردية في هذا الديوان يهدف إلى استلهام المكنوز التراثي الإنساني المتمثل في الميثولوجيا الإغريقية، وتأويله، وبعثه في إيقاع جديد يحاكي واقعه المعاش. ونقرأ من قصيدة "جلجامش يبكي" (ص17)
رأيته في حلم يصعب أن يصحو منه إلا الخالدون
يسقط كوكب يثقل علي حمله
تصارعنا نقيضين وخرنا خوار ثورين وحشيين
غابت عنا قلوبنا ...
حتى توحد نزفنا .../
فبتنا صديقين.
تأخذ القصيدة بتقنيات فن القص، حيث تحكي الذات بضمير الأنا قصة توحدها مع الأسطورة، وانعكاس ذلك في الواقع المعاش، و"انكيدوا يصنع توحدهما" بهدف تغيير العالم. ويبرز فن القص كذلك لديه في قصيدتي: "سيناريوهات ليلية" (ص52)، و"رفاقي الأربعة" (ص55). كما يوظف المقالة السردية في قصيدة "لحم الحكايا" (ص65) عن معاناة المؤرخ في كتابة التاريخ. وفي ديوانه "للألم بقية"، يستخدم أيضا تقنيات فن القص في قصيدتي "صديقتي وزيت القنديل" (ص22) وهي تحكي قصة عشق. وقصيدة "الغريب" (ص62).
وفي الختام، يأتي السؤال، هل تنازلت قصيدة النثر عن جمالياتها الفنية حين جسدت عناصر السرد وتقنياته ضمن محتواها؟.
لقد لاحظنا في النماذج المقدمة أن السرد وخصوصا فن القص هو أكثر الأشكال الفنية تمازجا مع قصيدة النثر، ولكن هذا السرد لم يدفع بالقصيدة إلى التنازل عن جمالياتها الفنية، ولم يخرجها عن شروطها الشعرية، لان شعرية قصيدة النثر تكمن فيما يطلق عليه "بالمجانية" حسب قول سوزان برنار، أو "اللاغرضية" حسب قول أحد النقاد، وهذه اللاغرضية أو المجانية مغايرة تماما لما ترسخ عليه النثر العربي من وظيفة الوصف كما في الرواية أو القصة مثلا. وهنا يكمن الفرق بين سردية القص وسردية قصيدة النثر، أن سردية القص تسعى نحو الوصول إلى رؤية أو هدف ما، أما سردية قصيدة النثر فغرضها أو هدفها فني جمالي محض.
الخميس أكتوبر 14, 2010 4:41 pm من طرف سميح القاسم