سميح القاسم المد يــر العـام *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 3149
تعاليق : شخصيا أختلف مع من يدعي أن البشر على عقل واحد وقدرة واحدة ..
أعتقد أن هناك تمايز أوجدته الطبيعة ، وكرسه الفعل البشري اليومي , والا ما معنى أن يكون الواحد منا متفوقا لدرجة الخيال في حين أن الآخر يكافح لينجو ..
هناك تمايز لابد من اقراره أحببنا ذلك أم كرهنا ، وبفضل هذا التمايز وصلنا الى ما وصلنا اليه والا لكنا كباقي الحيونات لازلنا نعتمد الصيد والالتقاط ونحفر كهوف ومغارات للاختباء تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10
| | يتبع | |
ن المساء يزحف ببطء نحو عتمته، وكل ما في الخيمة من تفاصيل يروي قصة انتظار ثقيل، كما لو أن الزمن نفسه قرر أن يتثاقل في لحظات الوداع. ضوء المصباح الزيتي، المتأرجح كقلب خائف، ألقى بظلاله الشاحبة على جدران الخيمة، حيث الرثاء يلتف كوشاح ثقيل حول كل شيء. كان الصمت يهمس بأصوات لا تُسمع، والأنين ينبض في صدر المكان كنبض بطيء لقلبٍ متهالك.بعض الحسرات كانت تخرج من صدرها كحشرجات، تتعثر وتختنق، كأنها تجرّ سلاسل الوجع في كل مرة. هي تعلم، ربما، أن هذه الرحلة قد بلغت نهايتها، وأن الرحمة قد تكمن في النهاية، إذ هي لا تريد أن تتركهم، لكن في عمق نفسها، تتوق للرحيل، لعله يكون خلاصًا لرجلها الذي أحبته بكل شيء، ولم يصبر إلا ليبقى لها ولأبنائهم، طيّب القلب، عميق النظرات، يغرق في صمت يقاوم أنينًا لم يُفصح به.في الخارج، تلاشت الريح في هدنة، كأنها أصغت لهؤلاء الراحلين في قافلتهم؛ السماء مظلمة، وكأن نجومها تبكي في خفية. جلس الرجل هناك عند قدمها، عيناه تراقبانها دون أن تجرؤا على الإغلاق، كأن إغماض عينيه سيجعله يفقدها. في قلبه، نار متقدة، لكنها نار بلا لهب، تحترق صامتة، تبعث بدخان الذكريات.أما الأطفال، فقد هدأوا في زاوية بعيدة، ملامحهم تحمل آثار يوم طويل، وأحلامهم تتراقص على وقع أنفاس ثقيلة. كل شيء يبدو كأن الحياة نفسها تتوقف عند عتبة هذا الوداع، حيث الشوق يثقل، والفراق يزحف، والنهاية تختبئ في الزاوية، تنتظر لحظة الرضا الأخير تسللت أنفاسها كهمس الريح في ليلة هادئة، تُراوغ الحياة وهي بين يديه. كان وجهها لوحة باهتة، خطوط التعب ترتسم على ملامحها كشجر مُتعب أمام رياح عاتية، خافتة كشمعة تحتضر، لكن لها ضوءٌ دافئٌ ما زال يتشبث بالفراغ. وقف بقربها كالطود الشامخ، عيناه تمطران شوقًا وخوفًا، يراقب كل نفسٍ يأخذه قلبها، يلتقطه كجوهرة يخشى أن تضيع.كان يحتضنها بعينيه، يقف على حافة البكاء كحلم يتشبث بآخر رمق في الليل، وكل كلمة تخرج من شفتيها كانت تسقط ثقيلة عليه كقطرة مطر باردة على كتف متعب. أطفأ أنفاسه، كي لا يزعج حلمها الأخير، واكتفى بأن يربت على كفها المرتجف، وكأنها آخر خيط يجمعه بالحياة.أما أطفاله، فهم كالنوارس، لا يعرفون عن العواصف شيئًا؛ ضحكاتهم البريئة تملأ المكان، وهم يتناثرون حوله كرياح صغيرة، يرمقونه بنظراتهم الحائرة. كان يلملم شتات روحه ليحكي لهم حكايات دافئة، حتى إذا هجعوا في أحلامهم، بكى بصمت، كحطاب أرهقته الشجرة الأخيرة في غابة خالية.في تلك اللحظات، كان الزمن ينكمش؛ الساعات تحترق أمامه، والألم يضغط على صدره كحجر ثقيل، لكنه يظل واقفًا، صلبًا، كشجر صامد في وجه العاصفة، يكتفي بأن يمدّ ظله ليحميهم، ويبقى لأجلهم واحة أمل خافت وسط صحراء من الخوفكل صباح، كان ينهض قبل بزوغ الشمس، يراقب أنفاس زوجته وهي تستقر بصعوبة تحت غطاء قديم، تتشبث ببقايا الدفء في أيامها الأخيرة. كانت نظراته تتجول بين تجاعيد وجهها المتعب وشعرها المتناثر فوق الوسادة، وكأنها خريطة تروي قصتهما التي لم تنتهِ بعد. يجلس قرب سريرها، يتلو دعواته الصامتة بأن يمنحها الله بعض الراحة في هذا العالم، وإن كان يعرف في قرارة نفسه أن ذلك الأمل يتلاشى.وعندما يستيقظ الأطفال، كان يحاول إخفاء حزنه خلف ابتسامة حنونة. كان يومه مليئًا بالمشقات، بدءًا من الطهي وغسل الملابس وصولًا إلى تنظيف المنزل، وكل هذا دون أن يُشعرهم ولو لثانية بمدى الإرهاق الذي يستنزفه. كان يؤمن أن عليهم العيش بسلام، حتى في وسط هذه العاصفة.أحد أبنائه، الصغير سامي، بدأ يسأله عن الغياب المستمر للأم، عن عينيها اللتين لم تعودا تضجان بالحياة كما كانت من قبل، وأخذ قلبه يثقل بكل سؤال بريء يطرحه الطفل. يجيبه بلطف، يحاول شرح أن أمهم بحاجة إلى الراحة، وبأنها تخوض معركة من أجلهم جميعًا.ذات مساء، بينما كان يُعد العشاء في المطبخ الصغير، سمع صوت زوجته يناديه بهدوء، بالكاد كانت كلماتها تصل إلى مسامعه. أسرع إلى جانبها، فوجدها تبتسم رغم الألم، تمد يدها المرتجفة نحوه وكأنها تحاول الإمساك بلحظة مهدورة. تحدثت بصوت خافت، وطلبت منه وعدًا أخيرًا، أن يبقى قويًا من أجلهم، من أجل الأطفال.في تلك الليلة، جلس بجوارها، متأملًا وجهها الذي بدا كلوحة لحياة عاشتها بشغف وألم. بدأ يتذكر كل لحظة مضت، كل ضحكة، كل مشقة تغلبا عليها معًا، وكل حلم بنياه سويًا. كانت هذه الذكريات هي قوته، وكانت وصيتها آخر ما تبقى له ليحافظ على صلابته.حين غفت بهدوء في تلك الليلة، تملكه إحساس عميق بالرهبة، وشعر أنه أصبح الآن وحده القافلة والطريق | |
|