توقفنا في مقالة سابقة عند بعض مؤشرات [ما اصطلحنا عليه] بـ"الضرائب النفسية" للمتديّن الذي مرّ من تجربة إسلامية حركية، وانطلقنا حينها من فرضية مفادها أن "مرور إنسان المنطقة [العربية نموذجاً]، على التجربة الإسلامية الحركية، سواء كانت سلفية أو إخوانية أو غيرها، يُخلّف آثاراً نفسية عليه في مرحلة ما بعد أخذ مسافة نظرية وتنظيمية من المشروع"، ولأن الإنسان المعني هنا، "إنسان مُركّب"، فإن "أحواله النفسية تتغير عند المرور من تجربة العمل الإسلامي الحركي، بمقتضى التأثير النوعي الذي يُكرسه نهله من أدبيات المشروع، من قبيل الأدبيات الإسلامية الحركية التي تحدثه، وتجعله مؤمناً إيماناً جازماً بمقتضى مفاهيم "الحاكمية" و"المفاصلة الشعورية" و"الولاء والبراء" و"الطائفة المنصورة" و"التقية" و"التمكين" والبيعة" و"الجماعة قبل الوطن"[1]. لا نتوقف في هذه المقالة عند ضرائب أخرى ذات الصلة بالمُحدد النفسي، تطال المتديّن الذي مرّ من تجربة حركية سابقاً، وإنما تهمّ بداية المتديّن الذي لا يزال مُنتمياً إلى هذا المشروع، أياً كانت إسقاطاته الميدانية، دعوية أو سياسية أو قتالية؛ كما تهم من ناحية ثانية الضرائب الأخلاقية بالتحديد، لأننا في غِنى عن تسليط الضوء مجدّداً على الضرائب النفسية مع هذا الفاعل لاعتبار بَدَهي، مفاده أنه إذا كان المتديّن الحركي السابق يُعاني من قلاقل نفسية، فأن يعاني منها المتديّن الذي لا يزال منتمياً أولى، بل إن ضرائب هذا الانتماء تقف ضمن بعض الأسباب المُغذية لظاهرة الإلحاد التي بزغت في المنطقة خلال السنين الأخيرة، والحديث عن الإلحاد الذي طال إسلاميين سابقاً، كما نُعاين ذلك في العديد من النماذج في المنطقة، من قبيل ما يجري في السعودية ومصر والجزائر والمغرب، ونتحدث عن أسباب الإلحاد المرتبطة بالخطاب الإسلامي الحركي، ولا نتحدث قط عن أسباب أخرى مرتبطة بمحددات أخرى، ذات صلة بأداء المؤسسات الدينية والاجتماعية وغيرها.
عاينا هذه الضرائب الأخلاقية منذ عقدين تقريباً، ونقصد بها صدور ممارسات تعادي الأخلاق عن فاعلين إسلاميين، ولكنهم يزعمون أنهم يدافعون عن "المرجعية الإسلامية" أو المساهمة في "إقامة الدين" في مجتمعات المنطقة، باسم "المقاربة التشاركية" لتدبير الشأن الدّيني، كما نقرأ في أدبيات أحد المشاريع الإسلامية الحركية في التداول المغربي.
كنا نعتقد حينها أن الأمر يطال حالات فردية، تفصل الأخلاق عن الدين؛ أي تصدر عنها ممارسات دهرانية[2]، تتجاوز سقف الممارسة العَلمانية، التي بالكاد تتحدث عن "فصل الدين عن السياسة"، ولكن عاينا أنه مع مرور الزمن، لم يعد الأمر مقتصراً على حالات فردية، وإنما يكاد يكون معضلة متفشية في أوساط بعض هذه التنظيمات، إلى أن بزغت بعض التطورات العلمية والميدانية، التي جعلتنا نسلط الضوء على معضلة تتجه لأن تصبح ظاهرة في صلب المشروع. مُحددان اثنان على الأقل، يقفان وراء تسليط الضوء على هذه الضرائب الأخلاقية:
ــ مُحدد أحداث "الفوضى الخلاقة"
نتحدث إجمالاً على تفاعل الحركات والأحزاب الإسلامية مع أحداث "الفوضى الخلاقة"، والتي اصطلح عليها إعلامياً وبحثياً بأحداث "الربيع العربي"، وخاصة ما جرى في تفاعل الإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، وحتى لا يتيه المتلقي في التفاصيل، سنتوقف عند الحالة المغربية.
كان من الصعب الخوض في هذا الموضوع[3] قبل أحداث "الفوضى الخلاقة"، وليس صدفة أن الأعمال التي تطرقت لهذه الجزئية الحساسة، على ندرتها، كان مصيرها التجاهل أو الازدراء[4]، لعل أبرزها ما صدر عن الراحل فريد الأنصاري في ثلاثيته الشهيرة: "البيان الدّعوي"[5]؛ "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب"[6]، و"الفِطرية"[7]، والذي رغم ثقله العلمي الديني، لأنه لا أحد كان يُنافسه في هذا المقام في المشروع الإسلامي الذي كان ينتمي إليه[8]، فقد كان مصيره الاتهامات، على أهمية ما صدر عنه، قبل قدوم أحداث "الفوضى الخلاقة" لتؤكد ما حذر منه في تلك الأعمال. ولكن المشهد السياسي والاجتماعي والديني مختلف في مرحلة ما بعد أحداث "الربيع العربي"، لاعتبارات عدة، عنوانها أن هذه المستجدات ساعدت الشارع والرأي العام، حتى يمتحن بشكل عَمَلي المشروع الإسلامي الحركي[9]. كانت هذه الأحداث امتحاناً كشافاً لاختيار خطاب المشروع الإسلامي الحركي المرتبط بشعار "الإسلام هو الحال"، إلى درجة أن خطاب المشروع ذاته، لم يعد يُروج هذا الشعار، على الأقل بشكل علني، وإن كان الحنين إلى ماضي التجربة والبدايات الأولى، ومعها الأدبيات الأولى، لم يستوعب أن الشارع الذي خرج في أحداث 2011، لم يكن يحلم بتفعيل هذا الشعار أو غيره[10]. ــ مُحدد الثورة الرقمية
إن مُجرد اقتران مصطلح "الكتائب الإلكترونية" بالحركات الإسلامية، معطى دال حول الحضور الرقمي لهذا الخطاب الفكراني/ الإيديولوجي، والذي لا يمكن لومه، أو لوم باقي المشاريع السياسية الفكرانية/ الإيديولوجية على الحضور، لأنه من حق أي مشروع منها الترويج لخطابه في الواقع المادي والواقع الرقمي؛ ولكن الأمر يُصبح مغايراً عندما نأخذ بعين الاعتبار الإيحاءات المُصاحبة [Connotation] لهذا الحضور الرقمي عندما نتحدث عن "الكتائب الإلكترونية" التي أطلقتها المشاريع الإسلامية الحركية، بين أن تكون إيحاءات إيجابية أو سلبية.
والحال أن مُتتبع تفاعل الحقل البحثي والإعلامي، بلْه تفاعل الرأي العام المعني، يخلُص إلى أن هذا الإيحاء كان سلبياً، من فرط الممارسات غير الأخلاقية الصادرة عنها، والتي يصعب حصرها، لأن العقل الإسلامي الحركي الذي يقف وراء هذه الكتائب، كان يوظفها من أجل تشويه الخصوم، وتصفية الحسابات، وشيطنة المخالفين، سواء تعلق الأمر بالدولة أو النخب أو المجتمع[11]. بل عاينا أن هذه الممارسات التي تعادي المرجعية التي يدعي هذا المشروع الدفاع عنها، كانت تصدر من جهة، حتى ضد باقي الفاعلين الذين ينتمون إلى نفس المرجعية الإسلامية الحركية؛ بمعنى أن شيطنة المخالف كانت تتم حتى في داخل "المَجَرّة الإسلامية الحركية" [Galaxie islamiste] ذاتها، بين هذه الحركة وتلك؛ وكانت تتم أيضاً، من ناحية ثانية، داخل نفس الحركة ذاتها[12]، وليس بين هذه الحركة أو تلك وحسب. ورُبّ معترض أن خوض المعارك السياسية والحزبية قد يقتضي اللجوء إلى وسائل مُعادية للأخلاق، كما كانت تؤاخذ الأدبيات الإسلامية الدعوية، على أغلب الفاعلين السياسيين، قبل ولوج الخطاب الإسلامي الدعوي معترك العمل السياسي، على أساس أنه مشروع يروم المساهمة في تخليق هذا العمل، وتكريس ممارسة سياسية أقرب إلى الأخلاق [الاعتراض الأول]؛ ورُبّ معترض أيضاً أن مثل هذه الزلات الأخلاقية يمكن أن نُعاينها لدى باقي الفاعلين في العمل الديني، من وعاظ وفقهاء وعلماء في المؤسسات الدينية والطرق الصوفية [الاعتراض الثاني]؛ وأخيراً، رُبّ معترض أنه من حقّ أي مشروع مجتمعي [بصرف النظر عن مرجعيته] توظيف كل ما هو صالح للتوظيف من أجل خدمة مشروعه المجتمعي [الاعتراض الثالث]؛ وواضح أن هذه اعتراضات مردود عليها، وبيان ذلك كالتالي:
ــ إذا توقفنا عند الاعتراض الأول والثالث، فإن ما صدر عن هذه "الكتائب الإلكترونية"[13]، وفي العديد من الاستحقاقات، أفضت إلى ما يُشبه "أسلمة العمل السياسي المعادي للأخلاق"[14]، وبالتالي تكريس ممارسة دهرانية، تفصل الأخلاق عن الدين، باسم "المرجعية الإسلامية"، وهي الدهرانية ذاتها التي كان يُحذر منها فريد الأنصاري في الإصدارات سالفة الذكر، وهي الدهرانية ذاتها التي دفعت الباحثة النرويجية شيرين خانكان لكي تتصدي عِلمياً وعَملياً لخطاب الإسلاميين في المجال التداولي الأوروبي، موازاة مع اشتغالها على مواجهة خطاب "الإسلاموفوبيا"[15]، معتبرة أن كلا المعضلتين، تساهمان في إعاقة اندماج المسلمين في التداول الأوروبي، وواضح أنه لا يمكن نُصرة الإسلام بقِيَم معادية لأخلاق الإسلام. ــ بالنسبة إلى الاعتراض الثاني، والخاص بالزلات الأخلاقية التي يمكن أن تطال باقي الفاعلين في الحقل الديني، في المؤسسات الدينية أو الطرق الصوفية وغيرها، فيجب التذكير بأن هؤلاء لا يدعون أنهم يُمثلون الإسلام، وإنما تقتصر وظائف المؤسسات التي يشتغلون فيها على الوعظ والإرشاد والتوجيه، هذا عن المؤسسات الدينية. أما الطرق الصوفية، فإنها لا تزكي نفسها أساساً، لأن العمل الصوفي كما هو معلوم، لديه هاجس الاقتراب من مقام الإخلاص والصدق مقارنة مع العمل الديني الحركي، الإخواني أو السلفي الوهابي.
لا يمكن حصر النتائج المباشرة وغير المباشرة لتفشي الدهرانية في الخطاب الإسلامي الحركي، منها ظهور الخلافات التنظيمية التي تخرج للعلن، وتساهم في الكشف وتزكية وجود العديد من هذه الممارسات[16]، ومنها أيضاً، تغذية مؤشرات تراجع الشعبية، ولا تفيد بالضرورة نهاية المشروع، لأن هذه النهاية معقدة ومركبة، وتقتضي تغذية الرهان على مُحدداتها الطبيعية، من قبيل تسريع وتيرة الإصلاحات، السياسية والاجتماعية والدينية[17]، قبل الرهان على تفشي هذه الأعطاب الذاتية في صلب المشروع الإسلامي الحركي. ولكن الشاهد هنا أن ضرائب التجربة أفرزت ممارسات معادية للمشروع التي تدعي الدفاع عنه، خاصة مع الفاعلين الإسلاميين المنخرطين في العمل السياسي، وما كانت المتابعة البحثية ستتوقف عند هذه الضرائب لولا أن أهل هذه التجربة لم يرفعوا شعار "الإسلام هو الحل" في مواجهة مجالات تداولية مُسلمة أساساً وليست جاهلية.