إن حرية الإنسان واغترابه هما عند فروم، قطبان لعملية تاريخية واحدة من تطور المدنية الإنسانية، حيث يتحول الناس إلى آلات، دون أن يستطيعوا اكتساب الروح الفردية الحقيقية، مكتفين بالمحافظة على وهم الوجود الإبداعي المثمر، فيعيش الإنسان غريب عن نفسه، ولا يعود يعيش نفسه كمركز للعالم و كمحرك لأفعاله، بل أفعاله و نتائجها هي التي أصبحت سادته الذين يطيعهم، والذين قد يعبدهم. حيث يشعر الإنسان بالعزلة والوحدة لأنه انفصل عن الطبيعة وعن بقية البشر، وما الاضطراب النفسي إلا هروب من الحرية وإلقاء الإنسان تبعة نفسه على غيره. إن اغتراب المرء عن ذاته يعني إخفاقه في أن يكون نوعية الذات التي ينبغي أن يكون عليها، حيث تنعدم الصلة بين الفرد، وجزء حيوي و عميق من نفسه، لابتعاده عن اختياره الحر، كما تنعدم الصلة عن قيم المجتمع، بسبب انعدام تفاعل الفرد عاطفياً وفكرياً، كما يحصل في اغتراب بعض المثقفين عن مجتمعاتهم التي يحيون بها، ففي النشاط المغترب لا أشعر بنفسي فاعلاً لنشاطي، بل أنا بالأحرى لا أشعر بنتاج هذا النشاط، إلا كشيء بعيد ومنفصل عني و جاثم فوقي، فلا أجد نفسي فاعلاً، وإنما منفعل، واقع تحت فعل القوى الخارجية والداخلية التي تفصلني عن نتاج عملي.
إن إحساس الإنسان الحديث بالعزلة والعجز والقلق الذي سيطر على نمط حياته الاستهلاكية، تتحول إلى سمة ترافق كل علاقاتنا الإنسانية، أو علاقة الفرد الملموسة بفرد آخر، حيث فُقدت الصفة الإنسانية المباشرة، واتخذت روح الاحتيال والوسيلة. وأصبحت القاعدة في كل العلاقات الشخصية، هي قوانين السوق، إذ من الواضح أن العلاقة بين المتنافسين، يجب أن تتأسس على عدم الاكتراث الإنساني المتبادل، وإلا سوف يفشل أي منهم في تحقيق مهماته الاقتصادية. وفي مجتمع كهذا، يتم تثبيط الانفعالات عموماً، ومع أنه ليس هناك من شك في أن التفكير الإبداعي، يرتبط بالانفعال ارتباطاً وثيقاً، فقد أصبح التفكير والعيش من دون انفعالات مثلاً أعلى، وصار الانفعالي مرادفاً لغير السليم، وغير المتزن. وبقبول هذا المعيار، صار الفرد بالغ الضعف، وصار تفكيره شديد الفقر، ومسطحاً. إذ يتبادل الناس الكلمات دون أن يتشاركوا أية حقيقة يتحدثون عنها، إنهم يتبادلون الكلمات في ارتباك معين، لتغطية الفراغ الموجود في تواصلهم، لا يشعرون بالتحفيز، بعد الكلام لا يشعرون أنهم قد تشاركوا شيئاً ما. تسأل إنساناً حزيناً كيف حاله، فيجيبك “أنا بخير” قد تقول أن في قوله مكابرة معينة، لكن الفكرة الرئيسية هي أن لا أحد يتوقع أن الشخص الآخر مهتم حقيقة، وإن تلك الكلمات لا يعّول عليها , فهي تستخدم لملء الفراغات، لملء الخواء بين الناس وفي أنفسكم. والنتيجة، هي العاطفية الرخيصة، وغير الصادقة، التي تغذي بها الأفلام، والأغنيات الشعبية، ملايين الجياع إلى الانفعالات.
وهذا الشكل من نمط الحياة المغترب، ينتج عنه ما يسميه فروم “أزمة الهوية في المجتمع الحديث”، الناتج بدوره عن حقيقة أن أعضاء هذا المجتمع أصبحوا أدوات بلا ذوات، يستمدون هويتهم فحسب من العمل في إحدى الشركات الكبيرة، أو من امتلاكهم أفضل وسائل الرفاهية الظاهرة، أو بإظهارهم لبعض الصفات المحببة والمقبولة اجتماعياً كالمرح والطموح والمعرفة.. بحيث تحول الأمر إلى سوق للشخصيات كسوق السلع، وحيث لا وجود لذات حقيقية يستحيل وجود هوية. إذ يقول ” كلما يكون الإنسان أكثر اغتراباً، كلما تساهم حاسة الملكية والاستعمال، أكثر، في تشكيل علاقاته مع العالم، و كلما تكون أنت أقل، وكلما تعبر أقل عن حياتك، كلما تملك أكثر، وكلما تكون حياتك المُغرّبة، وعملية توفير وجودك المُغرّب أعظم “. إن الإنسان المعاصر، إنسان جماهيري واجتماعي بجدارة، لكنه في الوقت نفسه، وحيد للغاية، فقد أصبح أكثر نأياً عن الآخرين، وهو هنا يواجه معضلة، فهو خائف من التواصل عن قرب مع الآخرين، كما أنه خائف بالقدر نفسه من الوحدة، وهنا تتبلور وظيفة المحادثات التافهة، التي تعبر عن رغبة المرء في أن يبقى لوحده دون أن يكون وحيداً. حيث إدمان الكلام، مع الافتقار إلى العمق، والحوار، والرغبة في معرفة الآخر.
ويوجد ، وفق فروم، ارتباط وثيق بين اغتراب الإنسان عن الطبيعة واغترابه عن الآخرين، وفي بعض الأحيان يذهب إلى تطابق الأمرين معاً، وغالباً ما نجده يتحدث عن ثقافتنا ومجتمعنا باعتبارهما مغتربين، فهيكلية المجتمع أقيمت على نحو يميل معه إلى جعل الأفراد مغتربين بطرق مختلفة، فمصدر الاغتراب هو الهيكل الاقتصادي السياسي المعاصر، باعتباره خللاً يعود إلى الهيكل الاجتماعي، وهو يرى بأن اغتراب الإنسان لا يمكن أن يتضمن تحقيق الوحدة مع المجتمع كما يرى هيجل، الذي أكد على أن الإنسان يمكنه أن يحقق طبيعته الجوهرية وحسب، إذا ما حقق الكلية التي تتضمن تقييد عفويته وفرديته. في حين نجد فروم يٌعرب عن شكواه من أن الإنسان المعاصر يعاني من قصور في العضوية و الفردية على نحو يبدو أنه لا يمكن علاجه.
وهذا ما يسميه فروم “اغتراب التكنولوجيا “، فيقول أن الإنسان في بحثه عن الحقيقة العلمية، قد نظم من المعارف ما كان بوسعه استخدامه من أجل السيطرة على الطبيعة، وقد حصل على نجاحات هائلة، لكنه بإصراره على التقنية، وعلى القيم المادية، فقد ليس فقط الإيمان الديني والقيم الإنسانية، بل والقدرة كذلك على الإحساس بالانفعالات العميقة، وبالفرح والحزن اللذين يرافقانهما، فاعتمد على الاستهلاك المادي، وفقد الاحتكاك بنفسه وبالحياة، وأصبحت الآلة التي بناها من القوة بحيث ولدت برنامجه الخاص وحددت مساره. فيقول: ” إننا مفتونون اليوم بنمو الآلة المنتجة، فالإنتاج بحد ذاته هو واحد من الأخيولات العظيمة التي نعبدها، لقد أصبح هدفاً في الحياة أن نعرف كيف تنمو الأشياء، لا الأشياء العضوية، ولا الزهور، بل الآلات الأكبر والأعظم، المنتج الأفضل والسيارات الأسرع . وفي هذه السيرورة الاجتماعية فإن الإنسان نفسه قد يتحول إلى جزء من آلة كاملة، وهو يتغذى على نحو ما يرام وتجري تسليته هكذا أيضاً، ومع هذا فهو سلبي وغير حي، وليست لديه إلا مشاعر واهنة. ومع انتصار المجتمع الجديد، فإن النزعة الفردية والخصوصية سوف تختفيان، والمشاعر تجاه الآخرين سوف تجري هندستها بظروف سيكولوجية وبحيل أخرى، أو بالمخدرات التي تفيد أيضاً نوعاً جديداً من التجربة الاستبطانية، وفي هذا المجتمع التكنوقراطي، فإن الاتجاه سيميل نحو العدوان لملايين المواطنين غير المتناسقين، وبسهولة داخل مدى الشخصيات المغناطيسية والجذابة التي تستغل بفاعلية أحدث تقنيات التواصل لاستغلال الانفعالات والسيطرة على العقل.
وسط هذا الضياع، فإن مفهوم النشاط نفسه، يتحول إلى وهم من أشد أوهام الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث. إن ثقافتنا برمتها مفعمة بالنشاط – النشاط بمعنى الانشغال، والإنشغال بمعنى المشغولية (كضرورة للعمل). وفي الحقيقة فإن معظم الناس نشطون، حتى أنهم لا يستطيعون أن يكفوا عن العمل، إنهم حتى يحولون ما يسمى وقت فراغهم، إلى شكل آخر من النشاط، إذا لم يكن نشاطاً في اكتساب المال، فإنك تكون نشطاً في التسكع أو لعب الجولف أو حتى الثرثرة فيما لا يجدي. و الخشية هي اللحظة التي لا يكون لديك بالفعل أي شيء تفعله, وسواء سمي المرء هذا النوع من السلوك نشاطاً هو مسألة اصطلاحية. والمشكلة هي أن معظم الناس الذين يظنون أنهم نشيطون للغاية، لا يعون حقيقة أنهم سلبيون للغاية بالرغم من ( المشغولية). إنهم يحتاجون على نحو دائم لباعث من الخارج، سواء كان ثرثرة، أو مشاهدة السينما، أو السفر… والأشكال الأخرى لأكثر الأمور استهلاكاً مثيراً، حتى لو كان رجلاً جديداً أو امرأة جديدة كشريك جنسي. إنهم يحتاجون إلى أن يكونوا متأهبين ليكونوا (متدفقين) أن يكونوا واقعين في الإغراء، والضلال، إنهم دائماً يجرون ولا يتوقفون أبداً، إنهم دائماً مخدوعون ولا يفيقون أبداً. وهم يتخيلون أنفسهم أنهم نشطون بشكل هائل بينما هم مساقون بهوس، أو حصر أن يفعلوا شيئاً لكي يهربوا من القلق الذي يستثار عندما يكونون في مواجهة مع أنفسهم.
وفي هكذا مجتمع مغترب، يعتمد الشعور الكامل بقيمة الفرد، على ما إذا كان هو قابل للبيع أم لا، فيما إذا كان هو مرغوب أم لا، لأن هذا الإدراك لنفسه، إحساسه بثقته الداخلية، لا يعتمد أبداً على تقدير خصائصه الحقيقية الملموسة، وذكائه، ونزاهته، واستقامته، بل على ما إذا كان ينجح أو يفشل في بيع نفسه، لذلك السبب، هو غير مطمئن دائماً، بل معتمد دائماً على النجاح، ويُستعر عدم اطمئنانه عندما يكون هذا النجاح بعيد المنال. إن ضخامة المدن التي يتيه فيها الفرد، والمباني المرتفعة ارتفاع الجبال، والقصف الضوئي والإذاعي الدائم، والإعلانات الأساسية الكبيرة التي تتبدل باستمرار ولا تترك للمرء خياراً في أن يقرر ما هو المهم، والعروض التي تبدي فيها مائة فتاة اقتدارهن الذي له دقة الساعة على إزالة الفرد، والعمل مثل آلة قوية، ولو أنها ناعمة. هذه التفصيلات وغيرها كثير، إنما هي تعبيرات عن كوكبة يجابه فيها الفرد بأبعاد لا يمكن السيطرة عليها، وهو بالمقارنة معها، جزء ضئيل، وكل ما بوسعه أن يفعله، هو أن يصطف في السير مثل جندي، أو عامل على حزام لا ينتهي دوراته، إنه يستطيع أن يعمل، لكن إحساسه بالاستقلال و الأهمية قد ولّى.
وبالتالي يغدو ممكناً أن نعزو، وفق فروم، أحد أشكال العنف، ليس إلى شر متأصل فينا، بل نمط حياة مغترب يؤدي إلى الشعور بخيبة وضلال عميقين بكره الحياة، وإذا لم يكن هناك أي شيء، أو أحد لتؤمن به، وإذا كان إيمان المرء بالخير والعدل قد غدا وهماً أحمق، وإذا كان الشيطان هو من يسير الحياة، وليس الله، عندئذ تصبح الحياة حقاً مقيتة وكريهة، ويصبح المرء عاجزاً عن تحمل ألم الخيبة، وسيرغب عندها بإثبات أن الحياة شريرة، وأن الإنسان شرير بالجوهر، وحينها سينقلب المؤمن الخائب، ومحب الحياة، إلى كلبي مدمر، إن هذه التدميرية هي تدميرية البائس، حيث أدت خيبة الأمل في الحياة، إلى كره الحياة.
تجاوز النمط المغترب للحياة
ولإنهاء حالة الاغتراب، يطرح فروم مفهوما جديداً لنمط الحياة هو مفهوم ” الكينونة “، كمقابل لمفهوم ” التملك ” . ولا يمكن أن ينمو نمط الكينونة إلا بقدر ما يتقلص نمط التملك الذي هو نمط اللاكينونة، إن الأمر يتطلب نبذ الأنانية وحب الذات، بحيث يتحول نمط الامتلاك إلى نمط التعمق والالتحام.
وللانتقال إلى نمط الكينونة يقترح فروم جملة أولية من المبادئ تذكرنا بمبادئ بوذا هي:
1- المعاناة مع الوعي بأننا نعاني.
2- الكشف عن الأصل في الحالة السيئة التي نعانيها.
3- أن نؤمن بأن ثمة مخرج من حالنا تلك.
4- أن نقبل فكرة أنه لكي نتجاوز تلك الحالة فإنه يجب علينا أن نتبع طرائق معينة في المعيشة وأن نغير ممارساتنا الحياتية الراهنة. فالهدف من الحياة التي توافق طبيعة الإنسان في حالة وجوده هو أن يكون قادراً على الحب، وقادراً على استخدام عقله، وقادراً على أن يكون موضوعياً، ومتواضعاً، كي يبقى على تواصل مع الواقع خارج ذاته، وداخل ذاته، دون أن يفضي ذلك إلى التشوه.
فليس الخضوع ” للضبط الاجتماعي ” هو السبيل الوحيد لتجنب العزلة، والقلق، فالسبيل الآخر، وهو السبيل الوحيد الذي يكون مثمراً ولا ينتهي إلى صراع لا يُحل، هو سبيل العلاقة العفوية بالإنسان والطبيعة، وهي علاقة تربط الفرد بالعالم من دون أن تلغي فرديته، وهذا النوع من العلاقة – وأول تعبير عنها هو الحب و العمل الإنتاجي – راسخ في تكامل الشخصية الكلية وقوتها، ومن ثم خاضع لتلك الحدود التي توجد من أجل نمو الذات.
إن العمل، غير المغترب، هو التعبير الذاتي للإنسان، إنه التعبير عن قواه الذهنية والجسمية الفردية، ففي هذا التقدم لفعاليته الحقيقية، يقوم الإنسان بتطوير ذاته، ويصير ذاته إن العمل ليس هو، فقط، وسيلة لغاية، هي الإنتاج، بل هو غاية بذاته، إنه التعبير الهادف لطاقة الإنسانية، ومن هنا، يكون العمل ممتعاً.
تلك النظرة التوفيقية قادته إلى مفهوم بالغ العمومية، جعلته ينسب الاغتراب إلى كل مناحي الحياة حتى بأدق تفاصيلها، ورغم التوضيحات العامة التي قدمها فيما يخص علاقة الإنسان بنفسه وبالمجتمع، إلا أن استخدامه لمفهوم الاغتراب على هذا النحو البالغ العمومية، جعل من النتائج التي توصل إليها عرضة للخلط والغموض، أكثر منها للإيضاح. وربما كان فروم قد ساعد على جعل كلمة الاغتراب لفظاً مألوفاً، لكن على يديه كف هذا الاصطلاح على أن يكون ذا نفع في مناقشة جادة للمشاكل التي تعنيه.
ثالثاً: الاغتراب عند يونغ
ينطلق يونغ من تصور فرويدي من الاغتراب الذي تسببه الحضارة، وإن كانت الغايات التحليلية مختلفة عند الطرفين. إذ يتحدث يونغ عن الاغتراب بوصفه فصل الوعي عن اللاوعي، فيقول :” لا شيء يبعد الإنسان عن غريزته أكثر من قابليته للتعلم، التي يتضح أنها سائق طبيعي نحو التغيرات التقدمية لأساليب السلوك البشري، فهي أكثر من أي شيء آخر مسؤولة عن الشروط المتبدلة لوجودنا، والحاجة إلى التكيفات الجديدة التي تأتي بها الحضارة، وهي أيضاً مصدر الاضطرابات النفسية الكثيرة، والمصاعب التي تتوافق مع ابتعاد الإنسان التدريجي عن أساسه الغريزي الفطري، وهذا يؤدي إلى خوض الصراع بين الوعي واللاوعي، الروح والطبيعة، المعرفة و الإيمان. وهو انشطار يصبح مرضياً، في اللحظة التي لا تعود فيها واعية الإنسان، قادرة على إهمال جانبه الغريزي، أو قمعه “.
إن الإنسان الحديث عند يونغ، لا يدرك إلى أي حد وضعته عقلانيته، التي دمرت قدرته على الاستجابة للرموز، والأفكار المقدسة، تحت رحمة العالم النفسي السفلي. لقد حرر نفسه من الأسطورة كما يعتقد، لكنه خسر في أثناء تلك العملية، قيمه الروحية إلى درجة خطيرة فعلاً، إذ تفكك توازنه الروحي والأخلاقي، وهو الآن يدفع ثمن ذلك التفكك، على شكل ضياع وتمزق على الصعيد العالمي. ففي العصور الأولى، كانت المفاهيم الغريزية تتدفق إلى عقل الإنسان، كان باستطاعة عقله الواعي، ولا شك، أن يحقق التكامل بينها وفق نمط نفسي متماسك، لكن الحضارة الحديثة لم تعد قادرة على فعل ذلك، فوعيه المتقدم، حرمه من الوسيلة التي كانت تمكنه من تمثل المساهمات الإضافية التي تقدمها الغرائز واللاشعور، وما عناصر التمثل والتكامل هذه، إلا الرموز الخارقة للطبيعة التي كان الرأي العام يعتبرها مقدسة، فكلمة (مادة) الآن كلمة علمية، لاإنسانية، جافة، أما قديماً فكانت تحتوي كل المعنى العاطفي العميق لأمنا الأرض وتعبّر عنه.
ولا يمكننا، وفق يونغ، فهم حالة الاغتراب واليأس الذي يعيش فيه الإنسان المعاصر، من خلال الكبت الذي تفرضه الحضارة. بل إن التطور التقني العلمي، والابتعاد عن الجوهر الروحاني الفلسفي، هما السببان الرئيسيان من أسباب الاغتراب الإنساني الحديث. وتحت تأثير الافتراضات العلمية، ليست النفس وحدها هي التي تشكو، بل الإنسان الفرد، وجميع الحوادث الفردية كائنة ما كانت، تشكو من هبوط في المستوى، وفي سياق يشوه صورة الواقع، ويجعل منها متوسطاً مفهومياً، إذ يجب علينا ألا نقلل من قيمة الأثر السيكولوجي لصورة العالم الإحصائية، ينقل الإنسان الفرد لمصلحة وحدات مغفلة الاسم، يتراكم بعضها فوق بعض لكي تصبح تشكيلات متكتلة.
إن العقلانية العلمية تمدنا، بدلاً من الفرد المحسوس، بأسماء وتنظيمات، وبدلاً من تميز الفرد الأخلاقي والعقلي، تجد نفسك أمام الرفاه العام، ورفع مستوى المعيشة، حيث لا يعود هدف ومعنى حياة الفرد (وهي الحياة الحقيقية الوحيدة) كامنيين في نمو الإنسان الفرد، بل في سياسة الدولة التي تٌقحَم على الفرد من الخارج، ويُفرض عليه الحكم والغذاء واللباس والتعلم، كوحدة اجتماعية، ويقيم في وحدة سكنية مناسبة، ويلهو وفقاً للمستويات التي تسر القبيلة، والخاص – الأرقام – ليسوا بحاجة لأن يكونوا شخصيات قادرة على إبداء رأي، بل مختصون، في أضيق الحدود، لا يمكن الاستفادة منهم خارج خط عملهم، فسياسة الدولة تقرر ما يجب تعلمه، وما يجب درسه. وبالتالي يفقد الفرد أسسه وكرامته، كوحدة اجتماعية يفقد فرديته، ويصبح رقماً مجرداً ليس غير، في مكاتب الإحصاء، لا يستطيع أن يلعب غير دور ضئيل الأهمية في علاقته المتبادلة مع الوحدات الأخرى. لذلك فإن وضع الفرد النفسي في هذه الأيام، معرض لأخطار شديدة، تأتيه من قبل الإعلانات والدعايات، وغير ذلك من النصائح والإيحاءات المقصودة نوعاً ما، بحيث لا تتاح له غير مرة واحدة في حياته، فرصة إنشاء علاقة لا تكرر له بواعث الغثيان من مثل (ينبغي لك) و(يجب عليك) وما سوى ذلك من شهادات العجز.
ومنذ زمن لا ترقى إليه الذاكرة، كانت الطبيعة ممتلئة بالروح دائماً، أما اليوم، فنحن نعيش لأول مرة في طبيعة خالية من الحياة، و مجردة من الآلهة. ووفق يونغ، ما من أحد ينكر الدور الهام الذي لعبته في الماضي قوى النفس البشرية المشخصة كـ ” آلهة “، ربما دمر فعل التنوير أرواح الطبيعة، لكنه لم يدمر العوامل النفسية التي تناسبها، كقابلية الإيحاء، وقلّة النقد، والخوف، والميل إلى الخرافة والانحياز، أي جميع الأشياء التي تجعل من الاستحواذ أمراً ممكناً. فالطبيعة وإن تجردت من النفس، فإن الشروط النفسية التي رعت الشياطين، تظل فاعلة كما كانت من قبل. والشياطين لم تختف فعلاً، بل كل ما فعلته أنها اتخذت هيئات أخرى ، لقد أصبحت قوى نفسية خفية ، تقود إلى التطرف، وكل لعنات الإنسان التاريخية الأزلية.
إن الحياة النفسية عند الإنسان المتمدن، باتت حافلة بالمشاكل إلى حد أننا لم نستطيع التفكير إلا في صيغة المشاكل، ثم إن سياقاتنا النفسية باتت مكونة من أفكار وشكوك وتجارب، تكاد أن تكون جميعها غريبة تماماً عن الإنسان البدائي وعقله الفطري (اللاشعوري). فالإنسان أصبح عبد وضحية للمكائن التي غزت الزمان و المكان لأجله، واقع تحت سيطرة وطأة الخوف والخطر من قدرة تقنية الحرب التي يُفترض فيها أن تحافظ على وجوده الفيزيائي، حريته الروحية والأخلاقية. لذلك، لا يمكن استئصال غرائز الإنسان القتالية، ولا يمكن تصور حالة من السلام المطلق. والديمقراطية الحقيقية، هي مؤسسة نفسية رفيعة، تأخذ في حسابها طبيعة الإنسان كما هي، وتترك هوامش من أجل ضرورة الصراع داخل الحدود القومية.
وبنزعة تشاؤمية، يقول يونغ:” لا يجب أن يصاب أحد بالدهشة لأن الناس متباعدون بشدة بحيث لا يمكن لأحدهم أن يفهم الآخر، وأنهم يشنون الحروب، ويقتل أحدهم الآخر. بل يجب أن يُفاجأ المرء أكثر، من أن الناس يعتقدون أنهم متقاربون، ويفهم أحدهما الآخر ويحبه. ويضيف قائلاً:” سيتم اكتشاف أمرين : الأول هو الخليج اللامحدود الذي يفصل أحدنا عن الآخر , والثاني هو الجسر الذي يمكن أن يربطنا. هل فكرتم كم من الحيوانية غير المتوقعة تصبح ممكنة بصحبة البشر؟ “.
تجاوز النمط المغترب للحياة
والآن كيف يمكن تجاوز اغتراب الذات عند يونغ؟ يكون ذلك بإيقاظ ما هو مغترب عنا، من خلال الحلم، الذي هو فعل عودة إلى الذات، وخلال تلك الإفتكارات في الحلم، لا يقوم وعي الأنا بتأمل نفسه وحسب، بل يتوقف عند المعطيات الموضوعية للحلم، وكأنها بلاغ، أو رسالة متحدرة إلينا من نفس الإنسانية الخافية، إن المرء ليتأمل في ذاته، لا في أناه ووعيه، بل في تلك الذات الغريبة الجوهرية فينا، التي تشكل قاعدتنا، والتي ولدت الأنا فيما مضى، ثم عادت فأصبحت غريبة عنا، لأننا تغرّبنا عنها بإتباع ضلالات وعينا. الحلم هو التعبير عن السيرورة النفسية اللاشعورية، وباعتباره كذلك يفلت من تأثير الشعور، ويمثل الحقيقة، أي الواقع الداخلي كما هو، لا كما أفترضه أو أرغب به أن يكون، بل كما هو تماماً.
وكل من لا يعرف نفسه، لا يستطيع ادعاء معرفة الآخرين، ففي كل منا يغفو غريب مجهول الوجه، يخاطبنا بواسطة الحلم، ويعلمنا بمبلغ اختلاف رؤيته لنا، عن تلك التي تلذّ لنا، لذلك فنحن عندما نتخبط في وضع ذي صعوبات يستحيل حلها، فهذا الآخر الغريب فينا، هو الذي يستطيع حينئذ، الكشف عن بصائرنا، ونشر الأضواء القادرة وحدها، أن تبدل موقفنا برمته، الذي أدى بنا إلى صلب الوضع المعقّد، وأخفق فيه. وفي الحقيقة، ما من شيء يمكنه أن يحدث تجديداً في روح الأمم، مثلما يحدثه تغيير في روح الفرد. كل شيء يبدأ بالفرد.
والتوسع الذي نفهمه من شروحنا للحلم، يساعد أصحاب الحالات الحديةّ، على اكتشاف مفاده أن عالمهم الداخلي الذي يبدو لهم في الأغلب عجيباً وخطيراً، يناظر نظاماً عاشه آخرون، وأنه يتصف لهذا السبب بقيمة موضوعية، وبوسعهم أن يتعرفوا على أنفسهم في حركة الوضع الإنساني الكبرى، في حين أنهم كانوا مهددين بالانفصال عنها، والتوسع على العكس، ينشط لا شعور العصابيين المسجونين في دفاعات عقلانية، وإحدى الفرص النادرة المؤاتية التي تجنبهم إضفاء الصفة الفكرية على التحليل، هي أن نجعلهم حساسين للقيمة الشعرية والقديمة. قيمة الصور الرمزية الغنية التي يعبر عنها الحلم، فالحلم هو تجلي غير مزيف لفاعلية اللاشعور الخلاقة.
وبما أن البشر لا يعرفون أن الصراع يحدث في ذواتهم، فإنهم يصبحون مجانين، ويضع أحدهما اللوم على الآخر. إن كان نصف البشر مخطئين، فإن نصف كل إنسان مخطئ أيضاً، لكنه لا يرى الصراع في ذاته، التي تعتبر منبع الكوارث الخارجية على أية حال. إن كنت غاضباً من أخيك، فكر بأنك غاضب من الأخ الموجود في ذاتك، أي غاضب مما يشبه أخاك فيك. أنت كإنسان، جزء من البشرية، وبالتالي لديك شراكة مع البشرية كلها كما لو أنك أنت البشرية كلها. إن تغلبت على رفيقك الإنسان المناقض لك وقتلته، فقد قتلت ذلك الشخص في ذاتك، وقتلت جزء من حياتك، تلاحقك روح هذا الإنسان الميت، ولا تبقي على سعادة في حياتك، أنت بحاجة إلى الكلية لتسير قدماً.
إن إنهاء الاغتراب وفق هذا الاعتبار، يكون بولادة روحية جديدة، تنطلق من وعي الإنسان الفردي لذاته الخافية. يقول يونغ: ” أنت تعتمد على روحك بكل ما يتعلق بخلاصك وحصولك على الرحمة. لذا، ليس هناك من تضحية لا بمكنك القيام بها. وإذا عرقلتك فضائلك عن الخلاص، تخلص منها، بما أنها أصبحت شريرة بالنسبة لك. يجد عبد الفضيلة الطريق ضيقة، كما يجدها عبد الرذيلة”.
وقد تعلمنا نحن الغربيين، وفق يونغ، أن نروض أنفسنا و نخضعها لسيطرتنا، ولكننا لم نتعلم شيئاً عن تطورها المنهجي، ولا عن وظائفها، فحضارتنا لم تزل شابة، ولذلك نحن بحاجة إلى جميع الوسائل اللازمة لترويض الحيوان، لكي نجعل من ذلك الوحش الجريء الذي بداخلنا، حيواناً طيعاً بمقياس ما، ولكن عندما نصل إلى مستوى ثقافي أعلى، بحيث أن علينا أن نتخلى من الإكراه، ونلتفت إلى تطوير أنفسنا. من أجل ذلك، تلزمنا المعرفة بطريق أو منهج “. وقد اعتبر يونغ أن علم النفس التحليلي الذي وضع أسسه، يصلح أن يُعتمد أساساً لهذا المنهج.