يشكل الشعر مرايا نرسيسية جديدة تلوذ
بها (الأنا)المبدعة من جحيم الراهن الساعي إلى ترميد كينونتها وتطلعاتها ،
وهي مرايا صقيلة تجعل أفق التلقي في مواجهة حادة مع تحولات (الأنا) باتجاه
النشوة بالآخر أو الاغتراب عنه ليتخلق من هذه الانعكاسات المتباينة تفاصيل
عالم الذات المسكوت عنه . وإذا كانت الذات الذكورية المسكونة بالإبداع
تتوق لملاحقة ملامحها المنعكسة على مرايا النص فأن (الأنا)الأنثوية التي
تشدها بالمرايا خارج النص اكثر من وشيجة تسعى واعية إلى أن تجعل من فراديس
البوح أفقاً مرآوياً يعكس طقوسها وتراتيلها الخاصة نائية من خلالها وبها
وعلى حد تعبير فرجينيا وولف عن (العوائق الاجتماعية والاقتصادية التي تحول
دون الطموح الأدبي متخذة المداهنة والحيل النسائية لتخلق زمن الكتابة
ومكانها)(1).
ولان القصيدة النسوية اليمنية تشكل علامة فارقة في المشهد
الثقافي اليمني خاصة والعربي عامة لما تمتلكه من مقومات التقنية المعاصرة
في ريادة آفاق جديدة تؤاخي بين المناخات الشعرية بكل آلياتها الذاتية
(الغنائية) والسردية (القصصية)على حد سواء . فإن هذه الدراسة ستتلبث عند
مجموعة (شذى الجمر)للشاعرة ابتسام المتوكل أنموذجاً تطبيقياً إذ تعكس مرايا
قصائدها الخمس والثلاثين خصوصية أنثوية باذخة وعبر أكثر من سياق شعري وعلى
النحو الذي تعرب عنه السطور اللاحقة .
وتتخذ قصيدة (بركان)(2) من الظواهر الطبيعية
أداة فنية ترميزية تسقط عليها أحساسات الذات الأنثوية وحاجتها الأزلية إلى
الآخر إذ نقرأ :
يتها الحيرى من فيض
الرغبة
حين تذوب الشمس بأحضان
البحر
وتغافل سهو الضفة
فتقطر جمر أنوثتها عند
الموج الهائج
فإذا ما ارتج بنشوتها
فسيتبع عطر جلالتها
وسيرضى أن يلقى حتفه .
يتها الوجلى :
ستغامر في كفك كفه
ويذوب بين ضلوعك ضعفه
قد يلقى الموج الهائج حتفه
لكنكِ في كفيه ستلقين
حياة
فعلامكِ تنفلتين إلى
الموت البارد
أن كنتِ ترومين الموت
فموتي ..
في بركان الرجفة .
يمفصل البوح الذاتي (يتها الحيرى +
يتها الوجلى) المتن الشعري باتجاهين أحدهما يكون فيه الإسقاط وانزياحاته
أفقاً مهيمناً إذ يشكل هندسة ثلاثية طريفة (الشمس + البحر وأمواجه + الضفة )
تستدعي (المعشوقة + العاشق + العذول) وبدلالة القرائن الاستعارية (جمر
أنوثتها + عطر جلالتها + نشوتها ) و (أحضان + الهائج + يتبع + أرتج + يتبع +
يرضى + يلقى حتفه) و (تغافل + سهو ) وهي تعكس حركة الآخر العاشق باتجاه
(الأنا) المعشوقة . وينقل المفصل الثاني مخيال التلقي صوب أفق آخر ينأى عن
الحيرة إذ يحيل الخوف (الوجلى) ضمناً إلى اجتياز (الأنا) الساردة عتبات
الريبة باتجاه خوض التجربة والانغمار فيها لذلك فإن مرايا النص تسقط عن
ملامح (الأنا) الساردة والآخر القناع وتعكس ملامحها مباشرة (ستغامر في كفك
كفه / يذوب بين ضلوعك ضعفه) وقد أثث هذا التأويل التحول الحاد في نبرات
حوار (الأنا) الهامس مع ضعفها وانغلاقها إلى صوت زاجر يشكل الاستدراك
(لكنكِ) والتساؤل الاستفزازي (فعلامكِ) وفعل الأمر (موتي) نسقاً مخاتلاً
يستبطن احتدام الصراع بين ثنائي (التابو / الانعتاق) داخل الكينونة
الأنثوية التي استحضرت الموت وكررته أربع مرات (الموت + الموت + موتي +
حتفه) لتتمظهر من هذه الانثيالات الموقعة ضراوة التجربة الشعورية التي
اقترنت في المخيال الكنائي بـ (البركان) وهو لفظ يخلق حضوره تفاوتاً صوتياً
هائلاً بين الحوار الداخلي (Monologue)(2) والانفجار المدوي
للبركان كما يشهد أفق التلقي حركة لونية متقدة ستتحرك من آخر جملة في
القصيدة (بركان رجفة) باتجاه العنونة الشعرية (بركان) لتفيض على جسد النص
بمدلولات ساخنة مدججة بالهتك .
وتفتح العنونة الشعرية في
قصيدة (رماد)(2) الباب أمام مخيال القارئ ليحدس منذ البدء
متواليات التحول باتجاه تكثيف برودة ساكنة كما أن ذاكرة هذا المحمول اللفظي
يحفز أفق التوقع على استكناه هذه التحولات في غضون المنتج الشعري اللاحق
إذ يرد :
ما المسجّاة في آخر
الذاكرة
وردة
أم حلم
حلم لا يعد
أندى قبلة
أم رذاذ الندم
نغم البوح ذا
أم شظايا ألق
وارتعاش العدم ؟
هي ذي الصورة الــ . . .
سوف تجمعنا
باهت نبضها
وشذى يرتعد
البياض المخيف طغى في
مداها
وخطى لوعة
تتئد
وتفوح نصال الأرق :
بسمة تحترق
ودماً من
رماد
إنه دمها
دم تلك المسجّاة في آخر
الذاكرة
دمها المبتعد
يوقد التساؤل الحائر (ما المسجّاة في آخر الذاكرة ؟) في
البنية الاستهلالية الدهشة المرة إذ ينزاح فعل التذكر من ضفافه المقرونة
باللذة والحنين إلى أجواء ملبدة بالموت والفجيعة المستقاة من ذاكرة لفظة
(المسجّاة) لتكون الذاكرة – ووفق المنظور الانزياحي – مكاناً مغلقاً
مخفياً لا يمنح (الأنا) الساردة إلا اغتراباً لذلك تتسلى المخيلة باستدعاء
(وردة + حلم + قبلة + نغم البوح ) وهي صور تربك فضاءاتها المكتنزة بالوعد
والخصب قناعة القارئ وفي إطار هندسة استفهامية واعية تخلق الأداة (أم) بؤرة
عنيفة تفلح في أن تطيح بالذاكرة المألوفة للمحمولات اللفظية الضاجة
بالحياة (صورة تجمعنا + نبض + شذى + بسمة) والمتصادمة بالضرورة مع عتمة
السياق الشعري لتتخلق لها ذاكرة جديدة متخمة بالفجيعة زد على ذلك أن
التراصف الاستفهامي للاستهلالة يحيل إلى رغبة الذات في أجراء حوار مع
(الأنا) في علاقتها بالزمان والمكان والآخر وهي إذ تطرح هذه التساؤلات
فإنها تتوق إلى الإنعتاق من إسار سلطتها كعائق عن الانطلاق ، ويشكل إعلان
(الأنا) الساردة (هي ذي) مهمازاً دلالياً يعبر بالنص من ضفة الشك إلى ضفة
اليقين وهو يعكس في الوقت نفسه اجتياز (الأنا) الساردة لعتبات الألم باتجاه
تهميشه وإقصائه لذا فإن اللحظة الراهنة تسكب واعية على مساحة الذكرى عتمة
باردة أضاءتها المساحة المنقطة التي تفصل بين (الصورة الـ) و (سوف تجمعنا)
وهي مساحة تحفر مجرى آخر للخطاب الشعري المشفر إذ يتنامى التوتر السردي
باستدعاء تقنية الإسقاط الفني (active projction)(4) إذ تكون
الصورة – الرامزة لرحلة حياة كاملة – إضاءة باهرة تسقط عليها (الأنا)
الساردة احساساتها مرمدة إزاء هذه الذكرى فتكون (نبضاً باهتا) و (شذى
يرتعد) وهي انزياحات استعارية تؤشر انخطافاً حاداً في فضاءات النبض والشذى
(المستعار لهما) باتجاه سكونية باردة تفضحها البنية الكنائية المتدثرة
بمناخات الموت (البياض المخيف طغى في مداها) إيماءً إلى اجتياز (الأنا)
الساردة فضاءات الحيرة باتجاه الوعي في ترسيم خطوط نهاية القصيدة / التجربة
وقد شاءت مخيلة الشاعرة أن تهندس حركة دلالية دائرية تربط مستهل القصيدة (
ما المسجاة في آخر الذاكرة) المدججة بتساؤلات تعكس التوق في التحرر من
السبات الذي جرحت اغلاله الذات بخاتمتها إذ تقفل بالجملة ذاتها ( تلك
المسجاة في آخر الذاكرة) وهي تبلور افقاً مرآوياً يعكس احتراقات (الأنا)
وهي تجيب على تساؤل طرحته في مفتتح المتن الشعري بيد أن اجابته ظلت في إطار
الترميد واللوعة التي اكبسها الدم (دماً من رماد + أنه دمها + دم تلك
المسجاة + دمها المبتعد) حمرته المقترنة بالعذاب حد الهلاك بيد أن إغلاق
القصيدة بلفظ (المبتعد) يخرق نسقية العتمة ليدجج النص بحركتين متصادمتين
الأولى حركة هذه التجربة الشعورية المحبطة باتجاه الغياب والموت والأخرى
حركة الذات المكتنزة الحياة بعيداً عن هذه الأجواء الشرسة صوب فضاءات جديدة
.
ولا تخضع (الأنا) الأنثوية في قصيدة (الوجهة
الخامسة)(5) للترسيم الجغرافي المسكوك بل أنها تخرق واعية نسقية
الجهات الأربع إذ نقرأ :
قرينان نحن
أنا والقدر
وحيدين صرنا
وحيدين كنا
وحيدين نبقى
وليس معي في الخواء المديد
سوى حلم صلبته يداي
وقلب محبّ قسوت عليه
فصار هباءً ذرته الرياح
وناح عليه صباي
بلا وجهة سوف أمضي
فليس أمامي ألق
ولا عن يميني
ولا عن يساري
فكلّ الجهات تجاهرني بالعداء
وتأتلق الوجهة الخامسة
أغالبها
أغالب شوقي وذاك الحنين
وأحرز نصراً بلون الرّحيل
بلون العـدم
وتصرخ روحي بعمق الهزيمة والانكسارْ
إلى أيّ أرض ستحملني وحشتي والبعادْ
إلى
أي
أرض
خرابْ !
يتحرك الرصيد اللغوي للعنونة الشعرية
(الوجهة الخامسة) باتجاه الإعلان عن مكابدات (الأنا) الساردة في بحثها
الدائب عن كينونتها المفتتة تحت سلطة الآخر القامع والذي تطل ملامحه الشرسة
من الجهات الأربع (كل الجهات تجاهرني العداء) إلا أن مهارة القصيدة في كسر
توقع القارئ يتجلّى حين تكون الوجهة الخامسة إضاءة تمويهية لا تمنح
(الأنا) نشوتها وغبطتها بل أنها تكرس استلابها ومصادرتها فتعلن الذات
المغتربة بمرارة في خاتمة القصيدة ( تصرخ روحي بعمق الهزيمة والانكسار إلى
أي أرض خراب) وهي خاتمة تتحرك حركة دائرية باتجاه الاستهلالة (قرينان نحن /
أنا والقدر / وحيدين صرنا / وحيدين نبقى) ليتشكل وثاق دلالي يطبق بعتمته
على الأنفاس الحائرة فيغمرها بدجنة تفلح في أن تغيب (الحلم) حين تجهز عليه .
وتحتفي قصيدة (إني)(6)
بطقوس العشق الأنثوي وقد كرس طرافة العنونة الشعرية الإحساس الحاد بالذات
والتأكيد على انبلاجاتها عبر (إن + اسمها) ليكون غياب الخبر تشفيراً
دلالياً يفتح النص ومنذ البدء على كل الاحتمالات إذ يرد :
أهواك حقاً وإني
مجنونة بالتمني
مجنونة في عروقي
دم الحنين يغني
وأنت .. أنت حنيني
يا عمر عمري فجئني :
أعيش فيك حياةً
أسر حتى بحزني
أموت فيك فضاءً
فعالمي لم يسعني
أعبّ منك انتماءً
أذوب نوراً لأني
من جمر روحك أهمي
عن هذه الروح سلني
تظل تعشق حلماً
أراه عنك وعني
تهدي الحياة وروداً
أشذاؤها لم تغني
فضم هذا عبير
قد فاح منك ودعني
أضمه واتئد بي
فحمرة الورد مني .
تتكشف أمام دينامكية القراءة سلسلة
دلالية يخلقها الحضور الكثيف لـ(الأنا) إذ تتدفق نشوتها بالآخر في تشكيلات
متوازية تحضر فيها صراحة من خلال (يـاء) المتكلم المتكرر خمسة عشرة مرة وقد
تستتر خلف حجب الفعلية سبع مرات وهي مراوغة دلالية توقد في أفق التلقي
خصوصية أنثوية إذ تنساب هذه الكينونة المسكونة بالرهافة والعشق مع فضاءات
حالمة (تعشق حلماً) يفضح هذا التأويل إعلان الاستهلالة صراحة (أهواك حقاً
وإني / مجنونة بالتمني / مجنونة في عروقي) وهي تكني عن إنغلاق الذات على
مباهجها بل أنها تسقط على الآخر (المعشوق) خطرات ذاتها (أذوب نوراً لأني /
من جمر روحك أهمي) توقاً منها إلى هتك الحجب المادية للعشق ودفعها صوب
الوجد الروحي (أذوب نوراً + عن هذه الروح سلني + اراه عنك وعني) وتصل
القصيدة في الخاتمة إلى ذروتها حين تسقط الذات الأنثوية عشقها على مظاهر
الطبيعة الحية فتلوذ المخيلة الكنائية بالورد وأشذائه ولونه إفصاحاً عن
الهوية الروحية لهذا العشق وقدرته على أن يشع في كل اتجاه محدثاً نشوة
وغبطة تغمر ما حوله . كما أن السطر الذي أقفلت به القصيدة يؤشر خصوصية تحيل
إلى الحياء الأنثوي الفطري وفي إطار ما دعاه البلاغيون بحسن التعليل(7)
.
وتكرس قصيدة (تجربة)(8)
جدلية (الأنا / الآخر) إذ نقـرأ :
نحن بين الندى
والردى
والتخـاذل
والإقتدار
نحن كنـا وكا . . .
كانت التجربة
صعبة . . . ربما
مرة مثل طيف سؤال
ولا أجوبة
مرة . . . إنما
ابنة الاخـتيار
تفضي الثنائيات المتضادة (الندى /
الردى) و (التخاذل / الاقتدار) إلى ثنائية أساس تنتظم النص الغاطس قوامها
(الحركة / السكون) وهي توقد في الذات المسكونة بالانعتاق الشوق إلى اقتحام
المجهول وهتك حجبه لتنبثق من العنونة الشعرية (تجربة) رؤية النص وموقفه
إزاء ترويض الذات وتمرينها كي تتكيف مع مناخات الجديد الذي قد لا يكون
مبهجاً وإنما قد يكون مثخناً بالمرارة (مرة ، مرة) والفجيعة (صعبة) بيد أن
ما يبرره في آخر المطاف أنه وليد الوعي والإرادة اليقظة (ابنة الاختيار) .
وحين ننظر في طبيعة الألفاظ التي خلقت هذه القصيدة فإن التراصف الأسمي هو
ما يلفت النظر ويحيل إلى ديمومة هذه (الحقيقة / التجربة) التي اتكأت على
صور ذهنية متسقة مع طبيعة المفهوم المعنوي المجرد (التجربة) التي تشكل بؤرة
النص ومحوره الأساس حتى أن (الندى) لم يفلح في خرق النسقية الذهنية للمتن
الشعري وإنما بقي مكتنزاً برموز الحياة والوعد في إطار إيحاءاتهما المجردة
ويخلق الفعلان (كنّا + كانت) شذرة زمنية تخرم التدوين الطباعي وتؤشر حركتها
المرتدة باتجاه الماضي والمترعة بفضاءات العبور اجتياز (الأنا) الساردة
واعية عتبات الانكسار المرموز لها بـ(طيف سؤال ولا أجوبة) ، كما أن مخيال
الترميز الكنائي لم يكتف بالنقص المتأتي من طبيعة الفعل (كان) وإنما سعى
إلى تفتيت بنيته وإنقاصها (كا…) وقد منحت المساحة المنقوطة (الأنا) الساردة
داخل النص سانحة التقاط أنفاسها المنتحبة وترميم شتاتها إزاء غياب الآخر
كما منحت في الآن نفسه المسرود له (خارج النص) سانحة المساهمة في تشكيل
النص وإعادة إنتاجه – على حد تعبير امبرتوايكو- .
وتستدعي قصيدة (أناديك)(9)
مناخات حوارية تعكس ملامح (الأنا) الأنثوية المتهشمة تحت سلطة الانتظار
والترقب إذ نقرأ :
تشعل جذوة قلبي
وتطلق طير الحياة
بليلة حلم
تروم من العمر لو لحظة
ستقصي الزمان الدميم
تشكل العنونة الشعرية (أناديك)
مفتاحاً دلالياً يحيل إلى توق (الأنا) الأنثوية للاكتمال بالآخر النشوة
لحضوره كما أن مناخ النص يسقط من هذه العبارة (أناديك) ذاكرتها المكتنزة
باستقدام الآخر ليكون لها ذاكرة جديدة تتحرك في أفق من الالتماس والرجاء ،
ويبوح الفضاء الزمني الشاسع لحشد الأفعال المضارعة (تشعل + تطلق + تروم +
ستقصي) بقدرة الآخر على امتلاك زمن (الأنا) الأنثوية وتفتيت انكساراتها
المرموز لها بـ (الزمان الدميم) إلا أن هذه الفضاءات المكتظة برموز
الانفلات من الراهن (ليلة حلم) والعنفوان (جذوة قلبي) والانعتاق (طير
الحياة) تبقى في إطار إرادة الآخر الغائب .
وتعكس مرايا قصيدة (ومازلت
أنت الذي ...)(10) شغفاً أنثوياً يتكئ إلى بنية مشاكسة لا تمنح
مفاتيحها بسهولة معتمدة عن سبق إصرار على سد الثغرات التي يمكن أن يلتمسها
القارئ لاجتياز عتبات المتن الشعري صوب النص الغاطس إذ نقرأ :
ترى هل يجيء
نهارك دوني . .
يضيء عيونك غيري
وهل يألف
القلب غير خطاي ؟؟؟
أيجرؤ طيش سواي
على أن يكون . . أنا ؟
وهل :
مرير سؤالي . . وصمتي أمر
فمن يخرسه ؟
وحين يجف
السؤال . .
ومن قلب دمعي يروغ
إلى كائنات الملل
أما من جواب
فإني مزّقت كلّ كتاب
وموّهت كلّ الصور
وكنت اختصرت
فضاءات وهمي
إلى زرقة يابسة !
وأعطيت عمراً
بدون سحاب
ودون بهاء
ودون انتماء
فلا مطر عاشق
ولا نجمة سانحة
ولا كبرياء
ولا . .
سوى الشهقة الجارحة
فهلا أثوب
فراقاً . . .
فراقاً . . .
إلى . . لا "
لقاء"
وإلا . . فهبنا وجوداً يعز على البين أن . . .
وقد ناوأتنا
الدروب
فما زال شوك
اللقاء ندياً
وما زلت . .
أنت الذي ليس منه هروب .
يؤشر تغييب
صلة الموصول في العنونة الشعرية (مازلت أنت الذي ...) واستدعائها في السطر
الأخير من القصيدة (مازلت أنت الذي ليس منه هروب) هيكلية سردية خاصة تهيمن
على المتن الشعري وتغدق عليه مناخاتها الأنثوية الملتبسة والمرتبكة إزاء
الآخر المنغلق على نرجسيته وقد كررته الصياغة التركيبية – من خلال تاء
المخاطب + الضمير المنفصل (أنت) – ومنحت حضوره صيغة (مازال) فضاءاتها
الشاسعة المتمددة باسترخاء من الماضي إلى الراهن باتجاه المستقبل وصولاً
إلى امتلاك زمن (الأنا) وإغراقها في دوامة الشتات وتنبع خصوصية أنثوية
طاغية تشكل هيمنة أسلوبية على النص الحاضر وهي مغلفة بهالة من الاستفهامات
الحائرة المريرة (ترى هل + هل + همزة الاستفهام + هل + من + أما + فهلا)
وهي تفضح لحاجة (الأنا) وإصرارها على استقدام (الآخر) والتوق إلى الاكتمال
به بعيداً عن عويل المكابدة والغياب وتحت سلطة هذه الفضاءات المستعرة
المدججة بالتهميش تتداعى إلى المخيلة المنكسرة تفاصيل حياة بأكملها وهي
تترواح بين أقصى الاستسلام لهذا الصوت المنبعث من داخل (الأنا) (الاستهلالة
+ الخاتمة) وأقصى التمرد (مزقت كل كتاب + موهت كل الصور + اختصرت فضاءات
وهمي) ليحدس أفق التلقي تموقع هذا التمرد في خضم استسلام طاغٍ يفرض حضوره
على مدى أفق القصيدة .
وتؤنث قصيدة (اللحظة امرأة ثكلى)(11) الزمن وفي إطار معادلة
ترميزية طريفة إذ نقرأ :
اللحظة . .
هذي اللحظة حيرى ، واجمة وثوانيها تنحر!
اللحظة ليست
إلا امرأة ثكلى ، سلبوا منها كل المستقبل
وأنا في جدب
اللحظة أبحر – لا غيمي فيها أمطر ، لا
طيف الأمس
معي ، لا طفل غدي أقبل –
في
غير أوان أدّخر التذكار
في غمرة
حاضرنا كنت أخبئ لوناً للماضي
لوناً يشبه
زرقة أوهامي ، لوناً . .
خابت كل ظنوني
لا الآتي جاء
وضاعت كل اللحظات هباء
غامت أضواء
اللحظة في ظل ظلام ثرثار
واحترق
الماضي – الحاضر ، لم يبق من زمني إلا
شبح دام
ذاك الشيء
المتبقي النازف من قلب الأسود كان . . أنا
من دون ستار
تفضح العنونة
الشعرية (اللحظة امرأة ثكلى) صورة تشبيهية – طرفاها اللحظة (المشبه)
وامرأة ثكلى (المشبه به) – هي بؤرة القصيدة ونواتها المتشظية في كل اتجاه
والتي تخلق من العنوان نصاً مفخخاً يرهص بمدلولات اللحظة وتحولاتها في
المنتج الشعري اللاحق إذ تشكل مركزية سردية تتمحور حولها صور شعرية متباينة
الدلالة فاللحظة المكررة ست مرات تعني الراهن المعاش ( حاضرنا + الحاضر)
وهي أيضاً الآتي (المستقبل + غدي) بل أنها تتحرك مرتدة إلى الزمن المنصرم
(الأمس + الماضي + الماضي) فهي بهذه المدلولات ترادف العمر ، أليس العمر
كومة لحظات ؟ وعلى هذا الأساس تضاء مفاصل القصيدة كلها تأسيساً على التنغيم
الدلالي المتوازي الكامن في (اللحظة امرأة ثكلى [العنوان] + اللحظة ليست
إلا امرأة ثكلى [الاستهلالة]) وهو يبوح باتساق انزياحي يؤشر عتمة الراهن
المدجج بالفقد (موت الإبن / الامتداد) ومكابدة التواصل مع الحياة ، كما أن
الصياغة التركيبة المتكئة على (النفي + أسلوب القصر) قد أفلحت في أن تغلق
كل الاحتمالات التي يمكن أن تفتح كوة مضيئة في هذه الدائرة المفرغة .
ويستثمر مخيال النص النزعة التصويرية في استقطاب براعة اللون ومهارته في
ترميم تفاصيل لوحاته الشعرية وأن كان ينزع عنها دلالتها المألوفة ليمنحها
هوية جديدة وجواز مرور باتجاه مديات لونية طريفة فاللون الأزرق لم يبق قرين
السمو والجمال والسكينة وإنما جاء قرين الشتات حين اقترن بالوهم وفي إطار
صورة تشبيهية (زرقة أوهامي) وهو لون يتحرك صوب الزمن المنفلت (لوناً
للماضي) ليكرس انكسارات (الأنا) لذا فإنها تلح على استدعائه (لونا + لونا +
لونا) ليكون حضوره متنفساً لتفريغ اللوعة وجداراً سرابياً (تختبئ) خلفه
الذات المتشظية ويتحرك الاستلاب الدلالي باتجاه رموز الزرقة فيكون البحر
ووفق منظور إنزياحي قسيماً استعارياً لصفرة الصحراء المتسللة من (وأنا في
جدب اللحظة أبحر) بيد أن اللون الأسود يبقى هو اللون المهيمن على أفق
القصيدة وبإيحاءاته المدججة بالغياب والحداد وقد صرحت به خاتمة القصيدة
(الأسود) كي تقفل اللوحة الشعرية بالسواد لتتخلق منه حركة دلالية دائرية
تتجه صوب العنونة الشعرية (اللحظة امرأة ثكلى) لتؤطر المتن الشعري وتمنحه
مناخات الفجيعة والمصادرة .
وتحيل مناخات قصيدة (وأبقى دائماً أبقى)(12) إلى خصوصية أنثوية
مفادها الإصرار والمواصلة إذ يرد :
وأبقى دائماً
أبقى
كأن الفقد
ظلّ خطاه هذا الروح والجسد
يجوب مداي لا
ضوء يجود به
ولا طلّ فينطفئ
يسيل دمي على
أسطورة القدر
ويغرز في نصل الصمت . . .
أرتعـد
يعد ختام خاتمتي
ويبتدئ
وطيف القرب يبتعد
وأفق البوح لا يعد
بغير الجمر يبتئس
وأبقى دائماً
. . . أبقى
أنا الطلل
وما من دمعة
بعـد
وكل الصّحب
قد رحلوا
ليغمرني صدى
الموتى فأشتعل
وأبقي دائماً
. . أبقى
فما لنصال ذي
الأشواق في الأحداق
تنغرس
أما تدري
بأن الشوق غالته
يد الرّفقاء
والحرس
فلا خوف على
قلبي
فإن الخوف
علمه
بأن يحيا بلا
قلب
وهذا الدهر
عوّده . .
إذا لم يهطل
الشجن
ففيض الحزن
ينبجس
تشكل العنونة
الشعرية (وأبقى دائماً . . أبقى) نصاً مراوغاً تمنحه إيقاعية تكرار الفعل
المضارع أبقى + الفضاء الأزلي للمحمول اللفظي (دائماً) مداً زمنياً شاسعاً
يكرس موقف (الأنا) ورؤيتها الخاصة وهو يفضح بلورة موسيقية توارب الباب أمام
الاحتمالات التي سيفرضها النص الحاضر المتشذر ومن خلال هذه العنونة التي
تسللت إلى بنية المنتج الشعري فغدت لازمة دلالية تحجز بين ثلاثة مستويات ،
يفضح المستوى الأول التعالق التشبيهي بين (الأنا) الساردة (روحاً وجسداً)
(المشبه به) والفقد (المشبه المعنوي) ، وقد أفلح مخيال النص حين استدعى
النمط التشبيهي المعكوس(13) كي يعزز عتمة المكابدة حد العدم
ونجحت أداة التشبيه (كأن) في أن تحيل إلى التباس الرؤية إزاء هذا التوحد
الحاد بين طرفي التشبيه كما يوقد غياب وجه الشبه في أفق التلقي فيضاً من
المعاني المتخمة بالانكسار والهزيمة القصوى . وتحيل الصورة التشبيهية (أنا
الطلل) في المستوى الثاني إلى تغييب واع لأداة التشبيه رغبة في هتك الحاجز
الفاصل بين المشبه (أنا) والمشبه به (طلل) لتخليق شذرة انزياحية تكشف عن
شراسة الخراب الذي لحق بالذات المرهفة وتومئ إلى ما ورائية النص المتخم
بتحولات (الأنا) من عنفوان وحيوية إلى سكونية منبئة باندثار وغياب .
وينتقل النص في المستوى الثالث عبر المقول الشعري (أما تدري) من الحوار
الذاتي (Monologue)(14) داخل النص إلى حوار خارجي (Dialogue)(15)
تجريه (الأنا) الساردة مع المسرود له (خارج النص) وقد فضحت المحمولات
اللفظية (غالته + يد + الحرس + خوف + خوف + الدهر + الشجن + الحزن + نصال +
تنغرس) شبكة إيحائية تفيض على خاتمة القصيدة بمناخات العدم والغياب تكثفها
الحركة الدلالية الدائرية المستجلبة من ذاكرة الفعلين (يهطل + ينبجس)
وفضائهما الزمني الشاسع إذ يشكلان وثاقاً يحيط بـ(الأنا) الساردة لاسيما أن
الفعل الأول تبدأ حركته باتجاه الذات والآخر تنطلق حركته من المهاد
المكاني باتجاه الذات أيضاً فتنغمر الكينونة المرهفة في اغتراب لا قرار له
وقد أسند هذه الحركة الدائرية أداة الشرط غير الجازمة (إذا) .
وتفضح قصيدة (كيف تغدو رجلاً
؟)(16) إحساساً حاداً بالغبن والقهر وفي نسيج يكثف المكابدة
ويوجز المعاناة إذ يرد :
كيف تغدو رجلاً دون معلم
في مدى خمس ليال ؟
- (كيف . . ؟) عنوان :
ترى كم
طبعوا في الرد عنه ؟
- قلب مليون فتاة تتألم !!
إنما ليس مهماً
لم تكن
يوماً مصيبه
حين شاب يتعلم
تدفع
الأنثى الضريبة
تشكل الهيمنة الذكورية مركزية سردية
تتمحور حولها بنية المتن الشعري لتؤكد الرؤية المتصادمة إزاء تمجيد بطولات
الآخر (المذكر) في مقابل تهميش مكابدات (الأنا) الأنثوية واستلابها . ويتخذ
مخيال النص من أسلوب الاستفهام بنية سردية ساخرة (كيف ..؟ كيف ؟، ترى . .
؟) ليخز أفق التلقي ويحفزه للبحث عن إجابة لهذه التساؤلات التي فتح بابها
مشرعاً عنوان القصيدة (كيف تغدو رجلاً ؟) لتتناسل بؤر إيقاعية مفخخة تقود
النص برشاقة إلى المفصل الثاني المتكئ إلى نبرات التعجب والاستغراب إذ
يستدعي النص مفارقة عددية بين (رجل / مليون فتاة) ودلالية (مذكر يزهو
برجولته / أنثى تتألم) وهي مفارقة تحسمها خاتمة القصيدة إذ تكرر واعية (ليس
مهماً) و (لم تكن يوماً مصيبة) إيماءً إلى سطوة التقاليد البالية في تكريس
هذه المعادلة التي تطيح بالكينونة الأنثوية وتبارك إلغاءها .
ويثير عنوان قصيدة (صمت
النساء)(17) حفيظة الذاكرة الشعرية بوصفه نصاً مشفراً يحمل بين
طياته مدلولات مشاكسة زد على ذلك أن هذه الصورة الكنائية تنحت في مخيلة
التلقي سلسلة متشابكة من الإشكاليات الجمالية تتسلل من بنية المسكوت عنه
وتؤثث المنتج الشعري اللاحق تكرسها المقدمة النثرية المهداة (إلى كل
اللواتي يرفضن الصمت إلا منفجراً) لتنبلج الأنساق المخاتلة المتشكلة من
ثنائية (الصمت [الاستسلام للآخر القامع] / الانفجار [التمرد على سلطته]) إذ
يرد وبأسلوب حواري طريف تتداخل فيه نبرات الحوار الذاتي (Monologue) و
الحوار الخارجي (Dialogue) :
أسلم مرايا أمنياتك للتّجنّي – الجدب
لا تأبه لها
واسرج به شرفات هذا الطائر المرجوم
باللعنات
بالأمس الذي أمسى غبارا
يا قلب
لا تترك لنفسك ثغرة
يأتيك منها خنجر القبلات
يغرز سمّها
وتراه يهتك عرض حلمك
ثمّ . .
يهديك اعتذاراً
واحرس جنونك أن تتوّجه
عفونة عقلهم
لا تفشه
وحذار . .
لا تزرع به أجسادهم
الـ . . ليس تنبت غير أسيجة
هموم قد هيّأوها . .
كي تعانق زهرك المشدوه
فاحذرهم عليه
قد يقتلونك أو يبيعوا
يومك المجنون
مشنقة وعارا
أطلق قصيدة قهرك الملغوم
لا تغفر لهم
ذا ليس عارك
إنه عار الذين تربّعوا صمت النساء
فقل لهم :
إن النساء – الصمت
قد صرن انفجاراً
تؤسس رؤية
(الأنا) إزاء الآخر (المتربع على صمت النساء) والساعي إلى مصادرة زمنها
(يومك) وتطلعاتها (أمنيات + حلم + الزهر) وهويتها الفكرية (قصيدة) لمعمارية
سردية طريفة تتكئ على بؤرة إنزياحية تؤنسن القلب (المستعار له) وتجعل منه
قطباً حوارياً تتمحور حوله انشطارات الذات وتمزقها إزاء عتمة الحاضر المعاش
وهي بؤرة تتحرك في إطار متوازية أسلوبية يكثفها أسلوب الأمر (أسلم + أسرج +
أحرس + حذار + احذرهم + اطلق + قل) وأسلوب النهي (لا تأبه + لا تترك + لا
تفشه + لا تزرع + لا تغفر) وتعكس الصور البيانية (أسلم مرايا أمنياتك
للتجني) + (الطائر المرجوم باللعنات) + (خنجر القبلات) + (يهتك عرض حلمك) +
(أجساد تنبت أسيجة) + (يبيعوا يومك المجنون مشنقة وعارا ) + ( قصيدة قهرك
الملغوم) + (زهرك المشدوه) تفاصيل هذه التجربة الشعورية التي تؤشر مؤامرة
الراهن إزاء تركيع الذات المسكونة بالرهافة والإبداع بيد أن الصور
التشبيهية التي استوعبتها خاتمة القصيدة (فقل لهم : إن النساء الصمت قد
صرنا انفجارا) تكني عن حركة انبعاثية فينيقية طريفة تفتت أقفاص الاغتراب
البليدة وتطلق (الأنا) من رماد صمتها إلا أنها في الوقت نفسه تطيح بالذات
والآخر على حد سواء .
ويعيد عنوان قصيدة (مرآة)(18)
إلى ذاكرة البحث ما قاله ليوهوك (Leo .H . Hoek) (بأن العنوان بالنسبة
لنصه اللاحق يوجد في وضعية مفارقة . إذ عليه أن يخبر وأن يبقى محدود
الإخبار في الوقت نفسه أمام نصه اللاحق ، فلكي يكون مفيداً ، عليه أن يحمل
عنواناً يمكن قارئه من آمال سرعان ما يتم تخييبها ، وأنه يمثل البنية
العميقة للنص اللاحق التي لا يمكن إدراكها دون حركة مزدوجة صعوداً ونزولاً
من العنوان للنص ومن النص للعنوان وهو ما يجعل العلاقات بين الطرفين علاقات
دلالية تركيبية ومنطقية تركيبية معاً)(18) إذ نقرأ :
أنا من مرايا الضلوع أرقت
ولكنني ما أردت هطولا
ومارست هذي الحياة
وأنت تهجي بغصن الخطايا
-
تمني ارتواءً –
وتتلو بأسمائه . .
كلهـا
أنا . . في دموع الصلاة .
ولم أرفض الأرض
- إني أحبك -
ولكن على الأرض صرت الخطيئة
فاتحة الذنب
صرت خطاه
حنانيك يا أيها العصف . . هونا
فما ثم إلا الوريقة – دمع
وتفاحة لم أذقها
وإلا . .
يداه .
تعكس العنونة الشعرية (مرآة) أكثر من
رؤية لعلّ أهمها هي نرجسية الذات الأنثوية واعتدادها بكينونتها المتمردة
على المصادرة والإلغاء وهي رؤية تؤشر الرغبة في الانسلاخ من عتمة الآخر
الذي لا يراها إلا حواء جديدة تقوده برشاقة إلى فراديس الهتك واجتياز
المحظور لذلك تستدعي استهلالة القصيدة المحمول اللفظي (مرايا) لتضاعف هذه
الصورة وتكررها وفي إطار مواجهة حادة بين الذات وهذه النظرة المتدنية وقد
أفصح الخطاب الشعري (ولكنني ما أردت هطولاً) عن تحول طريف في معادلة
(الأنثى الخطيئة / الآخر الناصع) لتتسلل ملامح جديدة من بنية المتن الغاطس
لثنائية (حواء / آدم ) وقد عزز هذا التأويل المحمولات اللفظية (الضلوع +
الخطيئة + التفاحة + الوريقة) ويفلح المخيال الترميزي حين ينسف النسق
الأيديولوجي المألوف لهذه المعادلة في خاتمة القصيدة حين تصرح (الأنا)
الأنثوية تحت سلطة الخذلان (حنانيك أيها العصف هونا / فما ثم إلا الوريقة –
دمع وتفاحة لم أذقها / وإلا / يداه) وهي نبرات متمردة تؤشر التوق إلى
تهميش الرؤية القاصرة إزاء (الأنثى / اللعنة) وفي محاولة لاسترداد
إنسانيتها .
وتكرس قصيدة (شذى الجمر)(20)
- التي استأثرت بعنوان المجموعة - فجيعة الحلم إذ نقرأ :
خطى ذاهلات
تليها خطى
بجمر من الورد دربي يفوح
عليه أسير
شذاه يخون
وغدراً تكون
وعود المدى
فأمضي إلى حيث لا عطر ..
لا شعر …
لا أمنيات
لبرق يباغت روحي
وفيه تلوح
تعكس مرايا
النص حركتان متصادمتان الأولى منتشية تمور بين جنبي (الأنا) المسكونة
بالإنعتاق والمرموز لها بـ(الشذى + والورد + المدى + برق) وحركة شرسة تتسلل
من خارج الأنا إلى داخلها المرموز لها بـ(جمر + وعود + غدر) وقد فضح
الفعلان المستعاران (يخون + يباغت) طبيعة هذه الحركة المراوغة والساعية إلى
الإطاحة بـ(الأنا) المترعة بالحلم كما يفضح إعلان (الأنا) (فأمضي إلى حيث
لا عطر / لا شعر / لا أمنيات) عن إنشطارات الذات إزاء معاول الاغتراب
والوحشة إلا أن الترميز الكنائي المتموقع في خاتمة القصيدة (لبرق يباغت
روحي وفيه تلوح) يفتح كوة باتجاه المستقبل المكتنز بالخصب واليناعة وهو ما
يمنح الذات عنفوانها وقدرتها على مواصلة الحياة .
وتشكل العنونة الشعرية في
قصيدة (ما أنت إلا . . .)(21) نصاً إشارياً لافتاً يستثمر براعة
التدوين الطباعي في تشكيل مساحة منقطة تحفز مخيلة التلقي على إيجاد أجوبة
لغياب المستثنى (الخبر) زد على ذلك إنه غياب يحرك أفق التوقع باتجاه الدخول
إلى عالم القصيدة للبحث عن هذه الكينونة الحاضرة (أنت) والغائبة على صعيد
القولبة الصياغية إذ نقرأ :
وها أنت بيني وبين الحروف
برغم ابتعادي
وعمق جراحي
وغدر جميع الظروف
أراك معي
معي في افتتاح الكلام
وبين الفواصل
في ما وراء السطور
وفي العمق من قلبي المكتئب
تمنّيه أن سيجيء المطر . .
وأن الهوى بيننا لم يتب
ولم ينتحر
وليس ضلالاً من المرء أن ينحني للقدر
وحبّك لي من هباته
فماذا بوسعي غير الرضى ؟
وكيف أصرّ
على البعد عنك
ولن يمّحي ما مضى
وما منك يوماً مفر ؟
* * *
أجرجر صمتي
وتخذلني دمعتي
ويلهو بي اليأس طوراً
وتعصف بي حيرتي
فلا مستقر
وأوقن أنّي أنّى مضيت
على صهوة الحزن . . . ليس زمامي
سوى غربتي
وليس المدى غير ظلّ الصّور
وما أنت . .
ما أنت إلا حجـر !!!
يتمفصل المتن الشعري ومن خلال لغة
البياض – وقد استبدلتها الدراسة بثلاث نجمات – باتجاهين الأول تهيمن عليه
إجابة حاسمة مفادها أنّ غياب الآخر هو غياب مادي لكن حضوره في الكينونة
الأنثوية الساردة حضور طاغ (ها أنت بيني وبين الحروف + أراك معي + معي)
ويصل النص إلى ذروته في خاتمة المفصل الأول حين تعلن الأنا صراحة (ما منك
يوماً مفر) إذ يجعل هذا الإعلان أفق التلقي في مواجهة حادة مع الوشيجة
الحميمة التي توحد بين (الأنا / الآخر) ويتحرك المفصل الثاني بعيداً عن
نشوة (الأنا) بالآخر والرغبة في استقدامه صوب فضاءات معتمة ملبدة بالاغتراب
كرستها المحمولات اللفظية (دمعتي + اليأس + حيرتي + لا مستقر + الحزن) كما
أغرقت الأفعال المستعارة (أجر جر + تخذلني + يلهو + تعصف + أوقن) النص
بمناخاتها الزمنية العريضة المعبرة عن الراهن العقيم ويأتي أسلوب الاستثناء
في إطار متوالية دلالية تقود النص إلى خاتمته (ليس زمامي سوى غربتي + ليس
المدى غير ظلّ الصور + ما أنت إلا حجر) يفضح تصدرها بالمقول الشعري (وأوقن
أنّي أنّى مضيت) عن تجاوز الذات لفضاء الحلم باتجاه الحقيقة الراهنة
المريرة التي أكدها أسلوب القصر وعززتها الصورة التشبيهية الصادمة (ما أنت
إلا حجر) لتتكثف ملامح الآخر البليدة على مرايا النص حد التحجر كما أن
تغييب أداة الاستثناء والمستثنى الخبر من السطر الشعري ما قبل الأخير يكشف
عن خبن في الزمن السردي وخرم في التراصف الطباعي للنص لتتقد من هذا الغياب
أمام أفق التلقي ملامح (الأنا) الساردة وهي ترنو إلى أملها المجهض (أنت)
والتي ظلت ولآخر لحظة تتوق إلى أن تتشكل له صورة معافاة .
وتفضح قصيدة (الأحرف الأولى)(22)
استسلام (الأنا) الأنثوية لقدرها إذ نقرأ :
هو المكتوب ما خطّت يدي حرفا
سوى أنّي قرأت الأحرف الأولى
وسرت وراء مكتوبي
أحاذيه
وأقفو وقع أحرفه
إلى أن غامت الكلمات
وصلنا غابة النسيان
بأحرفها الغيابيّه
وما خطّت يدي حرفا
ولكني عجزت الآن أن أقرأ
فلم تبق لي الأحرف
وغير كثافة الأحزان
لم يبق
وحبر القلب ذا ينزف
فلا الأوراق تحضنه
ولا الكلمات تكتبه
ولا يقوى على الشكوى
وما خطّت يدي حرفا
فهل أنسى
وقد صرنا على الأعتاب
هذه العطفة الأولى
يمين الجرح تدعوني لكي أنسى
وتغويني
وعود الوجهة اليسرى
فما المكتوب
أين بقية الكلمات
فإني ما قرأت سوى
حروف الأحرف الأولى
تستنطق خاتمة القصيدة (المسكوت عنه)
إذ يبلور المحكي الشعري (وعود الوجهة اليسرى) نسقاً مخاتلاً يحيل إلى عقم
الراهن وتلبده بالشؤوم والنحس كما تبوح التساؤلات الحائرة (فما المكتوب؟+
أين بقية الكلمات ؟) بإيمان النص بالقدرية المطلقة . وتكثف صرخة الأنا
الساردة (فإني ما قرأت سوى / حروف الأحرف الأولى) شعرية النص وتعكس توق
الذات المثخنة بالاغتراب الزمكاني إلى استكمال حركة الحياة في وجهها المعتم
والمشرق معاً تلويحاً بأنها لم تشهد سوى العتمة .
وتجلي قصيدة ( سطور)(23)
أفقاً مرآوياً يعكس قدرة الإبداع على أن يمتص معاناة (الأنا) الأنثوية
ومخاوفها ويمنحها عبر عالمه الحالم ملاذاً آمنا إذ يرد :
تمرّ السّطور
بسفر قلق :
فسطرُُ يئنّ
يغص حنيناً يفيض أرق
وسطرُُ يحنّ
إلى حلم لم يرق
وسطرُُ يخاف البياض به من غد
وسطرُُ هنا
وسطرُُ هناك