قترحنا في مداخلة سابقة بعنوان (المكتمل واللا مكتمل في قصيدة النثر): وصف
قصيدة النثر المكتوبة الآن في العالم العربي (بالمحلية) لأسباب لعل أهمها
تقليدها وتطبيقها لقصيدة النثر العالمية في شروط ثقافية ومعرفية
وسيوسيولوجية ونفسية خاصة، الأمر الذي يمنحها نكهة فوّاحة بجميع مشكلات
الثقافة في بلداننا ومذاقاً نابعاً من وعي كُتّابها وشروطهم الثقافية ومن
طبيعة الترجمات التي تأثروا بها . واستذكرنا كتاب سوزان برنار لجهة حاجته
إلي إعادة تقديم اليوم، خاصة وأنه ليس كتاباً مقدساً، ويطلع من الشعريات
الفرنسية علي وجه الخصوص. لم تكن المشكلة الإيقاعية هماً بارزاً لها وتحدثت
عنها قليلا، وفي سياق شعر أوروبي للغاته ضوابط نغمية مختلفة عن إيقاعات
اللغة العربية من بين أشياء أخري. وقد أجلنا تطوير المشكلة لأن موضوع
المداخلة السابقة لم يكن يسمح بذلك. ها نحن أولي أمام المشكل.
وإذن فالصفة (محلية) ليست استنكارية لكن توصيفية مكانية. ونطلقها وفي ذهننا
الصفة Local الفرنسية التي تـُعَرَّف بأنها كل ما يتعلق بمنطقة أو بمكان
مخصوص: جريدة محلية، مشكلة ذات أهمية محلية، تخدير محلي (موضعي)..الخ وكلها
لا تعلن موقفا مناهضاً للمحلي ولكنها تصفه في نطاق عمله في مكان محدّد.
وهنا نفترض أن قصيدة النثر العربية تشتغل ضمن نطاق اهتمامات المكان العربي
وفضاءاته المعرفية المحلية رغم توقها الجامح للانفلات منه نحو آفاق أخري.
فمباذا يمكن أن تتصف التجربة المحلية لقصيدة النثر العربية؟
لا يختلف منصفان علي أن العالم العربي يشهد اليوم كتابة شعرية متشابهة
الأسلوب ومتماثلة الاستعارات، منفلتة باسم حرية الكتابة، قصيرة النفس إلي
درجة مقلقة تقرِّبها في أفضل الحالات من شكل الهايكو وضرباته لكن من دون
حكمة الهايكو الطالع من تأملات الزن. قصيدة تنتوي المروق علي إرث الشعر حتي
علي مستوي قواعد النحو باسم الحداثة في طبعةٍ انتقائيةٍ عربية. قصيدة نثر
لا تستلهم إلا نسخاً منقولة عن نسخ أخري، بعضها رديء، لقصيدة النثر
الفرنسية خاصة، ومن ترجمات شعرية يُشَكُّ برصانتها. قصيدة نثر عربية ينغمر
بعض كتابها، في الحقيقة، بكتابة قصص قصيرة جدا موضوعة علي أسطر مختلفة
الطول أضفي النقد علي نثرها بركة (الإيقاع السردي)، أو تنهمك بعض كاتباتها
بهواجس جنسية محمومة، شتان بينها وبين الهموم الإيروتيكية الصافية. قصيدة
نثر لا يُعرف للكثير من كتابها للأسف اهتمامات معمّقة بالفكر والتراث
الشعري العربي والعالمي
لهذه الصورة الشعرية الدرامية يمكن إيجاد أمثلة نصية لن يختلف علي طبيعتها
عقلان منصفان. إن صورة قصيدة النثر العربية هذه معممة اللحظة، ومنذ البدء
ساهم الجميع بنوايا نبيلة في تقعيدها لتجاوز التقليدية في الكتابة والترويج
للحرية الكاملة في التعبير الشعري. يساهم البعض الآن أكثر من غيره في
الترويج لها. لقد جري تعميمها في العالم العربي باسم ضرورة الدخول في عالم
الحداثة الغامض، حتي أن أعتي المنابر السلفية والتقليدية لا تجد بُدّا، من
أجل منح صورة طليعية زائفة عن نفسها، من متابعة موجتها الطاغية ونشر
نصوصها. إن التعميم الحاصل لهذه القصيدة في مشرق العالم العربي ومغربه لم
يكن يعني حفاوة أدبية حقيقية بالضرورة ولا تعاطيا جدياً لها من طرف القراء
القلائل للشعر أو النقاد الرصينين النادرين علي حد سواء.
تطلع قصيدة النثر العالمية من مصادر ثقافية مهمومة بمشكلات أخري غير مشكلات
قصيدة النثر العربية. فالأولي تتابع سياقاً تاريخيا جارياً من التغيرات
المصحوبة بالتساؤلات، المترافقة مع الانجازات الإبداعية والفلسفية
والشعرية، والثانية لا تفعل سوي أن تستهلك وتقلد. الأولي تساءل، وتبحث،
وتجرب، وتشك، وتبدع، وفي عملية إبداعها الشعري تتوصل إلي نتائج تودي إلي
نتائج شعرية أخري، والثانية تتلقف فحسب النتائج من دون مساءلة نقدية ولا
بحث جمالي أو شك قيمي، قائمة علي يقين ثابت من دون رجوحية. الأولي تجهد
باختراع التقنيات وفق حاجاتها التعبيرية، بما في ذلك التقنيات الشعرية،
هاجرة بعضها، متمسكة بالآخر، خالطة هذا بذاك ضمن منطق حداثة اخترعتها بعد ل