تجارب أولية فـي قصيدة النثر العربية
عبدالله السمطي
مثلت الكتابات النثرية الأولى ذات الطابع الفني المهاد المبدئي الذي أسس لفكرة التحول إلى استثمار النثر شعريا، وقد رأينا في الفصل السابق كيف تجلت هذه الأشكال التعبيرية في نسق فني نثري أطلقت عليه عدة مصطلحات: النثر الشعري، الشعر المنثور، النثر المشعور، النثر الفني، قصيدة منثورة، قصيدة نثرية، شعر طليق.(1)
كل هذه المصطلحات تومىء إلى طريقة في الكتابة تقرن بين ما هو نثري وما هو شعري، وتستخدم الآليات الفنية والبلاغية لكل نسق منهما، إنها طريقة بالأحرى تضع الشعر هدفا جوهريا لها، بحيث تتحلل من كتابة النثر إلى كتابة نصوص تتسم بالشعرية المتوهجة كلما أمكن ذلك، ولتكن التسمية: نثرا شعريا، أو شعرا منثورا، أو نثرا فنيا، فالهدف الأساسي للكاتب/ الشاعر هنا هو كتابة نوع شعري آخر خارج مجال الوزن والقافية بل وخارج إطار الصيغة الشعرية الموروثة التي جرت عليها العادة في شعر الإحياء.
- 1-
ومن الأسماء التي برزت في هذه المرحلة التي تمثل نتاجاتها مرحلة مهمة من مراحل قصيدة النثر الفنية، وتتجلى فيها تحولات جمالية وفكرية : أورخان ميسر، علي الناصر، بدر الديب، ألبير أديب، مصطفى هيكل، إدوار الخراط، محمد كمال رمزي، ثريا ملحس، نقولا قربان، إلياس زخريا، فؤاد سليمان(2)
وتتباين نتاجات هؤلاء الشعراء إلى حد كبير مع التجربة النثرية – الشعرية الأولى التي وسمت نتاجات التجربة السابقة: جبران، أمين الريحاني، وتوفيق مفرج، ويوسف الحداد، وميخائيل نعيمة، ومي زيادة، وحسين عفيف.
ويشير يوسف حامد جابر- كغيره من الباحثين- إشارات عابرة، للأصوات الشعرية التي مهدت بشكل كبير لقبول ظاهرة قصيدة النثر، وهي الأصوات محل بحثنا في هذا الفصل حيث يقول :
«وكانت لعلي الناصر وأورخان ميسر في (سريال) وخير الدين الأسدي في (أغاني القبة) مثل هذه المحاولات التي مثلت الجسر الذي وصل (قصيدة النثر) وغنى عالمها بالنثر الفني عند (جبران) والشعر المنثور عند (الريحاني) وغيره، وما تحقق من إضافات جوهرية على بنية الشعر العربي»(3)
لقد بات من الضروري قراءة تجربة هذه الأصوات، لأنها تقدم نموذجا متقدما لقصيدة النثر العربية، بالقياس إلى التجربة السابقة، لا باعتبار ما تقدمه شعرا منثورا أو نثرا فنيا كما يشير يوسف حامد جابر، بل باعتباره «قصيدة نثر» بشروطها الجمالية المفتوحة، الرحبة. كما أنها تقدم نماذج شعرية ما تزال مهملة تفتقر إلى الدراسة والفحص والتحليل، واستخلاص أبرز ما تكنه من دلالات، على اعتبار أن هذه النماذج تمثل أيضا طريقا تصاعديا صوب التوسع في مفهوم : «قصيدة النثر» في مرحلة مجلة شعر في الستينيات الميلادية من القرن العشرين.
-2-
لقد مثلت كتابات هؤلاء الشعراء المهاد الجمالي لقصيدة النثر العربية المعاصرة. إن في النماذج التي صدرت عنهم ما يؤذن بالقول إنها نماذج شعرية متطورة في هذا الشكل الشعري. إنها تفارق مفهوم الشعر المنثور من عدة أمور تتجلى بدئيا في :
- التخلص شبه الكامل من العبارات النثرية المسجوعة.
- التوجه لكتابة القصيدة النثرية على أنها قصيدة في المحل الأول لا قطعة نثرية، أو مقالة أدبية نثرية.
- الكتابة التخييلية الشعرية، والتخلي عن الاستطراد والاسترسال والتداعي الذي يعوق بنية القصيدة الفنية.
- التحول من التقرير إلى التساؤل، ومن المباشرة إلى الإيحاء، ومن الكتابة الصدفوية إلى الكتابة المنظمة ذات الأثر الدلالي.
- الكتابة عبر التكثيف، والإيجاز، واختيار البنية القصيرة للإفضاء بتجاربهم الشعرية.
إن التأمل آنئذ في بعض النماذج الشعرية التي شكلت نوعا من الحراك الفني النثري في مشهد الشعرية الجديدة وتحولاتها المنبثقة عن تلاقي النثر والشعر سوف يقودنا إلى استشراف بعض النصوص في هذه المرحلة التي يمكن عدها مرحلة التأسيس لقصيدة النثر العربية، باعتبار أن المرحلة التالية التي نهضت مع مجلة شعر في الخمسينيات والستينيات، هي المرحلة التي أطرت نظريا ومفاهيميا لهذا الشكل الشعري الجديد، وإن جاء ذلك في صورة مقالات صغيرة قصيرة كما سنرى، فعادت لتسمية بعض القصائد والدواوين المنشورة قبل ظهورها على أنها: «قصائد نثر»(4).
وتتساوق هذه الكتابات مع بعض المفاهيم التي تدور حول اصطلاح: «قصيدة النثر» مثل الإيجاز والتوهج والمجانية، والقصر والكثافة، وهي الاصطلاحات السوزان- برنارية التي اعتمدتها مجلة شعر في تبيينها المفاهيمي لقصيدة النثر فيما بعد، بيد أن هذه المعايير – فيما يشير فخري صالح – «لا تكفي وحدها لفهم كيفية بناء قصيدة النثر شعريتها، والحل في رأيي يكمن في استخلاص معايير الشعرية التي تتوفر عليها القصائد من قراءتها وتعرف رؤيتها للعالم والوقوع على طريقة بنائها موادها».(5)
إن قراءة جملة من النماذج التي جاءت بها بعض الأصوات تمكننا من الوقوع المبدئي على التشكلات الجمالية المبدئية لقصيدة النثر، فقد احتفظ هذا الإنتاج الشعري الذي ظهر في الأربعينيات – من وجهة موضوعية- بالقيم الرومانتيكية التي كانت غالبة على القصيدة العمودية التقليدية التي تجلت على الأخص لدى مدرسة أبوللو الشعرية : علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وأحمد زكي أبو شادي، ومحمد عبدالمعطي الهمشري، ولدى أبي القاسم الشابي وشعراء الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية في المهجر الأمريكي، وتنطوي هذه القيم على الإعلاء من شأن الخيال الشعري، والرؤية الذاتية للوجود والأشياء، والاحتفاء بالطبيعة والفرار إليها من عالم المدينة والواقع الصاخب، والشعور بالعزلة والانطواء والاغتراب النفسي، والغربة المكانية، والحزن، والسكنى إلى شاعرية الأحلام والرؤى، وهو ما نراه لدى بعض التجارب والأصوات الشعرية التي ظهرت في هذه المرحلة.(6)
-3-
يتجلى ديوان: «سريال» العمل الأدبي المشترك بين كل من علي الناصر، وأورخان ميسر الذي صدر في العام 1947م بوصفه أحد الأعمال المبكرة للشعرية التي تمزج بين النثر والشعر، كانت التسمية الفنية لهذا الشكل الذي صيغ فيه الديوان لم تحدد بعد بصيغة نهائية، بيد أن الهاجس الجمالي والدلالي كان يحفز هذا الشكل الشعري للصعود إلى استقلاليته الشعرية، كذلك فإن هذا القلق الجمالي الموار الذي شغل ذهنية الشعراء صوب ابتكار عوالم شعرية جديدة مثل نوعا من التحفيز لإصدار هذا الديوان النثري المشترك، (7)
ويشير أدونيس إلى أولية «سريال» في الدخول شعريا إلى عالم الباطن، حيث يذكر :
«للمرة الأولى في الشعر العربي الجديد، يحاول شاعر أن يدخل إلى عالمه الباطن وأن يستقصيه، وأن يفصح عنه نثرا – بأشكال شعرية غير خليلية. كان الشعر عنده نبشا للذات واستيهاماتها، وكان شكله النثري نابعا من رؤية نظرية كاملة»(8)
كذلك فإن ديوان «سريال» فيما يجزم خليل الهنداوي: «يعد التجربة الأولى في الشعر (التجريدي) الذي انحل من عقاله المألوف في بناء الفكر المتحضر المنطقي، وطفا إلى عرض البحر في صمت»(9)
وهو أيضا يمثل عملا شعريا طليعيا في كتابته وتجريبه، وتشير سلمى الخضراء الجيوسي إلى ذلك حيث تقول:
- «في عام 1947 نشر ميسر، المعروف بحبه الشديد للأدب ونزعته الطلائعية في الكتابة والتجريب، مجموعة صغيرة من الشعر السوريالي بالاشتراك مع علي الناصر، اسماها (سريال). كتب ميسر مقدمة للمجموعة تضمنت شرحا للمذهب السوريالي، كما تضمنت ملاحظات تعكس عقلية مستقلة لم تعتمد بالكلية على النظرية الغربية. في هذه المجموعة من قصائد النثر اعتمد المؤلفان على الكتابة الأوتوماتيكية إلى حد كبير، متبنين بذلك واحدا من أكثر وجوه السوريالية تطرفا»(10)
ويتضمن ديوان: «سريال» المشترك بين الناصر وميسر (55) مقطوعة نثرية، تتوزع بين الشاعرين حيث كتب الناصر (35) مقطوعة، وكتب ميسر (20) مقطوعة، وقد صدّر أورخان ميسر الديوان بإهداء، ومقدمة وخاتمة، مما قد يدلل على أن أورخان ميسر هو المحفز على نشر هذا الديوان على هذه الصيغة المشتركة التي صدر بها.
ولأن قيمة الإهداء والمقدمة والخاتمة لاتنفصم كثيرا عن المحتوى الذي يتضمنه الديوان فإن الوقوف على ملامح هذه القيمة من الأهمية بمكان بحيث تحدد بعض المنطلقات الفنية والدلالية التي ينطلق منها الشاعران.
لقد حدد عنوان الديوان النثري بـ«سريال» وهي إشارة معلنة إلى الانتماء إلى المذهب السوريالي الذي شاع في أوروبا فترة ما بين الحربين في الشعر والرسم، ونقل إلى الشرق عبر المدرسة السوريالية المصرية التي ضمت عددا من الشعراء والفنانين
وتشير سلمى الخضراء الجيوسي إلى أن سريال تمثل «أول محاولة سوريالية في البلاد العربية شرق البحر المتوسط. غير أن السوريالية والحداثة بمعناها الحقيقي كانا قد برزا في مصر في الثلاثينيات قبل ظهورهما في سوريا ولبنان بعقدين»(11)
وإذا عدنا إلى الديوان نجد أن الإهداء يرتكز إلى «الأنا» التي تومىء إلى العودة إلى الذات، وإلى جعل الهموم الذاتية هي المكون الأول لتجربة الكتابة يقول الإهداء: «إلى هذه الأنا النهمة التي لا ترى، والتي دأبها إبداع مسوخ تقدمها لهيكلها المليء بالمسوخ..لترقد بعد ذلك لحظة هنيئة، فيها استمتاع وفيها اطمئنان، تستجمع بينهما قواها، لتخلق مسوخا جديدة أخرى» (12) فالأنا هنا «أنا «نهمة بيد أن نهمها هذا يأتي من الداخل حيث لا ترى الخارج، بل تتبصره داخليا، ومن هنا تقوم بإبداع مسوخها وهيكلها، وترقد وتصحو لتخلق مسوخا جديدة، إنها بالضبط الأنا السوريالية التي تكتب آليا عبر اللاوعي، وعبر الباطن، والتي يشير إليها أورخان ميسر في مقدمة الديوان النثري التي تحدث فيها خلال ثلاث عشرة صفحة عن «السريالية» حيث يشير إلى أن العقل الباطن يقوم بـ«تمثيل حالة إنسانية عامة تنبثق من الفرد وكأنه كل ما مر وكل ما سيأتي من أجيال. ويصدف أن يقذف العقل الباطن هذه الحالة كما هي تماما إلى دائرة الشعور فيسجلها الفرد كما هي أيضا. وهذه هي السريالية» (13)
وما يقوم به العقل الباطن، أو ما يمكن تسميته بحركة الوعي حيال قراءة العالم في سياق نفسي خارج المنطق والأعراف، عبر الأحلام، والرؤى، وأحلام اليقظة، له أثره الشعري الذي يرفد التجربة بالصور اللا مألوفة، ويقرأ أدونيس تجربة ميسر من هذا المنظور النفسي «فللمرة الأولى في الشعر العربي الجديد، يحاول شاعر أن يدخل إلى عالمه الباطن، وأن يستقصيه، وأن يفصح عنه نثرا، بأشكال شعرية غير خليلية. كان الشعر عنده نبشا للذات واستيهاماتها، وكان شكله النثري نابعا من رؤية نظرية كاملة، وليس عن مجرد الرغبة الاعتباطية في الخروج من أطر الشكل الخليلي. كان شعره غوصا في دخيلاء النفس في هواجسها وأحلامها وصبواتها، وفي مكبوتاتها قبل كل شيء، فقد كانت عنايته القصوى منصبة على حركة الداخل وسياسته النفسية، وهذا ما كان يقربه إلى فرويد والسوريالية».(14)
ويتبنى ميسر هذا المذهب السوريالي في الكتابة مشيرا إلى أن بعض الفنانين من شعراء وموسيقيين ورسامين وجدوا أن «الطريقة التي كانوا يصنعون فيها إنتاجهم الفني ينحصر في شمول حالات وجدانية وفكرية تكاد تكون عادة في مادتها الأساسية وخطوطها الجوهرية، وأن للذهن أثرا ظاهرا فيها يدنيها من الإنتاج العلمي والفلسفي. فعمدوا إلى محاولة جديدة جريئة أرادوا فيها أن يتم تسجيل ما يرد إلى مخيلتهم من صور إبداعية كما هي تماما بصرف النظر عن جمال هذه الصور أو قبحها وعن مطابقتها للمقاييس الاجتماعية أو تنافرها معها، على ذات الطريقة التي يسجل بها المحللون النفسيون الخواطر السائبة أو أحلام اليقظة. وكانت هذه المحاولة قائمة على اعتقاد هذا الفريق أن الفن الصحيح هو الذي يرسم الانعكاسات التي تتولد نتيجة للتفاعل القائم بين نضالنا الخارجي وذاتنا المجردة بعيدا عن دائرة المنطق بعيدا عن التأثر بأي توجيه فكري» (15)
ويصنف ميسر هذا العمل الذي قدمه والناصر ضمن المذهب شبه السوريالي حيث يقول:» إن أقرب مذهب يمكن أن تصنف فيه هذه (المحاولة) هو المذهب الذي رأينا أن ندعوه بالفرنجية Para – Surealism، وقد يكون من الصعب ترجمة هذا الاصطلاح إلى العربية إلا أن الاصطلاح العربي (شبه السريالية) يعبر كثيرا عن التحديد الذي تتضمنه التسمية الفرنجية» (16)
كما يوضح : «وفي المجموعة التي يتضمنها هذا الكتاب عدد من القطع التي هي من شبه السريالية»(17)
ولعل غرابة بعض التراكيب غير المعهودة في النتاج الشعري آنذاك، حفز ميسر إلى إيضاح أن التداعي في الكتابة ليس مرادفا للعبث، مما قد يتوهم قارىء «سريال» حيث يشير إلى ذلك قائلا: «قد تبدو هذه المقطوعات بخطوطها الغريبة وألوانها المبهمة الغامضة ضربا من العبث فيمنطق القارىء الذي لم يألف ذهنه غير الوضوح التقليدي وغير السرعة في الترابط الحكمي. وليس بعيدا أن تتداعى في ذاكرته محفوظات قياسية تدفعه إلى الاعتقاد أن مثل هذه الألفاظ والعبارات التي يستعملها السريالي في تسجيل (أخيلته) والتي تبدو وكأنه ليس من جامع بينها، ألفاظ وعبارات تكاد تكون عادية في حدودها الذاتية الضيقة»(18)
وهو في معرض إفادته عن الطريقة السوريالية التي جاءت بها كتابته في «سوريال» هو وعلى الناصر، يبدي رأيه في القصيدة التقليدية، فيراها «كلاما جميلا»، فيقول: «إن الكلام المنظوم المقفى في جميع اللغات على اختلاف أنواعها والمسمى شعرا ليس في الواقع العلمي إلا كلاما جميلا له اهتزازاته التوقيعية ولوحاته المغرية التي يستمتع بها الفرد استمتاعا قوامه ميكانيكية العادة وترابط أخيلة الشوق الجنسي في أشكالها المستترة الوقورة».(19)
وهو هنا ينشد التغيير إلى شكل شعري أكثر تواصلا مع الحياة في أشكالها المختلفة، في مزج بين الأخيلة الشعرية، والنضال والكرامة الفردية والجماعية، وقراءة المستقبل عبر الأجيال الجديدة، لتحقيق المثل العليا، مؤكدا على أن كل ذلك يرتبط بأعماق النفس حيث يشير ميسر إلى ذلك بالقول:
«بالرغم من كل ذلك لا نستطيع أن نطمس في أعماق خلايانا خطوط السراب المبعثرة في زواياها لهذه المجموعات التي أصبحت جوهرا واحدا... هذه الخطوط الغامضة المبهمة هي التي تكون مادة الإنتاج الفني الصحيح في الشعر والرسم والموسيقا».(20)
ويقارن ميسر في خاتمة الكتاب بين نماذج شعرية لعلي الناصر عمودية ونثرية ويرى أنه حقق في النماذج النثرية الكثافة، والإيجاز، و«استطاع أن يقول في كلمات قليلة ما كان يقوله بالأمس في سطور كثيرة».(21)
إن مقدمة «سريال» من الأهمية بمكان بحيث توضع من وجهة مفهومية في إطارها الصحيح، فالمقدمة التي كتبت في وقت مبكر، يمكن أن نستخلص منها – فيما يتعلق بقصيدة النثر – أربع نقاط جوهرية:
- الأولى : التركيز على الكتابة الآلية، والربط بين ما هو ذاتي وبين ما هو سريالي، بحيث تتكشف الكتابة الشعرية هنا عن فضاء جديد مغاير للتعبير الشعري الذي يستبطن، ويستقصي، ويتساءل، لا الذي يقدم التجربة بشكل واقعي أو موضوعي.
- الثانية : الانحياز إلى الكثافة والتكثيف بوصفهما الطريقة المثلى للكتابة الشعرية.
- الثالثة: السعي إلى التغيير الدلالي في توجه الكتابة الشعرية، واستقطار لحظات الحياة الحقيقية، والاهتمام بالعادي والمألوف، وبمزج ذلك بتمثلات الوعي الباطن للواقع، وهو ما يتواءم مع قصيدة النثر في تعبيرها عن التفاصيل اليومية، والهموم الذاتية للمبدع.
- الرابعة: الكتابة خارج شكل الشعر المنظوم، الذي أطلق عليه الشاعران مسمى : «الكلام الجميل».
-4-
في ديوان «سريال» تتلاقى نصوص علي الناصر وأورخان ميسر في نسق تشكيلي واحد، حيث اصطفى كل منهما البنية القصيرة المكثفة التي يتم فيها اختزال الجمل إلى أبعد حد ممكن، وحذف ما يمكن حذفه من البنى العبارية، وتجيء النصوص الخمسة والخمسون على هيئة فقرات أو مقطوعات قصيرة متتالية ومن دون عناوين.
وتتراوح كمية أسطر المقطوعات لدى الناصر ما بين ثلاثة إلى تسعة أسطر، ولدى ميسر ما بين أربعة إلى ثلاثة وثلاثين سطرا.
إن أقصر مقطوعة لدى الناصر تلك التي يقول فيها:
ملعقة تجرف..
تكيل الزمن
ملعقة جائرة. (22)
وهي مقطوعة كما نرى تتكون من ست كلمات فحسب بل إننا لو حذفنا الكلمة المكررة لأصبحت المقطوعة تتشكل من خمس كلمات فقط، وهذا يدل على إيثار الناصر التركيز الشديد، والبنية المكثفة جدا لكتابة نصوصه، وهو الأمر نفسه الذي يفعله ميسر حيث إن أقصر مقطوعة لديه تقول:
بصيص
وقع خطوات
ظلال،
نور يغمر الكون. (23)
بيد أن هذه الملامح المشتركة على المستوى النسقي الشكلي بين الشاعرين لم تمنع وجود بعض السمات الخاصة بكل شاعر على حدة يمكن أن تتمثل في:
- التزام الناصر بآلية الحذف والتكثيف قدر الإمكان، فيما تطول الجمل لدى ميسر، وتصل إحدى المقطوعات إلى 33 سطرا.
- هيمنة التشتت، وبعثرة المشهد، وتنافر الدوال لدى الناصر، فيما تميل نصوص ميسر إلى البنية السردية المترابطة في أغلب الأحيان.
- تتفاوت طريقة الكتابة الآلية لدى الشاعرين، ففيما هي غامضة، كثيفة لدى الناصر، تتسم بقدر من الوضوح والمباشرة لدى أورخان ميسر.
ويستهل الناصر مقطوعاته بهذه المقطوعة :
شفة..
أشلاء من زهرة ممزقة
مشوهة لم يبق من تناسقها
إلا قطرة دم
ترنو إلى عين. (24)
إن المقطع يتضمن مجموعة من الدوال التي تسعى إلى نوع من الترابط العميق لا السطحي، بمعنى أن آلية الوعي هنا هي التي ستحدد منحى الترابط ومداه، فثمة ترابط دلالي على مستوى اللون الأحمر ما بين: الشفة، والزهرة، وقطرة الدم، وترابط آخر ما بين (أشلاء، ممزقة، مشوهة) وهذه الدوال نفسها تتصل – بشكل ضدي- بالتناسق، كذلك هناك علاقة بين العين، والفعل (ترنو). مغزى ذلك أن هذه المقطوعة الصغيرة المكثفة جدا، تترابط عضويا ولكن على مستوى البنية العميقة التي تومىء إليها الدوال المزجاة، لكن العلاقة السياقية مبتورة بين كلمة «شفة» وبين بقية المقطوعة إلا هذه الصلة اللونية التي قد تشكل إحدى الدلالات الجوهرية في المقطوعة.
وعلى هذا الحذو تترى نصوص الناصر القصيرة جدا، التي تشكل بنية نصية متكاملة، تتعدد دلالاتها، وتنبجس تبعا للآليات السوريالية التي تشتت الأشياء، وتعيد تجميعها هناك في اللاوعي، بحيث تتطابق وتتلاقى.
وإذا كانت السوريالية تجوهرُ مفاهيمها في جملة من الآليات منها: الدعابة، والسخرية، والهذيان، والحلم، والجنون، والكتابة الآلية، واستبطان الوعي(25)، فإن من أبرز الآليات التي استخدمها الشاعران بإتقان هي ما تتمثل في الكتابة الآلية، واستخدام تقنية : «الجثة الشهية»(26) حيث يتم إماتة معاني الكلمات لتصبح مجرد جثث تتناقل وتتلاقى دون رابط معنوي مباشر، فالعمود الفقري : مؤرخ نبي، وغنج في الأعالي، تتلاقى مع «أطفال، دودة»، وجدران كالنهاية، وأفواه حلقات.. وهي آلية تنتظم فيها تجربة الشاعرين الناصر وميسر، كما في هذه المشاهد:
يقول علي الناصر :
عمود فقري/ بال جديد/ مؤرخ نبي
قطرات وضيعة/ صبا/ سراب.
- شجرة الدلب/ شلال هائل/ غنج في الأعالي
أطفال/ دودة/سنونو تعشعش.
- فرعون/ أزل/ كليوباتره/ من جانبي الرواق/صدى ناي سحيق/صحراء..صحراء
نغمة من جليد/جليد أبدي /مومياء.
- دموع مغلفة/غلة تنقع/قشرة جد وحشية
سعير../عيون/جداول/جنة.
دموع مجلجلة/دموع محترقة/جهنم..جنة
عين ذات كوتين. (27)
وفي نماذج من أورخان ميسر:
- حدباء / في فقرتها العابسة/عين من زجاج/الأم: مأتم صامت.
فينوس/في برقعها النابت من جسدها الحار،
عين من زجاج/الأم: مأتم صامت.
- نفق./ جدران كاللانهاية.
أفواه، حلقات تلتهمها حلقات/يد حلقة
تتقلص وتتقلص وتتقلص..
- حجّر النور ناظريّ
في لوحات لخطوطها بداية ونهاية/ إلا أن هناك أضواء تمردت على النور/وجعلته ينتفض في تخطيط أقواس قزح/لا تنضب ألوانها المتفجرة من حنين/الأرض.
هذا الحنين الذي دأبه أن يلتقط من /جوانب أمسى/بقايا صور وتماثيل/أحالتها السنون أليافا باهتة جافة/ليجمدها في رؤاي/باقات نضيرة عابقة الأنفاس. (28)
يصنع الشاعران من كلمات قليلة جدا، ومكثفة، معاني متعددة، ولعل هذا العمق الذي تصنعه الكلمات نابع من هذا التجاور اللا مألوف بين الكلمات، إنا لا تترى في حقول دلالية متقاربة، بل من حقول متنافرة، كما في هذا المشهد الوصفي الذي يصوغه ميسر: «نفق، جدران بلا نهاية، أفواه... إلخ»، ويؤثر الشاعران، التسمية بديلا عن الفعل، كأن الاسم الذي يثبت الشيء هو المراد، أو كأن إيثار لغة الحلم التي تتعدد فيها المشاهد، وتنتقل بسرعة من شيء إلى آخر، أو من اسم لآخر دون نظر إلى ترادف أو تضاد أو تناكر، هو لغة السوريالي التي يحملها إلى فضاء النص.
إن ريادة هذه التجربة التي قدمها الشاعران، تتمثل في لفتهما الانتباه إلى ما يجود به العالم الباطني من صور غير متآلفة على المستوى الواقعي المنطقي، بيد أنها تصب في جوهر الشعر الذاتي، خاصة عند استثمار تقنية الكتابة الآلية التي من خلالها: «تتيح القصيدة للإنسان، أن يرى عالما جديدا يوازي بين عناصره وعناصر العالم الخارجي، وتتحد الداخلية والخارجية لتؤلف الوحدة الشعرية، هكذا يكون لاتحاد الشكل والمضمون – وهو المعيار الكانطي للجمال- أن يصبغ القصائد السوريالية الأصيلة» (29)
ولقد كانت السيرة الذاتية، وما يواجهه الشاعر من مواقف محبطة محفزا للاتجاه إلى تأمل الذات واستبطانها، وفقدان الثقة بالواقع، وتسجيل ذلك عبر الكتابة الشعرية، حيث يشير خليل الهنداوي في مقالته: «الشاعر علي الناصر – كما عرفته وفهمته» إلى بعض هذه المواقف في حياة علي الناصر : «إنه شاعر العزلة والانطواء على الذات، كما كان في حياته منقطعا عن حياة الأسرة، مؤثرا سكنى غرفة منزوية في عيادته، مستمتعا بالعزلة في الحياة والتفكير، ومن هذا العالم الأصغر كان يطل على العالم الأكبر».(30)
إن تجربة «سريال» شكلت علامة فنية بينة في التوجه صوب الكتابة الآلية، وكتابة الذات التي تجوس عبر الأحلام، والهذيانات، وحالات الجنون، تستشرف خواصها النفسية الواعية واللاواعية، وتقهر القوى الواقعية عبر المفارقة والسخرية والكتابة الأوتوماتيكية التي لا تلقي بالا للعلاقات المنطقية أو المتواضعة بين الكلمات، وهذا الأمر لا يمثل نوعا من العبث أو اللعب، قدر ما يمثل موقفا فكريا، ورؤيا مختلفة للعالم.
وهي مواقف ورؤى تتجلى آثارها في نماذج كثيرة في قصيدة النثر – فيما بعد – خاصة في التجارب الشعرية لشعراء مجلة شعر، وبعض التجارب لدى شعراء التسعينيات من القرن العشرين.
-5-
من التجارب الأولية التي أسهمت في خلق مجالات جديدة لهذا الشكل، ما نراه في تجربة ثريا ملحس في «النشيد التائه» و«قربان»، وهي تجربة اعتمدت على الكتابة الاستطرادية، وعلى التداعي الذي تنظمه غنائيات المقاطع النثرية، وهي اعتمدت أيضا على الجمل القصيرة جدا، وعلى استثمار آليات النثر في العبارات المسجوعة، والمحسنات اللفظية، لإحداث قدر من الموسيقية اللفظية كبديل عن القافية في الشعر، تقول ثريا ملحس في ديوانها: «قربان» : في نص بعنوان:
آن الرحيل/تعبي /تعبي أنا /دبيب في رأسي
يسري/لساني ثقيل/اختنقي يا كلمات/تبخري يا غيوم/في كل ذرة /خبر/في كل قطرة/لون
غريبة أنا /اغربي يا نفسي/طريقك هناك/كرهت الأصوات/مللت الكلام/قف أيها الطائر
اسمعني/أنا خرساء/أنشدني/أنا صماء/إيه يا نفسي/غريب...غريب/هو عني /يا سماء هوّي/ويا أرض ميدي/يا جبال تفجري/ويا جبريل بوّق/آن الرحيل/....رحيلي/مللت الكلام/مللت السماع/لملمي قواك /يا نفسي/وارحلي/آن الرحيل/... رحيلي. (31)
ففي هذه القصيدة، نلحظ هذه الجمل القصيرة جدا التي تتشكل منها السطور الشعرية بشكل متتال، متسارع، إنها تقدم إيقاعا مختلفا يعتمد على كثافة الكلمات، وتكرار كلمتين على الأغلب في كل سطر، ومع الدفقات الصوتية للكلمات، أدى ذلك لحدوث بعض الأسطر الموزونة عروضيا ما بين المتقارب والمتدارك، بيد أن هذا جاء دون قصد النص، الذي يتداعى ذاتيا من جملة لأخرى، حيث نلحظ سريان البعد الذاتي في كلمات النص بالبوح بالأنا، وإسناد الكلمات إلى ياء الملكية بشكل كثيف، كما أن القصيدة تتسم بالوحدة المضمونية، وهو ما تختلف به عن القصائد التي مثلت الإرهاصات الأولى لقصيدة النثر في المرحلة السابقة.
وتتجلى قصيدة النثر لدى محمد منير رمزي (1925- 1945) في ديوانه الوحيد: «بريق الرماد». (32)
بوصفها حالة جمالية خلاقة، تشف عن مكنونات الذات، إن شعرية رمزي تحمل الكثير من التعبير عن الألم، والانكسار، والإحباط، ولعل في هذه الأجواء المأساوية التي حملته نهاية الأمر إلى الانتحار، ومعانقة الموت ما يجعل الشاعر يتسم بالحساسية الشديدة تجاه العالم والأشياء. إن قصيدة رمزي كانت مترعة بهذه الدوال التي تعبر عن غلبة الأقدار حين تواجهها ذات محبطة، بائسة. إن الألم، والآهات، والدموع، والأحلام المنكسرة، والفقدان، والاغتراب، والموت.. دلالات بينة في نصوص منير رمزي، وهو ما فتىء يشتغل على تكوينه شعريا في نصوص الديوان.
ويؤكد محمد مصطفى بدوي في تصديره الديوان على أن شعر رمزي: «أقرب في أسلوبه وغموضه وصوره وبنيته اللغوية إلى الشعر الحديث منه إلى الشعر الرومانطيقي».(33)
إن حالة الحب الوجدانية كانت حالة مأساوية انتصر فيها الألم، وذوى فيها القلب.. هكذا يبوح منير رمزي بقصيدته التي كانت عنوانا لحياته التي انتهت بالانتحار، يقول في نص: «آلام وأحلام»
أنا.. ما أنا؟ لا شيء. /مخلوق تتجاذبه الأحزان وترتطم على صخر قلبه.. آلام وأحلام./أحيا لأستمع إلى ألحان قلبي/حين يهدأ أو يثور /كانت لي الطبيعة الشادية، أناجيها، فتناجيني/ولكن ما بالها اليوم/إنها ميتة، ميتة أشيعها كل يوم. بل كل ساعة./إنني أفنى. أفنى فناء عنيفا هادئا/عنيفا كاصطخاب الأمواج فوق الصخور/هادئا كالنسائم الناعسة/في ليالي الصيف الحالمة/لقد صهرت روحي على قالب الخيال والأحلام/فنى جسدي وبقيت روحا. روحا حالمة متأملة متألمة/روح تجري وراء الحب والجمال/شبح يجري وراء سراب /إن يدي مثلجتان. ولكن النار تندلع في رأسي إنني أقوم بدوري في مهزلة الحياة. ولكنه دور طويل ممل /لكن لا لا.. ها هي خاتمة الرواية تقترب /ما أروعها وما ألدها. كم أنت جميل أيها الموت/ويلي /إني أخالها تبعد كلما اقتربت/إنني لا أستطيع الحياة. ولكني لا أستطيع الموت/أيتها الأفكار السوداء التي تتدافع في رأسي/اهدئي. اهدئي قليلا/واتركي مجالا، لأحلامي...(34)
وتشف نصوص منير رمزي عن روح رومانتيكية، تسعى للتوحد بالطبيعة، بل والفناء فيها. إنها روح تبحث عن الصفاء داخل المأساة، في قلب الموت.. وهذا الفرار من عالم الشهادة إلى عالم الغياب فرار صوب الأسمى.. صوب ما يجعل الروح بيضاء في عالم تتوحد فيه المتضادات وتتآلف وتتلاقى.. هذا ما يهيمن دلاليا على الفضاء الشعري لدى رمزي الذي قضى منتحرا كأنه سعى لتقريب المسافة تماما بينه والموت زمنيا.
إن الطبيعة بكل محمولاتها الدلالية والرمزية هي أفق أثير للكتابة لدى رمزي، كما تتجلى مشاهدها بشكل بين في نصوص: «صلوات قلب» و«نحو الغروب»، كما يتخذ رمزي أيضا من فضاء الروح عالما لتجربته، فيكرر دالات الروح في نصوص كثيرة، كما في نص: «وداعا» وفي نص (دموع) عناق دلالي بين الروح والطبيعة(35)
في الصباح الصامت /أتأمل الحشائش الخضراء/قد لمعت عليها حبات الندى/فيتساءل قلبي :
أهذي دموع، نثرتها الطبيعة/باكية لبكائي؟ /لا.. لا/ما كانت الطبيعة لتحفل بآلام يعانيها بشر/ولو أن روحي/قد نسجتها ألحانُ نسائمها/وحفيف أشجارها، وشدو طيورها/وصقلها شعاع، من أشعة قمرها الحنون/ ورغم كل ذلك، ما كانت الطبيعة لتحفل بي../ ولا أخال هذه الدموع، سوى دموع الفرح/ الفرح باستقبال فجر جديد/إنها دموع شابة، تذرفها أعين/لا تجف أبدا.
وتتكىء شعرية منير رمزي في هذا الديوان على جملة من المحددات الجمالية تتجلى في :
- التركيز على توالي الصور الشعرية التي تمتح من حقلين أساسيين هما : الذات، والطبيعة.
- تحديد الخطاب الشعري وفق نسق تبادلي بين الأنا الشاعرة وبين الحبيبة المخاطبة.. أو بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.
- التداعي الجمالي، والاستطراد التعبيري بين دال وآخر.
في شعرية منير رمزي نحن حيال أنموذج دال على أن حالة التغيير الشعري في الأربعينيات كانت حالة طاغية، سواء كان التغيير صوب قصيدة النثر بوصفها شكلا شعريا موازيا بدأت إرهاصاته مطالع القرن العشرين أو كان صوب قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر أو الحديث.
كما تتسم كتابة رمزي بالتداعي الحر، والتسمية، والوصف، والقران بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب المؤنث في تجربة الحب، كما أنها تحفل ببعض التأملات الوجودية، وأسئلة ما وراء الطبيعة.
ويشير إدوار الخراط محقق الديوان إلى قصيدة رمزي بقوله: «كتب منير رمزي قصيدة نثر ذات إيقاع مرهف – صوتي ومضموني معا – في وقت مبكر جدا، وبشكل متميز عما كان معهودا في (الشعر المنثور) حين ذاك – بل هي قصيدة تختلف تماما عما كان يغلب على ذلك (الشعر المنثور) من تسايل عاطفي ورثاء للذات عاكف على أوجاع النفس المغلقة على نفسها... إن السمة الفذة في هذا الشعر هي المقدرة على التأمل الفلسفي في قلب تجربة الحب المحبطة وعلى مواجهة أسئلة ميتافيزيقية كبيرة لم يجد لها الشاعر حلا إلا بالكتابة أولا ثم باختيار الموت، في شجاعة، أخيرا».(36)
ويحتفي إدوار الخراط في قصائده النثرية بالطبيعة، وبمشاهدها المتعددة اللونية والحركية والضوئية، وهذا الاحتفاء لا يتم بشكل خارجي، بمعنى أن الذات تصبح جزءا من هذه الطبيعة، ويحدث حوار فيما بين الحواس – لا كعناصر متفرجة – وبين أشياء الطبيعة، ففي الحضن سحابة صيف، وتحت الأصابع وجه الشمس الناعم، كما في هذا المشهد من: «أنت قصيدتي» :
لماذا وضعت الشمس والقمر معا بين يدي/ ملتهبين، فيهما نداوة الفجر معا.
في حضني سحابة الصيف/ وتحت أصابعي وجه الشمس الناعم/طراوة وجنتيكِ/ قطرات مدورة شفافة/ على تويج زهرة بيضاء/ ندى الصباح على وجه الشمس/ بين يدي/ ليس في نافذتي الآن إلا جذاذة من السماء/ شمسي وراء الحيطان
هذه السماء صافية نقية تماما مبتردةٌ/ ليس فيها لا شمس ولا قمرٌ/ سماء الليل عيناك/ قمري بعيد وحار في عمق عينيك/ نور يغمر سمائي/ نور حبي/ وجهك وعيناك هما السماء/أنت قصيدتي. (37)
ومن التجارب الثرية التي تندرج جماليا ومفاهيميا، في سياق قصيدة النثر ما قدمه الشاعر: «نقولا قربان» في: «نشيد الرخام والشمس» وهو كما يصفه هاني صعب بقوله: «ونشيد الرخام والشمس» هذا العطاء الخصب، يقتات من شيئية قصيدة النثر بمقدار. كل قطعة فيه إلا القليل القليل، عالم مغلق على نفسه، وكتلة مشعة محملة في حجم صغير بالمسافات الإيحائية. تعفية فنية جديدة، تحبس الزمن في نسق إيقاعي خاص، لتسلمه إلى زمن منغم معقول، قد أنقذ من الجري المتصل في الصيرورة، ودحرج في اللازمنية».(38)
ومن مشاهد الديوان، يقول قربان في: «جسد وغابة رياحين» وظل في فؤادي بلد عريش يتعرى، وحقل خريفي الثمر، وسرب طاووس بلا ريش ! وظل في فؤادي خليج بلا قمر ! أمي أيا جميزة الدار، كنت قارة الزهر، وكنت خليج النار، فمن صيرك مقبرة الثلج يا أمي؟ وظل في فؤادي خليج بلا قمر»
«أحلفك يا أمي باسم الحب، لماذا ولدتني في الظل؟ فلكم أشعر أن جسدي ورقة يابسة على كتفي، أحلفك بالحب يا أمي، أيتها الأفعى الزرقاء، لماذا ولدتني هكذا كحصاة في الصقيع؟ ولكنني سأعيش ولأجعلن جسدي هيكلا لثورة يجدف فيها جميع الصعاليك».
«وبعد أيام ستولد أقمارنا الجديدة. يوم لا يموت بلبل في قفص، ولا يهدم المدفع الجدران، ولا ينبت الغار على رفات الآخرين، وبعد أيام ستملأ مزارعنا الأقمار، فترى عيون البائسين، مثل عناقيد مرمر وذهب، ضاحكة في قلال من القصب». (39)
فحين نتأمل هذه النماذج من نقولا قربان، يبدو لنا أن صياغتها تتم على مستوى السرد الشعري، مع التركيز أيضا على جدة الصور الشعرية وتوافرها، وعلو الذاتية، وتكثير المشهد دلاليا بالقران بين الطبيعة والذات، وتعدد الأسئلة، واستشراف الغد، بالحلم بواقع مغاير.
إن صورا مثل : «جسدي ورقة يابسة على جسدي/ عيون البائسين عناقيد مرمر وذهب، جسدي هيكل لثورة) تعد صورا غير مألوفة في التعبير الشعري في سياق هذا الشكل، ولا نعثر على هذا الأسلوب بعد ذلك إلا لدى محمد الماغوط، في نداءاته المتكررة في النص، وفي صوره العارمة المتوالية.
ويمثل فؤاد سليمان صورة فنية بينة في نسق تحولات الكتابة النثرية- الشعرية، فهو في أعماله: «تموزيات» و«أغاني تموز» و«درب القمر»(40) يقدم بعض النصوص التي تتبدى فيها بجلاء سمات القصيدة النثرية من حيث : البناء النثري للعبارة الشعرية، والتكثيف، والاختزال، وإيثار تصوير الأبعاد الذاتية عبرالنص، وقد برز ذلك على الأخص في كتابه: «درب القمر» حيث يضم كتاب «درب القمر» 21 نصا، وهي قد نشرت على هيئة مقالات بالصحف، ثم جمعت في هذا الكتاب بعنوان: «درب القمر».
وتتحدد ملامح الكتابة النثر- شعرية في هذا الكتاب، في إيثار الأسلوب القصصي، وبناء النصوص عبر السرد الشعري، وصنع الدلالة الشعرية عبر التساؤل، بتكرار أدوات الاستفهام، أو بحضور الأنا عبر ضمير المتكلم، وياء الملكية، وتوليد الصور الشعرية من حقول متقاربة، هي على الأغلب : الطبيعة، والحب، والألم.
وفي نص: «البلابل الحمراء» تتداعي الصور الشعرية من حقول متقاربة : الطيور، الأشجار، البساتين، الربيع، وهي ترتبط جميعا بدالة: «الحب» التي يصور فيها الشاعر تجربة وجدانية، من هنا فإنه يوجه أسئلته إلى هذا البلبل المغرد، الذي يقوم الشاعر بشخصنته، وتوجيه الخطاب المتسائل إليه، ويصبح البلبل شاهدا على هذه التجربة الوجدانية بين العاشق والحبيبة :
... وماذا بعد يا بلبل؟/ ماذا؟ عن ضيعتي البيضاء التي تغرق في النور؟/أفي منقارك الأحمر، حبة من رتابها؟ حبة واحدة يا بلبل/ القها على شباكي؟ ! /وهل فيه ورقة خضراء من سنديانها؟ /وهل مرغت جناحيك بأطياب ورودها ونرجسها؟(41)
ويستمر الحديث إلى البلبل، ومعاودة التساؤلات، مع رصد مشاهد جمالية من الطبيعة، يستدعيها النص بشكل متجاور :
ويا بلبل.../سألتك، يا ذا الحنجرة الذهبية بالغناء الذي فيها/باسم الخضرة والحمرة، والألف لون ولون./بالشقائق الحمراء التي تهل أوراقها على لمسة الندى!/ونرجس الغابة، التي لقيتني مرة فيها، أنا وذات الفستان الزهري/وتلك الياسمينة على بوابة بيتها... تلك الخيمة الخضراء من الياسمين الأبيض/يا ذا المنقار الأحمر.. حدثني عن ضيعتي...(42)
ويغلب على أسلوب فؤاد سليمان الطابع القصصي، ومن ثم استثمار آلية السرد الشعري في نقل المشاهد، وربطها بسلسلة سببية متشابكة، كذلك يعتمد على توطيد البنى الوصفية، وبثها في نصوصه، خاصة وأن الطبيعة تتبدى حياله كلوحة مثالية يفارق عبر رسمها وإعادة تشكيلها رتابة الواقع وآلامه.
ويمثل الحب عنده نوعا من الخلاص من الألم، إنها تيمة موضوعية أخرى توازي هذه الطبيعة التي كثيرا ما صورها ووصفها شعراء هذا الشكل في النصف الأول من القرن العشرين، وفي نص: «ألوان» يصوغ هذه التيمة التي يجسدها في لون الحبيب:
... من قلبي، من لحم قلبي، عندي لون/حبكتُ خيطانه الحلوة، من خيطان عيني. /وشبكتُ عروقه بعروق صدري/ومن دمي نسلته، من آخر نقطة من دمي/من الآلام الطويلة، في ليالي العذاب، على طريق الجلجلة/من سهادي وعريي وجوعي لملمته أنا، خيطًا خيطًا/وفي كل خيط منه، خيط من لحمي، وخيط من دمي، وخيط من أهدابي /لون حبيبي.. يا لون حبيبي.. أنا سمّرتكَ هنا على صدري /بمسامير من دمي /فما تنزاح أنت، إلا إذا انزاحت معك ضلوعي.(43)
-6-
تبدي النماذج السابقة قدرا بينا من التكثيف، والاهتمام بالجملة كركيزة تشكيلية في صياغة النصوص، لقد تخلصت النصوص هنا من الترهل، وبدت كبنى متماسكة صلدة، خاصة لدى علي الناصر وأورخان ميسر، ونقولا قربان، كما ارتكزت هذه النصوص في سعيها الجمالي لتكوين حالة شعرية تمتزج بالنثر، في هذا الشكل المفتوح عل جملة من الآليات، يمكن أن نعددها فيما يلي:
1- اختيار البنية القصيرة المكثفة، بوصفها شكلا غالبا من أشكال الأداء الجمالي، وهو ما استدعى تكثيف الجمل والأسطر الشعرية، كما رأينا في «سريال».
2- تجاور الحقول الدلالية التي تحمل الطابع الرومانتيكي: «الطبيعة»، «الأحلام»,«الحب» مع التأكيد على تلاحم «الأنا» وحضورها في هذه الحقول عبر التشبيهات والصور المتكررة.
3- الاهتمام بما هو ذاتي على الأغلب، بحيث تغدو الذات هي مرجع التوجه الشعري، ونبعه، وهي التي يتوجه إليها الخطاب الشعري، وهذا أثر في اصطفاء البنية اللغوية والتعبيرية للنصوص، بتكرار ضمير المتكلم، أو ياء الملكية، أو تاء الفاعل، أو همزة المضارعة، وما يدل على حضور الأنا عبر أسلوب الالتفات.
4- تكرار المشاهد الوصفية، في النصوص بوصفها خلفية تجميلية، أو واقعا مثاليا آخر تلوذ إليه الذات الشاعرة.
5- تفتيت الكلي، وبعثرته، والاحتفاء بالجزئي والهامشي في تشكيل التعبيرات الشعرية، وهذا أفضى إلى توسيع نطاقات الحقول الدلالية، خاصة في المشاهد السوريالية، وفي المشاهد اليومية الصغيرة.
لقد أسهمت هذه المرحلة في ترسيخ التطلع صوب كتابة قصيدة مختلفة، لا تنطلق من العروض أو النظم التقليدي، بل تنطلق من النسق النثري وفضاءاته المتعددة، تلك الفضاءات التي أحدثت انقلابا في مفاهيم القصيدة، ومفاهيم الشعرية العربية الحديثة.
إشارات