عينان تختبآن في ظل الحقيقة تتصديان لحلم عتيق فتتبنياه، ليس حلما بل حقيقة وهي ما تكون عليه (رفلة) الآن، حديث المساء يقَصِّر عمر الأحلام ويطيل الأيام صبرا ويمنح الليالي ألوانا من الجسارة والإقدام.
خرج (سيلفان) من الحمام للتو ولأول مرة، كسرت يد الرجل الصمام فتواصلت النقاط بالتقاطر داخل الحوض، فأضحى صوت الماء موسيقا أبدية أبادت صوت محرك المركبة التي نهبت الشارع فجأة. شاع صوت الطائر الذي سقط على خطأ الحقيقة من قمة الشجرة ليلغي جميع الأصوات من بعده، تلاشت صافرة القطار التي باغتت ساهري الليل وأيقظتهم من سباتهم، أو لنقل أقلقتهم في مماتهم، وعندما تجمعت حروف خمسة برنينها وبكلمة واحدة لم تتوقعها (إرتعشِ…) تماثلت للشفاء وذهب عنها خجلها وبادرت إليها الحياة!
فتحت (رفلة) عيناها من خلال العتمة تبحث عن نفسها، مرّ ثلاثون حولا! ذهبت بأفكارها إلى الزمن البعيد لكي تعيد الذكرى المخيبة، تلتقطها من هناك لتحطها تحت إطارات المركبة التائهة في الخارج، وتعلقها حول عنق الطير التائه الذي بحث عن وليفته في جنح الظلام، وقبل أن تستسلم لأنامل (سيلفان) شابكا مكيدة لأنفاسها المنحطة وللهاث اللذة المنتفض بغياب رقيب الضمير، اهتزت…
اختنقت (رفلة) ومنذ سنوات طويلة وذلك عندما غرز زوجها أنامله داخلها ليفض عذريتها، حينها اخترق حلمها الأخضر المشجر بالأمل، سال بدل الزيت النقي دما طاهرا اعتصر قلبها العاشق فأماتها، من حينه آمنت بأن الرجل الأول صدفة عنيدة يظهر في متاهة قبيحة متوّجة بالأخطاء!
هي بين يدي (سيلفان) الآن، تستذكر المسرحية الوهمية التي قادتها إلى سرير الزوجية تلك الليلة، كل شيء مزيف، الفرح، فستان العروس، زغاريد النسوة وخاتم الزواج الذي يرهق بنصرها حتى الآن، وضحكة زوجها الجوفاء التي قادتها لتقوم بدور البطلة العروس، الفاتنة البريئة المغرية، الأنثى التي أهدر الثور الهائج عذريتها بثوان وتركها وحيدة تتلمس هدير البحر بأمواجه المرداء، في تلك الليلة، تحوّل سكون الموج إلى ضربات السوط الموجعة، خبأت وجهها بغطاء يحمل دم عذريتها وأصغت لما وشى به لها البحر، وعندما بزغ أول سنا من نور الشمس حثها على الهرب قائلا: (أهربِ قبل أن تبتلعك العاصفة)…!
تاهت في الأرض خائفة، لا جناح يحملها تحت ظل غيمة ولا رأس صوفي يفكر ويعبر معها حتى المنجى، والدها متوفى وإخوتها أطفال ووالدتها تريد السترة لابنتها، فإبنة الثامنة عشر لا يمكنها إلا أن تصمت وتتقبل مشيئة الله، فليست أفضل من بنات جنسها، والزواج قسمة ونصيب واقتربت من العشرين، لقد كبرت والزواج حظ بطيخة، إما يأخذها نحو المريخ أو يقعدها في الحضيض، لكنها لم تأنس بحكايا المريخ وأبت السقوط من أعلى الحافة إلى الحضيض!
شربت كأس الزواج وأتقنت دروس الأمهات وحققت عقائد المجتمع وشربت خيبات الدهر وأمّت عتبات الصحاري، وكلما مرت سنة على نبع مائها الجاف شكت عطشها لزوجها الذي ذكرها دائما بعمرها، فتبكي دموعا لتضيف دمعة جديدة إلى مياه البحر الشاهد الوحيد على تهتك زواجها منذ البداية وارتباطها المغلوط من (صبري) الذي لم يتحل بالصبر أبدا.
التصق (صبري) بزوجه الثانية الشابة وترك (رفلة) وحيدة وهي في جيل الخمسين، تتخبط بين جدران بيتها تعاني العزلة ويسرقها المكان وتحرقها الحقيقة، وهي أنها أصبحت تينة معمرة عديمة الجدوى وذلك بعد أن كبر أبناؤها الأربعة وانهمك كل منهم بأسرته وأبنائه، والكنة تأخذ ولا ترد.
هواء خفيف أثار الأغصان فتساقطت بعض الأوراق اليابسة، بحثت الغربان عن مضاجعها وتلاشت الرؤيا تماما، لكن ركام من الأفكار بدأ ينبش داخل عقلها ويثبت ناظريها فوضعها على محك الحقيقة وهي أن أحدهم مرّ خلسة من أمامها وأطال النظر، طويل القامة، صدره مساحة طاهرة يتحمل همس شفتيها مثلما يتسع لضوء البدر المنبعث على شعيرات ناعمة تثير النشوة، خطواته واسعة وساقاه طويلتان تتخفيان تحت ظلال المساء، وسيم المحيا أبيض البشرة ناعم الشعر، أنامله أقوى وأشهى من مبضع الدهشة ومشتهى الروح، كيف لها أن تحفظ هذه الأوصاف وتضعها داخل غمار عقلها ولماذا؟ مبضعه وأنامله الرقيقة هذه المرة، لا تشبه مبضع من اغتصب عذريتها…فالعضو المغتصب يحفظ البداية ويحتفظ بالنهايات… منذ ذلك الحين بدأت تنتظر مرور (سيلفان) كل مساء!
دعاها إلى بيته بعد أن أخبرها عن تفاصيل حياته، رجل في الخامسة والأربعين، أعزب ويعمل ضمن ملحقية ثقافية أجنبية في بلد عربي، وملما باللغة العربية والتاريخ، وقد أبدى إعجابه بها بعد أن لقيها صدفة.
شمّر عن ساعديه وبدأ يعد الطعام، يغسل وينشف ويقطّع وينظف ويضع كل شيء في مكانه ويصب النبيذ داخل الكأسين، ينظر إلى عينيها الحائرتين ويتتبع أفكارها المشتتة ويحرس آهاتها المنكسرة ويلبي رغبتها ثم يشاركها الصمت، وقبل أن يأفل النهار، يأخذها يمنى نحو الحديقة وباليسرى يحمل كسرة خبز، يجلسها داخل كرسي ويكسر الخبز للطيور وينتظرها حتى تثور، متعمدا إثارتها لكي تكسر حاجز الصمت.
قالت له بصوت يكاد يكون مسموعا:
- لا طيور تقيم في بلد صحراوي لأنها تخشى من بندقية الصياد!
- إن اعتادت على الأمان ستعود إلى الحياة، ليست ميتة! أجابها
- لماذا تختار امرأة غريبة لكي تقيم معها علاقة؟ سألته
- لأن الغرباء يبوحون بالمستور!
- لست إنجليزية مثلك والإنجليزيات بالملايين! قالت
- أريدك أنتِ لكي نسبح معا في منافي الأماكن ونغوص داخل الأعماق الخبيئة، تعالي نكتشف العالم معا ولنثور معا!
نفضت عن عينيها سواد الليل وترقبت وانتظرت متعمدة، التقطت الجعير الحيواني الذي يستغرق أربعة عشر ثانية، خلالها يغيب الرجل عن وعيه ليكرر غريزته الحيوانية الأولى، قالت في دواخلها متحسرة، (جميعهم متشابهون حتى هو)! لكن يوجد فرق بين خوار الثور وثغاء الضأن.
تخاتلت الصرامة بالرومانسية وتعاضدت اللذة بالشوق فتعاظمت الآهات…حاصرها (سيلفان) بعناقه الملتهب فاستسلمت، خاطبها برفق فهمست بأذنه (أنا أحيا …أنا أحيا)!
واستمرت علاقتهما بالسر ولم يكتب لها الظهور أبدا، شلحت عنها غطاء الخجل ووضعته تحت السرير، خبأت لحمها العاري تحت جسده الأبيض العاري، عملاق هذا الجسد فقد أخفى عيوب جسد امرأة أنجبت وأرضعت وأُهملت!
أحبها كما هي وأحبته كما هو، داعبت شعر صدره الأشهب، سألها: (هل أحببته)؟ فأيقنت حالا نقطة الضعف التي يعاني منها فتكبرت واطمأنت وازدادت غرورا، إنه يحترم ويقدس الجسد الميت المطروح تحته، ينفخ فيه النار ليشعله مستخدما أساليبا طاهرة خاشعا أمامه، داعبها بأصالة ومارس الحب معها بأصالة وأعاد إليها الشعور بالأصالة، وتفنن بالأداء حتى ملك كينونتها كامرأة مشتهاة، وملأت شهقاتها الكون عدة مرات ليتحول الليل بصمته إلى هزات أرضية متتالية لا تنتهي، فيملك كل الوقت ليمنحها الأجمل، فما يؤمن به هو أن يرضي وليفته بالأسمى والأقصى بكل غضاضة حتى تستدعيه بكله إليها ليرتوي ويبقى ظمأ مؤمنا أنه من يحتضن امرأة عليه أن يكون مسؤولا عن إصلاح الكون بأكمله ويعيد له مثاليته، فالمرأة عالم رائع من يدخله يجب أن يعود إليه بمروءة، سلاح الرجل استخراج اللذائذ المحقونة داخلها ليتنفسها حتى يطول عمره.
وفي كل مرة حرص على إرضائها حتى لا تملّ منه، وقلق جدا من أن يأتي اليوم وترفضه لأسباب خارقة يدركها، حينها سيفقد رجولته وكيانه كرجل عاشق جدا! يا لهذه الشريرة التي دربته على كيفية إرضاءها وكيف يعود إليها متى تريد هي، وأن ينجر خلفها مثل حمل وديع يستبسل من أجلها، وبدأ يبحث عن قصائد الغزل العربي التي تربت عليها لكي يدرك رغباتها أكثر، مستخدما الموسوعات وقواميس اللغة لاغيا قاموسه البريطاني وعالمه الذي ابتدأه من ريشة شكسبير وملحمته الشهيرة ليحط عند المجنون، قدره أن يسقط في حضن امرأة دربته على البحث عن كبريائها وغرورها، حتى لو بدأت تشخر أثناء نومها، فهو الملاك حارس شيخوختها، يستيقظ حتى يسند رأسها جيدا على الوسادة، يقبلها من رأسها ويستأذنها بتحويل وجهته إلى طرف آخر لكي يستريح بنومه.
لقد بدأ العشق من أول نظرة مواربة متسائلة التقطتها واستطاعت أن تفك شيفرتها، عندما ردد السؤال بسره:
واعتاد على نظراتها الفاحصة المستغفلة حتى تكتشف قلقه الفاضح، لقد قلق من أن تختفي فجأة دون أن تعلمه بذلك، وقلق عليها من نفسها عندما استمرت بزواجها من رجل نسيها وحيدة داخل بيت محاط بأشجار النخيل التي تصبر على العطش، بيت متروك وسط الصحراء قريب من محطة قطارات تجارية منسية أيضا، معزول بما أنه يوازي مقبرة قديمة.
دخل (سيلفان) البيت باعتزاز حاملا باقة ورد بين ذراعيه، فقد ارتاده مرة واحدة في الأسبوع ويبقى فيه مع (رفلة) يومين كاملين، وحدهما تجاسرا على الاستمرار بعلاقة حميمة سنوات طويلة دون قيود أو شروط، حتى جاء اليوم واحتفلا معا، بين أروقته الشاهدة على حب نادر، ببلوغه السبعين من العمر!