لا أقول ان ما يحدث اليوم في العالم العربي والإسلامي مؤامرة، او ان التاريخ يعيد نفسه، بل ان المنطقة عرفت تحولات عميقة ديمغرافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، في اطار انخراطها التبعي بشكل او بآخر في حركة التاريخ الرأسمالي الحديث والمعاصر. فهناك تحولات محلية في اطار سياقات التحولات العالمية التي تؤطرها وتهيمن على افاقها ومساراتها، كما تعمل على تحديد توجهات واتجاهات مصائرها المستقبلية الدول المتقدمة في الغرب والشرق، مع تفاوت تطوري في السيطرة والهيمنة بين هذه الدول على مستوى قدراتها الجيوسياسية والاستراتيجية في الصراع والتوافق حول المجال الحيوي للمصالح. على ضوء هذا يمكن قراءة التواجد المابعد استعماري والنيوليبرالي في المنطقة، فهو امتداد للتراكم الرأسمالي في شكله الاستعماري قديما، وما بعد الكولونيالي في الوقت الراهن. اذن نحن ازاء مشروع تاريخي اقتصادي سياسي متجذر في المنطقة، و متعددة المكونات والوسائل والأهداف والمصالح، وبالتالي فان خوض الصراع خارج الفهم والوعي اولا بخطورة هذا المشروع في الاستعمار ثم في السيطرة والهيمنة يعد تواطؤا ذاتيا في تنفيذ وتيسير خطوات هذا المشروع الامبريالي الصهيوني. وإذا كانت الكثير من الكتابات انتبهت الى قوى سياسات دول هذا المشروع الخطير، فان بعده الصهيوني ظل باهتا أحيانا ومخفيا في غالب الاحيان. وهذا البعد الصهيوني غير مرتبط فقط بالدولة العنصرية الاستيطانية والاستعمارية إسرائيل بل والأخطر من ذلك في امتداداته في السياسات الامبريالية، وفي انظمتنا المحلية، و بصورة شاملة في الدولة والمجتمع والثقافة، الشيء الذي يجعلنا نطرح على انفسنا سؤالا مشروعا : الى أي حد أنتجنا وكرسنا اعادة الانتاج هذه للمشروع الامبريالي الصهيوني؟ وبمعنى اخر نقدي صريح الى أي حد نحن صهاينة في تدمير أوطاننا: دولة ومجتمعا وثقافة؟ ألا يدل واقع سوريا الان في نظامها الدموي البشع، وفي القوى المجتمعية الريفية والمدينية، السياسية والمدنية، من رؤساء الشوارع في المخيمات، الى الجمعيات والهيئات والأحزاب السياسية، الى جانب التيارات الارهابية المسلحة، على اننا نسقط بمحض ارادتنا ونسهل تحقق صهيونية ما في المنطقة؟ لذلك لا ينبغي الانتباه الى التوحش البنيوي الداخلي، بل أيضا الى التصهين النظامي الرسمي في الدولة والمجتمع والثقافة؟واقع الوطن، المجتمع، والشعب السوري بكل فئاته ومكوناته المجتمعية، في تشرده ومجازره المروعة، ونزوحه، لجوئه، او طرده وتهجيره بارهاب العنف والقتل والدمار ونشر الخراب بلغة القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة، والتهجير القسري للقرى والبلدات، وافراغها بالكامل، ثم ممارسة طقوس معتقدات صلاة الطرد والابعاد للشعب من أرضه، كل هذا الجحيم الارهابي في قلب حياة الوطن والشعب رأسا على عقب، من العز الى الذل، يجعلني هذا حاضرا بقوة فيها الكثير من المعاناة والعذاب ومختلف اشكال الالم في عمق التجربة الفلسطينية مع الصهيونية والرجعية العربية والامبرياليات العالمية، خاصة وان كولونياليات الموت الغربية والأمريكية والروسية، وعلى ضوء عيون الامم المتحدة وكل المنتظم الدولي، بالإضافة الى القوى الاقليمية العدوة، أو المسماة أصدقاء الشعب السوري، تؤطر سياسيا وعسكريا هذه الوقائع والأحداث واليوميات الرهيبة التي يعيشها الان الشعب السوري في الكثير من التفاصيل التي لم تكتب بعد، والبعيدة عن دائرة اعلام الموت كالذي أنتج في مناطق التطهير العرقي، والشعبي كما حصل في فلسطين، روندا…
ما هذا العود الأبدي كما لو ان عام النكبة يكرر نفسه في التاريخ العربي الإسلامي من لبنان الى سوريا مرورا بالعراق. وفي سوريا، الان تبدو الصورة الصهيونية اكثر دقة ووضوحا، حيث البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في صورتها العامة ، وفي الكثير من التفاصيل تبدو متقاربة الى ابعد الحدود، في ردود الفعل ومختلف اشكال المقاومة بين مختلف القرى و القبائل والعشائر، وفي القوى الاجتماعية الريفية و المهمشة التي تحملت عبء الثورة والقتال، وهي الفئات التي تم في الغالب تحريف ثورتها ارهابيا من طرف تركيا و بلدان الخليج باستغلال تجذر سخطها العارم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ضد العائلة والطائفة السياسية الحاكمة بالحديد والنار، التي اثبتت انها الوريث الشرعي للمشروع الصهيوني في استراتيجيته الارهابية متبنية كل الاساليب الصهيونية في القتل والتنكيل والإرهاب وفي الطرد الجماعي للشعب السوري في الكثير من المناطق. عام النكبة نفسه، التشتت الاجتماعي والسياسي والعسكري بين المدن والقرى، او بين مختلف القرى التي واجهت بشكل منفرد او مستقل المشروع الصهيوني في سياساته وآلته العسكرية على مسمع ومرأى الهيئة العربية العليا وجيش الانقاذ العربي الممثل الرسمي للأنظمة العربية، بالإضافة الى الامم المتحدة، والقوى الامبريالية البريطانية والأمريكية. دون ان ننسى كيف تمت الكثير من الخدع الارهابية في ترحيل الشعب الفلسطيني.
والبشع في هذا كله كيف ساهم جيش الانقاذ في تنظيم نزوح القرويين عن قراهم دون ان يفكر في القتال. واليوم يشارك جميع هؤلاء في الجرائم ضد الإنسانية في سوريا. وبكل وقاحة وتعهر اخلاقي يصنعون مأساة الشعب، وتحت وابل من القذائف والصواريخ والبراميل، ومختلف اشكال الحصار والتجويع القاتل فيما يشبه المجزرة الجماعية، تعقد صفقات واتفاقات وترتيبات بشعارات إنسانية لطرد الشعب من بلده وفك ارتباطه بأرضه، او بتعبير ادق فصله عن امه الأرض والتجربة الفلسطينية مع الارض تعلمنا الكثير، حيث قلق الهجر والانفصال مازال يسري في العروق كالدماء، ويحفر في الاعماق كهوف الغربة والمنفى، والحلم بالعودة الذي كاد ان يورثه جينيا الاباء للأبناء.
الكثير من العذابات والويلات والمعاناة الإنسانية عاشها الشعب الفلسطيني قتلا وتدميرا لحمله بقوة الارهاب على الرحيل، والكثير من الوقائع والأحداث عاشها الشعب في نزوحه بما في ذلك النساء والأطفال، او في رميه على الحدود كبقايا بشرية أحرق ماضيها وتاريخها، في رمشة عين، من العز الى الذل، وتركت على حافة الحدود تواجه مصيرها الجديد..نعم الكثير من الماسي والكوارث الإنسانية لم تكتب، وما وصلنا لا يمثل سوى القليل. وعندما نعود الى هذا القليل المكتوب نتفاجأ بالمضامين الصهيونية، فكرة وأسلوبا وممارسة، للآلة العسكرية لنظام بشار الاسد، فالعقاب الجماعي هو درس كولونيالي بريطاني في تصفية المقاومة الفلسطينية، وهو درس تمثلته الهاغاناه وأضافت عليه مختلف اشكال الارهاب الرمزي والدموي، ويعيد اليوم البعث الممانع انتاجه بهمجية رهيبة ميدانيا واعلاميا. والمفاجئ اكثر حين نكتشف ان اول من استعمل البراميل المتفجرة هي الصهيونية التي كانت تدحرجها في اتجاه القرى لتدميرها. هذا هو الدرس الصهيوني الذي طوره بابتكارية عالية، وإبداع خلاق نظام الاسد في سحق الشعب السوري، وفي حرق البلد. ومنذ عام النكبة كانت صهيونية ما متفاوتة الحدة والشدة والانتشار تسري في الانظمة العربية، وثقلها النفسي والاجتماعي والسياسي والثقافي يرخي سدوله على الشعوب العربية والإسلامية التي تعيش غربة أوطانها هذه الاوطان التي صارت تتخذ قلوب الناس موطنا لها بحرقة قاسية عوض ان يفتح الوطن ذراعيه للمواطن للسكن فيه. ما أصعب ان تعيش لجوءك، أو منفاك في طول وعرض الوطن دون ان تكون قادرا على السكن فيه.
واذا كانت فلسطين قد عاشت في تجربتها تلك ذلك الانفصام بين الجناح السياسي والعسكري، واتضح بالملموس وقتئذ عجز القيادة التقليدية عن وعي المرحلة التاريخية، كما كانت دون مستوى الاستفادة من تجربة النهوض الشعبي وانتفاضه. وهذا ما حدث بالضبط في واقع الثورة السورية حيث كانت كل المعارضات السياسية بعيدة كليا عما يحدث على الأرض ليس فقط على مستوى الفضاء المكاني الميداني، بل والأخطر من ذلك على مستوى الرؤية في الفعل ورد الفعل، وفي القراءة الدقيقة لكل الجدليات المترابطة والمركبة التعقيد و المتضافرة في واقع الثورة السورية محليا وإقليميا وعالميا.
لقد كانت هناك امكانات كثيرة لتعيش سوريا تحولها السلمي المدني والسياسي الديمقراطي الحديث، وعملت الكثير من القوى الحية افرادا وجماعات، مثقفين وفاعلين مدنيين وسياسيين، نوادي وجمعيات وهيئات وأحزابا، على بلورة مشروع التغيير الديمقراطي هذا، بشكل حضاري سلمي، سواء قبل ربيع دمشق أو بعده. لكن لا احد كان واعيا بخطورة الصهيونية الممانعة القابعة في قلب النظام الرسمي، حيث كانت تستنبت جذور العسكرة والإرهاب، ولذلك أجهضت تلك الامكانات المدنية والسياسية السلمية قبل ان تندلع ثورة الشعب السوري التي عبرت عن سلميتها بأروع مما كان. لقد كانت تلك الصهيونية تتمظهر في الشكل التاريخي للعلوية السياسية متخذة الوعي الطائفي اساسا لتشويه حقيقة الصراع السياسي بين الفئات المتحالفة مع العائلة الحاكمة وبين الشعب السوري بكل مكوناته الدينية والمذهبية والاثنية. وفي هذا السياق العدواني المتستر كان النظام يهيئ نفسه لممانعة التحول والتغيير، ولجم اي تقدم نوعي للبلد، من خلال تفكيره وممارسته لنوع من اعادة هيكلة البعد الديمغرافي، بخلق تغييرات ديمغرافية جديدة تناسب تسلطه واستبداده.
والآن بعد الثورة تجلت بشكل واضح ليست فقط عملية التغيير الديمغرافي، بل ايضا التهجير القسري والاقتلاع النهائي كما لو أننا امام مشروع صهيوني من نوع آخر ولكن نحن في الحقيقة ازاء طغيان سياسي له شكل تاريخي طائفي عنصري. وهو في الوقت نفسه يجد امتداده في المشروع الامبريالي الصهيوني. وللاسف هذه المرة جعل من النسيج الاجتماعي المحلي، ومن الملح والطعام، ومن العيش المشترك لقرون خلت أجهزة للقمع والتنكيل والقتل الهمجي، كما لو أننا امام ” النوتريم” و”المانيين” الصهيونية، لكنها الآن بأقنعة العلوية السياسية والعسكرية في فرض التغيير الديمغرافي في حمص وكل أرجائها، وفي الكثير من البلدات الاخرى. وكم هو مؤلم أن تصل صهيونية النظام الى عمق الشعب في شكل حرب اهلية لا ترحم.
وبعد هذا الخراب والتدمير ، والمجازر المروعة، والقتل بمختلف الاسلحة من البر والبحر والسماء، والمجاعات المفتعلة بالحصار، وهي مجاعات تسمى في أدبيات التاريخ الإنساني بمجاعات المذبحة، كممارسة صريحة للجرائم ضد الإنسانية، بعد كل هذا العنف الدموي في التطهير والابادة تتحول ثورة شعب من اجل الحرية والكرامة والعدالة الى مجرد نازح أو لاجئ، وتختزل قضيته امام أنظار العالم الى حرب بالوكالة، لا أفق لها غير تنظيم الخروج الآمن للشعب من بلده. ألا تقبع داخل كل هذا الاقتلاع الوحشي الذي تشارك فيه جميع الاطراف المحلية والإقليمية والدولية صهيونية ما؟