المقدمــة: يعد جورج زيمل من أهم السوسيولوجيين الألمان (Georg Simmel)[1] إلى جانب ماكس فيبر، ونوربرت إلياس، وكارل ماركس، وغيرهم...وقد عرف بالسوسيولوجيا التفاعلية من جهة، وبسوسيولوجيا الأشكال من جهة أخرى. وقد اهتم زيمل بمواضيع اجتماعية مثيرة ولافتة للانتباه، مثل: النقود، والموضة، والمرأة، والطائفة، والمظاهر، والفن، والمدينة، والغريب، والفقراء، والفرد، والمجتمع، والتفاعل، والرابط الاجتماعي، والتنشئة الاجتماعية...ويعد كتابه (فلسفة النقود) الذي نشره سنة 1900م من أهم الكتب السوسيولوجية المتميزة في تاريخ علم الاجتماع الحديث والمعاصر.
وقد أثر يورغ زيمل في مثقفي عصره ومثقفي عصرنا هذا ، أمثال: ماكس فيبر (Max Weber)، وكارل مانهايم (Karl Mannheim)، وألفرد شوتز (Alfred Schütz)، ورايمون آرون (Raymond Aron)، وإرفينغ غوفمان (Erving Goffman)، وهوارد بيكر (Howard Becker)، وأنسليم شتروس (Anselm Strauss)، وإسحق يوسف (Isaac Joseph)، وباتريك واتيير(Patrick Watier)، ورايمون بودون (Raymond Boudon)، وغيوم إرنر(Guillaume Erner)، وجورج لوكاش(Georg Lukacs)، وسيغموند بومان (Zygmunt Bauman)...وأهم تأثير لزيمل هو المساهمة في بلورة مدرسة شيكاغو السوسيولوجية.
ولم يعرف زيمل في فرنسا إلا في سنوات الثمانين من القرن الماضي مع رايمون بودون(Raymond Boudon)، وباتريك واتيير(Patrick Watier)، وآلان دونول (Alain Deneault)، وميشيل مافيسولي (Michel Maffesoli)، وفرنسوا ليجي (François Léger)، وليليان دوروش غورسيل (Lilyane Deroche-Gurcel)...
وقد انتشرت كتاباته بسرعة في الولايات المتحدة الأمريكية " عبر سلسلة من الموالين ذوي صلات بجامعتي شيكاغو وكولومبيا، منهم ألبيون سمول، وروبرت إ.بارك، ولويس ويرث، وإيفيريت هاغس، وروبرت ميرتون، ولويس كوزر..[2]"
ومن أهم مؤلفات جورج زيمل (الاختلاف الاجتماعي) [3]و (فلسفة النقود)[4]، و(السوسيولوجيا والإبستمولوجيا)[5]، و(الفقراء)[6]، و(علم الاجتماع وأشكال التفاعل)[7]، و(السر والمجتمعات السرية)[8]، و(علم الاجتماع وتجربة العالم الاجتماعي)[9]،و(المظاهر)[10]، و(علم الاجتماع الجمالي)[11]، و(الفقير)[12]، و(سيكولوجيا النساء)[13]، و(فلسفة الموضة)[14]، و(فلسفة المغامرة)[15]، و(مشكل علم الاجتماع ونصوص أخرى)[16]، وغيرها من المؤلفات المتميزة...
إذاً، ما التصور النظري السوسيولوجي لدى جورج زيمل؟ وما أهم خصائص منهجه الاجتماعي؟ وما أهم الانتقادات الموجهة إليه؟ هذا ما سوف نتوقف عنده في المطالب التالية:
المطلب الأول: التصــــور النظـــــري
لايمكن فهم أفكار جورج زيمل وتصوراته النظرية والمنهجية إلا بالتركيز على بعض المواضيع المهمة في نسقه المعرفي على الوجه التالي:
الفرع الأول: مفهوم السوسيولوجيا وموضوعها
تدرس السوسيولوجيا عند زيمل الوسائل المستخدمة للعيش المشترك. ويصف لنا زيمل ذلك بدقة في كتابه ( علم الاجتماع/ Soziologie ) الذي صدر سنة 1908م. ومن ثم، فموضوع علم الاجتماع هو دراسة أفعال الأفراد في شكلها التفاعلي أو التواصلي أو التبادلي. ومثال ذلك عندما يحيي شخص زميله في الشارع، يرد عليه الآخر بالتحية بشكل تناوبي. ويعني هذا أن هناك تفاعل متبادل بين الطرفين، ضمن سياق اجتماعي معين.وعنصر التفاعل أو التبادل مهم في فكر زيمل.وبالتالي، تتوقف السوسيولوجيا عند مختلف الروابط والعلاقات الاجتماعية التي تربط الأفراد، ضمن سياق تفاعلي معين. أي: تعنى السوسيولوجيا بدراسة التفاعل الاجتماعي أو التآلف أو التآنس الاجتماعي الذي يتخذ طابعا ديناميكيا. ويعني هذا أيضا ملاحظة أفعال الأفراد المتفاعلة، ووصفها بدقة لمعرفة الدلالات التي تحملها اجتماعيا ، وتأويلها في سياق مجتمعي معين.
وبتعبير آخر، لايدرس علم الاجتماع الفرد في حد ذاته كما عند ماكس فيبر، أو يدرس المجتمع كما عند دوركايم، بل يدرس العلاقة التفاعلية الموجودة بين الفرد والمجتمع، سواء أكانت تلك العلاقة التفاعلية متماسكة أم مبعثرة، إيجابية أم سلبية. بمعنى آخر، يدرس علم الاجتماع ذلك التأثير الذي يمارس الفرد على الآخر، ضمن وضعية اجتماعية معينة. وبالتالي، يحوي هذا التفاعل المضمون والشكل معا. وبهذا، يكون زيمل هو المؤسس الحقيقي للمدرسة التفاعلية التي نشطت كثيرا مع مدرسة شيكاغو الأمريكية.
وعليه، فقد تأثر جورج زيمل كثيرا بفلسفة الفهم والتأويلية الألمانية. وتأثر كذلك بالوضعية كما عند أوغست كونت ودوركايم. ومن ثم، فهو يعرف علم الاجتماع بأنه ذلك العلم الذي يدرس التفاعل بين الأفراد داخل الحياة المجتمعية. أي: دراسة الروابط ومختلف التفاعلات والعلاقات التواصلية الموجودة بين الأفراد ضمن بنية المجتمع، وفهم معنى تلك التفاعلات وتأويلها. وفي هذا، يقول زيمل:" يتبادل الأفراد النظرات، يغارون من بعضهم، يأكلون سوية، يتبادلون الرسائل، يشعرون تجاه بعضهم بالكراهية أو المحبة، يعترفون بالجميل...إلخ، آلاف الأفعال، المؤقتة أو الدائمة، الواعية أو اللاواعية، السطحية السريعة أو الغنية بنتائجها...إلخ، تربطنا الواحد بالآخر، وهي التي ترعى صلابة الحياة المجتمعية ومرونتها وتنوعها ووحدتها وتماسكها.إن التنظيمات المجتمعية الكبرى ، والأنساق المجتمعية الكبرى التي تتضمنها فكرة المجتمع ليست أكثر من أساليب وطرائق ووسائل للحفاظ، في أطر مجتمعية باقية ومستقلة، على الأفعال المباشرة التي تربط الأفراد بعضهم ببعض."[17]
ويلاحظ أن زيمل ينطلق من تعريف ماكس فيبر للسوسيولوجيا، بالتركيز على الفعل السلوكي للأفراد داخل المجتمع، وفهم دلالات الأفعال التواصلية، وإدراك معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. بمعنى أن زيمل ركز ، في كتابه(علم الاجتماع) الذي أصدره سنة 1908م [18]، على الفعل المتبادل أو الأفعال المتبادلة بين مجموعة من الأفراد بشكل تناوبي. ومن هنا، ينبغي على السوسيولوجي أن يلاحظ تلك الروابط والعلاقات التي تكون بين الأفراد ، وخاصة تلك التي تندرج ضمن التفاعل الاجتماعي الحي أو المشاركة المجتمعية.
وبشكل أوضح، " قدم زيمل، في سبيل تحليل هذه العلاقات، تصورا رئيسيا، هو الفعل المتبادل.وببساطة هو يعني بالفعل المتبادل التأثير الذي يمارسه كل فرد على الغير.وهو فعل موجه بمجموعة من الدوافع المختلفة (الغرائز الجنسية، والمصالح العملية، والمعتقد الديني، ومتطلبات النجاة والعدوان، والمتعة في اللعب، والعمل...). وإن والكلية- المتحركة دوما- لهذه الأفعال هي التي تساهم في توحيد كل الأفراد في مجتمع بمجمله.
لكن موضوع تحليل زيمل ليس الفرد ، وليس المجتمع بماهما عليه، كل اهتمامه يتركز على التفاعل الخلاق بين هذين القطبين الطرفيين.إن إنتاج المجتمع، بهذا المعنى، هو المنبت المؤسس للرباط الاجتماعي. وعلى العكس من دوركايم، ينحاز زيمل إلى صيرورة المجتمع، وليس إلى الضغط الذي يمارسه هذا المجتمع.ولهذا السبب سيتكلم بأريحية عن التنشئة الاجتماعية أكثر من حديثه عن المجتمع."[19]
وعليه، فعلم الاجتماع عند جورج زيمل هو الذي يدرس التفاعل الاجتماعي المتبادل بين الأفراد، داخل سياق مجتمعي معين. ويعني هذا أن زيمل يوفق بين تيارين : تيار فيبر الذي يعنى بالفرد، وتيار دوركايم الذي يهتم بالمجتمع. ومن ثم، فقد ركز زيمل على العلاقة التفاعلية الموجودة بين الفرد والمجتمع، تلك العلاقة التي تتخذ مضمونا وشكلا، وتنتج عنها تأثيرات متبادلة بين الأفراد، سواء أكانت إيجابية أم سلبية.
الأربعاء مارس 23, 2016 9:07 am من طرف نابغة