*كاتب وروائي أردنيأستعيدُ اليوم مقولة جورج طرابيشي "1939-2016": "ثقافتنا هي انغلاق على مفاهيم من عصور سابقة، نحن نريد اليوم الإجابة عن أسئلة الأبناء، بأجوبة الأجداد". ولعل هذه الجملة المحورية، تؤشر على مشروعه الفكري والنقدي الغزير والمتجدد، والذي وجهه طرابيشي طوال حياته، للاشتغال على العقل النقدي بصفته ملاذاً لكل من تسول له نفسه الانخراط في الحياة والمعرفة، وفي مواجهة معالجة زمنية آسنة ولا معرفية تعمل على إلحاق إنسان اليوم بالماضي، وتأطيره ضمن الأيديولوجيات، من خلال سلب عقله الراهن، لصالح أنماط تفكير ماضوية.
طرابيشي، الذي تصدى في معظم مؤلفاته للأيديولوجيا، إذ إن أعماله تشي للقارئ والباحث بأن كل تلك المسميات: الديموقراطية، اليسارية، الفاشية، الدينية، القومية، ..إلخ. هذه كلها، المنتهية بتاء مربوطة تشترك فيها جميعاً، وتشترك كذلك بتكوينها الآتي من تحويل الأفكار إلى أيدولوجيات، تعد رفاهية سطحية، وطريقاً سهلة لا تؤدي إلى شيء في المسير تجاه الحضارة والعقل "العربيين"، طالما أن هنالك عقلية تحرم النقد في الأساس، وتطرده من مكامن العقل، ولا تتيح له فرصة للتمظهر في الفكر والتطبيق.
ومن هنا، ظل مفكرنا، الذي تصادف اليوم ذكرى وفاته، في حركة دائمة، وظل يقف خلف العربة، يدفعها في طريقها، دون أن يهلك أو يتوقف، فالتنوير لاينتهي بتاء مربوطة، ولا يَحصُرُ ولا يُحْصَرْ. فالعقل النقدي الذي ظل من أهم مقولات مشروعه الفكري، دفعه لسعي متواصل للبحث عن مركزية الإنسان والإنسان العربي بشكل خاص، في ظل موروث ديني وثقافي لا يرضى بكل صلادته إلا أن يكون المركز، فنَقد نقْد العقل العربي، لمحمد عابد الجابري، وذهب إلى أبعد من مقولة الجابري الفكرية: "العقل العربي عقل فقه". وكرس ما يربو على ربع قرن شهد عدة مؤلفات، رد فيها على مشروع الجابري حول الموروث العربي الإسلامي، فكرياً ودينياً. ولعل هذا من الجرأة بمكان، حيث إن طرابيشي لقي من النقد الكثير، لأنه وعلى حساب مشروعه الخاص كما قيل، خاض سجالاً فكرياً طويلاً مع الجابري، إلا أن مشروعه ككل، يشير بوضوح إلى حفرياته المعرفية التأسيسية، والتي رغب طرابيشي ربما، ببنائها على أنقاض مشروع الجابري.
الجانب الآخر، الجدير بالانتباه، هو اعتبار طرابيشي منتمياً أو وفياً إلى موضوعة "الخصوصية الدينية والثقافية العربية" واشتغاله الأساسي على التحريك والتفكيك لوظائف هذه الخصوصيات في المجتمع والواقع المعاصرين باعتبار الإسلام والتراث العربي، عاملين أساسيين في تحريك العالم العربي المعاصر. وربما يجدر القول هنا، إن هذا الانتماء ربما يكون ضرورياً، على اعتبار أن الجدل المعرفي الناقد والمستمر، لم يأخذ دوره بعمق في مواجهة سلطة النص الأحادية والمتعالية على واقع الإنسان العربي لزمن طويل. ولم يأخذ نصيبه من المواجهة مع الواقع والعلاقات السلطوية والاجتماعية السائدة. كما تجدر الإشارة إلى أن التنوير وقيمه التي تعلي من شأن الإنسان، لا يمكن أن يحضر دون مواجهة معرفية وفلسفية كبرى، تحرك الزمن المتوقف، وتنزع عنه قدسيته الإقصائية.
وربما يشكل طرابيشي واحداً من أولئك الحاملين لقنديل المعرفة، على أن القنديل شعلة نور، ومازال يحمله، ويجوب به في مساحات مظلمة.
الجمعة أبريل 07, 2017 2:18 pm من طرف Admin