جورج طرابيشي: أسئلة المقدس وعلاقتها بالتاريخ
1
كنا أغبياء وجبناء وكانوا أذكياء وجبابرة. تنازلنا عن حقوقنا طواعية وكانوا أذكياء
في أن يضعوا أيديهم على أي شيء ليس له مالك، وهكذا أصبحنا في وضع غير متكافئ، ليس
من حيث الملكية، وإنما من حيث معرفة ما لنا وما لهم، والجهل هو دائمًا الوجه الآخر
للعبودية، ولذلك انتهينا إلى الوضع الذي وصلنا إليه!
عبد الرحمن منيف
وأنت
تقرأ كتاب الأستاذ جورج طرابيشي من إسلام القران إلى
إسلام الحديث تضطر منذ الصفحات الأولى إلى الخروج عن مألوف القراءة التي
تعودتها، سواء كنت من المعجبين بكتب المؤلف أو لا، فأنت ملزم بخوض تحدي المنازلة
حتى النهاية، فالاختيار صار صعبًا كما يقولون: ليس الخروج من الحمام كالدخول إليه،
مع الصفحات تتبين بأن المعركة ليست سهلة، لكنك تدرك في قرارة نفسك أن لا سبيل أمامك
إلا أن تشمر على ساعدك لتنازل ذاتك، وليس بإمكانك أن تفوز بالضربة القاضية. لأن
معركة الذات هذه تخضع لجدلية المد والجزر والنهوض والسقوط، أو بتعبير أدق تلزمك
بالفوز عن طريق احتساب النقط، وكلما تقدمت في فصول جولات الكتاب من صفحة لأخرى إلا
وتشعر بحالة من الشك والتساؤل الممزوج بذهول التأمل في حصيلة الاكتشافات الجديدة.
نعم أنت في وضعية تشبه رحالة الاكتشافات العظيمة، أي أنك مقبل على تعرف قارة جديدة
طمستها شفرة الوراثة النفسية والثقافية والدينية. فالسؤال أو الأسئلة التي كانت
مغيبة في النظرة والتفكير والعلاقة مع الاشياء والناس والعالم، بسبب نمط الحياة
الوجودية التي تربيت عليها بطريقة التلقين وحشو الذهن باليقين المطلق النهائي
والكامل المكتمل، كما أريد لك أن تعتقد من طرف الذين تولوا نقله إليك أبًا عن جد،
وكان للجهل والتدليس والخداع ومصلحة سياسة القهر دور خطير في إشاعته وانتشاره
وتكريسه مطلقا حقا أريد به باطل. تنفجر تلك الأسئلة المعقدة والمترابطة والمركبة
بتمفصل تضافري في أعماقك، وأنت تنظر بذعر مفاجأة الصدمة التي لم تتوقعها تجاه كيانك
الملفوف كلعبة الدمى الروسية. وتصرخ بقوة في دواخلك آه..! كم كنت غارقا في هذا
الوحل الديني الثقافي المتراكم والذي حال بيني وبين ذاتي الحقيقية؟ تستغرب أنه لم
تتح لك منعطفات الحياة أن تتخلص من جلدك القديم، وفي كل محطة من مسار حياتك كنت
تراكم جلدا فوق آخر، كما لو كنت تتحنط في حفلة تراث الموتى هذه التي استوعبت كيانك
دون أن تترك كوة لشعاع أمل الحياة عوض هذا العود للموات الأبدي. وتسأل نفسك وأنت
غارق في قراءة الكتاب – من إسلام القران إلى إسلام الحديث – "وهل أقوى على
ابتلاع هذا الكم الهائل ليس من الأوراق وإنما من العذاب وحدي؟"[1]
عندها تقفز إلى ذهنك تلقائيًا الكثير من المفاهيم والعبارات مثل الجهل المقدس٬
وتحاول تذكر أين سمعت أو قرأت ذلك دون أن تتوقف لتفكيك العبارة٬ أو تتساءل كيف فاتك ذلك دون أن تحكم
عقلك أو بالأحرى شيئًا أقرب إلى ما يسمى العقل النقدي٬ فتقول في نفسك بنوع من الاحتجاج
والمحاسبة الساخرة في حق نفسك هل هي الزلة الوحيدة أم أن سيف المس بالمعتقدات
والتشكيك في الإيمان لحشرك في خانة الزندقة والكفر والردة كان مسلطًا في النظرة
والتفكير وأسلوب الحياة؟ أي كنت خاضعًا ببراعة لعملية اجتياف ممنهجة إلى حد الرقابة
الذاتية على نفسك، مما جعلك تغرق من حيث لا تدري في المستنقع الآسن للجهل المقدس.
لقد كنت خاضعًا لعملية التلاعب بالعقول والتحكم بالإدراك. تكتشف أن مصادرك ومرجعيات
هويتك وانتمائك هي وضعية بشرية تحايل فيها العقل البشري ضد نفسه في عملية وأد ذاتي
لكل ما هو جميل ومميز في الإنسان، وعلى رأس ذلك امتيازه الوجودي وفرادته الإحيائية:
العقل.
ولكن العقل – ومكره ليس بأهون من مكر التاريخ – عرف كيف يشق طريقه ولو ملتويًا، إلى
ممارسة الفعالية الوحيدة المتبقية له بعد كف يده: فمادام ليس له حجة إزاء حجة
السنة، فليمارس حجيته من داخل السنة نفسها بانتحال الأحاديث وتلفيقها محتميًا خلف
درع آلية الإسناد السهلة المداورة. وعلى هذا النحو يمكن القول إن العقل بقي يمارس
وظيفته كمشرع حتى بعدما أنكرت عليه كل فعالية تشريعية. فمن خلال تسييد السنة ورهن
صحة الأحاديث بسلاسل إسنادها انفسح له المجال ليطلق يده الخفية في تصنيع المدونة
الحديثية وتضخيمها وليمارس بالتالي فعالية لا محدودة وإن متنكرة في التشريع للمشرع
له الذي هو الرسول في الإسلام القرآني كما للشارع الذي لا يعود إلى أحد سواه حق
التشريع والذي هو الله في ذلك الإسلام القرآني عينه[2].
هكذا تتزلزل الأرضية الصلبة التي كنت واثقًا من حقيقتها
الوثوقية في ذروتها العليا المقدسة، فتعود أدراجك عبر ذاكرتك البعيدة المدى لترى
هول المأساة التي تشربتها تحت سطوة ورهبة رجال الدين بطريقة الحكي الشعبي الشفوي
والقصص الديني لما تعتبره تراثك وهويتك الفكرية والثقافية والدينية، فتكتشف كم كنت
ضحية للأساطير القديمة والمستحدثة. إنك الآن في محراب الشك الديكارتي أي على برزخ
الفناء أو الولادة من جديد، قوة النور قد تلتهم ذاتك وهي تكتسح البداهات المضللة
والمظلمة والمترسبة في أعماقك. فتتعرف طريقك الذي لا يزيغ عن ضرورة المرور بكتاب
المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، لأنه يمثل مربط الفرس كما يقال عادة.
تجد نفسك أمام تراث هائل من المعجزات الخارقة للعقل والواقع الحي، فتتساءل عن رداءة
الإبداع الأسطوري الغرائبي الذي استطاع أن يسخر من العقل إلى هذه الدرجة، وعن
السيطرة والهيمنة للخرافي الغيبي وهو يتشكل كنص مكون لذهنية ولشخصية المسلم. وتتصفح
الوجه المظلم والعفن والمتخلف لما يسمونه الهوية الإسلامية، المنمق بعبارات الدين
الحق ونقاء العقيدة وخير أمة... وتشاطر المؤلف استحضاره هذا الكم الهائل والمفزع من
المعجزات من بطون الكتب العقيمة للمصادر العربية الإسلامية، ولا ترى في ذلك إرهاقًا
نفسيًا للقارئ بل ضرورته من منطق الكتابة التي يتطلبها الموضوع، إنها أشبه بالجلسات
النفسية التي تساعدك على تحرير كل الترسبات العميقة والمنتشرة في ثنايا ذاتك مع
تطاول زمنك في الزمان العام الاجتماعي والثقافي الذي احتضن وجودك. إن أي اختزال أو
اقتضاب أو بتر فيما أورده المؤلف من معجزات، وإن أي قراءة انتقائية للجزء دون قراءة
الكل لن يؤدي إلى عملية تحرير كامل للمكبوت والمندس في ذاكرة اللاوعي الفردي
والجمعي، كلاوعي ثقافي اجتماعي مقنع بالعفوية والتلقائية والبداهة الطبيعية، في حين
أن المؤلف يعري ويفضح بفكر نقدي حقيقته كشكل تاريخي اجتماعي ثقافي لإنتاج المخيال
الديني.
وأنت تقرأ كتاب سبات العقل تكتشف جزءًا من ذاتك كان مطمورًا، لأنك كنت تجهل
جذوره وينابيع زقومه الآسن، في وقت كنت تعتقد بسمو دينك ونقاء عقيدتك وكمال تراثك
وفخر تاريخك وعظمة حضارتك. وهكذا لم تكن مستعدًا ولا مهيأ تحت وطأة هذاء العظمة
لتقبل أي خدش أو شك أو نقد يمس معطيات وجودك، ليس التراثي والديني فحسب بل أيضًا كل
ما له شأن أو علاقة بحياتك، أي كانت هالة ومسحة بركة التقديس تطال كل ذرة في عالمك
المعلوم/المجهول، بمعنى أن الجهل كان يلعب لعبته الوقحة في المزيد من إغراقك في
مستنقعات المعجزات السابحة في سماء خيال الهلوسة المرضي. وأنت لا تكف عن ممارسة
هوامات طهارة النقاء وصلاة الهروب من الواقع التاريخي الحي. ربما الآن صرت تفهم مدى
تحكم عقل المعجزات في التدين الشعبي، في الزواج، البيع والشراء، الإنجاب، الحصول
على وظيفة، النجاح في الامتحان، الحب والسيطرة على الزوج... فالمسلم في مثل هذه
الوضعيات لا تربطه أية علاقة مع إله القرآن الذي يعبده في طقوسه وشعائره بانشطار في
الشخصية أقرب إلى النفاق السلبي. لذلك يستنجد بعقل المعجزات ويتوجه إلى الأضرحة،
الكهوف القديمة، ينابيع المياه... هناك حيث تسكن القداسة والقدرة الخارقة لعقل
المعجزات الذي يقف بالمرصاد في وجه شك وردة مريديه، مما يجعلهم غير قادرين على
القسم باسمه، في وقت لا يجدون أدنى صعوبة أو حرجًا في أن يقسموا بالله صباحًا
ومساءً في مواقف كاذبة فيها الكثير من الغش والتدليس والتحايل.
غالبًا ما تكون قراءتك لسبات العقل أو لكتاب من إسلام القران إلى إسلام
الحديث متقطعة، حيث تجد نفسك مجبرًا على التوقف، لأن الكتابين يفتحان مسارب
عديدة تصلك بالواقع الحي وأنت تقبض على ما تقرأ حيًا ملموسًا، وكأن الأمر يتعلق
بالتحليل الملموس للواقع الملموس. مثلا تتوقف أثناء القراءة حيث يحيلك النص لترى
بأم عينك كيف يمارس إسلام الحديث مسنودًا بعقل المعجزات دوره في انتخابات مصر، حيث
يصوت النبي لصالح الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل عبر تقنية المنامات التدليسية. إننا
أمام كتابين يمثلان ما قصده رولان بارط في لذة النص
أن أكون مع من أحب وأفكر في ذات الوقت في شيء آخر هكذا أتوصل إلى أحسن الأفكار
وأخترع بصورة أفضل ما هو ضروري لعملي. كذلك شأن النص يبعث في لذة أحسن إذا ما تمكن
من أن يجعلني أنصت إليه بكيفية غير مباشرة إذا ما دفعني وأنا أقرؤه إلى أن أرفع
رأسي عاليًا وأن أسمع شيئًا آخر. فلست بالضرورة مأسورًا بنص اللذة قد يكون فعله
خفيفًا معقدًا دقيقًا شاردًا على وجه التقريب كحركة رأس طائر لا يسمع شيئًا مما
ننصت إليه ينصت إلى ما لا نسمعه[3].
نحن لم نبتعد عن مضمون الكتاب بل إننا بفضله نرى الدروب الملتوية والغامضة التي
سلكها عقل المعجزات إلى حد التحكم في صياغة العقلية العربية والإسلامية، وجعلها
غيبية أسطورية خرافية حتى النخاع. من هنا خطورتها في هضم الجديد وفق آليات التقليد
المتوارث. هناك بنية أسطورية تقوم بعملية البنينة في التكون والتطور. إن علاقة
المسلم بالواقع ليست مباشرة والتوسط هنا ليس فكريًا عقليًا، بل هو توسط أسطوري غيبي
خرافي بمسحة المخيال الديني، وجذور ذلك في النص الديني الذي أيد ورسخ ودعم عقل
المعجزات الكامن في القصص الديني، حول أنبياء عرفوا بالمعجز الخارق والغريب المدهش
والساحر الخلاب. فالواقع التاريخي الذي ولد وتكون وتطور فيه عقل المعجزات هو واقع
مترع بالأسطوري والغيبي الخرافي التوحيدي والوثني، كأنماط ثقافية اجتماعية متعددة
ومتنوعة، متعايشة كتجاور تركيبي لا يتوخى أحد تياراتها السيطرة والهيمنة، إلا أن
واقع الفتوحات في بنيته الاقتصادية الاجتماعية والثقافية أوجد نمطًا ماديًا ريعيًا،
كمحدد أساس للكل الاجتماعي وهو المتمثل في طبيعة الاقتصاد الريعي الذي يطابقه إلى
حد ما عقل المعجزات، المختلف كليًا عن عقل الإنتاج الذي يتطلب العمل والجهد وطول
النفس، في البناء المادي الاقتصادي الاجتماعي، وفي البناء الثقافي الأيديولوجي. ففي
واقع تسوده ثقافة الرزق، الغنيمة، الرق والسبي... وتسيره مشيئة الله وقدرته يستحيل
أن يسود الجهد الإنساني المسؤول والحر، والعقل الإبداعي النقدي المستقل. لذلك تلاشى
ذلك التعايش المتجاور بين الأنماط الثقافية الاعتقادية، فساد عقل سبات العقل لهذا
نرى المسلم في حياته أميل إلى الحلول السحرية الآنية، والتفكير التواكلي الغيبي
الأسطوري، المنسجم أصلاً مع البنية الاجتماعية الريعية المتخلفة.
نفهم من هذا كله أن مشكلة العقل العربي الإسلامي لم تكن بسبب الحلقة المفقودة في
الإعجاز القرآني كنص مقدس، ولا في نبيٍّ بلا معجزات. إن الأمر لا يتعلق بثغرة كشفها
إسلام الفتوحات المترابط بالعامل المادي: الغنيمة. إنه لم يكن أصلاً مهتمًا بإقناع
الآخرين بالدين الجديد لأن مفهوم الجزية كآلية للنهب ترك أيضًا هوامش للأديان
التوحيدية والوثنية. نقصد أن الأمر يتعلق بعملية احتواء للمعتقدات الأخرى بما فيها
الوثنية، أي أسلمة المعتقدات الأخرى. نعني بذلك أن النص الديني كان منذ نشأته
مسكونًا باحتواء واستيعاب جميع أشكال المعتقدات الأخرى، التوحيدية والوثنية. وهو في
نصه كقرآن لدليل على هذه المرحلية في النشأة والتكون والتطور، من الدعوة والجدل
والحوار بالتي هي أحسن إلى السيطرة والهيمنة. وفي كل منعطف تاريخي كانت تبرر
الصراعات الاجتماعية المادية باسم الأشكال الرمزية المقدسة، بمعنى أن الشرعية كانت
تجد أساسها في الشرع، أي في احتكار المقدس وإنتاج الفعل المجتمعي من خلال استبداد
التحدث باسم السماء. إن شكلاً ما من الوحي كان ضروريًا لأن الوقائع المجتمعية في
صيرورتها وطبيعة تطورها البشري هي في أمس الحاجة إلى إعادة إنتاج الوحي، من خلال
توسط مقدس ما، فكان ذلك أساس صراع بين التصور العقلاني المعتزلي والفلسفي وبين
التصور الصنمي للنص مستعينًا بالتسييج الإلهي والنبوي للقول البشري، المتمثل في
معركة تسييد السنة، لذلك زجَّ بالرسول في حرب عنف المقدس من أجل السيطرة والهيمنة.
لأن معركة النص الأول القرآن التي عرفت صراعًا متعددة الجوانب في الكتابة والجمع
والقراءات، وما قيل عن الإضافة والتعديل في المصادر العربية الإسلامية، هذه المعركة
انتهت بحرق المصاحف كنفي للتعدد والاختلاف بدواعي توحيدية في السياسة الدينية. كما
قلنا سابقًا نتيجة الضرورة الموضوعية للواقع المتغير والمختلف في زمن الفتوحات وما
بعدها كانت هناك أسباب موضوعية إلى توسط مرجعي، يغرفه منه المسلم شرعه لكسب شرعيته.
وإذا كان إنتاج المعجزات جاء في هذا السياق، فإن هذا التوجه التقديسي هو ما ستبلوره
المدونة الحديثية بشكل بارز، وهذا ما اشتغل عليه الأستاذ طرابيشي في كتابه من
إسلام القران إلى إسلام الحديث.
بما أن النص القرآني كان حاسمًا في تكسيره للجسور بين السماء
والأرض، بإعلانه نهاية الرسالات الدينية، باعتباره الرسول خاتم الأنبياء، فإن
صيرورة المقدس كانت تفرض، بحكم طبيعة الاجتماع الإنساني المحكوم بالتحول والتغير
والتطور، أن يتم التفكير في إنتاج المقدس كشكل تاريخي يوافق التحولات التي عرفها
المجتمع العربي الإسلامي، في صراعاته الاجتماعية والسياسية، لذلك اتجهت أنظار أطراف
التخلف والصنمية الذهنية المتصلبة إلى استغلال المصدر البكر "الحديث" الذي يسمح
بالتأسيس الديني الإلهي للطموحات والأفكار والمواقف السياسية الاجتماعية. ولكي تضمن
أطراف أهل الحديث لنفسها الغلبة والسيطرة، كان لا بدَّ أن تتلبس قناع القداسة من
خلال التسييج الإلهي للحديث، ولجميع ما ادعت أنه من سنن الرسول "قد بين الله لنا أن
كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده"[4]
بهذه الاستراتيجية للهيمنة تم التأسيس للمشاركة البشرية في القول الإلهي، بمعنى أن
صناعة الحديث وضعت الأرضية الصلبة "المقدس" لتحقق الأهداف السياسية الاجتماعية.
وحتى يتأتى لها ذلك شرعت في قرأنة الحديث كوحي غير متلو بتعبير الشافعي. "فبعد
التسييج الإلهي للمصحف يتصدى ابن حزم لتسييج مماثل للحديث بنقل نصابه الماهوي من
كلام للرسول إلى كلام الله"[5].
وهذا ما أسس له الإمام الأوزاعي عندما قال "إن السنة جاءت قاضية على الكتاب، ولم
يجئ الكتاب قاضيًا على السنة"[6].
وقد سار على هديه في التأسيس لحق المشاركة في القول النبوي والإلهي الشافعي الذي
اعتبر الحديث قرآنًا غير متلو، ولذلك نشطت صناعة الحديث لتقوية هذا الاتجاه، حيث
"ينطلق الخطيب نفس منطلق الشافعي في قرأنة السنة «أخبرني احمد بن محمد الأزهر قال
سمعت ابن موسى يقول سمعت المعتمر بن سليمان يقول سمعت أبي يقول "أحاديث رسول الله
(ص) كالتنزيل». «قال ابن الأزهر سمعت أبا موسى يقول سنن رسول الله (ص) عندنا مثل
كلام الله عز وجل»[7].
ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ من التشبيه لسنن الرسول بالقرآن بل تبلورت أحاديث
تعطي الأفضلية لأهل الحديث "مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة"[8]
أو "فقيه أفضل عند الله من ألف عابد وفي رواية مرفوعة إلى عمر بن الخطاب « قال رسول
الله (ص) إن الفقيه أشد على الشيطان من ألف ورع وألف مجتهد وألف متعبد»[9].
واستغلت في هذا السياق تقنية المنامات لتقوية هذا التيار وفي
ذلك "يروي الخطيب على لسان أبي عبد الله المروزي أن «رجلاً رأى يزيد بن هارون بعد
موته في المنام فقال له ما فعل الله بك قال أباحني الجنة فقال بالقرآن قال لا قال
فبماذا قال بالحديث»[10].
وعندما انطلقت صناعة الحديث كفعل بشري، كان ضروريًا وفق منطق الاجتماع الإنساني
الذي يؤسسه مبدأ التناقض أن تأتي مرويات أهل الحديث متناقضة إلى درجة يصعب الجمع
بين حديث وآخر، مما شكل تحديًا خطيرًا لجماعة أهل الحديث "إن الاختلاف الكبير بل
التناقض في مرويات أهل الحديث من الأحاديث ينهض دليلاً – ضمنيًا على الأقل – على
أنها من عند البشر لا من عند الله"[11].
وللتحايل على هذا الانسداد في متاهتهم تمت الاستعانة بآليات مختلفة كالناسخ
والمنسوخ وتقنية الترجيح والتخفيف والتشديد... لها غرض واحد هو نفي التناقض الذي هو
في نظرهم ليس أكثر من دليل على قصور العقل البشري في فهم حكمة الله في ذلك، "إذا
تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن من لا يعلم ففرض على كل مسلم
استعمال كل ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض ولا حديث أوجب من حديث
آخر مثله ولا أية أولى بالطاعة لها من أية أخرى مثلها وكل من عند الله"[12].
واستعملت حيلة التسييج الإلهي للحديث بناء على النص القرآني - (وما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى) (أن اتبع إلا ما يوحى إلي) - وذلك لتجاوز التناقض. والغرض
المسكوت عنه في كل هذا هو تبرير المشاركة البشرية في صناعة القول الإلهي، مما لا
يفتح أي مجال للشك والنقد والاعتراض والتساؤل. وهكذا وصلت الجرأة بأهل الحديث
والسنة أن ينسبوا أقوالهم إلى الرسول، ومن ثم إلى الله، من خلال أسطرة الرجال
والرفع من قيمتهم إلى مستوى القداسة والعصمة "إن كل ما يقوله ثقة من الرجال الثقات
على لسان الرسول، فإنما يكون قد قاله الله بذاته على لسان رسوله"[13].
وهم مستعدون للقبول حتى بالزيادة في الحديث "الزيادة مقبولة إذا كان راويها عدلاً
حافظًا ومتقنًا ضابطًا"[14].
ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يسمحون حتى بالتدليس، "إذا كان التدليس تدليسًا عن
ثقة... قبل منه"[15].
إن فهمنا لما حدث في الماضي يجعلنا ندرك اليوم هذا الترابط
بين السلفية والإخوان وبين الإسلام، بمعنى أن خطابهم يغرف من هذه المرجعية التي
تسترت وراء التسييج الإلهي، وكأنها تقول بصريح العبارة إن خطابها هو من عند الله.
بهذه الممارسة العميقة الجذور يتم السطو على الرأسمال الثقافي الديني للشعوب في نوع
من التملك الاحتكاري للقداسة، فيما يشبه الكهنوت المسيحي. بهذا التوسيع للرؤية بناء
على المعرفة النقدية التاريخية التي يتيحها لنا كتاب طرابيشي نفهم اليوم رؤوس رجال
الدين الملصقة بجثة الحديث الضخمة. إن عصمتهم تنطلق من هذا الإرث المختلف كليًا عن
إسلام الرسالة والذي أنتج مقدسه بآليات فيها الكثير من الكذب والنفاق والتدليس
والاختلاف والتناقض في وصف الرواة في وقت واحد بالثقات والدجاجلة والتدليس والعصمة،
"فممارسة التناقض امتياز إلهي"[16].
متحايلين على الناس من خلال التسييج الإلهي، "وكل عدل روى خبرًا أن رسول الله قاله
في الدين أو فعله عليه السلام فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب – مقطوع بذلك عند
الله تعالى – ومن جواز الوهم عليه"[17].
وهم في الحقيقة لا يهدفون إلى تأكيد عصمة الرواة إلا للتستر وراء القداسة لإخفاء
حقيقة صناعتهم البشرية للمقدس، وللتغطية على ما قد يعتري أقوالهم من كذب صريح وضعف
وترهل واختلاف، وكل ما يمكن أن يفضح ممارساتهم الدنيوية الدنيئة التي تجر مجتمعاتهم
إلى العنف والجمود والتخلف، ويقلل من هيبتهم الدينية ويضعف من سلطتهم السياسية قبل
الدينية. لذلك اتخذوا من الرسول والله مرجعية سياجية لتأسيس سلطتهم التشريعية التي
يصعب مناقشتها أو رفضها، "فلأنهم كانوا ينسبون اختلافاتهم إلى الرسول ومن ثم إلى
الله نفسه فقد حبوا أنفسهم بسلطة تشريعية لا تعلوها ولا يجوز أن تعلوها سلطة، وذلك
بقدر ما نسبوها إلى الرسول وبالتالي إلى الله نفسه . فهم – أو هكذا نصبوا أنفسهم –
شركاء في القول النبوي ومن ثم في القول الإلهي في شريعة توحيدية تميز نفسها عن
غيرها من شرائع التوحيد بكون الله لا يحضر فيها إلا بكلامه[18].
إذا كانت القرون الأولى عرفت صراعًا عنيفًا في احتكار النص
المقدس، وهي المعركة التي عرفت نهايتها بحرق المصاحف، فإن مرحلة الفتوحات ستعرف
صراعًا مختلفًا يتجاوز ويقضي تدريجيًا على تعدد إسلام الرسالة والقرآن. لأن هذا
الأخير لم يعد كنص مغلق نهائي يسمح بأية إضافات أو تعديلات، لاستغلاله في المعارك
السياسية الاجتماعية. لذلك كما قلنا سابقًا كان ضروريًا من إعادة إنتاج أو بلورة
مقدس يسمح بكسب المعارك المجتمعية، لهذا ستعرف المعركة بأنها معركة إحراق الطوائف
والمذاهب، سواء من خارج الإسلام "والحال أن الأيديولوجيا الحديثية – ونقول ذلك
باختصار شديد- انحرفت بموقع الحوار الذي كان لأهل الكتاب في الإسلام القرآني إلى
موقع العداء الذي انزلوا فيه من الأحاديث التي وضعت على لسان النبي ونموذجها الحديث
التالي «لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديًا أو نصرانيًا»[19]،
أو بالنسبة للفرق الأخرى من داخل الإسلام "التي كفرت وأخرجت من الإسلام والتي عدد
منها عبد القادر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية
منهم سبع عشرة فرقة في عدادها الفرقة المدموغة باسم الباطنية ومنها الفاطمية
بفرعيها الاسماعيلي والدرزي التي حكم البغدادي بأنها "انتسبت إلى الإسلام وليست
منه"[20].
ونتيجة هذه الرغبة في السيطرة والهيمنة انطلقت آلية صناعة الحديث بجنون ضد العقل
المنطقي في إباحة للمسلم أن يتقبل جميع التناقضات بنوع من الانشطار في الشخصية،
وبخنوع وخضوع للمشيئة الإلهية/البشرية، ولما هو مسطر في المكتوب والقدر
المحسوم/سياسيًا واجتماعيًا، "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول
(ص) والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة وترك المراء والجدال والخصومات في
الدين، والسنة عندنا أثار رسول الله (ص) والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن. وليس
في السنة قياس ولا تضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول والأهواء إنما هو الإتباع
وترك الهوى. ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة ولم يقبلها ويؤمن لها لم يكن
من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه... من أحاديث الرؤية
كلها وإن نبت عن الأسماع واستوحش منها المستمع، فإنما عليه الإيمان بها وأن لا
يردَّ منها حرفًا واحدًا... فإننا نسلم لها وإن لم نعلم تفسيرها"[21].
ومن هذه المرجعية تناقلت المجتمعات العربية والإسلامية بناءها الذاتي كشخصية مسلمة
وتكوينها الذهني الثقافي الفكري والديني. "ماذا تفعل لو تعاملت مع شخص فوجدته
كاذبًا، كلما وعد لا ينفذ وعده وكلما قال شيئًا تبين أن الحقيقة عكس ما يقوله؟
النتيجة الطبيعية أن تفقد الثقة تمامًا في هذا الشخص الكاذب، ولكن إذا كان هذا
الكاذب يرتدى الجلباب الأبيض ويطلق لحيته وعلامة الصلاة ظاهرة على جبينه ويقدم نفسه
على أنه داعية إسلامي يسعى لإقامة شرع الله... عندئذ سيتعقد الأمر. المفترض في هذه
الحالة أن تكون جريمة المتحدث باسم الدين مضاعفة، مرة لأنه كذب ومرة لأنه أعطى
نموذجًا سيئًا للمسلم. على أن ما يحدث في مصر عكس ذلك، فالمتحدثون باسم الإسلام
مهما كذبوا وخانوا العهود ومهما تورطوا في فضائح سيجدون دائمًا أناسًا يدافعون عنهم
ويلتمسون لهم الأعذار. هؤلاء المدافعون ليسوا أغبياء ولا حمقى إنما هم يعتبرون
المتحدثين باسم الإسلام جزءًا من الإسلام، وبالتالي فإن الحديث عن أخطائهم أو
أكاذيبهم يعتبر هجومًا على الإسلام لا يسمحون به أبدًا. الأخوان المسلمون خالفوا كل
العهود. تعهدوا بأن ينافسوا على ربع مقاعد مجلس الشعب ثم نافسوا على المقاعد
جميعًا، وأثناء الانتخابات ارتكبوا كل أنواع المخالفات الانتخابية بدءًا من شراء
الأصوات إلى تشويه المنافسين لهم بالإشاعات المغرضة والطعن في دينهم. وقد تعهدوا
بأنهم سيكتبون الدستور بمشاركة كل القوى السياسية الأخرى ثم نقضوا عهدهم واستأثروا
وحدهم بلجنة كتابة الدستور. وقد تعهدوا مرارًا وتكرارًا بأنهم لن يتقدموا بمرشح
رئاسي وكالعادة نقضوا عهدهم وتقدموا بمرشحهم خيرت الشاطر.
كثيرون من مشايخ السلفية، في تسجيلات مصوَّرة، وقفوا ضد الثورة ودعوا المتظاهرين
إلى العودة إلى منازلهم وحرموا الخروج على حسني مبارك ومنهم من حرَّم الديمقراطية
والانتخابات وتداول السلطة. لكنهم انقلبوا جميعًا بعد نجاح الثورة وغيَّروا آراءهم
وأنشأوا أحزابًا وخاضوا الانتخابات"[22].
ونحن حين نقرأ كتاب طرابيشي نفهم ما كان يبدو لنا غريبًا في
ازدواجية شخصية المسلم، واختلالاته واضطراباته الفصامية، بين تناقض قوله الصريح
ونفسيته المضمرة، أو بين أقواله وأفعاله، بما يفيد الابتعاد عن الصدق والاقتراب من
الكذب والخداع. لكن الحفر الذي قام به طرابيشي بين لنا ما كان ملتبسًا حيث تلعب
المرجعية القديمة لمدونة الحديث لعبتها الخطيرة وفق جدلية الخفاء والتجلي، أو
التقية والتمكين، أو سياسة المراحل. فما يبدو لنا غير مبرر مثلاً ككذب الأخوان حول
عدم الترشح للانتخابات الرئاسية في مصر، ثم التراجع عن ذلك، أو في القبول الظاهري
بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية... كل هذا يسهل فهمه كلما حاولنا الإلمام
بموروث إسلام الحديث الذي أسس لعقلية إسلامية نكوصية، لا تريد أن تخسر أوهامها
الطفولية، فظلت متعلقة بمرحلة الكمون والتفكير القبل منطقي حالمة بامتلاك كلية
القدرة، "فالتناقض هو شكل التفكير النكوصي بينما الهلوسة هي مضمونه... الهلوسة تؤدي
وظيفة التناقض إياها فهي الأخرى لعبة إلهية"[23].
وهذا ما حاول جورج طرابيشي تفكيكه بتفصيل مقنع إلى درجة تجعلنا نقف على المترسب في
اللاوعي الثقافي الجمعي والذي يلعب لعبة البداهات الطبيعية، كخصوصية وأصالة وثوابت
مزعومة لهوية المسلم وللأمة بصفة عامة. لكن الحفر في طبقات تشكل المقدس وسطوته
لقرون، حيث انزاح عن منطق الضرورة التاريخية ليسمو كذروة عليا منزلة ومعطاة بشكل
طبيعي من عند الله. إن هذا التفكيك النقدي لمدونة الحديث تتيح لنا فهم الكثير من
أفكار ومواقف وعلاقات اليوم، فمثلاً عندما يحتج "علاء الأسواني" ضد منطق الكذب
والنفاق الديني في مقاله هل يمثلون الاسلام أم يمثلون أنفسهم فإنه يفعل ذلك
ربما بمعزل عن طرح المشكلة في سياق عام شامل تجعله يدرك أن هؤلاء يغرفون من مرجعية
الكذب والتدليس والنفاق التي أنتجتها صناعة الحديث والتي تضخمت إلى حدود التناقض
والاختلاف في المتن والسند. فعند عبد الوهاب الشعراني يجد الإسلاميون مخرجًا
لتدليسهم وكذبهم "كما أن للشارع أن يبيح ما شاء لقوم ويحرمه على قوم آخرين، فكذلك
للعلماء أن يفعلوا مثل ذلك... فمن اعترض عليهم في ذلك قلنا له إن العلماء تابعون
للشارع في ذلك بدليل ما نقل إلينا في الخصائص النبوية من أنه أوجب على نفسه ما
أباحه لامته وحرم عليهم ما أباحه لنفسه بإذن من ربه عز وجل إذ العلماء أمناء على
شريعته من بعده فلا ينبغي لأحد أن يعترض عليهم إذا تناقض كلامهم في أبواب الفقه"[24].
والفقه لم يكن في تاريخه إلا سياسيًا في خدمة سلطة التسلط القهري والكهنوتي. الآن
تزول – ربما - الالتباسات التي دفعت علاء الأسواني للاحتجاج في مقاله السابق. وبناء
على هذا السطو على المقدس نما الكهنوت الإسلامي لرجال الدين الذين يتحكمون اليوم في
قلوب ورقاب الناس ويخنقون أنفاسهم. لكن المعرفة النقدية التاريخية تعريهم كأعداء
للشعوب في طموحاتها وتطورها وسعادتها، وانخراطها في التاريخ الإنساني من موقع
الرحمة والتسامح، ولندية والجدارة والاقتدار العلمي والمعرفي، وترك باب المغفرة
والتوبة مفتوحًا حيث لا دخل للإنسان فيه (إنا إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم).
وعبر قراءتنا لكتاب طرابيشي نقف على حجم التعسف في بناء آليات ومعايير وأدوات إثبات
صدق وصحة الحديث النبوي من عدمه. لقد كانت نتائج ذلك كارثية بين الحديث والحديث
المضاد وبين وصف الرواة بالدجاجلة والثقات في أحاديث معينة أو لكتب الفقه والتفسير
والسيرة... ومع الاعتراف لنفس الرواة بالثقة والمصداقية. هكذا خبطت صناعة الحديث
بشكل عشوائي أملته المصالح السياسية والاجتماعية والعشق الجنوني للسلطة، فتم تسخير
المقدس فنشطت تجارة الحديث
نستطيع توصيف الصناعة الحديثية بأنها صناعة إسقاطية وابعد كل البعد عن أن تكون
قابلة للوصف بأنها أثرية. فهي لا تقوم على الحفر للوصول إلى طبقات الماضي الغائرة
بل تعيد تصنيع الماضي وفق هوى الحاضر، وضرورات السياسة والتفقه أو محض الشهرة أو
حتى محض التجارة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن التكسب ببيع الحديث كان غدا ابتداء
من منتصف القرن الثاني تجارة رائجة[25].
هكذا انقلبت المدونة الحديثية ضد مدونة القرآن فانتقمت لنفسها بجعل السنة قرآنًا
غير متلو يقضي نسخًا على القرآن المتلو، مما يرفع من قيمة السنة كإسلام مستحدث
ومبتدع. ووعيًا من أهل صناعة الحديث بمدى هشاشة مدونتهم وترهلها منطقًا وعقلاً
لافتقارها لما يسمى إعجاز القران المتلو تم ابتداع إعجاز القوة وسيف التكفير في وجه
المعارضين، وكل الفرق والطوائف والمذاهب الأخرى، فكانت هذه المرحلة بداية لتشكل
الكهنوت الاسلامي من رجال سموا بأنفسهم، مقنعين بالدين لقضاء مآربهم الخاصة ولفرض
سيطرتهم وسطوتهم كحاكمية إلهية مفوضة من السماء لتطبيق الشرع/المقدس.
فمن جراء الانقلاب السني والتأليف الجماعي للمدونة الحديثية لم يتحول الرسول إلى
مشرع إلا في ظاهر الأمر فحسب، أما في حقيقته فقد غدا هو نفسه مشرعًا له ولكن بشريًا
لا إلهيًا هذه المرة . ذلك أن ما حدث في إسلام التاريخ على نقيض واقع الحال في
إسلام الرسالة هو أن أولئك الذين أباحوا لأنفسهم أن يكذبوا على الرسول وأن يتمادوا
في الكذب عليه قد نصبوا أنفسهم في حقيقة الأمر مشرعين ونسبوا إلى تشريعهم هذا
مصدرًا إلهيًا وذلك بقدر ما نسبوا إلى الرسول ومن ثم إلى الله عن طريق الرسول
باعتبار الرسول لا ينطق عندما ينطق إلا بوحي من الله طبقًا للتأويل الذي كرسه
الشافعي[26].
فانطلاقًا من هذه المرحلة، لنشأة مدونة الحديث كصناعة بشرية لإنتاج مقدس ضد التنوع
والتعدد والاختلاف النابع أصلاً من التناقض المجتمعي، كتناقض سياسي اجتماعي
اقتصادي، وتكريسًا للأحادية والقطعية والتسلطية في الرؤية والمواقف والأفكار
والعلاقات، تبلور إسلام الخرافة والأساطير والمعجزات الخارقة السخيفة في بنائها
القبلمنطقي، ومضمونها الفكري الهلوسي، كما تبلورت وتضخمت عبر القرون جثة الحديث إلى
درجة صارت شخصية الرسول كإنسان بشري لا تقوى على تحمل مسؤولية هذه الأسفار من تجارة
الحديث التي سادت بالحديد والنار والجهل، وتناقلتها الأجيال بأرسخ وسائل الثقافة
الشعبية، المتمثلة في الحكي والسرد على شاكلة القصص الديني في ضرب الأمثال، ومع
تطاول الزمن صار هذا الشكل التاريخي للمقدس الإسلامي حقيقة منزلة مطلقة ونهائية،
كمعطى من عند الله، لا تقبل الشك والجدل والسؤال... وإلا تعرض صاحبه للنبذ والزندقة
والتكفير والتصفية، وهذا ما يبدو في كلام أبي المظفر السمعاني
إن طريق الدين هو السمع والأثر وأن طريق العقل والرجوع إليه وبناء السمعيات عليه
مذموم في الشرع ومنهي عنه... فبماذا يحتاج المسلم إلى الرجوع إلى دلائل العقل
وقضاياه والله أغناه عنه بفضله وجعل له المندوحة عنه؟ وهل زاغ من زاغ وهلك من هلك و
ألحد من ألحد إلا بالرجوع إلى الخواطر والمعقولات وإتباع الآراء في قديم الدهر
وحديثه؟ وهل نجا من نجا إلا بإتباع سنن المرسلين والأئمة الهادين من الأسلاف
المتقدمين؟ واعلم أن مذهب أهل السنة أن العقل لا يوجب شيئًا على أحد ولا يرفع شيئًا
عنه ولا حظ له في تحليل أو تحريم، ولا تحسين، ولا تقبيح، ولو لم يرد السمع ما وجب
على أحد شيء ولا دخلوا في ثواب ولا عقاب... واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو
مسألة العقل[27].
ففي غياب مثل هذا الحفر والتفكيك الذي يتيحه كتاب المفكر
الباحث طرابيشي، وفي غياب النقد التاريخي وتجميع وتنظيم مادة المصادر العربية
الإسلامية، بشكل منهجي نقدي، أي بدون هذا الجهد الكبير الذي أنجزه طرابيشي في كشف
المستور لإسلام الحديث الذي أريد له أن يكون وحده الإسلام الحقيقي الشرعي كمقدس
أنزل من عند الله، متنكرًا فيه الفعل البشري وراء قناع القداسة والتسييج الإلهي
الذي أضفي على صناعة الحديث، في أقوال وأفعال وجميع حركات وسكنات الرسول، كوحي غير
متلو ناسخ للقران المتلو، "وبهذا المعنى لا يكون الرسول قد تحول من مشرع له إلى
مشرع إلا في الظاهر فحسب، أما في الباطن، أي على صعيد البنية التحتية للصناعة
الحديثية، فالعكس هو الصحيح لأن سلسلة الثقات تكون هي التي استأثرت عمليًا بسلطة
التشريع، وهذا في سياق مسار تاريخي للإسلام طغى فيه بعد الشريعة على بعد الديانة"[28]،
قلت في غياب هذه المعرفة التي أنتجها طرابيشي يعيش المسلم حياته الدينية
والاجتماعية، كبديهيات طبيعية مرسومة البداية والنهاية، وفق قدر محسوم. ولكونه ضحية
الجهل بحقيقة ما جرى في التاريخ من طرف إسلام التاريخ يغلب عليه التعصب والقطعية
والتبعية والتصلب الذهني والنفسي والاجتماعي والمعرفي، في فهم دينه والدفاع عن
معتقداته. هكذا تأخذ ضرورة الاختراق والزحزحة ثم التجاوز التي نادى بها محمد أركون
كامل أهميتها، لأنها السبيل الأقرب إلى تفجير المسكوت عنه وفضح المستور اللامفكر
فيه أو المستحيل التفكير فيه، بسبب طغيان حركات الإسلام السياسي التي تتكئ على جذور
عميقة في تربة ما خلفته الآلة الرهيبة لصناعة الحديث بتواطؤ مع السلطة السياسية
للانفراد بالحكم والثروة والجاه والعظمة.
فالطبقات المتراكمة التي حاول طرابيشي زحزحتها بإنتاج معرفة تاريخية نقدية حولها،
هو ما يسمح لنا اليوم بتعرية الكثير من الأقنعة الدينية، وفهم الكثير من الأفكار
والممارسات والمواقف الأصولية التي قد تبدو ملتبسة ومتناقضة، وفيها الكثير من
الخداع والتحايل والكذب، كما هو الشأن في الأمثلة التي أشرنا إليها عن حازم أبو
إسماعيل، أو مقال علاء الأسواني، أو في الحوار الذي نشرته الأوان مع طارق رمضان...
لكن في ظل تمكننا من مثل هذه المعرفة التي يتيحها كتاب طرابيشي تزول جميع الطلاسم
السحرية الأصولية، ويظهر الساحر المخادع عاريًا أمام عدالة النقد التاريخي المنهجي
العقلاني العلمي التي لا ترحم الطغاة والمندسين في لعبة الأقنعة الدينية والدين
منهم براء.
من الصعب جدًا على الإنسان المسلم اليوم أن يقبل بهذه الحقائق التاريخية الموضوعية
التي أنتج معرفتها الأستاذ طرابيشي من خلال تفكيك نشأة وتكون وتطور سيرورة المدونة
الحديثية، كقول بشري تستر عن حقيقته السياسية الاجتماعية، باعتماد آلية التسييج
الإلهي للحديث. والأخطر في هذا كله هو درجة التماهي النبوي الإلهي التي وصل إليها
أهل الحديث والفقهاء - في الماضي واليوم - إلى حدود الربط الآلي المباشر بينهم وبين
الإسلام، وهذا ما تبلور فيما يعرف بالحاكمية الإلهية، أو الإسلام هو الحل، أو
المطالبة بتطبيق شريعتهم في الرجم والتكفير والتصفية بعيدًا عن الرحمة والمغفرة
والتسامح لإسلام القرآن. وقس على ذلك الكثير من العبارات والأحاديث التي ربطوا فيها
بينهم وبين الإسلام كتسمية أنفسهم بالإخوان المسلمين، أو حزب الله، أو أنصار
التوحيد، أو المجاهدون... فمن خلال هذا النقد التاريخي المنهجي للقول البشري يقف
المسلم على حقيقة معتقده الذي هو ليس أكثر من انقلاب بشري تاريخي في حق إسلام
الرسالة. فقد طالت سطوته كل شيء في حياة المجتمعات الإسلامية التي أصبحت أسيرة نصوص
عصمة رجال الدين في الفهم والتفسير والفتاوي... والغريب في الأمر أن يدعي أحفاد هذا
الانقلاب التاريخي على إسلام القرآن رغبتهم في استعادة ما يسمونه عصر النبوة
والخلافة الراشدة، وهم في حقيقتهم التاريخية أول من انقلب على ذلك المشروع
التاريخي، وعلى ما يسمونه العصر الذهبي الإسلامي. لم يكن ذلك التدليس والنفاق
والانقلاب ليتحقق لهم في الماضي واليوم إلا من خلال القضاء النهائي على الفكر
العقلي والتفكير النقدي الفلسفي برفع سيف الزندقة والتكفير في وجه الخصوم الحاملين
لإرهاصات الفكر المنطقي العقلي المعتزلي والفلسفي والتنويري والحداثي. بالفعل إنه
لأمر صعب على الإنسان المسلم أن يرى مرجعيته الدينية المقدسة عارية أمامه كحقيقة
بشرية مشاركة ومنتجة للقول النبوي والإلهي، لكن بالمقابل سيرى الإنسان المسلم إسلام
رسالة القرآن في شكل إيماني جديد لهدم الانغلاقات والعنصرية والطائفية... التي
رسخها إسلام الحديث.
هنا تكمن القيمة المعرفية والعلمية النقدية لكتاب جورج طرابيشي الذي استطاع بمرونة
منهجية لإستراتيجية الكتابة أن يضع بين يدي القارئ المصادر العربية الإسلامية، من
خلال النقد التاريخي. إنه اختراق علمي ابستمولوجي للتسييج الإلهي للقول البشري،
بعيدًا عن الطرح الإيديولوجي المباشر الأقرب إلى الشتيمة والخصام العدائي الذي
يستهدف الروابط الإنسانية، من خلال المس الغوغائي بمعتقدات الناس، دون مساعدتهم على
إدراك ومعرفة خطورة المتاهة المسدودة التي يورطهم فيها الجهل المقدس، المولد للنكوص
المعرفي، ولوهم كلية القدرة لمعجزة سبات العقل على إتيان الفعل الخارق. بالعكس كتاب
طرابيشي يساعد على فك شفرة الوراثة النفسية الدينية الثقافية للإيمان التقليدي
الموروث، بقدر ما يولد أسئلة تفتح إمكانيات التخلص من الوعي التقليدي الأسطوري، ومن
متاهة الجمود والتخلف والانسداد الأصولي، بنشر ثقافة الوعي التاريخي التي تسمح
باستئناف النمو الصحي المعرفي والمنطقي العقلاني النقدي الذي يمكن أن يؤسس لفك
الارتباط الاستبدادي الكهنوتي بين الإسلام ومن يسمون أنفسهم رجال الدين،
فالإسلام لم يكن سنيًا ولا شيعيًا ولا خارجيًا على مستوى النبي ولحظة القرآن. ولو
قرأ هذا الكلام أحد المختصين بعلم التاريخ والإسلاميات لضحك من سذاجتنا وقال وهل
هذا بحاجة إلى تأكيد أو برهان؟ لكننا نحن الذين ولدنا في الإسلام أو بالأصح في إحدى
فرقه سوف نجده (كل واحد من وجهة نظره بالطبع) شاذًا غريبًا وربما هرطقة وخروجًا على
الإسلام فكيف حصل أن كل فرقة قد أخذت تعتبر نفسها بمثابة الفرقة الناجية أو الممثل
الوحيد للخط الصحيح في الإسلام دون غيرها؟ كيف حصل أن تحاربت بالحديد والنار ولا
تزال بشكل من الأشكال؟ ولماذا يعتقد الأتباع "المؤمنون" في كل فرقة أنهم وحدهم على
حق وأن الآخرين كل الآخرين على ضلال؟ كيف حصل ذلك؟ ومتى؟ وأين؟[29]
هذه المسلمات الإيديولوجية هي التي حاول طرابيشي تفكيكها وهدمها ونزع أقنعتها ونقض
هلوستها الأسطورية ونكوصها المعرفي وذلك ضدًا على عودة أية قرون وسطى جديدة.