الموضوع أدناه أساس قراءة أعدتها الكاتبة لتقديم عبد المجيد يوسف في الأمسية الثّقافيّة الخاصّة به أقيمت في النّادي الثّقافي الطّاهر الحدّاد بتونس العاصمة، يوم الجمعة 11 نيسان (أفريل) 2014.
عبد المجيد يوسف كاتب تونسيّ من مواليد 26 جويلية (تموز) 1954. حفظ القرآنَ أكثرَه (55 حزبا) وهو في الثّامنة. نشط في الحياة الثّقافيّة التّونسيّة منذ فترة التّلمذة وشارك في العديد من النوادي والتّظاهرات الثّقافيّة. حاصل على الأستاذيّة في الآداب العربيّة وعلى الدّبلوم العالي للّغة والدّراسات الإيطاليّة من جامعة تونس الأولى، ثمّ على دبلوم الدّراسات المعمّقة من جامعة سوسة. يكتب الشّعر ويكتب القصّة والرّواية ويهتمّ بنقد السّرد. ونشر عدّة قصص وقصائد ودراسات مترجمة من وإلى اللّغات الّتي يعرفها. هب أنّنا عرفنا هذه المعلومات، فهل عرفنا الرّجل إلاّ بمولده ونشأته؟ وهل ظفرنا من ذلك إلاّ بشهادة ميلاد عاديّة، وتسجيل لشهائده العلميّة؟ إنّنا لم نظفر بأكثر من أنّه كاتب ومترجم.
لذلك أفضّل تعريف بعبد المجيد يوسف سيكون من خلال ما صدر له من كتب باعتباره كاتبا ومترجما، فوحدها الإصداراتُ تُفصح عن بعض فصول "سيرة كاتب"، منشئ مشارك في إنتاج النصّ التّونسيّ، والعربيّ وفي إنتاج ما نطق به لسان القلم ترجمةً، إذْ يحضر في نصّه من خلال ثقافة متنوّعة المصادر ومن خلال فسيفساء النصّ[1] وتعالقه[2] بنصوصٍ استلهم منها كتاباته. واستحضرها نصّه[3]. ومن خلال أسلوب الخطاب[4]، ومضمونه. فمهما حاول الكاتب أن يتخفّى في النصّ، إلاّ أنّه باعتباره صاحب الخطاب، فإنّه يحضر في النصّ بلغته وتراكيبه ومن خلال زاده المعرفيّ وما رسخ من ثقافته خلال تكوينه[5].
إذن سأتعامل مع النّصّ بوصفه معطى ثقافيّا قابلا للاستنطاق ويختزن بإمكانياته اللّغويّة وبمضامينه مسيرة أديب.
فصول من سيرة عبد المجيد يوسف الكاتب[6]
=أ= من خلال إصداراته
لعبد المجيد يوسف إصدارات عديدة أكتفي هنا بذكر عينة منها لإعطاء فكره عن تنوعها:
= "مقاربات نقديّة". الناشر: دار سعيدان بسوسة، تونس 1994. = "أهداب النّخل" (دراسات عن القاص التونسي بشير خريف). الناشر: دار سيبويه بالمنستير، تونس 2008.
= "زوايا معتمة" (قصص). الناشر: المجلس الثقافي الليبي، ودار قباء، مصر 2008.
= "سحب آسنة" (مجموعة شعرية). الناشر: دار البراق، سورية، 2010
= "وبعد". مجموعة شعرية للشاعر الإيطالي جوزبي نابوليتانو. ترجمها عن الإيطالية. الناشر: دار البراق، سورية 2010.
= "تراتيل الترحال" مجموعة شعرية للشاعرة راضية الشهايبي نقلها إلى الفرنسية وترجمت للإيطالية وصدرت بنابولي 2010 عن دار لا ستنازا دل بويتا [بيت الشاعر].
= = ترجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة لديوان للشاعر السعودي رائد أنيس الجشي[7]، صدر في فرنسا عن دار هارماتن في بداية 2014.
وتدل إصداراته العديدة على ثراء إنتاجه، وتُظهر أولا تعدّد لغة كتابته، فقد كتب بالعربيّة والفرنسيّة والإيطاليّة (ترجمة). وثانيا تعدّد أجناس نصوصه، إذْ كتب في أكثر الأجناس المعروفة ومن أهمّها الرّواية والقصّة والشّعر والنّقد، والدّراسات الأكاديميّة والبحوث، إضافة إلى النّصوص المترجمة نثرا وشعرا من العربيّة وإليها ومن الإيطاليّة والفرنسيّة وإليهما. وثالثا، تعدّد ملامح الكاتب من خلال عناوينِ كتبه وتواريخ إصدارها لتدلّ على كاتب ثريّ الإنتاج، تتوالي نصوصه فصولا شتّى تجمع تفاصيل صورة مبدع تونسيّ تأصّل قلمُه في كيان لغته وفي لغة الآخر، فتنوّع نصّه وإنتاجه[8].
هذا إذا نظرنا من خارج النّصوص عددا، ولغةَ كتابةٍ، وجنسَ نصّ. وأمّا بالنّظر إلى المضمون فإنّنا نجد نصّ عبد المجيد يوسف نصّا يقوم على تجربة واعية في الكتابة، تجمع إلى الموهبة الاشتغالَ الواعيَ على النصّ، حتّى أنّه صار مخبرا وبحثا في أصالة النّصّ ضمن الأدب العربيّ عامّة وتأصيلا صريحا للنّصّ التّونسيّ الجديد. وهو نصّ ثريٌّ، يتجاوز ثراؤه الجنسَ الّذي تندرج ضمنه، واختلافَ اللّغة من كتاب نصّ إلى آخر، ومن نصّ إلى آخر، إلى ثراء مضمونها، وثراء المناهل الّتي نهل منها عبد المجيد يوسف:
=ب= من خلال مضامين الكتابة
يتسم إنتاج عبد المجيد يوسف بثراء المصادر، فثراء المضمون من ثراء المناهل وقراء الثّقافة/ فقارئ كتاباتِه يتبيّن جيّدا من خلال تنوّعِ نصوصه وتنوّعِ مصادرها، تنوّعَ ثقافته. فهي من أدب العرب قديمه وحديثه[9]، ومن أدب الغرب أيضا[10]. ونراه يستلهم من التراث العربيّ الشّعريّ[11] ومن القرآن[12] والأخبار[13] والنّوادر. كما يستلهم من الأدب الحديث تونسيّا[14] وعربيّا وغربيّا، حتّى أنّنا ونحن نطّلع على نصوصه نجوب ساحة الأدب والكتابة، هنا وهناك، مكانا وزمانا، لا نملّ من التنوّع الّذي يجعل قراءتنا فسحة في حدائق الأدب.
تبدو المناهل الثّقافيّة المختلفة التّراثيّة والإنسانيّة في شعر عبد المجيد يوسف حاضرة بجلاء، نجدها مثلا، في تصدير ديوان "فقدت نجمتي" وفي مقدّمة ديوان "سحب آسنة" الّتي أوردها تحت عنوان: "هنالك مبرّرات وجيهة للوقوف على الأطلال".
ونقرأها أيضا في عناوين القصائد في المجموعين الشّعريّين، ولا يخفى في التّصدير، كلّما وُجد، قبل القصيدة، أو مصاحبا لقسم من أقسام الدّيوانين، يليه التّضمين والاقتباس الصّريح والمشار إلى صاحبه أو المسكوت عن إسناده إليه. كما يبدو في شكل القصيدة وفي مدى توفيقها في أن تؤلّف بين لغة الشّاعر الأمّ والمضامين/المواضيع استنادا إلى التّراث الأصيل وتطلّعا إلى نصّ جديد التّشكّل.
ولا تخفى في قصصه المختلفة من مجموعة "فصول من سيرة مراد الكاتب" أو من خارجها، مثل "الشّمس في يوم قائظ" أو "زوجة صديقي"، وغيرهما، إذْ يتعمّد عن وعي ومعرفة كاملتين في صياغته لبعض العناوين وبعض الجمل الشّعريّة والقصصيّة أن تكون حمّالةً لصبغة تراثيّة تمتزج بصبغة الخلق الجديد وقد تمثّلها النصّ وتحاور معها بحسب مضامينه الجديدة وحوّلتها رؤية الكاتب الّذي يعيد إنتاجها بتشكيلها تشكيلا خاصّا به. وهكذا يسعى عبد المجيد يوسف بالنصّ الشّعريّ والقصصي إلى أن يكون إنجازا جديدا يتواتر مع تصاعد الخلق الإبداعيّ وتجاوز ما سبق، فهو لا ينقل التّراث وإنّما يوظّفه ويحمّله رؤى وأفكارا تخصّه في العصر الحديث، فهو يتجاوز استلهامه إلى التّعامل معه فنيّا، وهذا يكشف عن فهم الشّاعر للماضي الأدبيّ فهما جادّا ساعده على استثماره في الأدب المعاصر، فصار كلّ نصّ يستديه مصدر فنّ، وصارت كلّ شخصيّة يستدعيها تشعّ بشحنة إيحائيّة رمزيّة.
ويمكن العودة إلى قصيدة طاغور مثلا في مجموعة "سحب آسنة"، أو قصيدة "ميتيوريت" من مجموعة "فقدت نجمتي"، كما يمكن العودة إلى قصّة "الرّكن النيّر" من مجموعة "فصول من سيرة مراد الكاتب"، وخاصّة قصّة "الشّمس في يوم قائظ" لنرى طريقة إعادة صياغة التّراث الأدبيّ، والاشتغال بوعي على النصّ الآخر.
كاتب متأصّل في ثقافته العربيّة/متفتّح على الآخر
في مقدّمة ديوان "سحب آسنة" مثلا، يستدعي الشّاعر جزءًا من بيت لمعلّقة النّابغة الذّبياني: وأحسّ بطفح حنين إلى أن أقف = = = على دَار مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ فالسَّنَـدِ[15]، وهي من صميم حنينه إلى العودة للوقوف على الأطلال ومن صميم تبريره الوجيه للوقوف عليها والعودة إلى القصيدة البكر مبنى ومعنى (مع أنّه لم يكتب الشعر العموديّ)، وتحضر الحبيبة حاضرة غائبة، يستحضرها الشّاعر ويقف عند بيتها، ويطوف به، ويسكنها السّماء نجمة.
ويحضر الشّاعر برهافة حسّه، وبتعقيدات الأرطمطيقا[16]، ويحضر لغويّا مثقّفا "حمّال دواوين"، وتتجلّى هويّته، بل تتشكّل جديدة، هي هويّة الشّخصيّة التّراثيّة (شاعر الأطلال) المجتمعة بحالات الشّاعر المعاصر وأسلوبه في الشّعر والكتابة، فيكون هو بدوره الحاضر الغائب (زمنيْ الحاضر والماضي).
كما يستدعي أيضا أسماء شعراء من الجاهليّة مثل لبيد[17] وأبي ذؤيب[18]. وقد ذكرهما لتشابه أحواله بهما، يقول: "لأنّي أشعر أنّ حالي تشبه حالهما وأنّ فجيعتهما فجيعتي".
وينهي مقدّمة "سحب آسنة" ببيت للمتنبّي[19] لم يسنده إلى صاحبه وكأنّه بإيراده في المقدّمة يريد أن يقول إنّه من نسل هذا الجيل الشّعريّ المتأصّل في القصيدة العموديّة (مع أنّه لم يكتبها، وإنّما كتب شعر التّفعيلة والنّثر) وفي تقاليد لغة العرب من عصر الجاهليّة إلى عصر ازدهرت فيه القصيدة بعد أن لحقها تجديد في المبنى والمعنى منذ القرنين الأوّل والثّاني للهجرة. وبهذا أفسّر أيضا وجود بشّار بن برد وجميل بثينة وأبي العلاء المعرّي فضلا عن شعراء الجاهليّة: عنترة والمخضرمين.
كما اعتمد الشّاعر في تبويب ديوان "فقدت نجمتي" على الأبواب فقسّمه إلى باب الوحشة وباب الغربة وباب الأسئلة. ومثل هذا التّقسيم إلى أبواب والتّصريح بلفظة "باب" يعيدنا إلى كتاب تراثيّ (مثلا): كليلة ودمنة، فهذا باب الأسد الثّور وهذا باب الحمامة المطوّقة.
وهذا الإيحاء لم يكن لمجرّد تقليد كتاب من أمّهات الكتب وإنّما كان الشّاعر واعيا بإدراج كلّ مجموعة من النّصوص الشّعريّة ضمن "حكاية ما" لها فصولها وأجزاؤها. (وهذا يتطلّب مزيد الوقوف على المضامين الشّعريّة).
وأمّا في ديوان سحب آسنة فقد اعتمد التّقسيم على أساس "الكتاب"، فكان كتاب الوجد وكتاب الأسى. وأراه يستعمل معنى كتاب بمعنى رسالة، أو هو الكتاب المقدّس الّذي أوحي به إليه يلقي به إلى حبيبته.
وأمّا في مجموعته القصصيّة "فصول من سيرة مراد الكاتب"، فقد اعتمد "الفصول" وهما فصلان: الفصول والكوميديا، إلاّ أنّ كلّ نصّ فصل جديد من فصول حياة كاتب ينوّع كتابته لتنفتح أمامه سبل الإبداع متنوّعة.
كاتب متأصّلة لغته في اللّغة الأمّ
لغته سبيل إلى العودة "إلى سذاجتي الفطريّة وأعود إلى حضن أمّي: لغتي القديمة"[20]. ويتأكد هذا الانتماء اللّغويّ بحضور المتنبّي في مواقع أخرى من الدّيوانين ومن خارج الديوانين بقوله: "أتَيْتُ بمَنْطِقِ العَرَبِ الأصِيلِ"[21] ليؤكّد الشّاعر انتماءه إلى اللّسان العربيّ الأصيل، وإلى ثقافته المتأصّلة فيه.
ومتصفّح كتابات عبد المجيد يوسف يجد مهارة في استعمال اللّغة الأمّ سواء كتب بها أو ترجم إليها. ولذلك لا يُعتبر الاقتباس أو التّضمين في نصوصه، كما جاء في قوله "ممّا يرصّع به زينةً، وتأكيدا للموقف، واستمدادا من سلطة النصّ وقائله ما به يلقى الحظوة لدى القارئ"[22]. قال ذلك في تصدير ديوان "فقدت نجمتي"، وأسوقها تعليلا لوعي الشّاعر بقيمة اللّغة الّتي يتوسّلها والتّضمين والاقتباس من المصادر التّراثيّة الّذي ارتقى إلى مستوى التّقنية الفنّيّة عنده.
وفي ديوان "سحب آسنة" ورد تصدير لكلّ واحد من الكتابين، فتصدّر كتاب الوجد نصّ للشاعر التونسي نصر سامي[23]: "الكون أبعد من شفاه حبيبتي/لكنّ نبعا واحدا من صوتها/يأتي بميلاد اللّغات"؛ هي اللّغة دائما، مشغل أساسيّ تتوحّد فيه مشاعر الشّاعر وجسد القصيد.
كما يحضر النصّ بلغة إنسانيّة في بعدها خارج حدود الأشكال المألوفة (خاصّة في الشّعر). ويدرك المتلقّي أنّ صياغة "الجملة الشّعريّة" واللّفظة لا تستوعب حضورها الفاعل إلاّ بتشاركها القويّ غير المتوقّع مع لفظة أخرى أو مجموعة ألفاظ تحدث انفجارا وهزّات في بنيتها التّركيبيّة الجديدة (قصيدة تعقيدات الأرطمطيقا؛ والعاشرات ليلا).
كاتب متأصّل في هويّته التّونسيّة
ونكتشف هذه الصّفة من خلال كتاب "أهداب النّخل: دراسة في أدب البشير خرّيف". وكتاب: "أحلام الطّين، موقف المسعدي من الفكر العلماوي من خلال حدّث أبو هريرة قال".
الكتاب الأوّل يمثّل ردّ فعل تجاه ما أسماه "تقلّص الذّاكرة الثّقافيّة". والكتاب الثّاني جاء مساهمة في النّقاش حول العلاقة بين العقل والإيمان.
وقد سعى عبد المجيد يوسف من خلال إسهاماته الثّقافيّة المتنوّعة كتابة ومحاضرات ومشاركات في ساحة الأدب التّونسيّ أن يعرّف بالأدب التّونسي وأدبائه أحياءً وأمواتا، فترجم لهم وكتب عنهم وعرّف بهم، وأخذ دوما بيد المبتدئين وشجّع الأقلام البكر وترجم لهم ما كان بديعا من نصوصهم. وما زال يسعى إلى أن يكون الأدب التّونسيّ في صورة لائقة به بين أبنائه وبين بقيّة الآداب. كما أراه تونسيّا بامتياز من خلال اهتمامه بترجمة نصوص شعريّة تونسيّة، ستساهم، كما ساهم ما نُشر منها، في مزيد التّعريف بالنصّ التّونسيّ.
ثراء الأسلوب والمنهج
في الشّعر كما في النّثر، تطالعنا ثقافةٌ واسعةٌ، موسوعيّةٌ لصاحب قلم "يبحث" عن نصّ "بديع" جديد فيطوّع الأسلوب المناسب لنصّه نثرا كان أو شعرا. وفي هذا "البحث" عن نصّ بديع "عدم وفاء" لأسلوب واحد، وعدم استناد إلى مرجعيّة ثقافيّة واحدة (خاصّة زمنيّة من الأدب القديم والأدب الحديث)، إذْ نجد الأديب في كلّ نصّ جديدا متجدّدا، متطوّرا، ثريّ الأسلوب والمنهج، فاستطاع أن يجعل الصّور الشّعريّة والجملة القصصيّة في أبنية تكوينيّة جديدة تتصاعد من حيث التّجديد والتّركيب في مستويات نصيّة عدّة[24].
=ج= من خلال فسيفساء النصّ أو جماليّة التّناصّ
ما يميّز نصّ عبد المجيد يوسف الشّعريّ والنّثريّ أنّه نصّ مولع بالتّناص، فالنصّ لديه قدرة على التعامل، في أحيان كثيرة، مع المعطى التراثي، والرّاسب الثّقافيّ والأدبي، أو النصّ الآخر، بمنطق الامتصاص، أي تشرّب الحالة المتناصّ معها، وإعادة تركيبها بما يخدم سياق النصّ. وقد اقتنص عبد المجيد يوسف "النصّ الآخر" ليس على سبيل ادّعاء المعرفة ولا فَضلةً وحشوا بل خدمة للنصّ وإعادة إنتاج تثري الطّاقة الإيحائيّة للنّصّ الجديد. إنّه حوار فاعل بين نصّه والنّصوص الأخرى تمثّلها نصّه وحوّلها لتعبّر عن رؤية خاصّة حمّالة لأسلوبه إعلاءً لبنيان النصّ، إذا ما عرفنا أنّه لا نصّ يوجد من فراغ.
هذا التّناصّ بمختلف أشكاله لحظة تحويل للنصّ بعناصره الجماليّة والأدبيّة ليصبح جزءًا من حساسيتنا الأدبيّة والجماليّة الحاليّة (راهنيّة الاقتباس والتّضمين)، فيصير النصّ خاضعا لعمليّة إبداع دائمة التشكل تستعين بالمضامين الحضاريّة والثّقافيّة وتتوجّه نحو القضايا الّتي نعيشها في العصر الحاضر حتّى صارت النّصوص السابقة من الموروث الثّقافيّ بمختلف تجلّياته وسيلة فعّالة بيد الكاتب يجسّد من خلاله موقفه من الحياة ورؤيته لمشكلاتها وتعقيداتها حتّى في شأنه الشّخصيّ الذّاتيّ المفرد (شعري نفاثة صدري/في علاقته مع حبيبته). وبهذا يضمن التّفاعل المتبادل والخلاّق بين الموروث الثّقافيّ والأدب المعاصر.
هكذا تتجلّى كفاءة التناصّ في توظيف الموروث الثّقافيّ الأدبيّ واللّغويّ والحضاريّ في النصّ المعاصر عند عبد المجيد يوسف، فهو إذن وظّف النصّ الآخر بوعي وتدبير لأجل نصّ أثرى يسهم في تطوير النصّ التّونسيّ/العربيّ من داخل آليات الكتابة العربيّة وأجناسها.
خلاصة: الكتابة تجربة واعية
نصوص عبد المجيد يوسف شاهد على أنّ الكتابة عنده ليست مجرّد إنتاج نصوص، وإنّما هي تجربة واعية تسعى إلى أن تطوّر الكتابة بحسب رؤية جماليّة وفنيّة عميقة وأن تسير بهذه الكتابة إلى غاية واضحة. وهي، في رأيي، تطوير النصّ بآليّة داخليّة (من داخل آليات لغة الكتابة وأجناسها) تنبع من أسلوب تشبّع بفنون الأدب غربيّها وعربيّها، فصار النصُّ جديدا متطوّرا متشكّلا تشكّلا فنيّا خاصّا له بصمة صاحبه الإبداعيّة وإن أشار إلى "تعالقه" وصلته تناصّا واقتباسا وإحالات وإيحاءات مع نصوص أخرى مختلفة، شكلا ومضمونا.
وفي رأيي ما كان لهذا التنوّع في أجناس الكتابة وأسلوبها ليكون بهذه الأهميّة لو لم تكن الكتابة عند عبد المجيد يوسف "مخبرا" تتحوّل فيه لحظة الكتابة إلى عمليّة إبداع دائمة التشكّل بكلّ عناصرها الجماليّة والأدبيّة، حتّى أنّ هذا التنوّع قد صار مستوى من مستويات التّقنية الفنّيّة ترقى بالنصّ العربيّ/التّونسي.
وفي المحصلة إذن عبد المجيد يوسف هو (1) الكاتب العارف بخبايا أسلوب كلّ جنس أدبيّ؛ (2) النّاقد القادر على اختبار النّصوص وجعل تعدّد أساليبها وأجناسها من باب الثّراء في تجربة الكتابة وتجسيد المنهج النّظريّ في النّصوص؛ (3) المترجم العارف بلغة الآخر وحضارته ونصوصه، والحريص على أن يكون نصّه أمينا لحضارة اللّغة الّتي كُتِبَ بلغتها دون أن يُخلّ بمبادئ اللّغة الّتي ينقل إليها؛ (4) الأكاديميّ الدّارس الباحث في مضامين الأدب ومناهجه ليساهم بذلك في إثراء بحوث النظريّات الأدبيّة التّونسيّة والعربيّة.
= = = = =