يحتلّ العود مكانة مهمّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة جعلت منه قادرا، لا فقط على مرافقة الغناء، وإنّما كذلك على احتلال مرتبة الصّدارة في عزف جملة من القوالب الموسيقيّة ذات أصول عربيّة وتركيّة وحتّى أوروبيّة إمّا انفرادا أو مع فرقة موسيقيّة أو تخت أو أوركسترا، وهو ما سنحاول تفصيل القول فيه في هذا المقال بعد تقديم لمحة موجزة عن أصول هذه الآلة تاريخيّا وأورغانولوجيّا. العود: التّعريف لغة واصطلاحا
لغة، تعني كلمة العود «كلّ خشبة دَقَّت، ويقال العود خشبة كلّ شجرة، دَقَّ أو غَلُظَ»[1]. أمّا اصطلاحا فتحيلنا هذه الكلمة على آلة وتريّة «يحدث فيها النّغم بأن تحرّك أوتارها فتهتزّ» [2]. وقد وصفها إخوان الصّفا بأنّها «أتمّ آلة استخرجتها الحكماء، وأحسن ما صنعوها»[3]، وهو ما يفسّر توسّلها من قبل الملحّنين لاستخراج الألحان واستخدامها من قبل الفلاسفة والمنظّرين لشرح بعض النّظريّات الموسيقيّة والمقامات والأبعاد.
وتجدر الإشارة إلى أنّه قد وقع الحديث على هذه الآلة في كثير من المخطوطات والكتابات التي تناولتها بالدّرس والتّحليل الفنّي والعلمي، بأسماء أخرى مثل الموتّر والكران والمزهر والبربط، وخاصّة عند اعتماد زندها لتنظير وشرح مسافات السّلالم الموسيقيّة العربيّة عند مجموعة مهمّة من العلماء والباحثين القدامى أمثال الكندي والفارابي ومنصور زلزل.
تاريخ آلة العود
رافق الحديث عن تاريخيّة الآلة جدل وسجال واسعين من قبل المؤرّخين الذين سعى كلّ منهم إلى نسبة العود إلى أصوله وحضارته[4]، بيد أنّهم جميعا اتّفقوا على أنّها من بين أقدم الآلات الوتريّة إلى حدّ إرجاعها إلى الجيل السّادس من آدم بالتّأكيد على أنّ «أوّل من عمل العود وضرب به هو لامك» [5].
واعتبر الباحث العراقي صبحي أنور الرّشيد أنّ «ابتكار آلة العود كان على يد الأكاديّين وهم من الأقوام السّاميّة التي هاجرت من شبه جزيرة العرب واستوطنت أرض العراق» [6]. ويرى الباحث المصري محمود أحمد الحفني أنّ «آلة العود من الآلات الوتريّة التي عرفتها الممالك القديمة وقد استعملها قدماء المصريّين منذ أكثر من خمسمائة وثلاث آلاف سنة» [7].
ولعلّ ما يبرّر هذا الاختلاف ويشرّع له هو حضور هذه الآلة في العديد من الآثار خلال التّنقيبات الحفريّة في مجموعة من المواقع الأثرية بالعراق ومصر وتركيا وإيران بتواريخ مختلفة: العراق: القرن 20 قبل الميلاد؛ إيران: القرن 17-16 قبل الميلاد؛ تركيا: القرن 16 قبل الميلاد؛ سورية: القرن 15 قبل الميلاد.
وأيّا كانت أصولها، فإنّ آلة العود تعتبر «من بين الآلات الوتريّة المألوفة منذ القدم في الأمم الشّرقيّة»[8]، وهي دون شكّ آلة موغلة في القدم واكبت حضارات وأجيال متعاقبة شهدت خلالها تطوّرات عدّة وتغييرات مهمّة ساهمت في بقائها واستمرارها.
واكبت آلة العود تتالي الحضارات فشهدت تغييرات وتطوّرات مهمّة في حجمها وشكلها وطريقة العزف عليها وتقنيّاتها وحتّى أسماء أوتارهن، فقد أطلق العرب المسلمون في العصرين الأموي والعبّاسي على الأوتار (بشكل متسلسل من الغليظ إلى الحادّ) اسم البم والمثنى والمثلث والزّير والزّير الحادّ[9] إلى حدّ تاريخ سقوط بغداد بيد المغول، حين أصبحت هذه الأوتار تسمّى بأسماء فارسيّة هي (بنفس التّرتيب): اليكاه، العشيران، الدّوكاه، النّوا، الكردان.
وتطوّرت آلة العود في العصور الإسلاميّة وصارت تتميّز بأبعاد ومقاسات خاصّة بالنّموذج العربي، فبعدما كانت تكوّن من أربعة دساتين في القرنين التّاسع والعاشر ميلادي زمن الكندي والفارابي وإخوان الصّفا، تطوّرت في القرن الحادي عشر وصارت تحتوي على ستة دساتين زمن ابن الطّحان وحسن بن أحمد علي الكاتب، ثمّ سبعة دساتين زمن صفيّ الدّين الأرموي.
وأثناء هذا كلّه كانت أوتار العود تصنع من أمعاء الحيوانات أو الحرير المغزول وتركّب مزدوجة بالشّكل الذي يعطي فيه كلّ زوج نغمة واحدة كما في العصر الرّاهن.
العود في العصر الحديث
اتّضحت ملامح العود حديثا بالخصوص مع المدرسة العراقيّة تحديدا مع الشّريف محيي الدّين حيدر وتلامذته، ومن أبرزهم بشير حدّاد وغانم حدّاد وسالم عبد الكريم وروحي خمّاش وسليمان شكر ومنير بشير ونصير شمّا، الذّين واظبوا على استعمال السّتّة أوتار [10] وفق التّرتيب التّالي (من القرار إلى الجواب): قرار جهاركاه أو قرار بو سلك-راست أو عشيران- دوكاه- نوا- كردان- ماهوران.
وقد طوّروا في أساليب عزفهم، سواء على المستوى التّقني أو الفنّي، تزامنا مع التّجديد الذي مسّ طرق التّأليف والكتابة للآلة نتيجة الانفتاح على المدارس الغربيّة والتّواصل معها. وأخذت تتطّور مكانة العود الفردي من جهة، وحتّى مع المجموعة، إذ صاحبت هذه الآلة إضافة إلى الفرق الموسيقيّة الأوركسترا في تجارب طريفة ومتفرّدة.
حضور العود في القوالب الموسيقيّة
الارتجال (التّقاسيم)
تمثل التقاسـيم، وهي جمل موسيقيّة مرتجلة، أرفع وأرقى اختبار لبراعة العازف وقدراته الفنية وتمكنه من الأداء وذلك بحسـن تصرفه ومهارته في الانتقالات اللّحنية والمقاميّة بطريقة متجانسـة ومبتكرة، ثم العودة للمقام الأصلي بطريقة مقنعة ومحبوكة ومريحة للمستمع.
وقد أولى عازفو العود مكانة مهمّة لهذا القالب فتراه متجذّرا في الأثار الفنّيّة لجلّ روّاده، والتي يمكن أن تقسّم إلى تقاسيم حرة وتقاسيم موزونة.
التقاسيم الحرّة غير مقيدة بميزان، تمهّد للوصلات الغنائيّة أو المعزوفات وهي عادة قديمة متوارثة من الأجيال السّابقة، وقد شهد هذا القالب تطوّرا في مستوى التّقنيّات المستعملة في تنفيذه، فسابقا كان العازف يحافظ على الخلايا اللّحنية الإيقاعيّة المعروفة والمميّزة لكلّ مقام (كليشاي) ويتعمد إبراز الأجناس المتناولة في تقسيمه من خلال وقفات مطوّلة نسبيّا بين الجنس والآخر.
ويهيمن على التّقسيم تقنية الفرداش مع استعمال درجة تحمل نفس الاسم في القرار والجواب (تكرديّة)، ويعمد العازف إلى تكرار نفس الجملة مع تغيير مجالها الصّوتي (من القرار إلى الجواب) والعودة في كلّ مرّة إلى نفس الدّرجة، التي عادة ما تكون وترا مطلقا في العود.
أمّا اليوم، وكأنّي بالعازف ينساق مع عصر السّرعة فيختزل في بعض الأحيان تقسيمه في أقلّ من دقيقتين، وباتت تقنيّاته ترنو هي الأخرى إلى السّرعة. ولئن حافظ التّقسيم على تقنية الفرداش، مع استعمال درجة تحمل نفس الاسم في القرار والجواب، والعودة في كلّ مرّة إلى نفس الدّرجة التي عادة ما تكون وترا مطلقا في العود بسرعة كبيرة، فإنّنا نلاحظ ابتعاد العازفين في بعض تقاسيمهم عن الجمل اللّحنيّة الإيقاعيّة المميّزة لكلّ مقام.
أما التقاسيم الموزونة فتكون بمصاحبة آلة إيقاعية. وعادة ما يتخلّل هذا التّقسيم قالبا آخر من القوالب الموسيقيّة مثل التّحميلة.
التّحميلة
من تعريفها يتّضح لنا أنّ التّحميلة هي معزوفة موسـيقية تكون ألحانها بمثابة محاورة بين العازفين على الآلات الموسـيقية كالعود والقانون والكمان والناي تبدأ باسـتهلال لحني قصير يؤدى من قبل جميع العازفين ثم ينفرد أحدهم بأداء تقسـيمة موزونة قصيرة تكون بمثابة سؤال لحني موجه إلى بقية العازفين، وتكون إجابة الفرقة الموسيقية بعزف لحن الاستهلال.
وعادة ما يستهلّ هذا القسم الارتجالي عازف العود كما هو الحال في تحميلة "الرّاست سوزناك". وبصفة عامّة فإنّ التّحميلة لم تشهد تطويرا في العزف باستثناء بعض المحاولات مثل التي أقدم عليها عازف العود التّونسي حمدي مخلوف.
الاستخبار
يختلف الاستخبار عن التّقسيم في لهجته الموسيقيّة، ففي حين يركّز التّقسيم على اللّهجة المشرقيّة (مصريّة أو سوريّة أو عراقيّة، إلى آخره) فإنّ الاستخبار يكون في لهجة مغاربيّة تونسيّة أو جزائريّة أو مغربيّة. وقد حظي هذا القالب باهتمام عازفي العود وذلك في نوعيه غير الموزون والموزون الذي يتخلّل عادة قالبا آخر من القوالب الموسيقيّة مثل النّوبة التّونسيّة.
الدولاب
كلمة دولاب تركية الأصل. وتطلق على قطعة موسيقية صغيرة ممهّدة تستهل بها الأدوار وغيرها من القطع الغنائيّة في الموسيقى العربيّة تشبع أذن المؤدّي والجمهور بالجوّ المقامي الذي سيتمّ تناوله، ويسمى الدولاب على اسـم ذلك المقام، كأن نسمّي دولاب راست أو دولاب بياتي أو عشّاق. ولبساطة القالب، يعتمده الأساتذة لتعليم كلّ من رام العزف على آلة العود.
الأغنية
هي في الأصل قالب غنائيّ، بيد أنّ البعض من الموسيقيّين قد قاموا بعزف الأغاني، وقد اعتمدوا قديما على نفس التّقنيّات المستعملة في التّقسيم من فرداش وقرار جواب، مع المحافظة شبه الكلّية على مسارها اللّحني.
أمّا اليوم، فقد عمد البعض إلى توزيع مخصوص لبعض الأغاني مستوحى من تقنيّات العزف المتطوّرة على آلة العود، ومن تلك التّجارب نذكر أغنية "فوق النخل" التي قام نصير شمّة بتطويعها لعزفها بتقنيّات عالية منها المركّبات المنفصلة واعتمد فيها على تقنيّات شبيهة بالتّقنيّات المستعملة لعزف على آلة القيتار بالنّسبة لليد اليمنى.
كما قام البعض بعزفها ثنائيّا (مع آلة الكمنجة) برؤية جديدة باستعمال عزف نفس الدّرجة من القرار إلى الجواب والمركّبات المنفصلة وإضافة أشكال التّعبير (الانتقال من القويّ إلى الضّعيف).
المقطوعة الموسيقيّة الحرة
منذ عام 1935 انطلق محمد عبد الوهاب إلى عمل مقطوعات موسـيقية حرة في التركيب، وهى شبيهه لصياغة التحميلة يعبر بها عن خياله وفكره الخاص. وعلى هذا المنوال، ومع التطوير في أسلوب الأداء، قام عدد من الملحنين والمؤلفين الموسيقيين بصيغة مقطوعات موسيقية حرة. ومنها فانتازى نهاوند؛ المعادي؛ خطوة حبيبي لمحمد عبد الوهاب؛ وتوتة ورقصة الجمال لفريد الأطرش؛ وفتافيت السكر لمحمد فوزي؛ وستّ الحسن لمحمّد سلطان.
والملاحظ أنّ من الملّحنين من قاموا بتأليف مقطوعات موسيقات حرة خاصة بآلة العود ومنهم جورج ميشيل الذي سعى جاهدا من خلال مقطوعاته إلى إظهار الطابع الخاص بآلة العود وقيمتها علاوة على براعة عزفه عليها. وكذلك نصير شمّة الذي سعى جاهدا من خلال مقطوعاته إلى استعمال التّقنيّات التي تحدّثنا عنها في القسم الخاص بتطور الارتجال مع تقنيّات آلة القيتار خاصّة بالنّسبة لليد اليمنى.
البشرف
ويقال بشرف أو بشرو، وهو أهم أنواع التأليف الآلي، وكلمة (بشرو) لفظ تركي بمعنى مقدّم أو دليل، ويتألف من أربعة أجزاء رئيسية يسمى كل منها (خانة)، ويفصل بين كل جزء منها جزء تتميز به هيئة المقـام الرئيسي للحن يسمى التسليم، يتكرر بين كل خانة وأخرى، ويختتم به البشرف في النهاية.
السماعي
قالب آلي يشـبه البشـرف في تكوينه من حيث عدد الخانات، إلا أن خاناته تكون أقصر، وتصاغ الثلاث خانات الأولى والتسليم في إيقاع السماعي الثقيل ميزان10/8. وعادة ما يتكوّن كل منها من أربع دورات إيقاعيّة من إيقاع السماعي (أو لا تقل عنها). أما الخانة الرابعة فتكون في ميزان سـنكين سماعي 6/8 أو فالـس 3/4 أو سمّاعي طاير 3/8. وفي الآونة الأخيرة تعددت الموازين التي تصاغ منها الخانة الرابعة.
وتحضر آلة العود بشكل ملحوظ في تنفيذ هذا القالب الآلي، إمّا بشكل فردي أو في شكل ثنائي أو حتّى جماعي صحبة الفرقة الموسيقيّة.
اللّونجا
يذكر أن اللونجا أصلا كانت من أنواع الرقصات الشـعبية التركية، وهي مؤلف سريع النّسق يشبه البشرف في عدد الخانات والتسليم والسماعي في اختلاف ميزان الخانة الرابعة. وقد اهتمّ عازفوا العود من قبيل إنعام لبيب ورياض السنباطي، وجورج ميشيل بالتّلحين في هذا القالب، وهو ما جعل هذه الآلة تحظى بحظّ وافر في تنفيذ هذا القالب.
الكونشرتو
الكونشرتو هو قالب غربي يقوم على مبدأ الحوار بين الآلات الموسيقيّة. وقد أغرت الخصائص المميّزة لهذا القالب والقائمة أساسا على إبراز دور آلة ومكانتها وتقنيّاتها مقارنة بأوركسترا عازفي العود الذين قاموا بالكتابة لها في هذا القالب مثل كونشرتو عود وأوركسترا عطيّة شرارة، كونشرتو عود وأوركسترا سيمون شاهين، وكونشرتو عود وأوركسترا عمّار الشّريعي.
وكخاتمة لهذه المقالة أردت أن أؤكّد على أنّ العود آلة متجذّرة في الثّقافة العربيّة القديمة والمعاصرة، استطاعت ليس فقط بفضل خصائصها أن تصمد أمام تيّار العولمة وزحف الآلات الغربيّة، وإنّما بجهود عازفيها وروّادها الذين لم يتواروا في تجديد نظرتهم إليها وتطويعها مع القوالب المسيطرة على الذّائقة السّمعيّة للعصر الرّاهن ومقتضيات الحداثة من خفّة النّسق، وتطوير تقنيّات العزف.