** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عزيزة
فريق العمـــــل *****
عزيزة


التوقيع : في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري 09072006-161548-3

عدد الرسائل : 1394

تاريخ التسجيل : 13/09/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري Empty
29022016
مُساهمةفي التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري



في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري 30qpt79(3)

في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري

في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري 30qpt79(3)

منذ البداية جرى الفكر 
على عادة تغييب الشر، وعزله دائماً في رقعة نائية عن الإنسان ووعيه معاً. 
فالميتي (الأسطوري) حدّد للإنسان موقعاً متوسطاً بين (الأولمب) جبل الآلهة 
عالياً، وجحيم الشياطين في أسفل السافلين. مثلما ليس الإنساني هو موضع 
الإل?هي، كذلك ليس هو موضعاً للشيطاني. ولقد تمت ممارسة هذه العلاقة 
المتخارجة لدى العقائد الدينية الكبرى، وكذلك الفلسفات التي أنفت أخيراً من
تسمية الشر باسمه، فراحت تندّد به عبْر نقائضه المصنفة في عداد الممكنات 
البشرية. ثم إن انزياح الشر كدلالة وموقع، لَقِيَ تعبيره الحداثوي في 
الاختراع الفرويدي الاستثنائي المسمّى باللاشعور. وهذه التسمية لم تَدَعْ 
دلالتها تتورط في حوار مكشوف مع الشر «الخام». فاللاشعور أمسى له موقع ما 
من الكينونة الإنسانية، لكنه ظل مع ذلك يحتل منطقة اللامنظور كعادة التغييب
العريقة إلاّ أنه صار مُدجَّناً [وتاهيلياً] إلى حدٍ ما.

حتى فرويد لم يجرؤ، ليس على تسمية الشر باسمه المباشر فحسب، ولكن على تعريته من كل ترميزاته المتداولة؛ لم يقاربه وهو خام صريح. أَوْكَلَه إلى اللاشعور، سلّمه إلى غموضه 
«الأزلي» دون أن يُفقِدَه حقّ العودة. ومع ذلك، فالشر أقدم الأقانيم 
المشغول عليها حضارياً؛ حتى لم يعد بالمستطاع التعرّف على هيئته الأصلية. 
لذلك كان من المريح باستمرار لكل المواقف والمذاهب تصنيفُه تحت صيغة 
النسبيات التي تضمّه وسواه معاً. لكن تغييبه موقعياً بقي استراتيجية ثابتة.
إذا كان التغييب يعني إقصاء الشر كمخلوق ما يسكن عالماً نائياً، إلاّ أنه 
في الوقت عينه يجري الاعتراف بأفاعليه ومؤثراته ضمن منطقة (الداخل). ومن 
هنا تأتي مختلف المفاهيم المجردة، والأفاهيم الحميمية، وهي تحرص على 
استمرار التخطيط الجهوي، بتعزيز الأسوار الفاصلة بين (الداخل) و(الخارج).
هذا الداخل، وقبل أن يتبلور أقنوم الذات، ويتم تشريح (الأنا) سيكولوجياً، ظلَّ معقل الكائن ومسكَنَه الحميم، يرتبط به بدون أية علاقة، ويحسُّ به لصيقاً به ودفيناً فيه دون 
واسطة. هذا الحدس المطابق لموضوعه، دون أية نتوءات من هذا أو ذاك، لا 
يُفَرَّطُ به بأي ثمن. ليس ذلك لأنه يعني البقاء أو الحفاظ على الفرد أو 
النوع، كما سوف تترجمه التجريبيات الحديثة بل لأنه هذا الداخل الذى يتعلق 
به المرء بدون أية علاقة، سابقة على كل توصيف، بما فيه تحديد الخير أو 
الشر.

إن تحييد موقع الشر في جهةٍ ما،أو رقعةٍ ما من هذا «الخارج»، يؤسس تبريراً، غير مصرَّح عنه، لتحييد الداخل. أي تخصيص الداخل بالحالة السابقة على كل توصيف أو تصنيف جهوي. ولو أن الخارج كان كله، ومنذ البدء، واقعاً: تحتـاليد، لما أمكن رسم تلك 
المسافة بين ما هو تحت اليد، وما هو فى متناول اليد. أي 
بين حالة الكائن الحيوان الذى يولد عالمُه منذ البدء في وضع برنابحه الخلوي
موضع التنفيذ، وبين الكائن الإنسان، فهو الذي يُقذف به إلى عالم مغاير منذ
البدء؛ قد يقع بعضه تحت اليد، ويقع البعض الآخر في متناول اليد، ولكن يقع معظمه خارج هاتين المسافتين.
فهو الحيوان الحركي، من الطراز الأول الذي لا يمتلك مقدماً أي حيّز من 
العالم. وبالتالي لا يمكنه أن يستتبعه بضمير التملك. إنه، هو من لا يحوز 
على عالمـ ـه أبداً. فإنْ يكن الخارج مُحيّداً بالنسبة للداخل، بهذه 
الدلالة شبه المطلقة، وهي أن الخارج لن يكون مجرد ضاحية للداخل، لكن الداخل
سيظلّ مهدداً من قبل الخارج، ليس لأن هذا الثاني يغزو الأول، بل لأنه 
يمتصّه. لا يدعه يقوم عند ذاته. إنه كائن محروم من سكن بيته إلاّ لماماً أو
نادراً. ولكن ما معنى أن يكون مُحيداً بالنسبة للداخل؟ رغم أن العلاقة لا 
يمكن أن تنقطع بينهما، حتى في أعنف الأزمات المرضية الانفصامية، فإن أولى 
حالات الوعي، التي سوف تصاحبه كلّ الحالات الأخرى التي تليها، هي أن الخارج
ليس اللغز كما هو مفهوم العالم منذ هوسرل وليس هو اللا أنا كما عند فيخته والمثالية الألمانية، بل هو كمية الاختلاف اللامتعينة التي تبقى طافحة عن كل علاقة بها.

نقول الداخل ولا نقول «الذات»، 
ليس لأن الذات مفهوم متأخر في تاريخ الأنتروبولوجيا، وهذا في أصله يشكّل 
أهم تلك الأسباب، أو على الأقل أوضحها. بل لأن الذت كانت موضوعاً مفضلاً 
للكتابة، حتى صارت أقرب إلى الاصطلاح. كانت عتبةً أو إشارةً إلى الداخل، 
لكن كتابة الذات جعلت من نفسها هدفاً، ونسيت كونها المدخل إلى ما يصعب 
الاصطلاح عليه. كأنما الذات أخيراً شاركت في تلك الاستراتيجية الكبرى التي 
عنوانها نسيان الكينونة.

الداخل، يظل يحتفظ بحياديته 
بالرغم من كل ما يُقال ويُكتب عنه، من خلال بدائله اعتباراً من مفهوم 
الذات، والأنا المفكر أو الوعي الظواهري، وصولاً حتى إلى المصطلح الهيدغري 
الأكثر ثراءً وفوريةً، وهو الكائن في العالم؛ أو الدزاين؛ إنه شبْه الداخل 
الذي يسمح بالمقاربة البريئة التي لا تَعِدُ بأي اقتناص للهدف أو اختزال 
لموضوعٍ لا تعرف حدوده. كل الأيقونات الذاتية، بما فيها أعجوبة الفرد 
المعاصرة التي تُصدّرها آخرُ التشكيلات المعرفية الغربية كتعويض غير مستنفذ
بعْدُ، عما خسرته مع الأفكار التضمينية السابقة، نقول إن كلّ الأيقونات من
الطراز عينه واشتقاقاته، بقيت تناور على فورية الداخل، تتسكع على حوافيها 
وتتبضّع من بعض حواشيها. الداخل بقي مسكوناً بنفسِه فقط، بالرغم من سطوة 
الدخلاء ومَكْرهم. الداخل، ما أن ينطق به لسانٌ، حتى يشرع هو في انتظار 
صمته ليتمكن من استعادة هيبته. يظل الداخلَ، ما لم تمسَسْه بعْدُ أيةُ 
عبارات، أو تحاول استيعابه أيةُ صياغات. الداخل، يظل خارجَ كل من يحاول 
الدخول عليه.ليس له بدايات معروفة. وكل مصطلح ذاتويّ، قد يفوز أحياناً 
بإعلان عن اكتشاف بوابة، أو اصطناع فجوة، أو نَحْتِ عتبةٍ. لكن يبقى من 
الاستحالة بمكان البرهنةُ على كونه فَعَل كذا أو كذا. إذ إن الداخل لا 
يجيب، ومهمة الشرح والتفسير منوطة دائماً بمن ادَّعى الدخولَ والاختراق: أي
من قِبَلِ ذلك الطرف الثاني الآتي من الخارج، مدّعياً أنه حامل كنوز ذلك 
الآخر (العالم)، الذي لم يتطوع بتسمية من ينوب عنه. في حين أن المتنطعين 
لاقتناص بعض رموز الداخل، أو لِحَمْلِ إشاراتٍ من رموزه هم كثرٌ، ومتنوعو 
العناوين والوكالات. ليس هذا لأن (الداخل) قلعة مستعصية، أو نوع من الحرم 
المعصوم. بكل بساطة؛ جوابٌ واحد: كل ما يقال عنه له صفة واحدة وهي أنه من 
الخارج، ولا شيء يمكنه أن يدَّعي غير ذلك. كلام من الخارج حول/وعن الداخل، 
المعتصم بصمته دائماً.
ليس الداخل هو اللامفكَّر به، وذلك بسبب من صعوبة التحاقه أو إلحاقه بلفظ آخر ينتسب إليه سلباً أو إيجاباً، ويكون من نوع اللامفكَّر به، الذي يظل مع ذلك على صلة ما 
بالمفكَّر. صحيح أن الداخل قد يدخل في ثنائية مجردة وعامة مع نقيضه الخارج،
لكن ما يجمعهما معاً هو مجرد اصطفافهما على صعيد واحد من الحيادية، مع 
الفارق في كون الخارج مليئاً بأشياء العالم، ولديه ما يعرضه دائماً أمام 
الحواس: ما هو تحت اليد، أو في متناول اليد. في حين أن الداخل يتمتع بنوع 
آخر من الحيادية التي تجعل كل حَمْلٍ عليه، بالمعنى المنطقي، لا يشكّل 
عبارة أو جملة تامة. حسب هذا التقدير فإن كلّ النصوص الكبرى والصغرى التي 
اشتغلت على إنتاج العبارات الكاملة فيما يدّعي الحَمْل على الداخل، كانت 
بدون أساس، أو على الأقل بدون حسم، سواء كان إيجاباً أو سلباً. فالخارج 
يمكنه أن يمتدَّ معروضاً تحت السمع والبصر.قد يتصف بالغنى اللامحدود، 
بالتعقيد، يحتكر كونَه وطنَ الكشف والتغلغل فيما ليس محسوساً بعد، فيما لم 
يُرَ، ولم يُلمَس بعد، لم تثبت له بعد اعتباراتٌ علمية أو وصفية. كل ذلك 
صحيح وأكثر منه دائماً، لأنه ليس هو وطن الكشف والمفاجأة والجدة فحسب، بل 
إنه هو الذي يعطي نفسه أرضية الانعتاق، إنه مَنْ وما يقدّم للداخل عيْنَه 
مجالاتٍ للتجسد والتكون. فالخطأ في معالجة ثنائية الداخل/الخارج، ليس في 
تلك المعارك المفهومية والاستراتيجية الكبرى، التي قسمت تاريخ الفلسفة، قبل
الأنتروبولوجيا، بين من يغلب من، بل في كون كل افتراض ينطق باسم الداخل، إنما ينبع من الخارج دائماً؛
ولكنه لا يقبل لنفسه تسمية ولا عنوانأ إلاّ إذا اقترن ببعض أحاجي الداخل. 
هذا بعضٌ من ارتهان الخارج للداخل. ولكن يتضح من ذلك، بعد كلّ عاصفةِ 
ارتهانٍ، أنه لا دليلَ أبداً على إمكان تدخّل في ذلك الداخل، في كل ما يُغزى إليه، وكلّ ما يُلْبَسُ من متاع المدّعين الفاتحين لأسراره، أو للمنهزمين أمام صمته.

لا يُستطاع التحرشُ بالداخل 
بذات أسلوب التصدي للامفكَّر به؛ لا يمكن صياغةُ المعلوم والمجهول على أساس
ما كان يُخَيَّل إلينا أنه من ذلك الداخل، إذ يتبقى أن له ذلك اللغز الأول
الذي شُغل عليه فلسفياً وإبداعيأ دائماً؛ ذلك أنه لا يزال الموئلَ الأخير 
الذي يحسّ فيه المرء أن ما يعرفه عنه له وحدَه، وما لا يمكن أن يعرفه سواه.
وفعل المعرفة الذاتي هذا، ليس من النوع السابق على المعرفة وتصنيفاتها 
الموضوعية. حتى كلمة نفس، ونفسية، لا تنال منه إلاّ إيماءاً معيناً؛ يظل 
تصنيفاً مع ذلك. والقول: نفسي، وأنا مع نفسي، وكل العمارات التي ارتكزت إلى
هذا القول منذ إعلان سقراط عن معرفة النفس بالنفس، إنما سجَّلت وقوفاً في 
العتبات ليس أكثر.

لذلك كان أصدق تفلسف هو الذي 
يختار موقع العتبة، ويقرّ به؛ وهو ما كان يشكّل تميّز التفلسف السقراطي 
عندما كان سؤالاً. كان بالمستطاع أن يصحّح بروتاغوراس، أن
يلغيه، عندما اختار، أو أُريد له الاندماج كلياً في أجوبة أفلاطون تلميذه 
الأستاذ. كاد السؤال السقراطي في أصله أن يكتشف أن الحيادية ليست في عالم 
(الداخل )، ولا في عالم (الخارج)، ولكن في اخترع الموقع الثالث الذي وحدَه 
يستحقّ الحياديةَ، وفيه تستحق الحيادية أن تنطق بكلمة واحدة: ماذا؟ لكن 
الذي حدث مع الأفلاطونية هو أن ذلك الموقع الثالث قد امتلأ بالمعيارية 
المفارقة التي قدّمت نفسها إلى العقل الإغريقي في ذلك الوقت، على أنها أصل 
العالميْن معاً: الداخل والخارج، بما يتجاوزهما ويشكّل مثالهما في آن. بذلك
انتقل التفلسف من السؤال إلى الجواب، حتى أُتخم به. تجيء المعيارية لاغيةً
للحيادية، عن سابق تصور وتصميم. فهي تدخُلٌ مستمر بين الكائن وما يقوله عن
ذاته. تسكب عليه ما تشاء من (القيم) والاعتبارات من خارج؛ طاغيةً عليه 
بذلك، بكل ما تمتلك من إغراءات الجذب والاستتباع، كما المنع والاستبعاد.

لكن ماذا تعني الحيادية أولاً؟ هل هي ما يعطي الشيء ومشهده معاً؟
هذا جواب تقريبي. لأنه ينفر حقاً من أن يقول كلمته ويصمت. إذ لا يمكن 
للحيادية أن تنحاز نحو الجواب، مثلما لا يمكنها أن تتحمل وحدها صرامةَ 
السؤال. إنها بمعنى ما، تقف خارج سجال السؤال والجواب. لكنها في الوقت 
عينه، تعتبر أن كلاً منهما محتاج إليها كيما يحميا معاً ساحتهما المشتركة 
من مداهمات المعيارية. هذه الحاجة تمثلٌ مبدئياً في ادّعاء كلٍّ من السؤال 
والجواب أن كلاً منهما إنما يشتغل تحت طائلة الحقيقة، أو مسؤوليتها. 
فالسؤال لا يستطيع تشكيل استفهامه دون أن يبدو عليه ومنه ما يوحي بجدّية 
ما، يمكن تفسيرها أو تعليلها على صعيد (الإتيكا)؛ أي أنها نوع من الانهمام 
بالمعرفة، المشروطة هي ذاتها بالحقيقة. فالمعرفة ليست رديفاً للحقيقة؛ 
ولكنها هي بمثابة الموضوع الدي يحمل عِبْأها، ويتحمل عنه كل خصائصه دون أن 
يفي بها تماماً. فالمعرفي طامح دائماً لأن يستظلّ تحت سقف الحقيقي. أن يوصف
المعرفي بالحقيقي، لا يعني أن يوصف الشيء بنفسه، ولكنه يخرج إلى مشهدية 
أخرى، قد تُعتبر من خانة المعيارية، على أنها تلك المعيارية التي لا تجد 
لها مرجعاً إلاّ فيما تدّعيه من تحقيق الحقيقة عينها.

إن اصطفاف المعرفي، الحقيقي، 
المعياري، لا يدخل في لعبة لفظية، بقدر ما يشفُّ عن ذاتية العلاقة التي 
تربط الأقانيم الثلاثة، فيما يُيْرز تعددية وحدتها المفهومية في وقت واحد. 
لذلك تأتي الحيادية لتقدم من ذاتها المشهدية القادرة على بلورة هذا 
الإبراز. فهل تنجح الحيادية في أن تغدو مفهوماً تركيبياً. ليس هذا أبداً. 
إننا، لو بحثنا في الحيادية عن العناصر التي تدخل في تركيبها، لما وقعنا 
على أحد تلك الأقانيم الثلاثة. فليست إذاً تركيباً ينحل إلى عناصر. ومع ذلك
فإن صلتها بالمعرفي والحقيقي والمعياري، تكاد تكون شبه تكوينية وتوليدية، 
دون أن تكون كذلك. فالمعرفي لا يولَّد الحقيقي، ولكنه يفترضه ما أن يتم 
تلفظّه. كما أنهما معاً يفترضان أن ممارستهما تعني الأقنوم الثالث الذي هو 
المعياري. والفكر هو الذي وحده يمكنه أن يعتبر أن تلك الأقانيم، إنما هي 
مما يرجع إليه وحده. لكنه لا يلعب، بناءً على ذلك، دورَ المحلّ المُعلَّى، 
لتجلّي تلك الأقانيم أو لممارستها وتفعيلها. ليست من مضمونه، ولا هي من 
هندسة شكله. وهو الذي لا يقبل توصيف المضمون أو الشكل. إنه بالأحرى هو ما 
يجعل كل أقنوم من هذه الثلاثة، ذاتيَّ المفهمة، وما يفيض عنها في آن واحد.
فالمعرفي، لكي يتحمل مسؤولية تَلَفّظه ذاك، لا بد أن يكون ذاتيَّ ذاته؛ 
وفي هذا التعيين، فإنه يدخل تحت تصنيف: الحقيقي، ويدخله في تعيُّنه، يتمّ 
بذلك تعُّين الواحد (المعرفي) بالآخر (الحقيقي)، وتعيّن الواحد بالاثنين 
معاً؛ وفي الآن عينه يمكن النطق بالتلفظ الثالث: المعياري، كإشعاع صادر 
عنهما، آتياً بما يخصّه وحده فيما يخص الاثنين معاً، وبما يضيف عليهما.

نقول هذا لأن تلفُّظ الأقانيم 
الثلانة لا يخضع للمنهجيات المنطقية أو الجدلية. وعندما نضع كل هذا 
(التراث) جانباً، فإننا نساهم فى جهد الفكر أن يكون عينَه، وبما بوجع إليه.
إننا نلامس حياديته الأصلية عندما نستدعي ما يشكِّل حقاً دلالة الحيادية. 
ليس ذلك لأن ما يصمد في الفكر، كفكر، في النهاية هو هذه الحيادية، هذه 
الانزياحية البدئية، والمبدئية، عن كل ما يدّعي علاقة به فحسب؛ بل هي 
الحاجة إلى صميمية المعيار، أو ذلك العِيار ذاتيِّ نفسه؛ 
بحيث يحتاج كلُّ من وما يدّعي علاقةً بالفكر. أن يخضع في النهاية إلى: 
الفكر وما يرجع إليه، كيما يدعم تأسُّسه فيه، بما هو كذلك. وقد يكون هذا 
التعبير مقارباً كثيراً «الدور» المنطقي؛ لكنه ليس مطابقاً له تماماً. إذ 
إن كل استحضار لصيغةِ تلّفظٍ ما، تدَّعي علاقة بالفكر،.أو تأسيساً به وفيه،
إنما يفترض ثمّه استحضار لتعريف ضمني لما تفهمه صيغةُ التلفظ من الفكر 
وعنه، حتى تبيح لنفسها تدرؤاً به؛ ولكن هذا التعريف، ليس ما يجب الكشفُ عن 
أستاره ومخابئه فقط، بل لا بد من استحضاره فى ذات اللحظة، وعيْن المستوى 
الذي تتجلى به صيغة التلفظ. لذلك نقول إن صيغة التلفظ بما تدّعي صلةً 
بالفكر، ينبغي ألاَ تأتي إلاّ ومعها ما يجعلها كذلك. وهنا تفارق صيغةُ 
التلفُّظ صيغتَها تلك. تغدو حدثاً. يقال إنها: تحدث. وقد يصير لها تسمية جديدة: حادثة الفكر. و«حادثة الفكر» لا تعني سوى أن: الفكر يحدث.

ليست «حادثة الفكر» سوى هذا 
الاصطلاح «اليومي» إن صح التعبير عن التشكيل الذي يضمّ كلاً من المعرفي 
والحقيقى، والمعياري، فيما يشبه الفعل الواحد، وإن اختلفت زوايا رؤيته. وهو
تشكيلٌ يظلّ مما لاَ يرجع إلى الفكر، إن استطعنا أن نميّز المعرفي دون 
الأقنوميْن الآخرين. أو تمييز أحد الثلاثة، أو إثنين منها، مع إهمال الآخر،
الثالث؛ «إذ إن «حادثة الفكر» تحدث عندما تقع على المعرفي الذي بدوره 
يشتغل على الحقيقي، واللذين معاً إنما يضعاننا على درب الكينوني الذي هو 
ذاتيّ العيار بدون أية معيارية. ههنا «حادثة الفكر» تحدث،
عندما يتلاقى سؤال المعرفي عن الحقيقة، مع النداء على الكينوني. لكن سؤال:
ما هو؟ لا يفي وحدَه بحادثة الفكر، إن لم يقترن بنداءٍ على الآتي، الذي لم
يتخذ هذه الصفة بعد: الما هو عَتَبَةٌ أمام الما يكون.

يكاد يَفهم الوعي من «حادثة 
الفكر» أنه معيارية خالصة. فأي معرفي لا يشترط الحقيقي، وأي حقيقي لا يندرج
كينونياً. فما هي هذه الصياغة إن لم تكن معيارية. لكننا نقول عنها مع ذلك 
إنها المعيارية التى لا تشبه نفسها أبداً فى أية لحظة. ولذلك تكون أقرب إلى
الحيادية منها إلى أي نظام تقييمي. إنها تلك المعيارية التي يحتاجها كل 
نظام تقييمي، كيما يلْقى فيها مرجعيته، وإلاّ انزاح دفعة واحدة، وقَفَ 
نقيضَ الحيادية. صار ملتزماً بغير ما لديه، ومُلزِماً الآخر بما ليس لديه 
كذلك. صار خارجياً على «حادثة الفكر».

ولكن ألاَ يبدو التناقض صارخاً 
عندما لا نرى فى «حادثة الفكر» سوى معيارية خالصة، ونَصِفُها بالحيادية مع 
ذلك. والجواب هو أن الحيادية ليست صفةً تُلصق بالمعيارية. بل هي تُشغل 
حيّزها عينه، إذ إن المعيارية لا يمكنها أن تغدو إلاّ الحياديةَ عينها، 
عندما تقترن، باعتبارها كحادثة للفكر، بحادثات ليست لها تلك التسمية. عندما
تشق حادثةُ الفكر دربَها إلى العالم، وتشرع في تخطيط اللامتعيّن في 
مساحاته التعيينية. هكذا يدخل الفكرُ العالمَ تعيينياً، من حيث إنه العالم 
هو اللامتعيّن أبدياً. تلك هي المعياريةُ محافِظةً على حياديتها المطلقة، 
بالرغم من انخراطها الكلي في التعامل، كحادثة للفكر وحده، مع كلّ ما ليس 
كذلك. الحيادية هنا هي العيارية المؤسِّسة لكل معيار، شرْط جَعْله مختلفاً 
عن ذاته في كل حال ينطبق فيها على سواه.

الفكر وما يرجع إليه وحده. 
عبارةٌ، قمةٌ للمعيارية، التي يظل ينقصها كلُّ معيار ـأو بالأحرى تتجاوز كل
معيار لا يمكن الالتقاء بها، مع ذلك، إلاّ عندما يُشرع في البحث عن «حادثة
الفكر» في حادثة العالم. أي حين تشتبك حادثة الفكر مع كلّ ما يغايرها؛ 
تلتقي به، بالمغاير، من حيث إنها تنسحب، في آن، كيما يتقدم المغاير وحده 
أخيراً. كما لوكانت حادثة الفكر في العالم، سؤالا لحادثة العالم، لا يكتفي 
بانتظار جوابها؛ بل يتحول السؤال إلى نداء كيما لا يأتي الجواب وحده، بل 
يأتي ومعه «المجيب». فالتحول من سؤال (نحو) المجهول، إلى نداء (على) 
الكينوني. ذاك ما يجعل حادثة الفكر متورطة في حادثة العالم، وما يجعلهما 
معاً تشكيلاً ندائياً على الكينونة.

كلّ ذلك مشروط بالحيادية التي هي قمة المعيارية، بدون أي معيار، ما يرجع إلى الفكر وحده. تصير عياراً خالصاً.

النداء على ماذا؟

إن السؤال عمل عقلاني. أما النداء فهو يصدر عن كائن، ويتوجه إل كائن؛ وقد كان الانفصال بين السؤال والنداء حاداً، إلى درجة ألاَ يعرف أحدُهما الآخر. إلى درجة قيام ثقافة 
للسؤال، وثقافة أخرى للنداء. فالأولى تقسم العالم إلى ذات وموضوع. وتضع 
الذات في مركزه، أو على قمته. وتحول بقية الأشياء والكائنات إلى موضوعات. 
والثانية تجعل من كائن النداء مفتقراً دائماً إلى كائن الاستجابة، أو عَدَمها. قد تدَّعي الأولى أنها تأتي بالتقنية، بالعلم إلى العالم. وأما الثانية فقد تقع في الخلط بين ندائها على الكائن المنسحب، وبين ندائها على الكائن المغيوب، أو الغائب دائماً.

لكن، بالنسبة إلى الفكر وحده، ماذا يعنى انقسامُ الثقافة إلى قطب للسؤال، وقطب آخر للنداء. وانقسامُ النداء ذاته بحسب المنادى عليه، إن كان منسحباً مؤقتاً، أو غائباً دائماً؟ 
ذلك الانقسام هو أول تجليات النقلة من المعيارية كحيادية، إلى المعيارية 
كتورطٍ في إصدار أحكام للقيمة، وأخرى للوجود.
وهو ما طبع إنتاج الميتافيزيقا الغربية، بحيث طغت القيمة وحدها على 
الوجود، وأزاحته من قطبيّ الذات والموضوع معاً. في حين أنها كانت تعتقد 
أنها تقيم صرح الذات فقط. وبذلك ينفكّ المعياريُّ عن الكينوني، ويشرع في 
طمسه وتناسيه. يتمّ اجتزاءُ الفكر إلى تأريخ للصراع بين الذات والموضوع، 
بين العقل والطبيعة، وصولاً أخيراً إلى تحقق التقنية، باعتبارها معيارية 
تنتج (قِيَمَ) ذاتها، كأدوات تؤدي إلى أدوات. مما يعني نهاية المعيارية 
نفسها، حيثما تتساوى الأدوات فيما بينها، لا يقوم ما هو سواها. لا ينسحب 
الكائن فحسب. بل تنسحب كل إشارة عن انسحابه. وعند ذلك ماذا ينفع كلُّ سجال حول المعيارية والحيادية، أمام تماثلية كل شيء مع كل شيء. يغدو النداء على الفكر وما يرجع إليه ذاتيَّ التعجيز، في الوقت الذي لم يعد ينفع فيه سوى الإستنجاد بما هو ذاتيّ النجدة والقدرة.

في هذه اللحظة الشَّفقية التي 
يوشك النهار فيها أن يدخل عتمة ليل أبدي آخر، سيُفْتقَدُ حسُّ المضاهاة بأي
آخر، إذ سيكون هو الأخير، في هذه اللحظة، وقبل أن ينقلب ممن هو ذاتي 
النجدة، إلى من هو ذاتيّ التعجيز؛ يلمس الكلامُ حدَّ الخطر المطلق فحسب، 
لأنه يسارع في تلفظ العدم، قبل أن يحلَّ العدم في كل شيء، ويصير لا شيء 
كسواه، حتى عدم اللفظ. وفي لحظة هذا الوقت، التي لن يكون بعدها توقيتٌ، لا 
تبقى إلاّ شجاعة اليأس الأخيرة. تنادي، مع ذلك، الفكرَ وما يرجع إليه وحده.

في هذه اللحطة يتتهي التعارض 
بين السؤال والنداء؛ لا يتركان بينهما حيّزاً ثالثاً، يصير له إسم مصطبغ 
يَتَقَنَّع بالمعيارية. يباعد بينهما بحجة إقامة الحدِّ فيما يجمعهما، 
وفيما يفرِّقهما. فحين يدّعي المعياريُّ أنه يفوز بمقام ثالث مختلف عنهما، 
فإنه سرعان ما يفتقدهما معاً. ويصير هو نفسه غيرَ نفسه. يضطر إلى لعب دور 
المعرفي مضاداً للكينوني، فينتهي إلى الاستغراق في التقني. أو يختار أن 
يلعب دور الكينوني مضاداً ومتجاوزاً للمعرفي، فيضلّ الكينونة، ويتبدّد مع 
غيابها المتمادي. هذا الانحياز تارة إلى العبارة (المعرفي) وطوراً إلى 
منتهاها ـ(الكينوني) فضلاً عمّا يعنيه من تنازل عن جوهره، عمّا يجعله 
معياراً حقيقياً (عيارياً)، ألاَ وهو الحيادية فحسب، فإنه يحوّلُ طاقاته، 
الواقعية التاريخانية الجبارة، إلى مخلوقات مسخاء، مُعَوَّقاتٍ، وظيفتُها 
الأساسية أن تحول بين الفكر وما يرجع إليه وحده.

ليس بين المعرفي والكينوني حدٌّ
ثالث. ما اسمُه ذلك الحدّ، الذي لن يكون معرفياً ولا كينونياً؟ إنه: 
المعيار. ذلك هو خواؤه الفعلي بالأحرى. لكن للأسف فإن هذا الحدّ الثالث، 
الموهوم دائماً، أُتيحَ له أن يملأ ساحات العقل بأشباهه. وذلك طيلة التاريخ
وتفكّره أيضاً.

تمَّ له الاستيلاءُ على اللغة. 
جعل صمتَها أوسعَ مساحةٍ بكثير من (رُقْعة) كلامها. وفي رقعة الكلام هذه 
غدت اللغة معيارية خالصة. تتعامل مع الدالات انتقائياً. تصنع للعلامات 
عباراتها، وتصنع للعبارات نصوصَها. فاللغة المعيارية لا تتكلم، لا تكتب، لا
تُصْدر أحكاماً فحسب. قد تخلق واقعاً، يوصف موازياً 
للواقع الآخر. ويتخصّص هذا الآخر بالوقائع بالحادثات، بالأشياء، 
باللامتناهي من كلّ هذه المفردات. لكنها في الوقت عينه تضرب عليه حصاراً. 
تمنعه من الوجود. تختزل تسمية كلّ ذلك العالم إلى مجرد استراتيجية فى التسمية، تصارع استراتجيات أخرى.

هل هناك لغةٌ تتمرّد على صفة 
المعيارية فتجعلها لا تلتصق إلاّ بلغة أخرى مضادة، أو بديلة كيما تحتفظ 
لنفسها بمسافة التأشير على ما ليس منها؟

لا يأخذ الفعلُ كيانَه إلاّ 
عندما يفوز باسمه، يدخل تحت نطاق المعرفي. كم من الأفعال التي تولد وتموت 
كل لحظة ولا يدري بها أحد. لأنها لا إسمَ لها. لأن اللغوي الانتقائي احتجب 
أو سكت عنها، ولم يدْرِ بها أصلاً. هكذا، الأفعال تقع، لكنها لا تصير ← 
حادثات؛ فهل لا يتبقَّى إلاّ أن تغدو حادثةُ الفكر، هي حادثة الكلمة، هي 
الفعل الذي يقع، يحدث؟

ومع ذلك ليست حادثة اللغة هي 
حادثة الفكر. حتى عندما ينتصر الترميز الخالص على اللغوي الاستراتيجي، 
وتُفلح التسميةُ في جعل المسمَّى يتقدم من شيَئْه إلى اسْمِهِ، رمزه، دون 
أن يفقد حفْريتَّه الخاصة به؛ فإنه قد يصير حادثةً لغويةً حقاً، لكن دون أن
تتولد عن ذلك آلياً حادثة الفكر. كلُّ جهدها هنا يتلخص في كونها تَدَعُ 
الفكر يأتي بما يرجع إليه وحده، أن يأتي بحادثته، مما يتيح لها الفوز 
بمجاورةٍ قَلِقةٍ معها مع حادثة اللغة. لكن متى يمكن أن يصنع اللغوي 
حادثته. هل يكفي للإجابة على ذلك بالقول: عندما ترتّد اللغةُ إلى 
لغويَّتها. عندما تغدو تسميتها مضاهيةً لأسمائها. عندما يصبح الاسم 
منافساً، في حروفيته، لدلالة الشيء المسمَّى في حفريته. عندما ترتدّ اللغة 
إلى أصلها كوطن للكينونة، موازية للعالم، ما إن يغدو هو وطناً شعرياً 
للإنسان.

مثلما يقول هولدرلن: إن من حق 
الإنسان ومن استحقاقه أن يسكن العالم شعرياً؛ ذلك يعني في سياق نصنا هنا أن
المعياري ليس سوى إشارة إلى لحظة التقاء المعرفي بالكينوني. إنه مناداة 
حقيقية، تتطلب انخلاع اللغة المعيارية عن التفكير والتلفُّظ باستخدام 
الاستراتيجية، أو الأَقْنَمة بصفة عامة، واللجوء بدلاً من ذلك، إلى الترميز
الخالص، إلى اللحظة الشعرية في إيقاع اللغة، وما هو الترميز الخالص، هنا؟ 
إنه مجيء اللفظ وما لا يتلَّفظه في آن. تأشيرةُ المتناهي على ذاته، في كنف 
اللامتناهي. كالسؤال الذي يسأل القريب المواجه، وفي جواره النداء الذي 
ينادي على البعيد. المعرفي الذي يكتشف ويُعيِّن؛ والكينوني الذي يلبي 
النداء، ويشرع في المجيء بعد انتظار، يتلامح بين الأدنى والأقصى. تلك هي 
مجاورة المتناهي في الثرثرة اليومية.

عنف اللغوي في إضاعته، كما في 
استرداده، لفُجاءة الشعري. ذلك ما يؤهله وحده لأن يغدو مأوى للكينونة، بقدر
ما يكون منفى متمادياً لها في وقت واحد. اللغوي يقدم زمن التأرجح. في العبارة ينسحب الكينوني أويتلامح. ذلك أنه: به وحده يمكنُ الحملُ على اللغوي بأنه شعري أو لا شعري. ولكنه لن يكون (غيْرَ) شعري. فالشعري ليس (آخر)
بالنسبة للغوي؛ إذا إن اللغوي هو المحلّ الفريد الاستثنائي لفُجاءة 
الشعري، كما لاضمحلاله ولا محلَّ لها سواه. اللغة هي افتقاد الشعري، وهي 
لقاؤه. لا يمكن العثور على مثل هذا اللقاء مقترناً بالافتقاد إلاّ في سياق 
اللغة. مما يدفع إلى القول إن الشعري/اللاشعري يكاد يكون حالة واحدة، ولكن 
متنوعة، للُغوي بالنسبة لذاته أولاً.

لماذا يستحق الإنسان
أن يسكن الأرض شعرياً. لأن الشعري، هو ما به يتحقق مجيءُ الفكر إلى 
العالم؛ ومجيئه ذاك لن يكون إلاّ بما يرجع إليه وحده. والصلة بين الشعري 
والفكري، ليست علاقة بين قطبين. إنها طريقة في قول الشعري تارةً، وتارةً في
قول الفكري. ولن يقدّم الطريقة هذه، وحريتَها إلاّ اللغويُّ. وذلك عندما 
يُضطر اللغوي، تحت وطأة الفكر عينه، إلى استخلاص التسمية من شبكيات عاداتها
وشائعاتها، من استراتيجيات غريبة مختلفة، طفيلية، لاصقة بها، باعتبارها 
الوظيفيات التى تستخدمها، كيما تعود إلى كونها مجرَّدَ طريقةٍ في رؤية 
الأشياء، لا في حجبها أو توظيفها؛ وفي رؤيةِ هذه الرؤيةِ.

قلنا إن اللغوي تحت وطأة الفكر 
هو الذي يصحّح نفسه بنفسه، كلما انتشل التسمية من أية معيارية أو قصدية، قد
تُعلَّق بها من خارج تصرفها التلقائي. ولكن أين محل هذا الفكر إن لم يكن 
هو كذلك طريقة أخرى في تلفظ اللغوي. ألاَ يدل ذلك على دائرية المفاهيم التي
تتحرك في فضاء اللغوي عينه، الذي ليس هو إلاّ أحدَ اللاعبين فيه كذلك. هذه
الدائرية لا تعني سوى انفتاح تلك الأفاهيم، على بعضها. وبالتالي فإن 
انغلاقها يحولها إلى مجرد حلقات تتصادم حدودها ولا تتلامس حوافيها، لا تملك
عن بعضها سوى رهانات، تدعوها تأويلات. يبقى (اللغوى) هو السَنَد المشترك 
لجميع تلك الأفاهيم. لايمارس دوره ذاك بتوفير أدواته التعبيرية كوسائط 
حيادية.لكنه يتدخل في تشكيل الأفهوم لحسابه الخاص قبل أن يكون لحساب نفسه. 
فاللغوي في حدّ ذاته يلغو، يتكلم. ليست تلك وظيفته. لكنه هو ذات نفسه Sa 
mêmeté؛ وكلما كان اللغوي ذاتَ نفسه، استطاع أن يختار الشعريَّ أو 
الفكريَّ، كطريقتين لا للإنتقال من حيّزه الخاص إلى حيّز الآخر، الذى هو 
هذا أو ذاك، بل هو أشبه بعودة ذات النفس، عن طريق الآخر، إلى ذات النفس.

اللغوي، الشعري، الفكري: ثلاث 
دلالات في الواحد. ليس ذلك الواحد الأفلاطوني، أو الصوفي. لكنه الواحد 
المفارق لواحديته، دون أن يفارقها تماماً. إنه نموذج المفهمة الدائرية. 
دائرية ذات النفس على ذاتها بما يضعها دائماً فيما هو خارجٌ/داخلٌ، عنها 
وفيها؛ فالدور المنطقي la tautologie ليس عيباً في الفكر. انه حلقة الفكر 
الذي هو دائماً تحت طائلة أن يفكّر نفسه مختلفاً، اختلافياً.

اللغوي، الشعري، الفكري.
ثلاث دلالات (في) الواحد، وليس (عنه). فهي أقرب إلى أن تكون ثلاثة تلفّظات
لدلالة واحدة، شرط كونها غير مغلقة. حلقة قابلة للانكسار في نقاط عديدة من
محيطها. بحيث أنه ما أن يغطي تلفظُ اللغوي، مثلاً. حلقة الواحد، أو 
الدلالة الواحدة، حتى يأتي الشعري انكساراً للحلقة؛ وإذا ما تمت تغطية 
الحلقة من قبل الشعري، فلا يلبث حتى يأتي الفكري بانكساره الآخر. وهكذا 
دواليك. فالواحد دوري tautologique رياضياً. لكنه هو نفسه، هو نفسه، وغيْرُ
نفسه أنطولوجياً. وإذا اقتصر التدوين يحسب (التحقيب المعرفي) على الالتصاق
بالواحد كأقنوم رياضي، فمن حقه ألا يجد بعد الواحد، كعدد، إلا كلَّ عدد 
آخر، وهو الواحدُ متكرراً مضافاً على نفسه إلى ما لا نهاية. مجموعاً إلى 
نفسه، بما يجعل كلَّ رقم مهما عظم، لا يشكل إلا انضمام الواحد إلى واحده 
دائماً. فالابداع الرياضي هو الواحد. أما الإبداعُ الأنطولوجي فينطلق من 
انكسار الواحد. هنا: الواحدُ يتكرر. لكنه لا يتماثل. في ككل مرة يأتي 
(منكسراً) بطريقة مختلفة، لغوياً شعرياً، فكرياً.





الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي ملتقى ابن خلدون للعلوم الفلسفة والأدب بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

في التفلسف ما بعد الفلسفة، التقاط الفوري

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: