[rtl][size=32]حول تاريخ نقدي للعلوم[/rtl][/size]
[rtl][size=32]عند ج. كانغيلهم[/rtl][/size]
[rtl]محمد هشام[/rtl][rtl]يريد هذا المقال أن يقدم فكرة عامة عن المعالم الأساسية للتفكير الإبستمولوجي لواحد من كبار فلاسفة هذا العصر، واحد أهم إبستمولوجيي علوم الأحياء : إنه جورج كانغلهمGeorges Canguilhem (1904-1995).[/rtl]
[rtl]يحتل كانغلهم، في فضاء التفكير الفلسفي المعاصر مكانا استراتيجيا جعل الممارسة الفلسفية، على امتداد الأربعين عاما الماضية، تتطور وتتجدد وتعيد النظر في نفسها انطلاقا منه وبالعودة إليه في سيرورة نقاش علمي متواصل عرف فيه الفكر اغتناء هائلا وتجديدا حاسما.[/rtl]
[rtl]ولما كان هذا الفكر عموما قد وجد منطلقات تجديده الأساسية في الثورات العلمية العظيمة التي أنجزتها مختلف علوم الطبيعة والإنسان، وفي ما واكبها من تحولات في التعامل الفلسفي معها والتنظير الإبستمولوجي لها، فإن العمل العلمي الهائل الذي أنجزه جورج كانغلهم إنما كان في قلب كل هذا التجديد، بحثا وتدريسا ونشرا. مما تمخض عنه فكر نقدي، إبستمولوجيتاريخي على درجة عالية من الصرامة والعمق والنفاذ؛ غيّر الشيء الكثير في أساسيات التفكير الفلسفي عموما، وفي التعامل الفلسفي مع العلوم وتاريخها على نحو خاص.[/rtl]
[rtl]على أن هذا الفكر النقدي التجديدي الكبير إنما كان قد تكوّن في سياق المجال الإشكالي الذي أسسه التدخل الباشلاري حينما بلور مفهوما للممارسة الإبستمولوجية شكل فيها الوعي النظري بتاريخية العلوم البعد الأساسي المكون لها في تميزها.[/rtl]
[rtl]وبالفعل، فإن أهم ما ميز إبستمولوجيا باشلار هو أنه قاد ما كان يسمى بـ "فلسفة العلم"، أو "فلسفة المعرفة"، لا فرق، نحو النقطة الحاسمة التي أصبح فيها الانفصال مع نظامإشكاليتها يطرح كضرورة نظرية ومعرفية قصوى. وبعمله على تحقيق هذا التجاوز، فلقد أحدث باشلار تحولا ثوريا في بنية التعامل الفلسفي مع الممارسات العلمية. وهو تحول عينللإبستمولوجيا وضعا نظريا جديدا وحدد لها مكانا للتدخل : وضعا جعل منها ممارسة نظرية تعنى بفهم السيرورات الفعلية لإنتاج المفاهيم العلمية وتبرز الإطار الفلسفي الحقيقي لذلك الإنتاج من جهة، ومن جهة أخرى تهتم بنقض كل محاولات الإحتواء التي تمارسها فلسفة الفلاسفة. ومكانا للتدخل هو فصل العلمي عن الفلسفي ضمن عملية إبستمولوجية تتسم بالإحالة على تاريخ العلم وتاريخ ما يعترض تكونه وصيرورته. ولقد شكل هذا الربط بين الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، في الباشلارية، وحدة عضوية في موقع جدتها الثورية وأصالتها العميقة.[/rtl]
[rtl]والحال أن في فضاء هذه الوحدة بالذات يندرج التفكير الإبستمولوجي لكانغلهم. يندرج، بمعنى أنه ينطلق من حدث هذه الوحدة وأهميتها الإستراتيجية ليعيد بناءها على أسس جديدة جعلتها تتقدم اليوم كأهم ما يميز الوضع الراهن للممارسة الإبستمولوجية. فعلا، إن أعمال جورج كانغلهم تتميز بتحديد وتفكير هذا الشيء الجديد الذي شكل مجرد إبرازه بما هو كذلك تثويراجذريا لفلسفة وتاريخ العلوم: الوحدة الصميمية بين الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم؛ لأن "بدون علاقة بتاريخ العلوم، فلن تكون الإبستمولوجيا سوى زوج غير مجد تماما للعلم الذي تزعم الحديث عنه". (1)[/rtl]
[rtl]وقد نتج عن التفكير في هذه الوحدة تصور جديد للإبستمولوجيا في علاقتها بموضوعها، يسنده ويدعمه تصور جديد لتاريخ العلوم تميزه العلاقة الخاصة التي يقيمها هو كذلك مع موضوعه. وهو، في الواقع، تصور واحد يقضي بأن لا معنى لقيام خطاب إبستمولوجي حول علم ما دوننا اعتبار أساسي لتاريخيته الحقيقية.[/rtl]
[rtl]لذلك، تقدّم إبستمولوجيا كانغلهم نفسها على أنها بالأساس، في الرؤية والتوجه، تاريخا إبستمولوجيا للعلوم يشكل في الوقت الراهن النموذج الأكثر تقدما، لا من حيث إنجازاته العلمية القيمة في مجال ممارسته وحسب، ولكن أيضا من حيث انشغاله العميق ببلورة وصياغة الإشكالية النظرية المحايثة له. إبستمولوجيا تاريخية وتاريخ للعلوم إبستمولوجي : تلك هي الوحدة النظرية التي تؤسس بنية المنظور الذي يفكر من داخله كانغلهم قضايا ومشكلات الممارسة العلمية في تاريخها الخاص. ومن حيث إن الأمر كذلك، فإن الدرس الباشلاري يمارس حضوره الفعال في عمق هذا المنظور؛ الشيء الذي يحرص كانغلهم نفسه على تسجيله على أنه أثمن ما يدين به إليه، عندما يكتب مثلا قائلا : "لسنا في حاجة إلى القول بأننا حينما نربط، بـهذا الشكل الوثيق، تطور الإبستمولوجيا بإنجاز دراسات في التأريخ العلمي، فإننا نستوحي تعاليم الدرس الباشلاري." (2). واستلهام الدرس الباشلاري يعني هنا أن كانغلهم ينتج ممارسة لتاريخ العلوم تنتسب فكريا إلى باشلار، ولكنها تطور الباشلارية ضمن "إبستمولوجيا جهوية" دقيقة التحديد خاصة بالحقل المعرفي لعلوم الحياة. وبعبارة أخرى، فإن التاريخ الإبستمولوجي للعلوم الذي يمارسه كانغلهم وينظر له يستخدم، ويطور، ويصحح، حسب مقتضياته الخاصة، مفاهيم الابستمولوجيا الباشلارية وأطروحات "العقلانية المطبقة"، في الميدان الذي شكل حقل اشتغاله، ميدان المعرفة البيولوجية. وبقيامه وتعينه في موقع الشرخ الذي أحدثه باشلار في الفلسفة، فإنه يتابع ويعمق السجال مع فلسفة الفلاسفة.[/rtl]
[rtl]والحقيقة أن إبستمولوجيا كانغلهم شكلت ، بالوحدة التي أشرنا إليها، الإطار المرجعي الأساسي الذي تكونت، انطلاقا منه، طرق جديدة للبحث في مجال العلوم والمعارف غيرت جوهريا، على امتداد الثلاثين سنة الماضية، التصور القديم لتاريخ وفلسفة العلوم. وتكفي مجرد الإشارة إلى التراث الفكري لميشال فوكو دلالة على هذا التغيير الحاسم لتبرز كل الأهمية الإستراتيجية التي يكتسيها فكر كانغلهم في الثقافة الفلسفية المعاصرة.[/rtl]
[rtl]لقد كان أول ما وسم البحث الجديد في تلك المجالات يتمثل في هذا المتطلب البسيط، ولكن الذي ظل مع ذلك هامشيا عند الإبستمولوجيين الذين كتبوا في تاريخ العلوم، وهو : الاحترام الواجب والصارم لواقع العلم الحقيقي. فالإبستمولوجيون الجدد يشبهون الاثنولوجيين الذين ينصرفون إلى البحث في "الميدان"؛ فهم يذهبون لرؤية العمل العلمي الفعلي عن قرب، ويرفضون الحديث عما يجهلونه أو ما لا يعرفونه إلا بطرق غير مباشرة. وهذا ما قدم عنه باشلار أمثل نموذج بالنسبة للعلوم الفيزيو-كيميائية، وهو نفس ما تصدر عنه كل أعمال كانغلهم بخصوص العلوم البيولوجية.[/rtl]
[rtl]وبالترابط مع هذا الاقتضاء، هناك مستلزم آخر لا يقل أهمية عن السابق، لعله شكل بوضوح أبرز مظاهر ذلك التغيير؛ ويتمثل في الاستحالة المبدئية للتعامل مع مجموعة أخبار، أو مع فلسفة للتاريخ على أنها بالفعل تاريخ. وهنا أيضا، فلقد انصرف المؤرخون الجدد إلى الميدان ، ميدان التاريخ الفعلي ليكتشفوا بأن الأشياء لا تقع في التاريخ كما كان يعتقد، وخصوصا في مجال تاريخ الأفكار والعلم والفلسفة… ومن هنا، فإنه لا يمكن أن ينفصل التاريخ الحقيقي للعلوم عن الإبستمولوجيا، لأنـها تشكل شرط إمكانه الأساسي؛ ولكنه تاريخ حديد لم تعد له أية صلة بمفهوم التاريخ كما شغلته فلسفات للتاريخ سابقة، على النمط المثالي للتقدم التراكمي أو الجدلي… المتصل، الذي ليس من الضروري أن يجد فيه السؤال العلمي المطروح في لحظة ما جوابه الحتمي في اللحظة التي تليها. وإذا كان باشلار قد دشن القول فعلا في مفهوم هذا التاريخ الجديد، فإن الذي لا مراء فيه هو أن كانغلهم قد ارتقى به إلى مستويات عالية جدا من التفكير والتنظير؛ وهي التي بلورت ، فيما نعتقد، من جملة ما بلورت، الإمكانية التاريخية لقيام الفكر الفوكوي بكل غناه وفعاليته، وحتى تناقضاته.[/rtl]
[rtl]لذلك يقرر ميشال فوكو نفسه بأنه لا يمكن فهم ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية في فضاء الثقافة الفرنسية، وخاصة على امتداد الستينات، دون إدراك الدور الأساسي الذي لعبته الفلسفة فيه. بيد أن الفلسفة ذاتها لم يكن لها أن تلعب مثل هذا الدور لولا الحضور القوي فيها لفكر جورج كانغلهم، كتابة وتدريسا. يقول فوكو: "فلنسحب كانغلهم ولن يصبح بوسعنا عندئذ أن نفهم شيئا كثيرا في سلسلة كاملة من النقاشات التي دارت بين الماركسيين الفرنسيين." (3).[/rtl]
[rtl]فعلا لقد كان الحدث النظري الفلسفي الكبير الذي طغى على البحث الفلسفي خلال هذه الفترة ووجهها الوجهة المعروفة، هو الذي تمثل في الانشغالات النظرية بإعادة قراءة " رأس المال" لمجموعة من الفلاسفة الماركسيين تجمعوا حول لوي ألتوسير. إلا أن إعادة القراءة هذه لم تكن لتتم بالصورة التي كانت تتم بـها يومئذ لولا اعتمادها، فيما اعتمدت عليه، على مجمل الدرس الذي كانت تبسطه أعمال جورج كانغلهم في تاريخ العلوم. وقد عبر ألتوسير نفسه عن هذا الاعتماد في شكل دين نظري عندما كتب يقول:"إنني أصر على الاعتراف بالدين، الصريح أو الضمني، الذي يربطنا بـهؤلاء المعلمين الكبار في قراءة آثار المعرفة، الذين كانوا بالنسبة لنا باشلار وكافاياس بالأمس، والذين هم بالنسبة إلينا اليوم كانغلهم وفوكو." (4). ويتابع فوكوحديثه السابق قائلا: "ولن يكون بوسعنا كذلك أن ندرك كل ما هو متميز في أعمال بعض السوسيولوجيين من أمثال بورديو وكاستيل وباسرون؛ هذا الشيء الذي يميزهم بقوة في مجال البحث السوسيولوجي؛ بل إننا لن ندرك كل غنى ذلك العمل النظري الهام الذي قام به المحللون النفسانيون، وبخاصة اللاكانيين. واكثر من ذلك، ففي كل جدل الأفكار الذي سبق أو أعقب حركة ماي 1968، فإنه من السهل العثور على موقع أولئك الذين تكونوا، من قريب أو بعيد، على يد كانغلهم" (5).[/rtl]
[rtl]هكذا يحتل كانغلهم وممارسته المتميزة لتاريخ العلوم مكانا مركزيا في كل مناظرات ومجادلات، لا الفكر الفرنسي وحسب، بل ربما أيضا الفكر الغربي المعاصر. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذا الحضور المحوري الوازن يطرح مسألة الأسباب التاريخية التي جعلته فاعلا ومؤثرا إلى هذا الحد في الحاضر الراهن.[/rtl]
[rtl]ينتمي كانغلهم إلى تيار فكري كانت الفلسفة تنصرف فيه أساسا إلى التفكير في المعرفة والعقلانية والمفهوم، وذلك بالتعارض مع تيار آخر كان الاهتمام الفلسفي فيه ينصب على التجربة والمعنى والذات، يتمثل التيار الأول في كل من كفاياس (6) وباشلار وكويري، بينما ينتسب الثاني إلى سارتر وميرلوبونتي عبر قراءة معينة لهوسرل في اتجاه فلسفة للذات (7). وعلى الهيمنة التي مارسها هذا الاتجاه الأخير عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، فإن خط التفكير، في الاتجاه الأول، هو الذي كانت تتكون داخله المعالم الأساسية التي ستعيد بناء الفكر الفرنسي المعاصر جذريا من خلال الهزات المعرفية والمنهجية التي أحدثتها فيه. ومن ثم، فلقد ارتبط صميميا بالحاضر وقضاياه الفكرية الكبرى.[/rtl]
[rtl]ويرى فوكو بأن أحد الأسباب الأساسية في ذلك تكمن في كون أن الفلسفة كانت قد طرحت لأول مرة، في القرن الثامن عشر، على التفكير العقلاني مسألة أسسه وقدراته ومن ثم كانت قد جعلت ، بما هي أكثر أشكال هذا التفكير تقدما، من راهنيتها ومن العلاقة بسياقها التاريخي أحد أهم تساؤلاتـها الجوهرية. ولقد كان هذا يشكل الموضوع المركزي للتساؤل حول "ما هي الأنوار؟"، الذي كان كانط قد قدم عنه أحد أهم الأجوبة. ولعل هذا الموضوع بالذات هو الذي منح لتاريخ العلوم، منذ ذلك الوقت، المكانة الفلسفية التي ميزته إلى اليوم. إلا أن مساءلة الفلسفة لنفسها عن حالتها الراهنة وعما يمكن أن ينتج عن ذلك من آثار على مجمل أوضاع الفكر بعامة، سرعان ما قادت الجواب عن "ما الأنوار؟" إلى أبعد من ذلك، حيث نتج عن هذا الوضع الدقيق أن مسألة "الحاضر" غدت تشكل، بالنسبة للتفكير الفلسفي، تساؤلا محايثا لا يمكنه الاستغناء عنه. فإلى أي مدى ترتبط اللحظة (الحاضرة) بسيرورة تاريخية؟ وإلى أي حد تكون الفلسفة هي المرجع الذي ينبغي فيه للتاريخ ذاته أن يقرأ في شروطه؟ على هذا النحو، صار التاريخ إحدى أعظم مشكلات الفلسفة.[/rtl]
[rtl]غير أن المصير الذي آلت إليه مسألة "الأنوار" هذه لم يكن واحدا ولا متماثلا في ثقافات أوروبا. فعلى حين أن الفلسفة الألمانية كانت قد بلورتها في صورة تفكير تاريخي وسياسي حول المجتمع انصب أساسا على مشكلة التجربة الدينية والأخلاقية في علاقتها بالاقتصاد والدولة، كان تاريخ العلوم، في فرنسا، هو الذي اشتغل كدعامة لمسألة "الأنوار" في بعدها الفلسفي. يقول فوكو: "لقد كانت انتقادات سان-سيمون، ووضعية أوغست كونت وتابعيه، تشكل، بصورة معينة، طريقة لاستعادة تساؤل كانط، ولكن على مستوى تاريخ عام للمجتمعات. فالمعرفة والاعتقاد، والشكل العلمي للمعرفة والمضامين الدينية للتمثل، أو الانتقال من ما قبل العلمي إلى العلمي، وتكون سلطة تاريخ عام للأفكار والمعتقدات، وأصل وقيمة العقلانية : كل هذا شكل الصورة التي انتقلت بواسطتها، من خلال الوضعية-وكل من وقف ضدها-، ومن خلال المجادلات الصاخبة حول العلموية، والمناقشات حول العلم الوسطي، مسألة "الأنوار" إلى فرنسا". [/rtl]
الخميس فبراير 11, 2016 3:05 am من طرف عزيزة