«لقد كان عليّ إذن أن أقوض المعرفة كيما أحصل على مكان للإيمان». إيـمانويل كانط([1]) خلاصة:
بدءا، يحسن فهم الفلسفة بكونها هذا الفكر الذي، على امتداد قرون تاريخه، أنتج وخلّف نصوصا أمهات، غنية بتوافقاتها وتواتراتها، كما بخلافاتها وقطائعها، وكان طوال مسيرته يمارس النقد والنقد الذاتي، ويسعى إلى إيقاظ العالمين من سباتهم وسهوهم لتوعيتهم بوجودهم وأنفسهم وشؤونهم. ولكم وردت في القرآن الكريم الآية ﴿ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون﴾.
نظريا، يمكننا القول: إن فيلسوف الأنوار الألماني إيمانويل كانط قد كان بوصلة نقدية محفزةً ناجعة، وذلك من حيث إنه وضع ثلاثة أسئلة محورية تعرِّف حقل الفلسفة: ماذا يمكنني أن أعلم؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟ ماذا يجوز لي أن أترجاه؟ وكلها تتحدر أصلا من سؤال واحد: ما هو الإنسان؟ وإذن، للفلاسفة، من حيث المبدأ، القدرات البحثية والفكرية لكي يكون فكرهم مستطيعا العمل على تشغيل إحدى مواهبه الرئيسة، التي هي عقلنة ظواهر التاريخ والإمساك جذريا بالمشاكل التي تطرحها؛ أي بعلل العجز المتزايد الذي تشكو منه قيم المساواة والعدالة والتضامن في عالم قاسٍ مختل مثل عالمنا. وبالتالي، فإن ذلك الفكر إذا ما أُحسن تمثله المفهومي وتدبيره المنهجي، يمكنه أن يقوم كأحد أنماط البحث في شتى الشؤون المحدثة، كالتنمية البشرية النوعية المبدعة، والحداثة كمعين إنتاج وتحصيل لقيم عليا مضافة وحضورٍ حقيقي ودالّ، علاوة على الاقتصاد والبيئة ومجتمع المعرفة، وسوى ذلك من القضايا ذات الصلة بالديمقراطية التي لها بالفلسفة علاقة عضوية، لا يستطيع الاستبداد صرمها أو تبديدها.
******
مقاربة الفلسفة وبعض ثيماتها
رافد أساسي هو رافد الفكر الفلسفي كطاقة إيجادية متجددة، تُطلب بها الحقائق والدلالات، إذ المفكر (أو الفيلسوف) هو هذا الفاعل المحنك في إلحاق الجزء بالكل، والشيء بمفهومه، والمتمرن، أكثر من غيره، على إبداع المقولات ونحتها لإحسان التعبير عن أشياء ووقائع، كما على طرح قضايا جوهريةٍ رئيسة.
إن فعل الفلسفة، هو محاولة الذهاب إلى عمق الظواهر والأشياء بقصد الكشف عن طبيعتها الحقة، وليس المصطنعة والمنحولة، كما عن نشأتها ووظائفها. ويحسن إذن فهم الفلسفة بكونها هذا الفكر الذي، على امتداد قرون تاريخه الطويل، أنتج وخلّف نصوصا أمهات، غنية بتوافقاتها وتواتراتها، كما بخلافاتها وقطائعها.
إن أية فلسفة لا تمارس النقد والنقد الذاتي تظل دون استحقاق تسميتها ودون السعي إلى إيقاظ العالمين من سباتهم وسهوهم لتوعيتهم بوجودهم وأنفسهم وشؤونهم؛ ذلك أن تلك الممارسة هي التي تصلح للفيلسوف، فوق التنظيرية الخالصة والتجريبية الصرفة، لاجتياز سبل الفكر المديدة الوعرة، متجنبا المكرورات والقبليات المترسخةِ الضارة، وكذلك الانطواءات العقائدية والصنميات والجاذبيات الاستلابية.
حين نقول ذلك، لا نعني مطلقا أننا ممن يدعون إلى تعبد الفلسفة وتخويلها احتكارا حصريا للفكر؛ أي بجعلها كبومة مينرڤ التي تنظر بجلاء في الظلام الدامس ولا تطير إلا بُعيد سجو الليل، حسب تعبير شهير لهيـﭽـل، بل إن الأمر يتعلق بفك العزلة عنها على صعيد الموضوعات والمفاهيم وصعيد المناهج والمعالجات؛ أي بتحريرها من قبضة الفكر الواحدي الدوغمائي، إيديولوجياً كان أم دينياً. وفي هذا المنحى، يلزم دوما إبعادها عن الشَّرك الكامن في كل نزوع إلى الدَّعوية الناجم عن تصور ضيِّق ومتهافت للفلسفة كديانة جديدة، تأوي الحقيقة المطلقة وتنفرد ببث الأنوار واستصدار مقالات الفصل والحسم. فهذا التصور يوجد في قطيعة مع انفتاح الفكر المخصِّب والنهج التساؤلي، ومع سعة الروح التي أحسن تنظيرها وتفعيلها والثناء عليها كل من الفيلسوف الألماني لايـبنتز والفيلسوف العربي ابن رشد.
نظريا، يمكنني القول: إن فيلسوف الأنوار الألماني إيمانويل كانط قد كان في التاريخ الفكري والنقدي بوصلة محفزة ناجعة، وذلك من حيث إنه وضع ثلاثة أسئلة محورية تعرِّف حقل الفلسفة: ماذا يمكنني أن أعلم؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟ ماذا يجوز لي أن أترجاه؟ وكلها تتحدر أصلا من سؤال واحد هو: ما هو الإنسان؟ طبعا يتعلق الأمر هنا، في الفكر الفلسفي، بقنوات صورية ليست حصرية ولا صارمة التحديد، وبالتالي يمكنها أن تنميَ ما ظل في الكانطية مضمرا أو مختصرا، ومنه على وجه الخصوص فلسفة التاريخ التي خلف لنا فيها كانط نصين مهمين مؤسسين؛ الأول هو "ما الأنوار؟"، ومنه هذه الفقرة الشيقة: «إنها خروج الإنسان من قصوره، وهو نفسه المسؤول عنه؛ قصوره، أيّ العجز عن تسخير عقله من دون قيادة الغير، إذ إن سبب ذلك ليس في نقص العقل، بل في انعدام القرار والجرأة لاستخدامه من دون تلك القيادة. فلتكن لك الشجاعة في فعل ذلك: هذا هو شعار الأنوار»([2]). والمحصل أننا عربيا وإقليميا نوجد في حالة تبخيس الذات وحقها في الحداثة المبدعة كلما كنا تجاه الغرب في وضع تبعيٍّ عيليٍّ عقيم؛ أي عبودي إرادي (كالذي حلله إيتيان دي لا بوييسي من القرن السادس عشر). إن عدم الوعي بالطابع الاستنقاصي والحَجري لهذا الوضع ينجم عنه، ضمن أضرار أخرى، إلحاق الأذى بالمبادئ التي نحق بالتشبث بها حين نحسن تدبيرها كلوازم للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ أي بحرية الفكر والتعبير وبالتنوع والتعدد والاختلاف. أما النص الثاني، فهو مشروع من أجل سلام دائم استلهمته عصبة الأمم SDN إبان نشأتها)، وبه أحدث الفيلسوف قطيعة صارمة بين السياسة في خدمة المثل والقيم ورخاء الحياة الإنسانية وبين السياسة التي ليست سوى متابعة الحرب بوسائل أخرى؛ وعليه فإن شروط إمكان تحالف للسلام (foedus pacificum) وهو غير معاهدة سلام (foedus pacis) لهي بمثابة أمر موجب قطعي ينطبع في المؤسسات العمومية ولخصوصية، كما في الأوعاء والسلوكيات الفردية والجماعية. إن ثقافة السلام الدائم (بالمعنى الكانطي للمفهوم) بعيدا عن كل تحابٍّ مشاعريٍّ صوري (oecuménisme) وكل صنمية مصطلحية، آخذة شيئا فشيئا في نصب أدرع فعالة (ضوابط معقلِنة، اتفاقيات، معاهدات، إنجازات محسوسة)، كما في إطلاق دينامية الممارسة التواصلية (من صنف ما نظّر له يورچن هابيرماس)، دينامية من شأنها أن تغالب المخاطر التي تمثلها إرادة القوة وعجز المعرفة والاستعراف والتصادم واللاتسامح.
إن ساكنة الأرض، وهذا ما يذكرنا به الحكماء، يوجدون في نفس السفينة، وكل خلل يلحق أحد جوانبها يعرضها كاملة لمخاطر الرسوب والتلف. وعليه، فإن بوصلة الحكامة الجيدة يلزم أن تكون في التنمية المشتركة والمبادلة العادلة، وكلتاهما تنضوي في الديمومة وتستهدف صحة الأرض والبيئة ونمو أخضر واقتصاد تضامني على الصعيد العالمي. وفي كل هذا تكمن مخصِّبات سلام كوني لا بارد (على غرار الحرب الباردة) بل تعايشي مستطاب، يمتح من ثقافة سخية أخوية، منتجة لثروات مشتركة ولأخلاق التقاسم واللاعنف.
بعد النقد الكانطي للعقل الخالص، لم يعد من الممكن اختزال الفلسفة في الميتافزيقا، خصوصا منها التي يصح لنا أن نضع عليها مع ڤولتير هذه الكلمة: غير واضح (non liquet). وهكذا، فإن الفكر الفلسفي نمّى -كما يشهد تاريخه- مجموعة من التيارات والمدارس المختلفة والمتعارضة، وبعضها يتموقع خارج منطقة "العقل الخالص"، أي حول الخطابات والممارسات والمؤسسات من أصناف شتى، ذهب فريدريك نيتشه إلى عرضها على تفكيك جينيالوجي بضربات المطرقة، وذلك حتى يكون جدَّ قريب من تركيبتها العلِّية القادرة على كشف نشأتها والتمكن من معرفة طبائعها ودواليبها ووظائفها. ومعنى هذا أنْ ليس لأحد سلطة من أيِّ صنف كانت لمنع الفلسفة من حق الإقامة في الحقول الوسيعة لـ "التاريخ من أجل الحياة" (بتعبير نيتشه) وذلك ما دامت قادرة على شرعنة أساس ذلك واستحقاقه بفعل تألقات نتاجاتها وجودتها. إن أعمال ميشل فوكو حول تاريخ الجنون في العهد الكلاسيكي وتاريخ الجنس والمؤسسة السجنية، علاوة على دراسات إدگار موران عن التشعبية (complexité) الإنسانية ومناهج المقاربات المتعددة الاختصاصات، لتعطي جميعها أمثلة منيرة على تدخل ثري ومتميز للفيلسوف في مواضيع ظلت زمنا مديدا حكرا على المؤرخين وأخِصَّائيين آخرين.
وإذن، إن للفلاسفة، من حيث المبدأ، القدرات البحثية والفكرية لكي يكون فكرهم مستطيعا العمل على تشغيل إحدى مواهبه البدئية، التي هي عقلنة ظواهر التاريخ والإمساك جذريا بالمشاكل التي تطرحها، أي بعلل العجز المتزايد الذي تشكو منه قيم المساواة والعدالة والتضامن في عالم قاسٍ مختل مثل عالمنا. وبالتالي، فإن الفكر الفلسفي إذا ما أُحسن تمثله المفهومي وتدبيره المنهجي، يمكنه أن يقوم كأحد أنماط البحث في شتى الشؤون المحدثة، كالتنمية البشرية النوعية المبدعة، والحداثة كمعين إنتاج وتحصيل لقيم عليا مضافة وحضورٍ حقيقي ودالّ، علاوة على الاقتصاد والبيئة ومجتمع المعرفة، وسوى ذلك من القضايا ذات الصلة بالديمقراطية التي لها بالفلسفة علاقة عضوية، لا يستطيع الاستبداد صرمها أو تبديدها، ذلك لأن هاته بأسبقيتها وقوتها الذاتية قد أسهمت جدّيا في تاريخ ولادة تلك مفهوما وممارسةً، وهذا حدث إبان عهد الزعيم العظيم بيريكيلس مؤسس الديمقراطية والمنتخَب بمقتضى النظام الجديد رئيسا ما بين 443 و429 قبل الميلاد.
إن الفلسفة، باعتبارها صديقة (فيلان) الانسجامية (هرمونْيا) والحكمة (صوفيا) لا يمكنها إلا أن تتبنى القضايا الإنسية وتسحب البساط من تحت الفكر الواحدي وبالضرورة الجائر، مع ما يحويه من دوغمائية وعنف وتسلط. إنها تشع وتعطي أحسن ما لديها في أنظمة حرية الفكر والتعبير، لكنها تنتكس وتمرض في ظل أجواء تنعدم فيها الديمقراطية ولوازمها، أو تضحو عبارة عن زخرف وخدعة.
صحيح أن كل فيلسوف إنسوي، منذ سقراط، يعلم يقينا أن العالم كما يسير مرفوض وجهةً ومعنى، لكن يلزم اليوم أن تجد هذه الحالة الشعورية إحدى تعابيرها القوية في مؤشرات ورصود شاهدة على الاختلالات والتفاوتات الثاوية بين الأمم وفي المجتمعات، كما على بؤس الحياة لدى أغلبية العالَـمين، وكلها ثيمات خصبة مبرَّزة في الإنتاج الأدبي، والروائي تخصيصا.
وحاضرا، أمام واقع الأحوال العالمية الذي نُجمع على الإقرار بـأنه ليس آمنا ولا واعدا بالتحسن، فإن الفلاسفة والمفكرين عموما، كفعاليات ثقافية وحوارية، وبصفتهم "موظفي الإنسانية"، حسب تعبير الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، لا يسعهم إلا أن يستميتوا في مقاومتهم للشر المتعدد الأشكال والمظاهر، وللتصدعات من كل نوع، كما للعجز الفكري المهيمن؛ وذلك لأنهم، من حيث تكوينهم وطبيعتهم، يظلون عموما مُعْرضين عن الانهزامية والتشاؤمية المبرمة (أي في الذكاء والإرادة معا)، وكلاهما يحكم على متخذيهما بأن يكونوا مشاهدين خاضعين ولا مسؤولين.
في الصلة بالرواية
لعل بنجيب محفوظ، ولو أنه لم يكمل رسالة الماجستير حول "فلسفة الجمال في الإسلام"، لم يتخل عن الفلسفة حين انصرف إلى الأدب، بل أرى أنه مارس تلك في هذا على غرار كتاب عالميين كبار. وأحسب أن سر حسن علاقته بالفلسفة كان من الجدارة والتمكن، حيث جنبه الوقوع في أشراك التعقيد النظري والتعتيم اللغوي والأسلوبي. إن نجيب محفوظ قد قاوم إكراهات الوظيفة والمتاعب الصحية وتحرشات فقهاء السوء بإرادة قوية في التحصيل المعرفي المواظب والإبداع الأدبي الإيجادي الزاخر، فلم تثنه عن أخذ نصيبه من طيبات الدنيا والتحلي بروح الهزل والنكتة، هذه الروح التي كثيرا ما استحضرتها وأنا أكتب فصلا من روايتي مجنون الحكم: "بين الانتقام والنكتة، مصر تحترق".
من باب الشهادة الذاتية، ومقتديا بالغزالي وديكارت وباسكال، أقول إن أقرب النصوص الفلسفية إلى وظائف الكتابة الروائية وفعاليتها ليس النص الشمولي النسقي، أو ما كان على شاكلته، إذ كيف نريد للروائي أن يستقر في نسق ما ويطمئن إليه، وأن يتمذهب به ويحتمي، ذلك أن الكتابة النسقية تعبئ مبادئ الاستمرارية والكلية والعقلنة، فتنشد التمامية والاكتمال، أي حشر الحياة في منظومة تحدد هي ماهيتها وتبرمج ديمومتها وتنسِّقُ خفقانها. وهذا ما جعل أكبر فيلسوف نظامي، هيـچل، يقول إنه آخر الفلاسفة، آخرهم لأنه وضع الأطروحة وضدها، وأطل على أتباعه ومعارضيه معا من شرفة تركيبه آمنا، معتبرا كل حالات اختبار الوجود لحظاتٍ زائلة في سيرورة دنو الروح من الفكرة المثال وانصهار التاريخ في المطلق. المعطيات الوجدانية من شرفة هيـﭽـل هي كلا شيء، الفرد بكل معاناته وتجاربه هو كلا شيء، وعي الأنا بذاته وبالخارج والآخر وعي شقي، لأنه مطبوع بالانشطار والتمزق، فهو كل شيء؛ وكل هذه "الاغتيالات" المثالية هي من أجل غاية لا تعني أحدا ولا يطلع عليها أحد، ألا وهي حياة الكل وانتعاش الوعي الشمولي بذاته. هكذا يسقط الفرد ليعيش النسق وتتخلص المثالية المطلقة من مكابدات المعيش وآلامه، فترتاح إلى انسجام مقدماتها مع خواتمها وتنعم بتسلسل تدبيراتها ومنطقها. وكم يحق فيدور دوستويفسكي حيث يكتب: «إن الإنسان كثير التعلق بأنسقة الاستنباط المجردة، حيث يقبل على تشويه الحقيقة عن قصد ويغلق عينيه وأذنيه إذا كان في هذا ما يبرر منطقه»([3]). لكنْ مع ما عرفته من أنساق فلسفية استفدت، على أيِّ حال، شيئا مهما: تيسير البناء الروائي وهندسة السرد، وما عدا هذا فإني أمامها، وخصوصا ما منها وجد ترجمته في أنظمة سياسية كليانية قامعة، أنزع إلى إيثار النص الفلسفي اللانسقي، أي الحيوي والمقطعي الشذري (كما في مؤلفي كتاب الجرح والحكمة) وهو الأنجع والأجدى في مجال اختبار الوجود وإيجاد الأفكار والرؤى؛ مع هذا النص، أراني في صحبة الوجوديين أهتف جهرا أو خفتا: عاش الفرد، هتاف يجد مرجعه في آيات قرآنية مثل ﴿ستلقون ربكم فرادى﴾ و﴿كلُّ امرئٍ بما كسبَ رهين﴾؛ وإنه هتاف من أجل الفرد وليس الفردانية). طاقات الفرد الذاتية، وهي على محك تجربة المعنى والعلاقة بالعالم والآخر، ذلك ما بتُّ أوليه مكانة مخصوصة في انشغالاتي الروائية. والسبب أنه «ما دام الإنسان يحيا، كما سجل سورين كيركچور، فلن ينتهي التناقض والألم والصراع. ولن ينتهي ذلك كله ما دام الإنسان في الوجود. أما في السرمد فكل شيء يُفسر»([4]). إيماني أو قل تعلقي الفكري بالفرد هو الذي حدا بي، على مستوى الكتابة، إلى إدراك إمكانات الرواية التعبيرية ونجاعتها التبليغية في مجال خلق شخوص، وتتبع منحنيات حياتهم من خلال أنسجة العلاقات والعقد التي يتحركون فيها. وبالطبع يكون الفرد-الشخصية، لا بالمعنى الملحمي أو حتى البطولي للكلمة، هو من يتظاهر كعنصر حيٍّ متكلمٍ عاملٍ داخل مجموعة بشرية، يتفاعل معها وينتج، أو كصاحب شهادة تستحق في نظر الروائي الالتقاط والحكي.
بمعانٍ عديدة، أدرك إذن أن للرواية علائق مدلولية وثيقة بالفلسفة اللانسقية، الوجودية والحيوية، التي تحفل بأخصب مراتع التفكير في قضايا الإنسان، وهي في صيغتها الدينامية والحدية تتعلق أساسا بإشكال المعنى (أو اللامعنى) في جدلية الحياة والموت، المتمظهرة مثلا في ثيمات دوستويفسكي وتولستوي البارزة: الإنسان والشر/ الإنسان والحرية/ الإنسان والله، وهي ثيمات أمهات تتفرع عنها أخرى كثيرة، كالحرب والثورة والسلطة، أو كالحب والقلق والانهيار النفسي وخراب التواصل بين الذوات، وسوى ذلك. وإذا كان الحضور الفلسفي في أعمال ذينك الروائيين قويا، كما رصده وحلله نقاد (باختين وطوما باڤيل في كتابه فكر الرواية)، فإنه ليس أقلَّ اعتمالا عند كتاب كبار لاحقين، أمثل عليهم باثنين فقط، هما نيكوس كازانتساكيس وخورخي لويس بورخيس. فالأول فيلسوف في تكوينه، تأثر كثيرا بالمذهب الحيوي (نيتشه وبرگسون) إضافة إلى المذهب البوذي. وهذا التأثر وجد عنده إطار استقبال مواتٍ في أحد أهم روافد ثقافة اليونان القديمة، ممثلة في فكر هيراكليدس الشعري وفي الأبيقورية أو مذهب اللذة (إيدونيا) ومذهب السعادة (إيفديمونييا). ولعل أقوى وأجلى استثمار للبعد الفلسفي عند كازانتساكيس يتبدى في رائعته حياة ومغامرات أليكسيس زوربا، وذلك على مستويات عدة، منها مثلا ما كان عند سقراط والمفكرين قبله عبارة عن مولِّدٍ حراري وسمادٍ للنهج الفلسفي؛ أي المساءلة والتعجب والدهشة أمام أشياء الحياة وظواهر الوجود والكون. وهكذا نرى زوربا يعبر عن ذلك بشكل عفويٍّ حار، إذ يتحدث مبهورا وراقصا عن الكواكب والأشجار أو الأحجار المتدحرجة، كما لو أنه يراها لأول مرة ("إيني بروتي فورا نا ﭬليبو"، يقول في لغته البسيطة الشيقة)، كما أنه لما هوى صرح شبكته ذات الأعمدة والأسلاك الذي أقامه لاستغلال منجم للفحم الحجري في موقع مرتفع، لم يكن ردّ فعله سوى الدخول في رقصة السرتاكي الشهيرة التي أعجب بها مشغله وصديقه بازيل الكاتب الإنجليزي ورب المنجم في جزيرة كريتي، فطلب منه أن يعلمه الرقصة للتلهي عن الكارثة ونسيانها... أما بورخيس، فقد كان ينكر انتماءه إلى أي نسق فلسفي، بدعوى أن النسق في المعرفة والفكر يقوم على الاختزال والغش، كما رأى ذلك نيتشه من قبله، وما يقر به في غير ما موضع هو أنه في أعماله كلها لم يفعل شيئا آخر سوى التنقيب في الإمكانات الأدبية لنظريات فلسفية أو ثيولوجية، مثل العود الدائم والمثالية والسرمدية، التي يحركها كما لو أنها شخوص أو فعاليات روائية، هذا علاوة على أنه كان يشتغل بتيمة نفي الأنا والمكان وبتيمة معارضة الزمان، وإنْ كطرائق للتسلية أو السلوان...
لكنْ ما أُلح في التأكيد عليه هو أن أولئك الروائيين جميعهم لم يتوفقوا في علاقتهم بالفلسفة، إلا لأن فنهم السردي كان من الجودة والعمق، حيث جنبهم الوقوع في فخاخ الخطابة والوعظ أو في زلات الرواية-الأطروحة. ومقتفيا أثرهم صرت كلما سُئلت عن فلسفتي قلت إنها في مضان أعمالي الفكرية وبالتشخيص في رواياتي التي كنت بها -محاكيا دوستويفسكي تخصيصا- أجيب على قضايا ومسائل ذات طابع فلسفي.
عن فلسفة التاريخ
إن فلسفة التاريخ، من حيث مواضيعها ومفاهيمها ومساراتها، يلزم أن تكون من إحدى الرافعات الكبرى القمينة بوقاية الفكر الفلسفي من الممارسات النرجسية أو من التشدق المفاهيمي اللغْوي (logomachie) الشائعة في بعض التيارات المعاصرة؛ ذلك لأن في ميدان تلك الفلسفة، وإذن بعيدا عن المركزية العقلانية (logocentrisme)، يمكن لفاعليها زيارة الثقافات والمأثورات الحِكمية المشرقية والإفريقية، واللاتينو-أمريكية والآسيوية، ثم التفكير، استنادا إلى هذه العطاءات، في كبريات قضايا العالم والإنسان.
منذ إنشاء مجلة الحوليات في عام 1929 بفرنسا تكاثر عدد المؤرخين الداعين إلى ربط شروط تجديد الدراسات التاريخية بانفتاح نشيط، ليس على العلوم الإنسانية المجاورة فحسب، وإنما أيضا على الفلسفة. وهكذا يكتب مؤسس مجلة La synthèse en histoire هنري بير: «من أجل تأسيس العلم يمكن الاستفادة من فلسفات التاريخ أكثر من النزعة التاريخية الخالصة. التاريخ التجريبي يفتقر إلى الشكل والوجود العضوي، أما الأنسقة، وإن كانت تراكيب اعتباطية فإنها تحوي نظريات قمينة بتأدية دور تفسيري»([5]). علاوة على ذلك، منذ هيرودوت وثوسيديد وبوليب وتيت-ليف والقديس أغوسطين وابن خلدون والمؤرخين، كل في ثقافته ولحساب زمانه، ينتجون أفكارا وأحكاما تعبر عند كل واحد عن رؤيا للعالم، تندرج بهذه الصفة في تاريخ الفلسفة العام. هناك عنصر دعم آخر لقيام فلسفة التاريخ وهو داخلي؛ أي يمكن إدراكه في تاريخ الخطابات الفلسفية نفسها. وهذا العنصر يلزم أن نؤكد عليه استجابة لطبيعة المقام.
إن فلسفة التاريخ التي صاغ عبارتها فولتير قد وُضعت لبناتها الأولى إبان انتقاد مبادئ أساسية في الديكارتية كالفلسفة السرمدية philosophia perennis، والشك والأفكار الفطرية المتأصلة، وذلك من طرف فلاسفة إنجليز كبيكون ولوك وإلى حد ما هيوم الذين أكدوا أن الحقيقة هي نتاج الزمان، وأن أقرب المعارف إلى الصحة ما انبنى على نضج التجربة ودرس الواقعات. وقد ذهب كثير من مفكري القرن الثامن عشر إلى القول بثبوتية "الطبيعة الإنسانية" وخاضوا ما يشبه الحرب المقدسة من أجل "أنوار العقل"، حتى بدت لهم ما دونها ظلمات وظواهر هي عبارة عن "قصة يرويها أحمق فياضة بالطنين والغضب"، حسب تعبير شكسبير الشهير، أي أنها مفلسة من حيث المعنى. وبالرغم من ذلك، فإن مفكرين كفولتير وكوندروسي اهتموا بتاريخ المؤسسات والعادات الإنسانية (كما كان نهج ابن خلدون في عهده)، وتعمق آخرون في التنظير لمعنى الصيرورة البشرية، مثل الإيطالي ڤيكو صاحب مبادئ فلسفة التاريخ الذي رأى أن الحضارات تعرف في تطورها ثلاثة عهود هي: العهد الإلهي، العهد البطولي، العهد الإنساني، ورأى من جهة المنهج أن العلم يدقق في التفاصيل والفلسفة تضع الأسس والمبادئ؛ كما أن هناك مثالا آخر في أواخر ذلك القرن يجسده الفيلسوف الألماني هردر، مؤلف أفكار في فلسفة التاريخ الإنسانية، وفلسفة أخرى للتاريخ، وهو الذي يلقبه البعض بكوبرنيك التاريخ، من حيث إنه أقام بين مشيئة الله والسعي الإنساني الخلاق علاقة توافق واطراد، كما أنه أعاد الاعتبار إلى قيمة العهود التاريخية في حد ذاتها، ومنها القرون الوسطى، وانتقد بالتالي عسف فلسفة الأنوار وقيامها الاعتباطي المكابر على مفهومي العقل والتقدم... إن هردر، الذي يؤشر فكره إلى مجيء هيغل يرجع إليه الفضل في توطيد أسس فلسفة التاريخ، وذلك في فترة زمنية لم تكن متحمسة لها. «فالتاريخ -كما يسجل إرنست كاسيرر- الذي لم يبد في نظر غوته من قبل سوى من قاذورات متراكمة أو مستودع للمهملات أو في أفضل حالاته أفعال حاكم أو دولة، قد أصبح حيا بفضل السحر الذي أسبغه عليه هردر، كما أنه لم يعد مجرد سلسلة من الأحداث، بل أصبح دراما باطنية للعنصر الإنساني نفسه»([6]). لعلّ شروط تأصيل فلسفة التاريخ كحقل معرفي متميز قد توفرت في اكتمال الفلسفة الغربية النقدية مع نسق هيغل ومثاليته المطلقة. فهيغل (ت 1832م) الذي يدرس الظاهرة -معرفيا- بطريقة لا تقيم وزنا لمعناها المحدود المؤقلم كما هو في الكانطية، يؤكد أن الجوهر يتجلى ظاهريا، أو أن لا شيء في الظاهرة غائب عن الجوهر والعكس صحيح... الحقيقة إذن تظهر في فترات الصيرورة ثم تغترب لكي تظهر بشكل جديد غني بمختلف اللحظات الصعبة المتأزمة التي تتجاوزها الصيرورة وتحتفظ بما هو من قبيل الصحة فيها. لهذا تحمل كل فترة جنين الحقيقة المطلقة، كما يحمل البرعم الظهور المقبل للفاكهة. وتكون الحقيقة قابلة لأن تتجلى في عهود معينة من التاريخ، في الحضارة الإغريقية قبل قيام الإمبراطورية المقدونية أو في الثورة الفرنسية والفترة النابوليونية مثلا.
أما ما يبعد هيغل عن كانط أكثر، فهو أنه يزدري الأنموذج الرياضي الذي استند إليه صاحب نقد العقل الخالص، ومن قبله لايبنتز وديكارت، وذلك لفقر مادته التي هي العلاقات الكمية الجافة اللاجوهرية والمعزولة عن المفهوم والحياة. وبالتالي، ليست ثورة غاليلي وكوبرنيك أو نيوتن في الفيزياء هي التي كانت مصدر إلهام عند هيغل، بل إن المصدر هو الثورة الفرنسية بمثلها العليا وأحداثها الجسام، باستيلاء الشعب الباريسي على لاباستيي، سجن العهد القديم، في الرابع عشر من يوليو 1789، وبانتصار الجيش الفرنسي في ڤالمي على قوات حلف الأنظمة الملكية المجاورة، وبنابليون الفكرة-المثال وقد امتطت صهوة الحصان، إلخ. إن الاقتداء بالأنموذج البيولوجي، الذي زاد في ترسيخه كتاب أصل الأنواع لداروين، هو الذي جعل مهمة التفكير في الحياة تظهر مبكرا عند هيغل وتتبوأ الصدارة في مسار نسقه. والحياة في التاريخ هي الحاضر الذي يلزم أن تكون له الأولوية في مجال البحث الفلسفي، إذ إن الماضي كبعد تام وفي ذاته ليس له إلا قيمة تفسيرية، ولا يمكن العمل فيه أو تحويله إلى ما ليس هو. إن ما يميز أساسا حياة الفكرة-المثال في تاريخ الحضارات والأمم هو تظاهرها بديمومتها وتجدّدها وحضورها الدفاق أبدا. ولذا كانت الدولة في مبادئ فلسفة الحقوق عند هيغل هي البوتقة التي تنصهر فيها تلك الفكرة-المثال كعقل محقق ومطلق، يتجسد في السيادة القائمة وفي واقع الدولة ومعقوليتها.
رغم أن هيغل هو الركن الأساس في قيام فلسفة التاريخ([7])، فإن تيارات مستلهمة من نقدوية كانط المعرفية نشأت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أيدي فلاسفة ألمان كديثاي وريكرت وسيمل، هؤلاء الذين تقصدوا نقد العقل التاريخي وضبط حدود موضوعيته انطلاقا من سؤال ذي نفس كانطي بين: «بأي شروط متعالية يكون علم الماضي صالحا للجميع؟». فالموضوعية عندهم نسبية دائما، أي منتسبة إلى الذات المنشغلة بهويتها والقائمة دوما عبر المعرفة التاريخية بإسقاط القيم الحاضرة على التراث المشكل للماضي. ونرى أنه قد يسحن إجمالا تمثل بعض أفكار أولئك الفلاسفة كالقول مع ديلثاي إن الواقع التاريخي هو الذي يعطي للتاريخ بنيته المنطقية أو مع سيمل إن التاريخ الواقعي والتاريخ المعلوم متعارضان نظرا للاختلال القائم بين الصيرورة المعيشة ورواية الأحداث، إلخ. لكن يلزم مع ذلك التأكيد أنهم، إضافة إلى كونهم قلما وضعوا أيديهم في العجين التاريخي، لم ينجوا في نقدهم لمفهوم الموضوعية من الخلط بين ما هو معرفة تاريخية واعية قادرة على التباعد والنقد وبين أصل ظهور التاريخ كتعبير عن حاجة المجتمعات إلى خلق ذاكرة جماعية وكيان قومي. ولعل أحسن من وضع اليد على حلقتهم الضعيفة هو العالم الألماني ماكس ڤيبر الذي توفق في إبدال إشكالهم الكانطي بإشكال ذي أس سوسيولوجي يطوّر حقا فلسفة التاريخ ويغنيها. بعيدا عن كانط وخلفائه، وقريبا من هيغل يمكن الإشارة إلى تيار فلسفة التاريخ الشمولي للنصف الأول من القرن العشرين، ممثلا أساسا في أوسالڤد شبنغلر الألماني وأرنولد توينيي الإنجليزي. فالأول صاحب كتاب أفول الغرب أطلعته دراسته المورفولوجية للتاريخ على أن هذا الأخير ليس له معنى عام واحدي باعتبار أن وحداته إنْ هي إلا الثقافات المستقلة بذاتها، المحكوم عليها بالانغلاق واتباع منحنى حياتي ينتهي بأفولها ثم موتها. لهذا -مؤيدا غوته- يرى أن التاريخ هو اشتغال العقل بالصيرورة وبالحيّ وبالتالي بالعضوي وليس بالآلي أو بالطبيعي، ويسجل بهذا الصدد «إني أدين بفلسفة كتابي إلى فلسفة غوته التي لا تُعرف اليوم، وإلى حد أقل إلى فلسفة نيتشه [...] لا أريد أن أغير قيد أنملة من كلمات غوته إلى إيكرمان: إن الألوهية تعمل في الحي، وليس في الميت، إنها في ما يصير ويتغير، وليس في ما صار وتجمد [...] إن هذه الفلسفة تضم كل فلسفتي»([8]). أما أرنولد توينيي، الذي ظل في مؤلفه الضخم دراسات في التاريخ على النهج البانورامي نفسه باسم إيثار التاريخ الحضاري على التاريخ القومي، فقد ذهب إلى إحصاء الحضارات ومقارنتها قصد الوقوف على ثوابتها ليس داخل مخبر بل على أرض منبتها. والحضارات عنده هي كالثقافات عند شبنغلر، مع فارق أساسي يكمن في تفتحها وتعالقها وتأثر بعضها بالبعض، أي في شروط تجاوز بدائيتها إلى القدرة الذاتية على رفع تحديات العالم، الطبيعي منه والإنساني وكذلك الداخلي. كما أن توينيي الذي تأمل كثيرا، كسلفه ابن خلدون (مع وجود الفارق)، في ظاهرة انتكاس الحضارات وتفسخها، لا يردها على غرار شبنغلر إلى عوامل عضوية قاهرة بل إلى عناصر تاريخية محسوسة تتمثل في فشل قدرة الأقلية الإبداعية، الذي يطابقه تلاشي اتباعية الأغلبية، وما يترتب على هذا من فقدان الوحدة في المجتمع المعتبر ككل؛ وهذا يسبب في تصوره ظاهرة التفكك أو الانحدار إلى الأسفل break down([9]). لقد عيب على شبنغلر وتونيي ومن نحا نحوهما في فلسفة التاريخ –وليس دائما من طرف المؤرخين المحترفين وحدهم- كونهما يعرضان لموضوعات تاريخية ضخمة شاسعة بقدر ما هي معقدة شائكة، مما ينجم عنه بالضرورة السقوط في سوء الدقة المرجعية، وكذلك التهافت النظري التعميمي في حقل التاريخ.
***
ختاما
إذا كان الفاعلون السياسيون والاقتصاديون عبر العالم يقرون بحاجتهم إلى قوة فكرية واقتراحية، فلن يستطيعوا في جانب مهم منها تلبيتها إلا مع وجوه النخب الساهرة على نسق القيم والثقافة الإنسوية، وهي التي يمثلها أساسا المفكرون والفلاسفة. في الوضع العالمي الحاضر، الزاخر بالمآسي والقلاقل. إنهم الأقدرون على تحريك وإعلاء الأفكار والمؤشرات الهادفة إلى إرساء ورعاية قواعد العدالة والكرامة وحياة اليسر التي يطمح إليها الناس وبها يكتسب وجودهم دلالة ومعنى.
إن أعضاء تلك النخب، بمعية الرجال ذوي الإرادات القوية الحسنة، يمكنهم السعي حثيثا إلى تمنيع المستقبل القريب والأبعد بإقامة تصاميم ومواثيق تفاهم وتعاون بين الأوطان والحضارات. ومن هذا المنحى، فلقد اتسم هوتننغتون بنوع من اليقظة الفكرية إذ سجل: «إن الأنموذج السياسي الموروث عن الحرب الباردة كان نافعا وجديرا طوال أربعين عاما، ولكنه أضحى متقادما في أواخر سنوات الثمانينيات، وفي يوم مّا سيعرف البراديغم الحضاري المصير نفسه»([10]). وهذا اليوم، في تقديرنا، قد حلَّ من خلال مؤشرات وأفعال في الجنوب كما في الشمال، تضع وتنشر بتأنٍّ وحزم سلطاتٍ وآمالا من شأنها تطويق المخاطر التي تتهدد حياة البشر على الأرض وسلامهم. وبكلمات إيمانويل كانط نقول إن استثمار شروط إمكان ثقافة الحوار والسلام يقوم اليوم كـ "أمر قطعي"، ويلزم بهذه الصفة أن ينطبع في المؤسسات العمومية والخاصة، وكذلك في الأوعاء والسلوكيات الفردية والجماعية.