الفاتيكان، الأقليات والتبشيريين سمير صبح -
samirsobh@almassae.press.ma
شكلت زيارة البابا بينيديكتوس
السادس عشر، الشهر الماضي، لجزيرة قبرص، أحد معاقل الكنيسة الأرثوذكسية في
الشرق الأوسط، حالة استثنائية. ذلك أن هذه الأخيرة تتخذ موقفا «صارما
وحادا» من حاضرة الكاثوليك، كما تبذل جهودا لإعاقة توسّعها في أنطاكية
وسائر المشرق.
كان ذلك واضحا من خلال البيانات العدائية التي وزعت في أنحاء الجزيرة وفي
كل الأراضي اليونانية تقريبا، ومن خلال مقاطعة رجال الدين القبارصة لها،
مما يبدو معه أن هذه الزيارة كانت مفروضة من أعلى، وتحديدا من قبل قوى
عالمية، كونها كانت تهدف إلى عملية اصطفاف للصفوف من أجل دعم الأقليات
المسيحية في المنطقة أولا، الأمر الذي كان علنيا بدون أية مواربة. وثانيا،
البحث ضمن خلوتين، وفي أقل من 48 ساعة، مسألة الدفاع عن التبشيريين في
العالم العربي، وتحديدا في مغربه، وضرورة تعزيز اختراقاتهم في مجتمعاته.
لقد جاء خطاب البابا استفزازيا لمسلمي المشرق، بغض النظر عن تغليفه بعبارات
يطغى عليها منطق الحداثة وضرورة التعايش بين المسيحيين واليهود، والمسلمين
لاحقا. لكن تركيزه على التطرّف الديني في هذه المنطقة، في إشارة إلى
الإسلام، كشف مرامي هذه الزيارة. فبدل أن يتحدث الحبر الأعظم عن معاناة
المسيحيين الفلسطينيين في القدس وبيت لحم والناصرة والإصرار على تهجيرهم من
قبل المحتل الإسرائيلي، ارتأى أن ينتقد بشدّة قتل المسيحيين في العراق
والتنكيل بهم وتهجيرهم من قبل الحكام من غير المسيحيين في هذا البلد. لكن
بابا الفاتيكان تناسى كل ما حدث لهؤلاء الذين هم، على أية حال، غير تابعين
لكنيسة، كالكلدان والأشوريين، بعد الاحتلال الأمريكي لبلاد الرافدين، وفي
ظله وليس قبل، الجميع يتذكر هنا كيف كان المسيحيون العراقيون يحظون، منذ
قيام النظام الملكي الهاشمي في هذا البلد وحتى سقوط نظام البعث، بامتيازات
وبحماية لم تكن متوفرة للعراقيين المسلمين. كما أن البابا لم يأت بكلمة شكر
لسوريا التي ستستضيف وتحتضن على أراضيها أكثر من 300 ألف عراقي مسيحي
وتوفر لهم الإقامة الكريمة والمساعدات الحياتية وتسمح لهم بالعمل. ذلك في
الوقت الذي تشيد فيه الحكومة البريطانية بهذه المبادرة وتدعو الأمم المتحدة
إلى تخصيص موازنة لسوريا كي تستطيع الاستمرار في مهمتها الإنسانية
والأخلاقية هذه.
أما لناحية عودته إلى التحذير من «الطغيان العددي» الإسلامي في الشرق
الأوسط وضرورة حشد قوى التسامح للتخفيف من تأثيراته على مسيحيي هذه
المنطقة، فقد كان ذلك بمثابة دعوة إلى اعتماد استراتيجية مواجهة يتوجب على
بقية كنائس العالم المشاركة فيها. وهو ما رفضه، كما علمنا فيما بعد، كبار
رجال الدين في الكنيسة الأرثوذكسية، بدءا بقبرص وانتهاء بروسيا، مركز ثقلها
التاريخي.
وعندما تحدث البابا عن لبنان بوجود بطريرك الكنيسة المارونية، نصر الله
صفير، دعا أبناء الطائفة إلى التشبث بحقوقهم وعدم التنازل أمام الطوائف
الأخرى، أي الإسلامية، داعيا العالم إلى الوقوف إلى جانبهم ودعم مواقعهم في
السلطة. ذلك، كما لو كان وجودهم ومشاركتهم في الحكم مهددان. لكن البابا
بدا كما لو أنه يتجاهل سبب تراجع نفوذ المسيحيين، الموارنة تحديدا، في
لبنان، الذي هو نتيجة تحالفهم مع إسرائيل في السبعينيات وصولا إلى
المساهمة، عام 1982، في اجتياح وطنهم وقتل شركائهم فيه.
من المفترض أن يكون بابا الفاتيكان على دراية بهذه الحقيقة لأن لديه من
السياسيين ومن الدبلوماسيين المتمرسين بشؤون الشرق الأوسط وأقلياته
وأثرياته، كترشيسيو برتو (أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان) وفرناندو فيلوني
(نائب أمين سر الدولة للشؤون العامّة) ودومينيك ممبرني (أمين سر العلاقات
مع الدول) والسفير فوق العادة للفاتيكان في لبنان، غابريللي كاتشا، أبرز
المقربين من الحبر الأعظم. هذا الأخير الذي يعتبره المراقبون من مهندسي
الاستراتيجية الجديدة للكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، المبنية على
دعم الأقليات المسيحية في المنطقة.
أما الجانب الأهم والأخطر في هذه الزيارة، فيتمثل في مناقشة خطة عملية
لتنشيط حركة المجموعات التبشيرية المسيحية تحت يافطات مختلفة، ثقافية
وإنسانية وخلافه. وذلك بهدف إحداث ثغرات في المجتمعات الإسلامية الأكثر
«فقرا واضطهادا عرقيا»، حسب قولهم. ويقصدون بذلك في المشرق دولا كالعراق
وتركيا وإيران ومصر، حيث ركـّز البابا في خطابه على الظلم اللاحق بالأقباط
من قبل الأكثرية المسلمة، علما بأن الكنيسة القبطية هي الأكثر عداء للكنيسة
الكاثوليكية بين الكنائس الأخرى. كما ناقش المجتمعون في الخلوتين النجاحات
التي تحققت على مستوى التنصير في منطقة المغرب العربي، خصوصا في الجزائر
والمغرب، وضرورة العمل على ترسيخ هذه الاختراقات والتشهير بالبلدان التي،
حسب قولهم، تضطهد التبشيريين. ذلك في الوقت الذي تتسامح فيه الدول الغربية
المسيحية مع بناء المساجد للمسلمين المقيمين على أراضيها.
زيارة البابا ملفتة، تطرح تساؤلات عدّة، ستعود لها بدون شك ارتداداتها
مستقبلا، وذلك لأنها جزء من خطة متكاملة حتى لو لم تلق النجاح المنشود نظرا
إلى وعي الكنائس الأخرى التي رفضت كل الطروحات.
على أية حال، إن ما حصل محاولة، لنقل بداية...