من سوروج إلى القرداحة: تغير قواعد اللعبة؟
رأي القدس
July 26, 2015
ترتبط العملية العسكرية التركية الجارية في سوريا والعراق بالمسألتين السورية والكردية بعد انتقالهما العنيف إلى الداخل التركي.
هذا الانتقال كان مسألة وقت، ولا يتعلق الأمر بطبيعة التنظيمين المستهدفين العابرة للحدود (حزب العمال وتنظيم «الدولة الإسلامية») فحسب، ولكن أساساً بالسياسة الأمريكية الخطيرة تجاه النظام والمعارضة السوريين.
منعت ادارة أوباما تركيا، على مدى سنوات، من المساهمة في خلق منطقة عازلة وآمنة للسوريين الذين يستهدفهم النظام السوري جوا وبرا، مما أدى لتحمل أنقرة العبء الباهظ لتدفق اللاجئين الذين بلغوا ما يقرب 1.7 مليون لاجئ، وساهم انسداد أفق سقوط النظام والدعم الإيراني والروسي له إلى عولمة الصراع الطائفي، وتدفق مقاتلو السنة من أنحاء العالم إلى تنظيم «الدولة» و»جبهة النصرة» فيما تقاطر الشيعة من العراق ولبنان، وصولا إلى باكستان وافغانستان وغيرهما.
العملية تشير إلى تطور مهم في مواقف ثلاثة أطراف (على الأقل):
الطرف الأول هو الأمريكيون أنفسهم، الذين بتحالفهم العسكري المعلن مع حزب «الاتحاد الديمقراطي» وقوات «وحدات الحماية الشعبية» (وهما امتدادان سياسي وعسكري في سوريا لحزب العمال الكردستاني) شجعوا الحزب، على الاستقواء على الأمن القومي التركي، وكانت عمليات تنظيم «الدولة» وهجمات حزب العمال الأخيرة في تركيا هي نقطة التحول التي ضغطت على الأمريكيين للتعامل مع هذا الواقع المستجد بمعادلة جديدة عناصرها: السماح بتدخل عسكري تركي واسع في سوريا، واستهداف «حزب العمال» (في شمال العراق!) مقابل السماح لطائرات التحالف بقصف تنظيم «الدولة» في سوريا، ومشاركة أنقرة في الحملة الدولية ضده.
تصريح أحد مسؤولي البيت الأبيض أمس الذي أعاد «اكتشاف» أن حزب العمال هو منظمة «إرهابية» يظهر تهافت أحد ركائز الاستراتيجية الأمريكية حول سوريا، وهي مناصرته لتنظيم «إرهابي» (حزب العمال) ضد تنظيم «إرهابي» آخر (تنظيم «الدولة»)، في تجاهل خطير لمصالح الدولة التركية، وللأسس العميقة التي ساهمت في تفاقم ظاهرة تنظيم «الدولة».
الطرف الثاني هو القيادة السياسية التركية، التي يمثلها، حاليا، حزب «العدالة والتنمية»، التي انضمت إلى الحرب على تنظيم «الدولة» داخل وخارج تركيا، وهو أمر كان مجال ضغوط أمريكية وغربية على أنقرة التي كانت ترى إلى حزب «العمال» كخطر أكبر عليها من خطر التنظيم، وكان أن ساهمت العملية الأخيرة في سوروج إلى تغيير موقفها واتباعها سياسة الرد المزدوج على «العمال» و»الدولة الإسلامية» معا.
غير أن القصف الذي قامت به المعارضة السورية على بلدة القرداحة، مسقط رأس الرئيس السوري بشار الأسد، أمس، يمكن أن يقرأ، كتذكير من حلفاء هذه المعارضة، وعلى رأسهم أنقرة، أن انتقال العمليات الإرهابية إلى داخل تركيا، لا يعني أن رأس النظام السوري (الذي خطب أمس ليعيد تأكيد أولوية العمل العسكري على السياسة) صار آمنا.
الطرف الثالث هو مؤسسة الجيش التركية التي استطاعت، قبل ما يقرب الشهر، التعبير عن رفضها، بتغطية أمريكية وغربية، للقيام بعملية عسكرية تركية لإقامة منطقة عازلة في سوريا، وهي الخطة التي اقترحتها القيادة السياسية التركية آنذاك بعد تنامي مخاطر تأسيس ما يشبه دولة كردية في سوريا تمتد من القامشلي مرورا بالحسكة ووصولا إلى عفرين قرب حلب.
مسنوداً، للمفارقة، بتواطؤ مدروس ومبرمج من النظام السوري، وبالغطاء الأمريكي الذي ساهم في تأمين سيطرته شبه التامة على القرار السياسي للأكراد السوريين، وبفوز «حزب الشعوب الديمقراطي» (الذراع السياسية له في تركيا) بثمانين مقعدا في البرلمان التركي، تحوّل حزب العمال إلى كماشة ضخمة عسكرية وسياسية تهدد كيان تركيا الحديث، ومع انتقال عمليات تنظيم «الدولة» المروعة إلى داخل تركيا، انتصب أمام المؤسستين العسكرية والسياسية التركيتين تحديان كبيران يسائلان، كل بطريقته الخاصة، النظام الاقليمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأدى إلى نشوء اسرائيل ودول المشرق العربي الحالية، بإشكالياتها الوجودية العميقة ونخبها الاستبدادية التي فاقمت النزعات المتطرفة، القومية منها والدينية.
قرأ حزب العمال الاستخدام الانتهازي الأمريكي له خطأ واعتبرها برهة تاريخية يجب اغتنامها لتأسيس دولة الأكراد، وبانتقاله مجددا إلى العمل الإرهابي يفوّت حزب العمال الكردستاني لحظة ديمقراطية تاريخية كبيرة تتمثل بدخول نظيره السياسي، «حزب الشعوب الديمقراطي»، بقوة إلى البرلمان التركي، ويعيد أكراد تركيا إلى حرب خاسرة مع الدولة التركية.
بسياستها الشرق أوسطية تتحمل القيادة الأمريكية مسؤولية كبرى في نشوء وتفاقم خطر تنظيم «الدولة» واستقواء «حزب العمال» على الدولة التركية، ومحاولتها الجديدة لتوازن جديد بين المصالح الحيوية لتركيا وهدفها الذي لا يشغلها شيء عنه (ضرب تنظيم «الدولة»)، مليء بالمفارقات وخصوصاً بعد اتفاقها النووي مع إيران، التي ما تزال تعلن انخراطها العسكري في شؤون المنطقة.
يفتح التدخل التركي ضد «الدولة» و»العمال» آفاقا جديدة وستنعكس آثاره على الجميع.