اسية جديدة في شمال إفريقيا
أحمد الدغرني
الجمعة 17 يوليوز 2015 - 00:53
سميناها تجربة سياسية جديدة، لأنها خرجت من حسن الحظ عن استنساخ تجارب المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا ومصر رغم السعي والمكر والجهود التي يبذلها حكام هؤلاء من أجل فرض الاستنساخ السلبي على الليبيين لتلك التجارب الأربعة المليئة بالسيئات.
كانت ليبيا ابتداء من أوائل سنة2011 نموذجا سياسيا جديدا في شمال إفريقيا، علينا أن ننتبه إلى هدا النموذج وأن لا نستهين به، وان لا نترك الفرصة تضيع تحت تأثير الدعايات المغرضة التي تنعت بعض عناصر التجربة إرهابيين، ونعتبرها تجربة تتميز سياسيا عن بقية بلدان شمال إفريقيا ومصر بعدة خصائص منها:
1- إسقاط الديكتاتورية،2- وقتل الكذافي 3- مع تصفية أفراد عائلته بالقتل أو السجن أو النفي.. وذلك بتدخل قوات الحلف الأطلسي وحلفائه في دول الخليج وتركيا ومن بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة- 4 بقيام الفصائل السياسية الشعبية المستعدة للبلد بحمل السلاح وتفكيك كل مؤسسات الحكم القائمة قبل سنة2011 بالقوة المسلحة، وأهم ما تمت تصفيته جهازين أساسيين خطيرين :1- ماكان يعرف ب "مؤتمر الشعب العام" الذي هو التنظيم السياسي الذي يعبئ الجماهير للطاعة في ظل الديكتاتورية، ويمثل نوعا من التمثيل السياسي والنقابي والمهني يعوض التعدد المفبرك في الديكتاتوريات الأخرى في شمال إفريقيا، وكذلك يقوم مقام نظام الحزب الوحيد 2- ثم عائلة وحاشية الديكتاتور التي كانت تهئ الحكم العائلي أوما يمكن التعبير عنه بمصطلح خبيث هو"الملكيات الجمهورية" Les monarchies républicainesولم تكن الحكومة هامة قبل سنة2011لأنها صورية فقط واعتقل رئيسها بتونس وتم تسليمه لليبيين ولم يعد يذكر..
وفي غير ليبيا لم يتم قتل أي ديكتاتور آخر من طرف الشعوب التي ثارت، أو حاولت أن تثور خلال سنة 2011 (هروب بنعلي مع عائلته، وسجن ومحاكمة حسني مبارك وبعض أفراد عائلته، وشبه تغييرات دستورية وتشريعية وانتخابية في المغرب والجزائر وموريتانيا، وقيام بعض المصريين بحمل السلاح في مرحلة متأخرة ضد حكم المشير السيسي).
ولابد لفهم ما نقول من طرح سؤال : ماذا كان سيحدث بعد سنة 2011 لو لم يمت الكذافي ولم يسقط حسني مبارك ولم يهرب بنعلي ولم تحدث شبه التغييرات الدستورية في الدول الأخرى كالمغرب والجزائر وموريتانيا؟
القاعدة الممكن استنتاجها كمقدمة جواب هي وجود ترابط وعلاقة موضوعية ملموسة بين وضعيتين :1-التغييرات السياسية لأجهزة الحكم في شمال إفريقيا ككل2- ما يسمى بالاستقرار السياسي، وهو تعبير يقصد به عدم وقوع التغييرات، والأدلة على هذا الترابط موجودة في التاريخ القريب والبعيد.
وإذا لم نغرق القارئ في التاريخ القديم فسوف نذكر أن احتلال العرب باسم الإسلام لمصرفي عهد حكم عمر ابن الخطاب (أواخر القرن السابع الميلادي) على شبه الجزيرة العربية والشام، خول لعرب الجزيرة والشاميين بالتبعية دخول ليبيا وتونس ثم المغرب والجزائر وموريتانيا..وبعد ذلك سيطرت جيوش المرابطين القادمة من شنقيط (موريتانيا حاليا) على نفس المناطق دفعة واحدة باسم "إمارة المسلمين" التي انتزعوها من العرب الذين يسمونها حينئذ "إمارة المؤمنين" ،وتتابع نفس الترابط ونتائجه السياسية تحت حكم الموحدين ثم المرينيين ثم السعديين، وأخيرا سيطرة فرنسا على المنطقة كلها.
وتمثل فرنسا الاستثناء السياسي الحالي بتعزيزها لانعزال العلويين بحكم المغرب،باستعانة باسبانيا وتأسيس جمهوريات منفصلة عن بعضها في كل أراضي شمال إفريقيا باستثناء ليبيا التي خلفت فيها ايطاليا وتركيا ملكية صوفية على الطريقة السنوسية سنة1951.
وتجربة ليبيا هي موضوع هذا المقال قصد تفسير الوضع السياسي الحالي، ولا يمكن تفسيره إلا من خلال التجربة المعاشة قبل سنة2011 ودراسة تجربة سياسية جديدة في طورا لتكون بعد سنة2011.
يظهر أن ليبيا بعد سنة 2011 منشغلة بتعويض مكونات الحكم الديكتاتوري الممثلة في أربعة عناصر:
قيادة الثورة:
كان يتطلب التغيير القيام بثورة، وهي أنواع معروفة لدى الناس كافة، لم يجد الشعب الوقت الكافي لمناقشتها، هل هي اشتراكية؟ شيوعية؟ إسلامية، عربية؟ أمازيغية؟ ليبرالية؟ ديمقراطية؟ فيدرالية؟ شعبية؟..كانت قيادة الثورة قبل سنة 2011 تنحصر في ضباط عسكر مملكة إدريس السنوسي وتلامذتهم الأوفياء تحت اسم "مجلس قيادة الثورة" (تكون من 12 ضابطا عسكريا انقلابيا في فاتح سبتمبر سنة 1969 وتم حله سنة1977) وكانت تلك القيادة العسكرية سهلة لأنها جاءت من الفوق، ولم يكن الشعب الليبي طرفا فيها لأنها انقلاب عسكري، يسيطر عليه من الفوق مجموعة صغيرة، على عكس ما جرى سنة2011 حيث الشعب هو العنصر الأساسي تساعده قوى خارجية، ومن ذلك يصعب تحديد مفهوم قيادة الثورة مع كثرة الثوار سنة2011. وهو ما نتج عنه ما يسمى عند وسائل الإعلام ب "أزمة ليبيا" والخلافات القائمة بين الثوار المسلحين ..والفجوة السياسية الأولى التي تعرض لها الليبيون كانت هي الخضوع للحكم العسكري لمدة 8 سنوات لم يقاوموهم بالسلاح منذ إعلانهم للانقلاب كما يفعلون اليوم، ونزع السلاح من الثوار هو طريق لاسترجاع الحكم الفردي. فلا ديمقراطية في تجربة ليبيا بدون بقاء الشعب المسلح قائما.
والمرحلة السياسية بعد سنة2011 هي مرحلة الوصول إلى تكوين قيادة الثورة من بين ثوار الشعب الكثيرين الذين لا يمكن الاختيار فيما بينهم لتلك القيادة بمجرد إصدار مراسيم وقوانين ودساتير وإجراء لعب انتخابية ومفاوضات مغلقة ومنعزلة عن أغلبية الشعب..ولو حتي بتدخل الأمم المتحدة والدول القوية، بل لا بد من وسائل مبتكرة في جو قراءة فلسفات السياسة في عصر النهضة الأوربية والثورات الأمريكية والروسية والهندية والصينية، والعرف المحلي للأمازيغ، وهو العمل الشاق الذي يتطلب التواضع لتعويض ايديلوجية القوميين الناصريين، ودعاة الحكم الديني ،وإلا فسيكون ما يعرفه الشعب الشمال الأفريقي البسيط هو الرجوع إلى الفلسفة السياسية لحكام الشرق الأوسط في العصور الوسطى، وهي جاهزة ومجربة، وتمثلها أساليب الدولة الأموية والعباسية والعثمانية ومراكزها هي مكة ودمشق وبغداد واسطنبول وجوهرها الإيديولوجي هو الدين، أو الأديان الشرق أوسطية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، وسيسهل الإمساك بالشعب من طرف أنظمة الحكم الأخرى التي لم يشملها التغيير في المغرب والجزائر وموريتانيا وعسكر مصر، لأنها مدارس جاهزة لتجربة الحكم الفردي (مثلا فشل المفاوضات التي تجري في المغرب بين بعض نخب الليبيين، ودور الجزائر ومصر في إشعال الفتن بينهم وإيواء موريتانيا لبعض فرق الثوار الإسلاميين وحرب العسكر الجزائري ضد الاباضيين في غردا يا باعتبار الاباضية مذهبا إسلاميا للكثير من ثوار ليبيا).
مؤتمر الشعب العام
تأسس يوم 5 يناير1976، وكان جهازا ضخما يلعب دور التعبئة الشعبية، ويروج عقائد الحكم الفردي، ويلعب دورا لسيطرة على العقول الشعبية ويمنع تسييسها ،ويعلمها الطاعة للديكتاتورية..وهو قد انتهى لكن الذين استفادوا منه وكانوا يقودونه لازالوا موجودين وقد تعلموا كثيرا من أساليب التشويش على المجتمع، وعلى الليبيين أن يدرسوا تجربتهم السياسية، ويحذروا من تسربهم إلى إفساد التجربة الجديدة.
-عائلة وحاشية الديكتاتور وبقايا مجلس قيادة الثورة لسنة1969، وقد انتهت هذه الهياكل الثلاثة لكن أثرها لم ينقض بعد لأنها استمرت لمدة 42ى سنة ويتعين منهجيا إدراك أثرها على المؤسسات التي تحاول تعويضها حاليا في ليبيا. وجوهر الانتقال السياسي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية هو تعويض هده الأجهزة الثلاثة التي بنيت واستقرت لمدة 42 سنة ونذكر هنا البدائل الثلاثة المقترحة بعدسنة2011
- انتزاع ثروات البترول ولو جزئيا من سيطرة مركز الحكم ووضعها تحت قيادة مجالس المدن ولم توضع على سبيل المقارنة أية ثروة كبرى تحت تصرف الشعب في أية دولة بشمال إفريقيا غير ليبيا مثل فوسفات المغرب وتونس والغاز الطبيعي في الجزائر والحديد والأسماك في موريتانيا..
أ- المجلس الوطني الانتقالي
كان لجوء المعارضين الليبيين إلى الخارج قد ترك لدى كل سياسي مهاجر ثقافة سياسة موطن هجرته،وتلك الثقافات المتأثرة ببؤس الغربة ورعب الحكم الديكتاتوري ،هي التي كونت المجلس الوطني الانتقالي المؤقت الذي كان نواة الحكم الجديدسنة2011منطلقا من مدينة بنغازي تحت رئاسة شكلية لأحد قضاة ووزراء العدل في مرحلة ماقبل سنة2011 وهو مصطفى عبد الجليل،ورئاسة فعلية للجينيرال عبد الفتاح يونس والمجلس العسكري الذي قاد الحرب ضد جيش الجينيرال ابوبكريونس
جابر آخر عضو في مجلس قيادة انقلاب1969 وانتهى هذا المجلس في7فبراير2012 وسلمت سلطاته للمؤتمر العام الوطني يوم8/8/2012
ب- المؤتمر العام الوطني
هو تجربة سياسية معتمدة على منهجية نقل الديمقراطية الأوربية المعتمدة على خلق سلطة تشريعية عن طريق الانتخابات العامة،لكن الخطأ الذي ارتكب فيه ويتنافى حتى مع مبدأ فصل السلطات في الديمقراطية الأوربية، ونعني أن رئيس البرلمان المنتخب يصبح مؤقتا هو رئيس الدولة الليبية وهو ما أحس به النشطاء السياسيون في ليبيا وبادروا برفض البرلمان ككل ،وهذا البرلمان في عدد أفراده وطريقة تنفيذه وتقسيم أعضائه على الجهات والمدن وحتى تخصيص مقاعد الاباضيين والأمازيغ والتوبو والطوارق هو خطة رسمها المجلس الذي سبقه وهو المجلس الوطني الانتقالي الذي خلق في ليبيا إشكالية سياسية، وهي قيام رئيس المجلس بمهام رئيس الدولة ،أي الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ،وبالتالي فتح الباب واسعا لعودة سلطة الحكم الفردي، وهنا نطرح سؤال ماهو بديل كل المجالس التي ذكرناها(مجلس قيادة الثورة،مؤتمر الشعب العام،المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، وأخيرا المجلس العام الوطني )؟
ج-المجالس وليس مجلسا واحدا
البديل الممكن خلقه الليبيون أنفسهم ولايمكن أن يكون نظرية منفردة لكاتب أو مفكر سياسي وحده ولا مستوردة، ولا نظرية مندوب الأمم المتحدة الذي يجري لقاءات على شاطئ الصخيرات بالمغرب وهو الشاطئ الذي كان يقضي فيه أثرياء ليبيا في عهد ما قبل سنة2011عطلهم الصيفية،ويملكون فيه اقامات فاخرة ،وهو الذي وقعت فيه المحاولة الانقلابية ضد الحسن الثاني في 10يوليز 1971بل هو الرجوع إلى الديمقراطية الليبية الأصيلة وهي حكم مجالس المدن،وقد تكونت مجالس حكم المدن أثناء الثورة وأثناء وجود المجلس الوطني الانتقالي كسلطات شعبية موازية تقود السكان مراعية طبائعهم ومصالحهم الاقتصادية والثقافية( مجلس ممثلي التوبو مجلس ممثلي المناطق الأمازيغية، مجلس الطوارق، مجلس بنغازي مجلس مصراتة مجلس طرابلس مجلس درنة مجلس سرت...) وقد حاول المجلس الوطني الانتقالي المؤقت أن ينقل السلطة إلى نسخ مكررة لدول شمال إفريقيا التي لم تكتمل بها ثورة 2011لكنه فشل في حل مجالس حكم المدن والمناطق و مجالس المكونات الاثنية وبالتالي اضطر إلى أن يبقى مجلس نفسه ، واحدا من بين عشرات المجالس القوية الأخرى،وهو لم يجد صيغة لاستمراره فصنع بديلا له هو المؤتمر العام الوطني ،وهدا الأخير لم يجد موقعا محليا وسط ليبيا والتجأ مثل الغرباء إلى سفينة يونانية بمرسى مدينة طبرق، وكأنه على باب الهروب في البحر،وعليه من داخل سفينته أن يقرأ هذا المقال الذي هومساهمة أخوية لمساندة جميع الليبيين في مساعيهم نحو الحرية وبناء الديمقراطية كبديل للحكم الفردي.
وأخيرا فان المفاوضات الغامضة والسرية التي تجري بشاطئ الصخيرات بالمغرب هي بمعزل عن الكثير من مجالس المدن وممثلي الاثنيات، ولذلك فهي ذات طابع ترفيهي وسوف لن تأتي بنتائج حاسمة مالم ينضم لها ممثلوا مجالس المدن كلها وممثلو التنوع الاثتي بليبيا وهو مالن تقبله أية ديكتاتورية في شمال إفريقيا خوفا من انتشاره ضدها..