لَيْسَ فِي القَنافِذِ أمْلَسُ!
صلاح بوسريف
الأربعاء 15 يوليوز 2015 - 16:26
«لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُم شِرْعَةً ومِنْهاجاً، ولَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً»
لماذا تُجْبِرُنِي أن ألبس مثلك، وأنا لم أجْبِرْكَ أن تلبس مثلي؟ ولماذا تريدُنِي أن أتكلَّم بنفس كلامِك، وأنا لي لِساني، وأسلوبي، أو طريقتي في استعمال اللغة، وهي غير طريقتِك؟ فإذا كُنْتَ تنظر إلى جميع الناس، بِعَيْنٍ واحدة، وتراهُم نَظائِرَ وأشْباهَ، فأنا أخْتَلِفُ عنك، وأرى في كُل إنسانٍ صُورةً لِنَفْسِه، ولا يمكن أن يكون هو غيره.
وهذه أمورٌ، حين لا نَتأمّل سلوكات البشر، وطرائقهم في الكلام، أو في التّفكير، وفي رؤية الأشياء، وأعني منهج وَشِرْعَةَ كل واحد من النّاس في تدبير وُجوده، وفي طبيعة العلاقات التي يربطها بمجتمعه، وبغيره من البشر في غير مجتمعه، وأيضاً طبيعة العقل الذي يحكم فِكْرَهُ ونَظرَهُ، نكون مثل العُميان الذين يكون السَّواد في أعْيُنِهِم، واحداً، هو السَّواد نفسُه، في اللَّيْل، كما في النَّهار، في الصيف كما في الخريف، لا فرقَ، لأنَّ الرُّؤْيَة التي يغلب عليها السَّواد، وتَسْبَحُ في ضبابِ عَتْمة مُغْلَقَة، يكون وُجودُه مُعْتِماً، مُغْلَقاً، ولا أفق فيه، لأنَّ لا ضَوْء ينتظره في آخِر النَّفَق.
لا أتكلَّم عن العُمْيان الذين حَوَّلُوا السَّواد إلى ضَوْءٍ، مثل هومير، وميلتون، والمعري، وبورخيس، وطه حسين، والبَرَددُونِيّ، هؤلاء، كانوا، بطبيعة فكرهم اليَقِظ، المُنْشَرِح، ينظرون بعقولهم، لا بعيونهم، التي، غالباً، ما تَخْدَعُنا، كما تخدعُنا الحواسّ، في ما نَلْمَسُه، ونراه، ونَسْمَعُه.
لم يخلق الله البَشَرَ، ليكونوا واحِداً، في اللون، وفي الجنس، وفي الهيئة، وفي الصورة، وفي اللغة، وفي الثقافة، وفي الفكر، وفي الإيمان والاعتقاد، وهو نفسُه أكَّد على هذا في أكثر من آيةٍ، وفي أكثر من سورة، لأنَّ خَلْق الإنسان على شاكِلَة واحدةٍ، وعلى مَقاسٍ، أو هَيْئَة واحدةٍ، معناه أنَّ الله لم يَعُد «الواحِدَ الأحد»، بل إنَّ هذا الإنسان الكثيرَ في عدَدِهِ، الواحد في كُلِّ شيء، هو واحِدٌ أحد، وكَثْرَتُه ما هي إلاَّ تَشَتُّتٌ في المعنى، وفي الجوهر، وفي العُمْق، وهذا غير ممكن، ولا يمكن أن يقبله المنطق، ولا العقل الذي جُبِل على رؤية الأمور بما تقتضيه طبيعتُها من مُفارَقاتٍ، واختلافاتٍ، ومن إضافاتٍ، حتَّى تَكْتَمِلَ صورةُ الإنسان، باعتباره المُتَعدِّد، الكثيرَ، والمُخْتلِف الذي لا يقبل الشَّبَه، بالمعنى الذي أُشيرُ إليه هُنا.
إنَّنا، حين نُرْغِم الناسَ على لِبَاسٍ واحِدٍ، هو نفسُه لا يتغيَّر، وعلى نفس الخِطاب الذي نَسْتَعيدُه، بنفس استرجاعات الببغاواتِ، سنكون خَرَجْنا من وُجودنا البشَرِيّ، إلى وُجود بَهِيميّ، نفس العادات والحركات، والإشارات، نَتدَاوَل عليها، جِبِلَّةً، وتبعيةً، حيث لا مكان للعقل، ولا للخيال، في إعادة تفكيرِ الإنسان في وُجوده، وفي المهمات التي تقتضيها طبيعته البشرية، التي هي طبيعةُ اختلاف، وخَلْق، وإضافة، لا طبيعة نَمط، وتكرار، أو تقليد واستعادة، ووفق ما وَرَد في سورة المائدة. آ[50] «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُم شِرْعَةً ومِنْهاجاً، ولَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمَّةً وَحِدَةً».
يبدو، أنَّ الكثير من هؤلاء الذين لَبِسُو الدِّين مقلوباً، أو قرأوه وهُم يسيرون على رؤوسهم، أو كانوا في حالة غيبوبةٍ وخدر، توهَّمُوا الخَلْقَ، كما لو أنَّها قطيعاً، تقوده عَصَا راعٍ، ليس مُهِمّاً أن ينام، أو تأخُذَه سِنَة، ما دامَتِ الغَنَمات، تعرفُ طريقها، وبحكم العادة تَجُوزُ نفس المَسالِك، وتذهبُ إلى نفس العُشْبِ. ومن خَبِر سلوك الرُّعاة، وعرفَهُم، سيرى كيف أنَّ الرَّاعي، حالما يصل إلى المكان الذي فيه ماءُ وكَلَأُ قَطِيعِهِ، يكتفي بالمُكوث في مكانٍ منه ينظر، وحتَّى بدون حذر شديدٍ، إلى المساحة التي تَعوَّد على بقاء غنماتِه في حدودها.
ليس هذا هو الإنسان، فالإنسانُ، هو هذا الآخَر، الذي، في هيئتِه، وفي طريقة لباسه، وفي مظهره، وما تبدو عليه سُحْنَتُه، أو صورتُه، إذا شِئنا، وأيضاً، في ما يقترحه من أفكار، وما يخْتَلِقُه من تَصوُّراتٍ، في العِلْم، كما في الإبداع، وفي السياسة، كما في الاقتصاد، هو صُورَتِي أنا، في هذه التّشَقُّقات، والاختراقاتِ، التي فيها أرى معنى الإنسان، باعتباره الكثير في كثْرَتِه، والمُتَعدِّد في اختياراته، وفي ما يمكن أن يُضيفه لي، مِمَّا ليس فِيَّ، أو لا يمكن أن يكون هُو عَيْنه عند هذا الآخر، ولَوْ حدث بعض اللِّقاء، أو التَّشابُه، الذي، إذا ما فَحَصْناه، ودقَّقْنا في تفاصيله، سيكون غير ما نَظُنُّ أنَّه الشَّبَه الذي يجعل من شخصيْن، قَطْرَةَ ماءٍ، كما يُقال في المثل الفرنسي.
لستُ بصدد الحديث عن التَّوائِم، في طبيعة العلاقة البيولوجية التي يتقاطعان فيها، وفيها، هي أيضاً أمور مُدْهِشَة، وقف عليها العُلماء، في هذا السِّياق، بقدر ما تشغلُنِي، هذه الهستيريا الدِّينِيّة، التي بات الكثير من الجاهلين بالدِّين، قبل العِلْم، وقبل الفكر، والمنطق، واللغة، وحتّى طبيعة الخَلْق، يسْتَنِدُون إليها، في انحرفاتِها، أو ما يُدْخِلونه عليها من تشويهاتٍ، في وضع «البيض» البشريّ كله في سلَّة واحدة، أو النَّظَر إلى البشر كقنافذ لا أمْلَسَ فيها. وهذا سببُه ذلك العَمَاء الذي بدأتُ به حديثي هذا، الذي كان دافِعُه، هؤلاء الذين اسْتَغْرَقَهُم الدِّين، إلى الدرجةِ التي جعلتْهُم يُفْسِدون على أنفسهم النَّظر إلى الخلق، باعتباره خَلْق كثْرَة، وتنوُّع، واختلاف، وذهَبُوا إلى حدِّ اعتبار العقل عاجزا عن ابْتِكار الاختلاف، وتدبيره، وعن وُجودِنا في نفس اللغة، وليس في نفس الأسلوب، وعن وجودنا في نفس الأمة، لكن بِقَناعاتٍ، وأفكار، ومظاهر، واختياراتٍ، لا دَخْل فيها لِما نُسَمِّيه أخلاقاً وحِشْمَةً، بهذا النوع من التعميم، والتعويم، ودون فهم أنَّ الأخلاق ليست لَوْناً نصبغ به جميع الناس، أو ثوباً من لَبِسَه صار وَرِعاً، الله مَعَه، وليس مع غيره، ممن اختلف في لباسه عن هذا «الوَرِع» الذي ادَّعَى الوَرَع لنفسه، وأخْرَجَ منه غيره، لأنَّ الورع عنده ارتبط بالدِّين، وليس بغيره مما يعني سلوك الإنسانِ كعقل، وقدرة على كبْح شَرِّه في نفسه، حتَّى لا يؤذي به الآخرين.
هذا منطق، لا صلةَ له بالمنطق، بل إنَّه ضِدّ المنطق نفسه، وحتَّي الدِّين نفسَه، هو ضِدَّه، أو بالتعبير القرآني الجميل والدَّال «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ، لا إلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاء»! [النساء. آ142].