05 يونيو 2014 بقلم
نبيل فازيو قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:التسلطية والانتقال الديمقراطي في الفكر الفلسفي المغربي:
قراءة في كتاب: "الديمقراطية المنقوصة" لنور الدين أفاية
يعترف الباحث في الفكر العربي المعاصر بالدور الكبير الذي اضطلع به الخطاب الفلسفي في جبه معضلاته السياسية، وقد تبدّى ذلك على نحو واضح في الكيفية التي تفاعل بها هذا الخطاب مع الرجّات التي عرفها العالم العربي منذ نهاية العقد الأول من هذا القرن، والتي غالباً ما وصفت من طرف المتحمسين للتغيير السياسي "بالربيع العربي". يكفي الباحث أن يلقي نظرة على ما ألفه رموز الفكر الفلسفي في المغرب، حتى يقف عند هذه الحقيقة؛ إذ سيكون عليه أن ينتبه إلى النَفَس النقدي الذي أعمله هؤلاء في تحليل ما وقع من "أحداث" بعيداً عن المنزع التفاؤلي الذي استسلم له كثيرٌ من المتعطشين للديمقراطية في العالم العربي. لعل السبب الذي يكمن وراء هذا الموقف النقدي من تلك الأحداث، يتمثل في صلة الفكر الفلسفي المغربي الشديدة بالمسألة الديمقراطية؛ فالمهتمون به يدركون أنّ لمسألة الديمقراطية تاريخاً فيه، ارتبط بمكانة الهاجس السياسي في الفلسفة المغربية المعاصرة وتلازمها الماهوي مع أبرز رهاناته. وإذا كان هذا الضرب من المناولة النقدية حاضراً في كتابات فيلسوف كالجابري، فإنها باتت أكثر وضوحاً في أعمال مفكرين متأخرين انصرفوا رأساً إلى التأليف في المسألة السياسية في العالم العربي، كما هو الشأن بالنسبة إلى نور الدين أفاية.
فأن يكتب مثقف عربي في شأن "الثورة" و"التحولات السياسية" التي شهدها العالم العربي في أعقاب "ربيعه الديمقراطي"، فهذا أمرٌ لا يبعث على الاستغراب، لاسيما أنّ تلك الأحداث فجّرتْ منذ اندلاعها قدرات هائلة على التأليف وحفزتْ الفكر العربي على الانتباه إلى واقعه، والوعي براهنيته وبشرطه السياسي على نحوٍ فريد. وقد كان من نتائج هذا الاكتشاف الجديد للشأن السياسي (حتى لا أقول "هذا الاندهاش الجديد" أمامه)، وتحت تأثير مفعول سرعة الأحداث، أنْ اتسمت الكتابات العربية بقدرٍ لا بأس به من الطوباوية والتفاؤل عَكَس وضعيةَ "الأملِ المعلقِ"، التي غالباً ما تعقب كل تحولٍ يمكن وصفه بالثورة في التاريخ. لكن أن يُقدم أحد هؤلاء المثقفين، وفي خضم هذا الضجيج الإعلامي الذي ينضح بمعالم سوء الفهم إزاء ما حدث وما يحدث، على تعليق الكثير من الأحكام المتناسلة من لحظة انفجار المكبوت السياسي في العالم العربي، وأن يدعو إلى التفكير الهادئ والرصين في مظاهر الخلط المفاهيمي الرهيب الذي يتهدّد وعينا بالراهن، وأن يجازف بوصف ما تحصل من مكتسبات تلك الأحداث بأنها ديمقراطيةٌ ناقصة أو منقوصة، فهذا أمر لم نعهده إلا عند قلةٍ قليلةٍ من المثقفين العرب الذين استطاعوا الإفلات من قبضة التفاؤل الجامح الذي ابتلع الوعي العربي، وهو يعيش لحظة إعادة اكتشاف وجوده السياسي من جديد.
كانت تلك حال نور الدين أفاية الذي أراد لكتابه الديمقراطية المنقوصة أن يكون قولاً في ممكنات الخروج من الاستبداد والتسلطية، يتجنبُ الأيلولة إلى حديثٍ متفائلٍ عن ماهية متعالية للديمقراطية. يكفي ذلك، مبدئياً، لتفسير حرصه على عدم الانسياق وراء الكم الهائل من الخطابات المتفائلة التي انفجرت عقب مخاض "الربيع العربي"، وانصرافه، في مقابل ذلك، إلى تحليل طبيعة المعيقات التي ما تزال تستوقف إنجاز شعارات الحراك العربي عامةً والمغربي منه على وجه التحديد. ولعل هذا الحذر المنهجي، وإصرار المؤلف على الإنصات لمقتضيات الراهن السياسي والاجتماعي، هو ما يميز هذا الكتاب عن غيره من الإنتاجات الفلسفية التي اتخذت من عبارة الديمقراطية عنواناً لها، وخاصة منها تلك التي سعت إلى الانخراط في نحت مفهومها في ضوء اتصال برهاناته الكونية في مقابل تبرمٍ ملحوظٍ من مقتضيات الراهن العربي وإكراهاته. على أنّ ذلك لا يعني أنّ الرجل انتهى إلى بلورة رؤيةٍ جهويةٍ مخصوصةٍ عن الديمقراطية، تُهمل شرطها الإنساني وحاجتها إلى استلهام روح الكونية، متجسدةً في رهانات الحق والعدالة والحرية وإقامة المجتمع العادل. هكذا يمكن القول، إنّ أفاية ينأى بمقاربته عن التصورات المجردة للديمقراطية دون أن يتنازل عن روح الرؤية الفلسفية التي يفترض فيها أن تكون محاولة عميقة لبلورة فهمٍ معقولٍ لتحولات الراهن والارتفاع به إلى مقام الهمٍ الذي يبعث على التفكير. ويبدو أنّ فهم رهانات هذا المصنف لا يستقيم من دون وعي بطبيعة حضور فكرة التسلطية فيه؛ فصاحبه ما أقدم على التفكير في الديمقراطية إلا من خلال نقد وضعها في العالم العربي، وهو نقد أتت عبارة التسلطية ترسم أبرز ملامحه، وعندي أنّ تحديد أفاية لمفهوم الديمقراطية كان بالسلب؛ أي بتشخيص ملامح التسلطية وإقامة دعائم الديمقراطية على خلخلة بُنى التسلط والاستبداد في العالم العربي.
ليس مصادفة إذن، والحال هاته، أن يزج المؤلف بقارئه في مضمار التنقيب عن معالم التسلط التي ما تزال تقف عائقاً أمام كل تفكيرٍ مشروع في الديمقراطية، ولعل وعيه بحجم وثقْل هذا التسلط هو ما يفسر إصراره على تشخيص معالمه بحسبانه بنيةً تكلست فيها عوائق الانتقال إلى الديمقراطية في مختلف أبعادها، بدءاً بالسياسي منها ووصولاً إلى الثقافي والاجتماعي، وقد كان جوازه إلى ذلك حسه النقدي الذي رام من خلاله وضع اليد على مختلف أبعاد الديمقراطية ورهاناتها المجتمعية والثقافية والسياسية والمؤسساتية كذلك.
من الغني عن البيان القول، إنّ موقفاً كهذا ينمّ عن وعي بالمنزلقات التي يقود إليها استسهال فهم الراهن واختزال معضلته في بعدها الشكلي الدستوري، إذ يؤكد أفاية أنّ خلطاً رهيباً بين مفاهيمٍ على قدرٍ كبير من الحساسيةِ ما يزالُ يعتورُ تمثلنا لما حدث وللمطالب التي خرجت من جوفه؛ من قبيل الخلط بين الليبرالية والديمقراطية، وبين هذه والنزعة الدستورية التي تختزل الجهد كلهُ في إصلاحاتٍ شكليةٍ لا يُمكن إنكار أهميتها، غير أنها لا تمثل السبب الكافي لقيام الديمقراطية. وضدّاً على مظاهر الخلط والتفقير التي تطال مفهوم الديمقراطية تحت وطأة ما يسميه المؤلف "بالقراءة القانونية الخالصة"، نجده يسعى إلى بلورة فهمٍ موسعٍ لهذا المفهوم يستحضر في أعقابه مختلف العناصر والشروط الناظمة له، بدءاً بطبيعة الدولة والدستور والأحزاب والمجتمع المدني، وصولاً إلى رصد العَوَز الثقافي الخطير الذي يجْعل فكرة الديمقراطية في جملة الأفكار الغريبة عن الوعي العربي السياسي المعاصر، مروراً ببروز دور المرأة، وما أصاب دور المثقف التقليدي من تصدّعٍ بعد تصاعد نموذجٍ جديدٍ "للمثقف" أتى يعبر عن بروز قوى شابة ضخّتْ دماءً جديدة في مجال الفعل السياسي العربي، واستطاعت، إلى حدٍّ بعيدٍ، أن تكسر قُدسية الصمت الذي فرضته التسلطية طيلة عقود من الزمن. من هذا المنطلق، يمكن أن نفهم تشديد المؤلف على ضرورة مجاوزة الأفق الضيق للمقاربات القانونية والصورية للديمقراطية (على حد تعبير أمارتيا صن) والتموقع في زاوية نظرٍ تركيبيةٍ حملتْهُ على الانتقال بقارئه بين كل تلك الأبعاد دون أن يُشعره بأنه يعيد التموقع في كل لحظة؛ فهو يناقش فكرة الهوية بحسٍ فلسفي رصين، ويرصد تفجر مفهومها وتشظيه على نحو لم تخبره الذات العربية، والتحديات التي يطرحها ذلك على لعبة الخروج من التسلطية. ثم ينتقل بسلاسة إلى ربط هذا الإعضال بمسألة التعددية السياسية والثقافية ودلالة الانتقال الديمقراطي وعوائق التحديث السياسي...إلخ. لذلك يمكن القول، إنّ في كتاب الديمقراطية المنقوصة إعمالاً لاستراتيجيات متعددة في لعبة تفكيك التسلطية، استدعت إعادة التموقع من طرف صاحبه في مستويات عدة، ولعل الوعي بالتداخل والتمايز الحاصل بين تلك المستويات يبقى شرطاً لا محيص عنه لفهم رهانات الكتاب.
إذن، همّان مركزيان يستبدّان بالمؤلف ويستحوذان على معظم مساحة الكتاب، يتعلق أولهما بالرغبة في تقديم "فهمٍ معقولٍ" لظاهرة التسلطية التي لازمت التاريخ السياسي العربي، ووجدت في بنيانه الاجتماعي والثقافي إطاراً حاضناً لها، سرعان ما سيلعب دور العائق في تلقي فكرة الديمقراطية نفسها، وثانيهما يرتبط بالحاجة إلى إعادة النظر في تمثلنا لمفهوم الديمقراطية نفسه، والعمل على إخراجه من أفقه الشكلاني والتمثيلي الضيق. إنّ الكشف عن هذه العلاقة الجدلية القلقة بين فهم التسلطية وتمثل الديمقراطية هو ما يشكل في اعتقادي أبرز مظاهر قوة كتاب الديمقراطية المنقوصة، وسأحاول في ما يلي أن أبسط القول في بعض تجليات هذه العلاقة من خلال التفكير في الأسئلة التالية: كيف استطاعت التسلطية، وما تزال، خلق شروط البقاء والاستمرارية، رغم الوعي بضرورة الخروج منها؟ وهل استطاع الحراك العربي أن يخلخل بعض بنياتها العميقة فعلاً؟ وكيف يؤثر وعينا السلبي بمظاهرها في بلورة فهمنا للديمقراطية؟
تتعدد السمات التي يصف بها أفاية التسلطية، ولعل أبرزها ما يسميه سياسةَ "الإذلال" الممنهج الذي يقوم على نشر جوٍ من الخوف والرعب يفرغ المواطن من هويته السياسية (المواطنة)، ليحوله إلى مجرد فرد داخل مجتمعٍ من الحشود، يروض المرء داخل هذا الجو على التنازل عن كرامته واجتراع مرارة الإساءة إليها. كما تقوم التسلطية على قتل فكرة التعددية التي تعتبر من مقومات الشرط السياسي للإنسان بحسبانها الوجه الآخر لشرط الاختلاف وضمانة لا بديل عنها للحرية السياسية، وما يرافق ذلك من تأزم ثقافي واجتماعي ناجم عن تضخم فكرة الهوية الواحدة والوحيدة التي تأتي على الحق في الاختلاف باسم وحدة متعالية ميتافيزيقية. إنّ البروز الملحوظ لسؤال الهوية الذي ساوق الحراك العربي لم يكن وليد مصادفة، ولا يمكن حصره فقط في توظيف سياسي لهذه الفكرة، بل إنه يأتي في مضمار تحرر حيز من المكبوت السياسي التسلطي متجسداً في جدلية التفاعل بين مختلف الهويات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي جهدت الأنظمة التسلطية في سبيل قبرها. وقد انتبه أفاية إلى أنّ هناك "من يقرأ تجليات الهوية العربية المنتفضة من زاوية فلسفية ترى أنّ ما يجري التعبير عنه دليل على إرادة جماعية لإعادة بناء الهوية على قاعدة الحرية والمساواة والكرامة والتخلص من بنية الاستبداد التي سيجت الكائن العربي في واقع قهري واستلابي طيلة عقود، وفرضت عليه تعريفاً وجودياً لا يلائم وجوده في عالم متغير". إنّ إصرار المؤلف على تحليل مفهوم الهوية في علاقته بالتحولات التي عاشها العالم العربي يجب ألا يفهم بحسبانه نتيجة رؤيته الفلسفية إلى موضوع كتابه، بل هو تعبير عن وعيه بالانقلاب الوجودي الذي يأمل الوجدان الطامح إلى التحرر إلى إدراكه، كما يمكن أن نقرأ فيه تنبيهاً على الخطورة الكبرى التي تثوي وراء تضاعيف سؤال الهوية، وما يقتضيه ذلك من تعجيلٍ بموقعته ضمن الأسئلة التي يجب على الفكر العربي أن يحسم فيها قبل أن تعيد الحسابات السياسية الضيقة ابتلاعه من جديد.
وضدّاً على هذه التعددية التي يفرضها مفهوم الهوية، باعتباره مفهوماً محايثاً ومعبراً عن جانب من الرهانات القصوى للكينونة العربية، عمدت التسلطية إلى التشرنق على وهم الوحدة المتعالية التي نسفت فكرة التعددية في مختلف مستوياتها، بل وعملت على إبدالها بعَدَدِية حزبية تُفرغ المجال السياسي من معناه بحكم قدرتها الهائلة على الاستيعاب القسري للفاعلين السياسيين ولمختلف المكونات المؤسساتية الناظمة للمجال السياسي العمومي. وقد سبق للأستاذ العروي أن نبّه إلى هذا المعطى في كتابه من ديوان السياسة، عندما اعتبر أنّ "المدار العمومي حيث يكون التجمهر والتشاور، حيث تلقى الخطب، وحيث يتم التواصل والتبليغ، وحيث يتحقق التوادد والتآخي، وحيث ينفسح الأفق ويتطور الانتماء، وتتحول العضوية العفوية الطبيعية إلى تبصرية اختيارية، إما منعدم وإما محدود، والسبل الموصلة إليه قليلة وفي الغالب مطموسة". يحاول أفاية تسليط الضوء على ما أصاب الفضاء العمومي من طمس ممنهج، صادراً في ذلك عن وعيه بأن "مسار الانتقال مسارٌ شامل، متعدد المستويات، وأنه يستدعي مشاركة كل المكونات الاجتماعية والسياسية لترجمة مطالب الانتقال إلى إجراءات عملية، وإلى بناءٍ مؤسسي". لذلك نجده يشدد على أنّ إعادة بناء الفضاء العمومي والسياسي ليست مسألة قرار سياسي انفرادي، كما أنها تتطلب زمناً سياسياً ومجتمعياً قد يبدو للأفراد المتعطشين للتغيير رتيباً جداً، خاصة أنّ المسألة لا تتعلق بتغيير شكلي على مستوى المؤسسات، بل بسيرورة اجتماعية وثقافية شاملة.
يدرك أفاية أنّ إنجاز مثل هذه المهمة ليس بالأمر السهل، خاصة بالنظر إلى قدرة التسلطية على ابتلاع مختلف العناصر الفاعلة في الحياة السياسية، ونخص بالذكر منها الحزب، إذ يرصد علاقة التماهي الذاتي بين الأحزاب العربية التي تعاقبت على الحكم وبين التسلطية والاستبداد، ولا سيما أنّ معظمها عمدَ إلى احتكار السلطة والحكم والسعي إلى خلق أسباب الاستمرارية على حساب التعددية والحرية السياسية، لذلك فإن الفقر المدقع الذي تعانيه الأحزاب السياسية اليوم، على مستوى الرؤية السياسية أو النجاعة التحديثية، إنما يجد أصوله في لجوء التسلطية وأحزابها إلى إغلاق المجال العمومي أمام الناس، ودفعهم بالتالي إلى البحث عن مجال بديل غالباً ما تجلى في الفضاء الديني على نحو ما لاحظ عبد الإله بلقزيز. ويمكن أن نلاحظ في مقامنا هذا، أنّ المعاصرة السياسية التي امتطت حصان الدين، والتي آلت في أحايين كثيرة إلى نوع من الممانعة السياسية، لم تستطع هي الأخرى خلق ثقافة سياسية تتجاوز تلك التي أسست لها التسلطية، بل إنها كرّست المنطق عينه في خلق شروط الاستبداد والإقصاء.
كان من نتائج هذا الوضع أن ولدت التسلطية ثقافة سياسية عدمية، اختار لها أفاية تسمية ثقافة الكفر بالسياسة والمؤسسات، وهو يشير بذلك إلى ظاهرة العزوف عن السياسة التي أتت لتعبر عن يأس المواطن من جدوى المشاركة في الفعل السياسي، بل إنّ التسلطية عمدت إلى تبرير هذا الموقف باسم مبدأ ديمقراطي يقضي بحرية كل فرد في اتخاذ موقفه من السياسة، بالمشاركة أو بالعزوف والانسحاب. وقد زاد من حدة هذا الوضع، ما نبّه إليه الكاتب من ظاهرة تخريب الحياة المدينية وإمطار المواطن بالمشاكل التي تلهيه عن التفكير في ولوج الحياة السياسية. لذلك كان من الطبيعي أن تنهل التسلطية ماهيتها من ثقافة الكفر بالسياسة وبالمؤسسات، وأن يصير العزوف عن السياسية مدخلاً لفرض واقع الإذلال من مدخل ديمقراطي يقضي بأن لكل فرد حرية التصرف إزاء السياسة والدولة.
بذلك يضعنا الكتاب أمام طبيعة الدولة، باعتبارها أبرز ملامح التسلطية، إذ يسائل أفاية أساس المشروعية التي قامت عليها الدولة التسلطية، من قبيل القبلية والطائفية والعشائرية وتجييش قيم الانغلاق والعداء تحت ذريعة وفرضية عدو خارجي، واقعي أحياناً وهلامي في أحايين أخرى. أفرز هذا الضرب من المشروعية جملة من الشروط المعيقة لأي تحديث سياسي للدولة، نذكر منه على سبيل المثال ضعف الفاعلين الاجتماعيين وهشاشة أرضية الثقافة السياسية التي يستندون إليها، وخاصةً ما تعلق منها بمستلزمات الثقافة الحديثة المؤسسة لفكرة الديمقراطية، مع فقرٍ ملحوظ في نسبة المشاركة في الحياة السياسية والعجز عن خلق عوامل التنمية، وهو ما يعني أنّ الخروج من هذه التسلطية يستدعي إعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة قوامها المواطنة كرابطة سياسية، والنظر إلى السلطة كملكية جماعية قابلة للتداول بدلاً من اعتبارها قراراً فردياً أو عائلياً.
هكذا يمكن القول، إنّ كل هذه المعطيات تتداخل في ما بينها لتنسج معالم التسلطية في العالم العربي، والتي لم تعد منحصرة في مستواها المؤسساتي، بل جاوزته لتغدو رابطة نفسية بين الفرد والسياسة. يشدد أفاية على إظهار معالم هذه العلاقة التي ظلت تجمع الفرد بالتسلطية، والتي تتجلى في مشاعر الخوف وتقبل الإذلال، وهو ما يخرج تشخيصه لهذه الظاهرة من حيزها المؤسساتي الضيق، لينفتح على المحددات الثقافية والاجتماعية والنفسية لفعل الانتقال الديمقراطي وسيرورته.
في أعقاب هذه المعطيات، يمكن للمرء أن يتفهم الحس التفهمي الذي يحرك تحليل المؤلف لظاهرة الانتقال إلى الديمقراطية الذي أراده انتقالاً ديمقراطياً كذلك، إذ يقدمها في صورة مسلسلٍ شاملٍ تتداخل فيه المحددات الاجتماعية والثقافية والفكرية بالرهانات المؤسساتية والانتظارات الاجتماعية المعقدة والمتناقضة في الآن ذاته. ولعل وعيه بهذه المآزق الكبيرة هو ما حمله على عدم التسرع في تقديم تعريف معين للديمقراطية يدعي الإلمام بماهيتها، خاصةً أنها عبارة عن سيرورة وصيرورة يتبدى فيها الشرط السياسي للإنسان كرهان أسمى. من هنا وجب ألا نفهم من وصفه للديمقراطية بـ"المنقوصة" أن النقص يشكل جزءاً من ماهيتها بقدر ما يعبّر عن طبيعة المرحلة المؤطرة لتشكلها، لذلك يفضل أفاية التساؤل عن الديمقراطية انطلاقاً من اعتبارها انتظاراً مجتمعياً؛ أي من حيث هي رهانٌ معلقٌ ينتظر الحسم مع البنية المعقدة والكثيفة للتسلطية التي تتحدر من التاريخ الثقافي والسياسي للعالم العربي.
إنّ أهمية كتاب الديمقراطية المنقوصة لا يمكن أن تختزل فقط في التحليل الهادئ الذي يترجم هَوَس صاحبه بالفهم، بل في استراتيجيات الفهم التي يُعملها في تحليله لإشكاليات كتابه أيضاً، وهي تكمن كذلك في آفاق التفكير التي يفتحها أمام الوعي السياسي العربي المعاصر. لذلك حق لنا القول، إنّ الحوار الذي ننتظر أن يفتحه هذا الفكر مع أطروحات هذا الكتاب يبقى من العلامات الدالة على مدى استيعاب مفارقات راهننا السياسي وقدرتنا على بلورة "فهم معقول" لإمكانيات الانتقال الديمقراطي في المستقبل.