08 مايو 2015 بقلم
عادل الطاهري قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر: لم نشفَ بعدُ من غواية الإيديولوجيا، ولا مسحنا وصمة اندلقت على جباهنا، أو بعبارة أخرى لم نُكفّر عن تاريخ من الخطايا ابتدأت مع سقطة سياسية درامية، تُشبه إلى حد كبير خطيئة آدم الباحث عن الخلود والأزلية، آدم المشتهي لوصفة تجعله إلهاً، فكانت سقطته جزاءً، وكانت مع خطيئتنا كذلك سقطتنا الموجعة التي نتجشّأ إلى الآن مذاق جُرعتها المُرّة. إنّ خطيئتنا أنّنا لمْ نَزَل نُسقط السماء على الأرض، أو بالأحرى نركب سلطان الرأسمال الديني لنتعالى وننفذ من أقطار السماء.
متى ابتدأت القصة؟ وماذا كان قبل الخطيئة؟
لنبدأ بالسؤال الثاني فهو الأسبق زمنياً، ماذا كان قبل الخطيئة؛ خطيئة الاحتكام الكاذب إلى الله ليتوارى خلف ستائرها الشفافة، بمواربة، طمع الاحتكار؛ احتكار المطلق والنطق باسمه وكذلك توقيع الأهواء بخاتم السماء المزيّف؟
تُحدّثنا الروايات التاريخية عن فترة النبوة أنّ المسلمين كانوا يفصلون بين دائرتين، ويجعلون بينهما برزخاً، لكل دائرة حدود وقوانين داخلية تحكمها، وبالتالي، تبعاً لذلك، سلوك إنساني مختلف حيالها. الدائرة الأولى كانت ظلالاً لإرادة الإله وتُعبر عن محض إملاءاته، لنُطلق على هذه الدائرة اسمَ "فقه العبادات"، إنها جملة طقوس دينية غامضة في أحيان كثيرة، يقول الأصوليون، عادة، إنّها لا تخضع لقانون العلية، ولا يُعرف لها حكمة ولا مقصد، إنها عبادات ارتضاها الله لعباده، وعلى الإنسان أن يستسلم بلا تردد تعبيراً عن الخضوع والعبودية. ويُضاف إلى هذه العبادات قيَمٌ أخلاقية سَطّرها في "عالم الذر" فانطبعت فينا في صورة "فطرة"، وما كان تأكيدها في الوحي إلا لُطفاً من اللطائف الإلهية كما يقول "المعتزلة"، وإلا فإنها منبصمة على مرآة القلب ونحن عليها بصائر، ومنه قوله تعالى: "إِنَّ الإنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه"، وهو ما باح به إلينا فيلسوف النقد "إيمانويل كانط" عندما أثنى، بإعجاب، على سماء مرصّعة بالنجوم وقانون أخلاقي بداخله. بالنجوم نهتدي، وبالقانون الأخلاقي كذلك عندما تجْتاحنا مدلهمات "أمور الدنيا"، يقول عليه السلام: "أنتم أدرى بأمور دُنياكم"، وهذه الأخيرة؛ "الدّنيا"، هي الدائرة الأخرى الثانية، إنها فضاء للفاعلية الإنسانية وممارسة نعمة/نقمة الحرية بعيداً عن أية جبرية أو وصاية إلهية حتى يكون للتكليف وحمل الأمانة معنى.
متى حدث التحول؟
المقصود بالتحول هُنا نقطة زمينة تمّت فيها إزاحة دائرة "النص" أو الحاكمية الإلهية لتزاحم دائرة الحرية والفاعلية الإنسانية وتقيّدهما، مع التأكيد على أنّ ذلك كان بروتوكولاً ظاهريّاً فقط، وإلا فإنّ الإله صامت يراقب فقط ولا أحد أوتي قدرة على استكناه ما بداخله، والنبوة، بريد الإله الذي يستودع فيه رسائله، قد أوصد محمدٌ عليه السلام بابها إلى الأبد، فلا وريث له. فالحاكمية الإلهية، هنا، إذاً، ستار يُخبئ كواليس المؤامرة الكهنوتية مع السلطة السياسية المستبدة اللتين تفرزان معاً نظاماً سيّء الذكر يُدعى "الثيوقراطية" أو "الدولة الدينية"، ذلك الكابوس الذي يخبو فيه صوت العقل وتشنق على مقاصله أحلام الإنسان بالحرية والعدالة.
في واقع الأمر، قلّة من الباحثين انتبهت للبداية الحقيقية لرفع شعارات "الحاكمية" التي تختزل مضمونها في الشعار "لا حكم إلا لله"، الأغلبية تجعلها مقولة من مقولات الفرقة الموسومة "الخوارج" والتي اتخذتها بديلاً لمهزلة التحكيم، أو الاحتكام إلى الإنسان، بعد الخلاف الذي نشب بين المعسكرين الشامي الأموي والعراقي العلوي المصطدمين في معركة "صفين" الدامية. وفي الحقيقة، شعار الحاكمية أُشْهِر قبلها بقليل من قبل المعسكر الأموي، وذلك لما دعا في خطوة غريبة ومريبة، قد لا تعدو أن تكون خدعة إيديولوجية، إلى الاحتكام إلى الله من خلال حيلة رفع المصاحف على أسنة السيوف والرماح. تلك كانت بداية الخطيئة السياسية التي يحلو للكثير استئنافها، حيث تتقاطع وتصطدم، في مشهد مأساوي، حدود الدائرتين المتمايزتين، فيدنَّس المقدس ويقدّس المدنّس. إنه تحوير خطير لأسس الشرعية السياسية، حيث يُفتأت على القضايا السياسية التي تحسمها موازين القوى الاجتماعية بإرشاد من العقل وما تراكم من خبرة بشرية.
في الفكر الإسلامي المعاصر، لم يتم التنظير للحاكمية الإلهية بعيداً عن صخب السياسة، وإنما وُظّف المفهوم في سياق التنافس حول تجاذب الشرعية السياسية، والحفر في خطاب سيد قُطب، والوقوف على النقلة الفكرية المُفاجئة من "العدالة الاجتماعية في الإسلام" إلى "معالم في الطريق"، مستحضرين التغيرات السياسية الطارئة في مصر قد تُنير دروبنا للإمساك بتلابيب المفهوم والمغزى الذي يختفي خلف الآيات والمواعظ الدينية الرقيقة التي نجدها في ثنايا الكتابات القطبية.
لم يكُن قطب صاحب "براءة اختراع" سكّ مفهوم الحاكمية، بل كان أحد مريدي الشيخ الباكستاني "أبو الأعلى المودودي"، لذلك فإنّ الإدراك الأمثل للحمولة الدينية-السياسية للمفهوم تقتضي منا أن نرجع إلى كتابات أبي الأعلى، لأنه المنظر الحقيقي للمفهوم؛ جذوره الدينية الأنطولوجية، و"تطبيقاته"، وكذلك إفراغ بعض المفاهيم المحورية في المنظومة الدينية من دلالاتها الأصيلة وطلائها بصبغة الإيديولوجيا الحاكمية وإنزالها في قوالبها الجاهزة.
لا يكاد يخلو كتابٌ من كتب أبي الأعلى من التنظير لوجه من أوجه تجليات الحاكمية، وسنحاول أن نقف هنا عند ثلاثة كتب أساسية للشيخ جلى فيها شكلاً من أشكال الحاكمية، والكتب الثلاثة هي "الخلافة والملك" و"تدوين الدستور الإسلامي" و"المصطلحات الأربعة في القرآن".
في "الخلافة والملك" يحاول أبو الأعلى المودودي تأويل بعض الآيات القرآنية ليبرز من خلالها جذور مفهوم الحاكمية، إنّ هذا المفهوم ليس تصوراً جزئياً محدوداً في حدود السلطة التشريعية، وإنما فرع ينسدل عن تصور أنطولوجي شمولي، وهذا التصور عبارة عن هرم وجودي في قمته الله كمتحكم في الكون بكل جزئياته وحيثياته الصغيرة، يصرفه أنّى شاء ويخضع لإرادته المطلقة التي لا يخرج عنها شيء، وهكذا فالسيادة العليا في التشريع يجب أن تكون كذلك فرعاً عن الحاكمية الإلهية الشاملة في الكون، فلله وحده أحقية مطلقة ليفرض على عباده نمط العيش الذي يراه الأنسب، والإنسان يجب أن يظل دائماً عبداً مُطيعاً، مُعطلاً كلّ ملكاته العقلية والشعورية، لأنّ هذه الأخيرة تؤدي إلى الاستشكال والتساؤل، والله، حسب تأويل معين، لا يُسأل عما يفعل. يقول أبو الأعلى "إنّ نظرية القرآن في السياسة مبنية على تصوره الأساسي للكون وهو التصور الذي ينبغي وضعه في الاعتبار لنفهم هذه النظرية فهماً سليماً"
[1]، واضح من هذه القولة أنه تقع في مغالطة المصادرة على المطلوب، إنه يعتقد قِبلاً أنّ ثمة نظرية سياسية في القرآن، والوقائع التي سيذكرها، كما سنرى، في الحقيقة، تطعن في صحة هذا الافتراض. وبعد هذه المقدمة المترهلة؛ مقدمة أنّ في القرآن نظرية سياسية وعلى المؤمن أن يخضع لها، يحاول أن يربطها بحقيقة يقينية لا يمكن أن يختلف حولها المؤمنون باختلاف مشاربهم، وهي أنّ الكون، بسيره المنضبط، خاضع لإرادة الله؛ "إنّ الحاكمية في هذا الكون ليست لأحد غير الله ولا يمكن أن تكون لأحد سواه"
[2]، ومنها - ودون أن يكون هناك أية رابطة منطقية عقلية (وهي المفارقة التي عبّر عنها قديماً الفيلسوف دافيد هيوم بالقولة "لا وجوب من الوجود") بقدر ما أنه تصور قبلي أو بالأحرى همّ إيديولوجي - يستنتج أنّ الحاكمية يجب أن تطال كل الأمور البشرية تبعاً لهذا التصور، يقول "حق الحاكمية في الأمور البشرية لله وحده، وليس لأية قوة سواه ـ بشرية أم غير بشرية- أن تحكم بذاتها أو تقضي بنفسها"، وهذا الرأي لن يؤدي إلا إلى ما يسمى "الثيوقراطية"، ذلك أنّ الله مفارقٌ للوجود، وتأويل كلامه يقتضي أن تكون هناك هيئة كهنوتية تحتكر دون غيرها مباشرة فهم الكلام الإلهي وتطبيقه مع إقصاء كل تأويل آخر للنصوص الدينية، ومادام النظام السياسي لا يقبل إلا الآراء الدينية التي تنسجم مع اختياراته السياسية، فلنا أن نفهم أنّ الحاكمية الإلهية ستُخْتَزَل في ثيوقراطية شنيعة تتجانس فيها الإرادتان السياسية والدينية على نحو انتهازي توافقي، يقول المودودي بكل وضوح - مطابقاً بين الحاكمية والثيوقراطية- إنّ المطلوب "أن تكون الحاكمية لله وحده إلى حد يتفق والنظرية الثيوقراطية"
[3].
غير أنّ تسويغ النظرية لن يكون ممكناً من غير إصباغ المفاهيم الدينية بالشحنة الدلالية لمفهوم الحاكمية، إنّ المفاهيم التي تشكل ركائز المنظومة الدينية يجب أن تؤدي المعنى ذاته الذي طلى به أبو الأعلى المودودي نظرية الحاكمية التي تعني بالأساس إفراد الله بحق التشريع والخضوع التام من جانب الإنسان، من هنا سيعمل أبو الأعلى المودودي على إعادة تعريف أربعة مصطلحات أساسية في كل رؤية دينية بما ينسجم مع مشروعه الإيديولوجي السياسي، وهي "الرب" و"الإله" و"العبادة" و"الدين". وهو عندما يباشر التعريف يتمثل "حقيقتين" هامتين ـ في نظره طبعاً- سيتأثر بهما سيد قطب غاية التأثر، وهما: أولاً؛ أنّ العرب الذين خاطبهم النبي عليه السلام بلسانهم كانوا مُدركين لما تحمله هذه المفاهيم الأربعة من معاني الحاكمية، وبالتالي فكفرهم هو بسبب عدم الإقرار بالحاكمية، وواضح أنّ في هذه "الحقيقة" استباقاً نظرياً لموقف الآخر، إنه يشهر بطاقة التكفير في وجه المختلف ويشبههم بالكفار الذين عارضوا جوهر الدعوة المحمدية، والثانية أنّ المعاصرين لم يستوعبوا دلالات المفهوم، أو على الأقل اقتصروا على إحدى الدلالات وأهملوا المعنى الأساسي.
في العقيدة السلفية التي تستلهم كتابات ابن تيمية، يعني مفهوم "الله" أنّه مستحق العبادة وحده دون غيره، ويطلقون على هذا القسم من التوحيد "توحيد الألوهية"، تمييزاً له عن "توحيد الربوبية" و"توحيد الأسماء والصفات"، لكنّ أبا الأعلى المودودي قام بعملية تأويلية جديدة تفرغ المفهوم من دلالته الأصلية لكي تتوافق مع "الحاكمية"؛ إنّ "أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة أو من حيث أنّ الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها"
[4]، بل إنه حاول أن يزيح عن الوعي الإسلامي، من خلال إعادة بناء مفهوم "الدين"، ذلك التمييز والانشطار في الفكر المسيحي بين ما لله وما لقيصر، فالدين ليس هو النحلة أو الطقوس الدينية، بل جملة أحكام تطال بُنى الدولة بالأساس، وهذا تعريف غريب للغاية، يقول: "إنّ كلمة الدين لم ترد بمعنى النحلة والديانة بل أريد بها الدولة ونظام المدنية"
[5]، وإذا حاولنا إعادة قراءة تاريخ الدعوة النبوية على ضوء هذا التعريف الإيديولوجي المتعسف، فلا شكّ سنصطدم بالحقيقة التالية؛ وهي أنّ النبي لم يكن في المرحلة المكيّة التي دامت ما ينيف عن العشر سنوات صاحب رسالة دينية بالأساس، لأنّ استقراء مرحلة الدعوة المكيّة يجلي أمامنا طبيعة انشغاله؛ ألا وهو نشر دعوة التوحيد وترسيخ الأخلاق وتمثل الحياة وفق خلفية قيمية صارمة، ولم تعرف هذه الحقبة أي شكل من أشكال التنظير للسياسة أو "الدولة".
أمّا في كتاب "تدوين الدستور الإسلامي" فتطفو المفارقات وتتضح ثغرات النظرية الهلامية بشكل واضح، إنّ أبا الأعلى في هذا الكتاب يناقش فكرة الحاكمية من وجهة نظر قانونية دستورية، فالحاكمية الإلهية جواب عن السؤال "لمن السيادة العليا في التشريع؟"، وهو سؤال دستوري فعلاً، ولا شكّ أنّ العمل ينطوي على فكرة وجود ما يسميّه "دستور إسلامي"، وبالنظر إلى غياب نموذج من التجربة التاريخية لهذا الدستور، فإنه يستعير من الأنظمة الديموقراطية الحديثة مفهوم "الدستور الغير المدون"، كما هو الشأن في بريطانيا، وبنود هذا الدستور موزعة على أربعة أصول هي: القرآن والسنّة وعمل الصحابة واجتهادات المذاهب الفقهية، وينبّه على بعض الصعوبات التي يمكن أن تعترض سبيل من يريد مباشرة تدوين دستور إسلامي ينهل من هذه الأصول الأربعة وعلى رأسها غرابة المفاهيم الفقهية القديمة، ثم عامل آخر خارجي يتعلق بالتكوين العلماني للنخب المثقفة التي تنفي أن يكون للإسلام دستور خاص به.
إنّ مفارقة الحاكمية الإلهية تبرز بشكل مكشوف عندما يدرس المودودي تجربة الرعيل الأول من الصحابة، فهذا الجيل مثالي في تطبيقاته حسب أبي الأعلى المودودي، وإن كان للحاكمية أي حضور حقيقي فلا بدّ أن يكون هذا الجيل قد استحضرها وتمثلها في سياسته، لكن الحقيقة أنّ الدين ككل كان حضوره خافتاً في هذه الحقبة، وكانت محددات أخرى هي التي تحسم القضايا السياسية، يقول الجابري عن هذه الفترة: "إنّ السياسة وليس الدين هي التي كانت ميداناً للنقاش والخلاف، وفي إطارها وقع الحسم واتخاذ القرار"
[6]، ولعل أبا الأعلى المودودي قد استشعر هذه الثغرة، ولنضرب بعض الأمثلة حتى تتضح معالم تهافت القراءة المودودية الواهمة حول المرحلة.
المفهومان: "الزعامة الفطرية" و"الانتخاب الفطري" اللذان وظفهما في كتاب تدوين الدستور الإسلامي
[7] ندرك مغزاهما عندما نقف على سياقهما، فالزعامة الفطرية وظفّها لمواراة الثغرة الدستورية المكشوفة حول طريقة اختيار "أهل الحل والعقد"(
*)، فلم تحفظ كتب التاريخ أو الفقه طريقة مُقنّنة لاختيار هذه الهيئة التي يشبهها المودودي بالسلطة التشريعية، يقول: "فالذين كانوا السابقين الأولين في الإسلام، أصبحوا
بطريق فطري أصحاب النبي وأهل مشورته"
[8]، من هنا نفهم أنّ مفهوم الفطرة هنا يعني الارتجال والعشوائية. وبالمثل فـ"الانتخاب الفطري" فيه إشارة خفية إلى الافتئات الذي طال آلية الشورى، فهذا المبدأ لم يكن له أي حضور في اتخاذ القرارات السياسية، والمودودي نفسه يرى أنّ آراء أهل الشورى غير ملزمة بل هي معلمة فقط احتكاماً إلى بعض التجارب السابقة في حقبة الخلافة الراشدة، كقرار أبي بكر شنّ ما سُمّي حروب الردة رغم اعتراض الكثير من الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب.
لكن لا بدّ من التنبيه على شيء، نحن عندما ننتقد تلك التجارب السالفة على ضوء أحدث النظريات السياسية، فإننا نودّ فقط أن نضع أصبعنا على التفاوت بين سياسة الماضي وسياسة الحاضر، كرد فعل على الإسقاطات المتعسفة لأمثال المودودي، والذي يرى مثلاً أنّ الحاكمية جواب دستوري عن سؤال لمن السيادة العليا، وأنّ "أولي الأمر" مفهوم فقهي ينطبق تماماً مع السلطة التنفيذية، و"أهل الحل والعقد" هي السلطة التشريعية، وليست الغاية القدح في هذه الحقبة، أو الانتظار من ذويها تمثل هذه النظريات السياسية التي لم يكن، حتماً، الوعي الإنساني مؤهلاً للتوصل إليها، ولا البنى الاجتماعية التقليدية تسمح بتبيئة أنظمة الحداثة السياسية. إنه لا بدّ من رؤية تاريخانية تؤمن بالتطور المتدرج لتجنب الإسقاطات المجحفة التي تهمل التاريخ كمحدد أساسي في البناء السياسي الاجتماعي.
والغاية التي نصبو إليها من هذا النقد هي نسف مفهوم الحاكمية بمغزاها السياسي الذي يوهم بأنّ المسلمين منذ الإرهاصات الأولى لدولتهم الفتية كان لهم دستور يسيرون وفقه، ولا شكّ أنّ فكرة كهذه كفيلة أن تعطل كل حسٍّ اجتهادي يصبو للترقي بالمنظومة التشريعية السياسية، كما أنها تنفي التطور التاريخي. وفي المقابل تجمّد الأوضاع الاجتماعية، وتقدم غطاءً إيديولوجياً للاستكانة بدعوى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.. وَلَيْتَ شعري أين ما كان؟
إنّ الحاكمية مفهوم سياسي بالأساس أُلْبس لبوساً دينياً، مثله مثل الإيديولوجيا الجبرية التي توسلها الأمويون لتبرير حكمهم، وسيد قطب لم يتجه صوب هذا المفهوم بعد أن كان أحد حاملي لواء العدالة الاجتماعية والتحرر من قبضة الاستعمار والإمبريالية إلا بعد الثورة الاجتماعية السياسية التي قادها جمال عبد الناصر في مصر، لقد كان سيد قطب يبحث عن مشروعية؛ بالأحرى يبحث عن شعار آخر مفصلي بين "الأنا" و"الآخر" حتى يتضح الانشطار بين "الاشتراكيين" و"الإخوان"، ومادام الاشتراكيون قد حققوا غير قليل من مطالب قطب في العدالة الاجتماعية، أو على الأقل ساروا في ذلك الدرب وانتحلوا أهدافاً اشتراكية، فقد كان على قطب كمنظر للإخوان أن يقيم مشروعه السياسي على أساس آخر، يقول نصر حامد أبو زيد: "إنّ طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة يعكس ظروفاً شبيهة بتلك التي طرح فيها المفهوم أول مرّة مع الفارق طبعاً بين الظرفين في الزمان والمكان وتعقد الواقع، ولكنه الصراع على سلطة الحكم، ولجوء أحد طرفي الصراع إلى نقله من إطار الصراع الأرضي إلى صراع ديني، يسمح له بتزييف وعي الناس وتخديرها للوصول إلى السلطة. ومن الخطأ البيّن تصور أنّ الصراع الذي وقع بين الإخوان والثورة كان صراعاً حول الدين أو العقيدة، بل كان صراعاً حول السلطة السياسية"
[9].
إنّ الله في نظرية الحاكمية يوظف، للأسف، كدعاية في حملة انتخابية سياسية، وبدل أن يكون الله قاسماً مشتركاً بيننا، بل بين كلّ الآدميين باعتباره "ربّ العالمين"، فإنّ الإسلام السياسي يرنو لاحتكاره وحده بدعوى "الحاكمية".