محمد شوقي الزين في الأربعاء أغسطس 19, 2009 5:55 pm
في ما يلي نصّ للفيلسوف العربي علي حرب حول التفكيك عند جاك دريدا
المصدر: جريدة "الشرق" (الدوحة - قطر)
التاريخ : 29 أكتوبر 2004
______________________
مع غياب جاك دريدا جرى الكلام على سيرته في ما سبق. يجدر الآن الكلام على فلسفته وأعماله. ولا مراء أن الرجل يعد مخترعاً في مجاله. لقد افتتح حقلاً للدرس والتنقيب، واستخدم طريقة في التفكير غير مسبوقة، كما ابتكر جملة من المفاهيم التي تركت بصماتها على ساحة الفكر في العالم، كما هي مفاعيل مصطلحات «الأثر» أو «الإرجاء»، وبخاصة "التفكيك" الذي تندرج تحته أعماله.
1-
الأثـر : بالنسبة الى حقل التفكير دشن دريدا مجالاً أطلق عليه اسم «علم الكتابة»، كما يشير أحد مؤلفاته. والمقصود بالكتابة هنا ليست الحرفة بل الخط والحرف، أي ما هو مسجّل مقابل ما هو منطوق. والجدة هنا قوامها التركيز على المكتوب لا على المسموع، على النص لا على الكلام، على الأثر لا على الصوت. وهكذا فإنما يُكتب ويدوّن، هو المعول عليه، في ما يُقال ويفهم، من وراء التهويمات العقلية والتشبيحات المثالية، التي نجدها لدى فلاسفة الهوية والماهية والأنا والعقل، حيث المعاني والمفاهيم هي جواهر خالصة أو محضة تقوم في ذوات روحانية أو متعالية. بهذا يقف دريدا ضد التقليد الفلسفي الراسخ منذ أفلاطون، والذي يقدِّم القول على الكتابة، ويضن بالحقيقة على النشر والإذاعة.
وإعطاء الأولوية لما يُكتب ويدون يفيد أمرين:
الأول انه لا انفكاك للمعنى عن العلامة وللمدلول عن الدال، أو للمفهوم عن الأسلوب. من هنا قول دريدا: «لا شيء يوجد خارج النص»، ولا يعني ذلك نفي الوقائع أو التعامي عن الحقائق، كما حسب الخائفون على الحقيقة الموضوعية والمذعورون من منهج التفكيك، وإنما يعني أن النص يسهم في تشكيل الموضوع، وأن الحقيقة لا تسبق النص عليها، وإنما هي مرجعه بقدر ما هي ثمرته، وأثر من آثاره. إنه يعني أن النص الذي يُحيل الى الواقع أو الحدث، إنما يخلق واقعه ويفرض نفسه بقدر ما يترك أثره ويشكل مجاله.
2-
الإرجـاء : أما الأمر الثاني الذي يفيده تشكيل علم الكتابة والأثر، فهو أنه لا تطابق بين المعنى والعلامة، أو بين المقول والمكتوب أو بين المفهوم والموجود. مما يجعل من المتعذّر القبض على حقيقة الشيء واكتناه ماهية الحدث. فالمعنى يستعصي على الحصر، والمفهوم هو صيرورته الدائمة، ذلك أن النص، بما هو أثر، ليس وحيد الدلالة أو الوجهة، وإنما هو منسوج من الالتباس والتوتّر أو التعارض، بحيث يقبل غير تفسير أو تأويل، بقدر ما يكون غير مطابق لما يطرحه أو يدّعيه. بكلام آخر، إن الاعتراف بأن للنص أثره ووقائعتيه، بمعزل عن مؤلفه، يعني أنه أقل أو أكثر أو غير ما يقوله. مما يجعل المعنى رهن قارئه الذي يقرأ في النص ما لا يرد على ذهن مؤلفه. وهذا يقودنا الى الإرجاء بوجهيه المكاني والزماني.
ومفاد الوجه الأول أن المعنى، كونه يلابس النص ولا يعرف إلا من خلال أثره، لا سبيل الى التحقق منه أو التثبّت من هويته، وإنما هو يختلف عن نفسه، باختلاف القراء للأثر، أي هو نتاج بقدر ما هو نسبة لا تنفك تتغير بين الكلمة والشيء أو بين الكلمة والكلمة أو بين الأشياء. وهكذا كل قراءة تنتج معناها وتخلق حقيقتها بقدر ما تقوم بصرف اللفظ ونسخ المعنى أو تحويل المفهوم على سبيل الزحزحة والإحالة، مما يضاعف النص عبر القراءات المتباينة والمتلاحقة وبصورة تتسع معها دوائر تأثيره وتتعاظم مفاعيله.
أما الوجه الثاني للإرجاء فهو استحالة القطع والجزم في الحكم على الأشياء، ما دام النص متعدّد المعنى، والأثر ملتبس الدلالة أو مزدوج الإحالة. ولذا لا وجود لقول فصل أو لكلمة نهائية في أي موضوع أو أمر أو شأن. إنه نوع من تعليق الحكم يذكرنا بالفرقة الإسلامية المعروفة باسم «المرجئة»، التي امتنع أهلها عن اتخاذ موقف من الصراع بين عليّ ومعاوية، مرجئين الحكم الى يوم القيامة، حيث الله يحكم يومئذ في ما يُختلف فيه. وهكذا فالمعنى مؤجل أو مرجأ، لأنه لا قوام له بذاته بمعزل عن النص الذي ينتج الفروق والاختلافات بقدر ما هو مساحة للتباين والتعارض. ولذا لا سبيل الى اختزال النص والأثر، كما لا سبيل الى الوقوف على مراد المؤلف. نحن نقرأ لا لكي نبحث عمّا اراد المؤلف قوله، وإنما نقرأ لكي نكشف ما لم يقله أو ما كان يمتنع عليه القول.
3-
التفكيـك: يقودنا ذلك الى التفكيك الذي هو فاعلية فكرية نقدية تقوم على خلخلة البداهات التي ارتكز عليها الفكر الفلسفي الماورائي منذ افلاطون حتى هوسرل. وعمل التفكيك يطاول منظومة من المفاهيم تحكمت في الأذهان أخصّها بالذكر:
مركزية العقل، حضور الذات، الأنا المتعالي، منطق المطابقة والمصاقبة استراتيجية القبض والتيقن.
من هنا فإن عمل التفكيك يقوم دوماً على إخضاع البنى، أكانت نصوصاً وخطابات أم مؤسسات وسلطات، أو افعالاً وممارسات، الى الدرس والتحليل، للكشف، عما تتأسس عليه أو تنبني به أو تخفيه أو تمارسه من المفارقات والتناقضات أو الخدع والمخاتلات أو الحجب والتعتيم.
ولا يعني ذلك أن التفكيك، يُلغي طرفاً من أطراف الثنائيات الفلسفية لحساب طرف آخر. فليست المسألة مجرد قلب للأمور. بالعكس، إن التفكيك، يستمد مسوغه من كون الضد لا ينفك عن ضده: فالعقل يلابسه الوهم، والحقيقة لا تنفك عن الخداع والتضليل، والذات أبعد ما يكون عن ممارسة السيادة والقبض والتحكم على ذاتها وعلى أشيائها. والمثال هو النص بالذات. ذلك أن اللغة التي نعبّر بواسطتها والتي توجد قبلنا، تصنعنا بقدر ما نحاول التأثير فيها. مما يعني أن ما نخلقه أو نشكّله من النصوص يتعدّانا بمفاعيله وأصدائه التي لا يمكن حصرها أو توقعها.
ولا شك أن مثل هذه الاستراتيجية لا تفي بالتعبير عنها أو تجسيدها، لغة ونصاً، أنماط الخطاب الفلسفي التقليدية، ذات الطابع الاستدلالي، المستقيم والمتنامي بصورة متصاعدة. وإنما هي تحتاج الى أسلوب آخر، يتّسم بالالتواء والمواربة والمخادعة. فلا استقامة ها هنا في الأسلوب، ما دام لا معنى يقوم بذاته، أو ما دامت لا توجد حقائق مطلقة. وقد تجلّى ذلك في ولع دريدا في الاستثناءات والتعابير المنسية أو الألفاظ المشتبهة، أو التلاعب بالبنية الصرفية للمفردات، من أجل تطعيم المعنى، كما هو شأن مصطلح الإرجاء «Différance» الذي انبثق من تهجين مصطلح الاختلاف «Difference»، وذلك بإحلال حرف «a» محل حرف «e».
خلاصة القول: إن التفكيك، كما ابتكره ومارسه دريدا، يأتي دوماً من حيث لا نتوقع بقدر ما يخربط العلاقة بين الممكن والمستحيل، وذلك بالتعامل مع المستحيل بوصفه شرط إمكان الحدث، إذ الحدث هو الذي يخربط سلاسل الأسباب ويجري على خلاف دفتر الشروط.
بهذا المعنى إن «الإمكانية الوحيدة» التي يملكها الشخص هي «تجربته مع المستحيل»، بمعنى خرقه للشروط، أي هي القدرة على أن يفعل الواحد اكثر مما يقدر عليه، لأنه إذا كنا نفعل فقط ما نقدر عليه، أو لا ننتظر إلا ما نتوقّعه، فمعنى ذلك أننا نسبر إمكانات موجودة أو ننفذ برنامجاً مسبقاً، في حين أن الفعل يعني أن نفعل ما كنا نعجز عن فعله، بفلق الممكنات وتفتيق القدرات لكي نأتي بما هو غير متوقع.
على هذا النحو تعامل دريدا مع القضايا والأحداث، كما أرى: اعتبار المستحيل شرط إمكان الحدث. ولذا فقد لجأ الى كتابة كلمة مستحيل «Impossible» بصورة مغايرة: «Im-possible»، بحيث ان المستحيل لا يعني عدم الإمكان، بل غير الممكن، أي ما يحيل الى إمكان آخر لا نراه أو لا نملكه، علينا اجتراحه أو صنعه، بصورة غير مسبوقة ولا متوقعة. هذه نبذة عن التفكيك من قراءتي للفيلسوف دريدا. ولذا أنا لا أقول هكذا تكلّم دريدا، على غرار القائلين هكذا تكلّم زردشت أو هكذا تكلّم ابن عربي. ففي ذلك وجه من وجوه الخداع التي يكشف عنها التفكيك.