مبحث العميان هو مبحث تشكيلي مثير بل هو موضوعة جمالية بوسعها أن تستهوي الفلاسفة أيضا. فأفلاطون أسّس جمهوريّته على أمثولة عميان الكهف حيث لا يرى فيه سكّانه غير ظلالهم. و دريدا الفيلسوف الفرنسي المعاصر كتب كتابا كاملا حول العميان لكن بين عميان أفلاطون الذين هم أرموزة فلسفية للعوامّ المغلّلين الى عقائدهم القديمة، وعميان دريدا الذين جسّدهم الفنّ التشكيلي على ظهر لوحات صامتة، ثمّة مسافة شاسعة هي التي تفصل العمى المهذار الثرثار في محاورات أفلاطون عن العمى الصامت في لوحات الرسّامين. و هي أيضا المسافة التي تفصل بين عميان ديمقراطيين يكثرون من الضجيج حول أغلالهم و عميان يرسمون صمتهم بأيديهم و بأيديهم يخطّون خطّا آخر نحو “ديمقراطية سوف تأتي”. أمّا عن قائمة العميان المبدعين في الذاكرة الانسانية فهي قائمة ثقيلة أيضا: أوديب و هوميروس و المعرّي و بشّار و طه حسين .. أوديب الذي أصابه العمى لأنّه أراد أن يحدّق في الظلام، ظلام الحقيقة المفزعة، و هوميروس الذي اخترع بعماه آلهة الاغريق.. والمعرّي الذي رسم جنّة العرب على شكل حمل كاذب لحضارة تُحمل في شكل “زقفونة”.. لكنّ ثمّة أيضا عميان السياسة فالمستبدّ لا يرى غير رغباته و الطاغية لا يرى غير مصالحه.. والمتعصّب لرؤيته للعالم هو أيضا من العميان فهو لا يرى غير أوهامه ومغالطاته التي قد تتحوّل الى نزوات للقتل و الاجرام في حقّ شعب برمّته .
لكن هل ثمّة ذكريات لمن لا يرى؟ هل للأعمى ذاكرة وهو الذي لا يرى ما يذكر؟ في البدء لم تكن الكلمة، بل ما كان هو العمى .. لحظة من الكاووس حيث لا وضوح ولا تميّز.. في البدء - بدء لحظة الرسم- يتقدّم الرسّام نحو الخواء كي يخطّ خطّه الأوّل.. لا شيء يملكه ولا شيء ينتمي اليه.. لا شيء كي يرى.. هو من سيخطّ مجال الرؤية .. هو سيخترق العمى.. لكنّه لن يخترقه بعينيه ّبل بيديه.. كالأعمى يمدّ يده نحو المجهول ويسير في الظلام.. الرسّام هو من يتقن التحديق في الظلام بيديه.. تلك هي أطروحة دريدا في كتاب له تحت عنوان ذكريات العميان. وهو كتاب كتبه بمناسبة معرض في متحف اللوفر بتاريخ 26أكتوبر 1990. في الكتاب ثمّة حلم يقصّه دريدا: أعمى يتخاصم معه دريدا، وهذا الأعمى كان يهدّد أبنائه. وتتعدّد الأصوات وينتثر الصدى داخل ذكريات العميان، فرويد وبنيامين والنصوص المقدّسة والأنبياء اسحاق ويعقوب وطوبيا رجل الدين اليهودي.. وتتشابك الحواسّ وتلتقي: فنحن نرى بأيدينا ونلمس بأعيننا ونسمع ونحن ننظر.. وتشتدّ أصوات الغيرية التي تتصادى داخل ذكريات العميان من كل صوب.
" الخطأ” هو عنوان هذه اللوحة التي رسمها أنطوان كويبل سنة 1702. وهو رسّام فرنسي ولد سنة 1661 ومات سنة 1722 .رسّام وفنّان ديكور باشر الرسم في أسلوب الباروك ..لكن لماذا عنون أنطوان كويبل لوحته بالخطأ؟ هل يمكن الحديث عن الخطأ والصواب حين يتعلّق الأمر بالفنّ؟ أم لأنّ الخطأ يأتي دوما من العمى؟ دريدا ينبّهنا ههنا الى أنّ الفنّ التشكيلي هو دوما رسم للعمى على نحو ما. فالرسّام يرسم دوما وهو ينظر الى لوحته فهو لا يرى لا النموذج ولا الموضوع. بل هو لا يعرف ما سيرسم.
.كل رسم هو رسم ذاتي أو أوتوبرتريه يرسم فيه الرسّام نفسه وهو في لحظة حيرة وتردّد ازاء ما سيرسم . ففي كلّ لحظة رسم تنسحب العين والرؤية كي تغري اللامرئي بالحضور. ثمّة اذن ضرب من العمى القادم الى اللوحة في كل مرّة. لكنّ أين الخطأ في كل ذلك ؟ ولماذا تصير اللوحة ههنا هي “الخطأ”؟ أليس الفنّ ضرب من “الأكاذيب الجميلة وفق عبارة سعيدة”لنيتشه؟ لكنّ ثمّة مسافة بين الكذب والخطأ؟ فما يتأوّله دريدا هنا في عنوان أنطوان كويبل أمر مغاير: انّ الخطأ يكمن عادة في العمى .فنحن نخطئ حينما لا نرى جيّدا. والمقصود هنا هو زعزعة النموذج الكلاسيكي للمعرفة كما حدّده ديكارت تحديدا. فنحن نعرف بضرب من الوضوح والتميّز أي بنوع من “النور الطبيعي” نور الكوجيطو الذي يفكّر كأحسن ما يكون التفكير والذي يضمن ويشرّع ويؤسس لحقل المعرفة برمّته. ثمّة بنية معرفية وخطابية يفكّكها دريدا عبر قرائته لهذه اللوحة. ذلك انّ الصعوبة التي ينبّه عليها دريدا هنا هي التالية: من الصعب أن نقول هل نحن رأينا فعلا حينما نقول أنّنا رأينا. فالخطأ لا يكمن في العمى بل يكمن أيضا في الرؤية حين نريد أن نرى فيما أبعد ممّا هو مرئيّ. فقد نصاب بالعمى كما حصل مع أوديب وكما يحصل مع كل المدّعين بأنّهم يرون أكثر ممّا هو ممكن للبشر أن يروا. كل الأوهام و الأخطاء و المغالطات تأتي من هكذا ادّعاء. وهنا يصحّح دريدا خطأ فلسفيّا هو خطأ ديكارت في اعتقاده أنّ الخطأ يأتي دوما من العين لأنّ “الحواسّ تخدعنا” وينصف فنّ الرسم من حيف قديم. ضدّ فلاسفة العين يستعيد دريدا لوحة كويبل من أجل القول: أنّ الانسان بوسعه أن يرى حتى وجه معصوب العينين وبوسعه أن يهزم ما يمنعه من الرؤية وبوسع الأعمى أن يلمس العالم وأن يتوجّه نحوه وأن يرسم خطّ المستقبل بيديه. فالخطأ لا يكمن لا في الرؤية ولا في العمى بل في اعتقاد ما بأنّنا نرى أو بأنّنا عميان. دريدا يهزم ذاك الاعتقاد. وما أكثر عميان الاعتقاد في اوطاننا.. فالعين لا تنقذنا من الخطأ اذ هي كثيرا ما تدفعنا الى اعتقاد بأنّنا نرى أكثر ممّا نرى.. انّ التاريخ يُكتب دوما من جهة العين. ومن جهة الحقيقة ومن جهة “النور الذي قذفه الله في الصدر”. آن الأوان أن يُكتب من جهة العمى أيضا. آن الأوان كي يكتب من جهة صمت العيون وكدّ الايادي التي تتحسّس الطريق في صمت. آن الاوان كي نكتب أيضا من جهة مواقع العمى والظلام التي تلفّنا في دوّامة من الضباب المخيف. انّ عميان الرسّام أنطوان كويبل لا يشبهون عميان أفلاطون : انّ الأعمى في اللوحة التي نراها هنا يمدّ يده الى الأمام لأنّه ثمّة أمام يتوجّه نحوه و يخطّه بيديه كلتيهما .أمّا عميان أفلاطون فليس لهم غير الذاكرة : غير خلف هم مجبورون على استعادته كي يتحرّروا من “ديمقراطية الرعاع”من أجل “جمهوريّة الفيلسوف” على حدّ تصوّر أفلاطون .