1ـ دريدا والسياسة:
لم يُعرف دريدا ولم يحظ بتلك الشهرة العالميّة بسبب نصوصه السياسيّة أو لالتزاماته النضالية كما هو حال فلاسفة عُرفوا بنشاطهم السياسيّ كتابةً ونضالاً مثل ماركس أو غرامشي أو سارتر أو حتى ألتوسير أو هابرماس. أرى شخصياً أن دريدا قد أقام في البداية مسافة ما بينه وبين السياسة تفكيكاً أو انخراطاً. من الجليّ أنه وقبل سنوات التسعينات من القرن الماضي قد أخذ دريدا العديد من المواقف السياسيّة الفردية دون أي انخراط سياسيّ أو نضال عقائديّ. فمن المعروف مثلاً أنه قد كان من المدافعين عن استقلال الجزائر (البلد الذي ولد وترعرع فيه)؛ نعرف أيضاً أنه قد ساند صراحةً القضية الفلسطينية (رغم أنه من أصل يهوديّ) وأنه قابل مجموعة من المثقفين الفلسطينيين في الأراضي المُحتلة عام 1988 كنوع من التضامن معهم ومع قضيتهم وأنه كان صديقاً مُقرّباً من إدوارد سعيد إلى حين من الزمن. من المعروف كذلك عنه أنه كان أحد أهم مؤسسي جمعية جان هوس Jan Hus عام 1981 التي أُنشئت لدعم المثقفين التشيك المعارضين أو المسجونين في تلك الفترة وبأنه قد تم توقيفه عام 1982 في تشيكوسلوفاكيا نتيجة مشاركته في ندوة مغلقة حيث اتهمته السلطات التشيكية آنذاك بالاتجار بالمخدرات التي دسوها له في حقيبة سفره قبل أن يتم تسفيره وترحيله من هناك بعد عاصفة دبلوماسية حدثت بين البلدين تدخل فيها الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسو ميتيران لإطلاق سراحه. لا ننسى كذلك أنه شارك في معرض “الفن ضد التمييز العنصريّ” وساهم بإنشاء مؤسسة ثقافيّة ضد التمييز العنصري وكان عضواً أساسيّاً في لجنة الكُتّاب من أجل نيلسون منديلا الخ . كل هذا معروف، لكنه يظل نشاطاً سياسيّاً فرديّاً مُتحرراً من أي انتماء كعادة دريدا دائماً في محاولة الانعتاق من أي شيء والنزق من أي ارتباط. لكن الذي يسترعي الانتباه أنه وخلال كل تلك السنوات أي من عام 1967، حيث ظهرت مؤلفاته الثلاثة الأولى، ولغاية سنوات التسعينات من القرن الماضي لم يكتب دريدا نصاً سياسيّاً واحداً مُباشراً أو حتى مُبطّناً في السياسة.
يستبطن قولي: أن دريدا لم يكتب شيئاً مباشراً في السياسة قبل التسعينات أنه قد كتب صراحةً شيئاً في السياسة بعد ذلك. وهذا صحيح، ولكي أشرح هذا الاهتمام المتأخر عند دريدا بتفكيك مسائل لها علاقة بالفلسفة العمليّة كالسياسية فإنني سأسمح لنفسي بتقسيم المسار الفكري لدريدا إلى ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى تمتد من عام 1967 وحتى عام 1972 ولعل مؤلفاته الصادرة في تينك السنتين هي الأكثر كثافة وأكاديميّة من بين كل ما نشر. سأُطلق على هذه المرحلة اسم المرحلة “الفلسفأدبية” في مسار تفكيكيّة دريدا إذ كانت نصوصه خلالها تتراوح بين الفلسفة والأدب مع حضور أقوى للفلسفة على الأدب فيها (مع بعض الاستثناءات). المرحلة الثانية وهي ما سأُسميّها بالمرحلة “الأدبفلسفيّة” في التفكيك الدريديّ حيث راحت نصوصه تميل لإعطاء مساحة أكبر للكتابة الأدبيّة على حساب الضبط المعياريّ الفلسفيّ وهذه المرحلة (التي تحتمل بعض الاستثناءات أيضاً) تمتد من عام 1972 وحتى نهاية الثمانينات. المرحلة الثالثة والأخيرة وهي ما سأُسميّها هنا بمرحلة “التفكيكعمليّة” في التفكيكيّة الدريديّة والتي تبدأ، برأيي، مع بداية التسعينات وتنتهي عام 2004 ﺑ “رحيل” جاك دريدا.
لا شك أن هذا التقسيم فيه شيء من الاعتباطيّة والإقحام فكثافة وتداخل “الأنواع” في نصوص دريدا تجعل من العبث تقريباً محاولة وضع خطوط فاصلة ولو افتراضياً في مسيرة الإنتاج الدريديّ. غير أنني أجد أنه من الممكن (مع أن هذا ما كان ليُعجِب دريدا أبداً) وصف تلك المراحل الثلاث في أعماله دون الإدعاء بأن أي مرحلة من هذه المراحل تُشكل قطيعة حاسمة مع ما سبقها. افترض إذاً أن المرحلتين الأوليتين واللتين سأُطلق عليهما معاً اسم “التفكيكية الدريديّة المحض نظريّة” هي تلك الحقبة التي شهدت فيها كتابات دريدا اهتماماً نظرياً واضحاً وعزوفاً شبه تام بها عن الانخراط في تفكيك مسائل الفلسفة العمليّة (مع بعض الاستثناءات القليلة جدّاً في تفكيك بعض النصوص الأخلاقية كمقالته “العنف والميافيزيقا” . ثم تأتِ المرحلة الثالثة والتي سأُطلقُ عليها مجازاً هنا بالمرحلة “النظرعمليّة” وهي تلك التي تبدأ مع سنوات التسعينات من القرن العشرين وتنتهي برحيل جاك دريدا عام 2004. ولعلي هنا لا آتي بجديد بالنسبة لوصف المرحلة الثالثة بالعمليّة فقد درج بعض المشتغلين على فلسفة دريدا (وبخاصة الأمريكان منهم) بتسمية تلك المرحلة بالتحوّل الأخلاقي السياسيّ في تفكيكية دريدا ethico-political turn.
بالتساؤل عن علاقة دريدا المُتأخرة بالمباحث العملية للفلسفة، علينا الاعتراف أولاً أن مثل تلك العلاقة هي علاقة إشكالية بحد ذاتها. قد يعود السبب الأبسط في ذلك إلى مسمى “التفكيكية” نفسها التي وقعت في فخِّ اسمها فالتفكيك يُعطي الانطباع، لغير المُطّلعين على إنتاج دريدا بطبيعة الحال ـ وما أكثرهم، بأنه يُحيّل مباشرةً إلى كل ما هو عدميّ وفوضويّ وتدميريّ. هكذا راجت الشائعات الساذجة حول عُقم التفكيكيّة وسلبيتها وعدم إنتاجها واكتفائها بالهدم والتقويض دون أن تطرح أية بدائل في مجال الفلسفة العمليّة أي في ميادين الفعل والنشاطات البشرية. ولعل هذه الرؤية الضبابيّة وغير المُمتحنة التي عملت على تنميّط وتأطير وتبسيط وتسخيف وتشويه التفكيكيّة ووضعها في سلّة واحدة غربياً وعربياً قد ساهمت هي أيضاً في أشكلة العلاقة أكثر بل والتشكيك فيما إذا كان هناك علاقة أصلاً بين التفكيك والفلسفة العملية: الأخلاق والسياسة وفلسفة القانون والمجتمع، الخ. ولكن الحق يقال، فإن التسميّة ليست إلا عاملاً سخيفاً فيما يخص مشكلة العلاقة بين تفكيكية دريدا وتناولها للأسئلة المتعلقة بمباحث الفلسفة العملية. فالمُطّلعين على إنتاج دريدا لا يتوقفون عند مسألة التسمية تلك كما يفعل أولئك الذين ليس لديهم سوى فكرة إعلامية عامة مُبسّطة ومُبتسرة عن دريدا وتفكيكيته. هكذا فإن هناك سبباً آخر، وربما أسباباً أُخرى، أكثر حضوراً ووجاهةً قد ساهمت في أشكلة العلاقة أكثر بين تفكيكية دريدا والسياسة.
في مواجهة هذه المسألة ينقسم الباحثون حول جدوى التفكيكية. فيرى بعضهم أن مشروع دريدا لم يكن سوى طريقة جديدة في قراءة النصوص التي لا يمكن للتفكيك أن يكون دونها إذ هو يقتصر عليها. هم يرون أن تبعية التفكيك للنص تتلخّص في امتحان الأجوبة المُقدّمة في السابق من قبل آخرين بدل تقديم أجوبة جديدة. ولعل الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، وهو أحد أكثر المعجبين بتفكير دريدا، هو أحد هؤلاء المُشككين بالفائدة الاجتماعية للتفكيك كما أن موقف يورغين هابرماس كان في هذه الخانة كما تجلى ذلك في نقده لدريدا في كتابه الجداليّ الخطاب الفلسفي للحداثة . موقف هؤلاء مفهوم واتفق معه لو أنه اقتصر على الحديث عن مرحلتي دريدا الأوليتين، ولكنه خاطئ تماماً في تقيمه لأعمال التفكيك الدريديّ منذ سنوات التسعينات أي فيما سميته المرحلة الثالثة. في حين أن هناك باحثون آخرون يعتبرون أن السؤال السياسيّ كان حاضراً دائماً في كتابات دريدا ومنذ منشوراته الأوله الصادرة عام 1967 وهو لا يقتصر على إنتاجه العمليّ المُتأخر. في هذا الصدد يكتبُ مارك جولدشميت (صاحب المقدمة التعريفية بأعمال جاك دريدا Jacques Derrida, une Introduction) رأياً مُهماً حول ذلك بالقول:
“كان الفعل الأكثر إلحاحاً في المنشورات الأولى لدريدا يقوم على قلب ومن ثم إزاحة، وأحياناً تعميم، مفهومَ ما كان دائماً مقموعاً ومُجرّداً من القيمة: فقبل تعميم الكتابة، يقوم دريدا في الواقع بقلب علاقة خضوع الحرف والأثر للصوت والكلام الحيّ مُظهراً بذلك أن سيرورة الكتابة تقوم بشكلٍ ثابت ببناء النصوص الميتافيزيقيّة وإن كان ذلك بطريقة ممحوّة ومُهدمة. إن مثل ذلك الفعل المُمنهج، مع أنه دون نهج، كالقلب، والإزاحة، والتعميم هو تفكيك للسُّلطة في مبدئها”.
يعتبر غولدشميت إذاً أن تفكيك علاقات السُّلطة والقوى التي مارست تأثيرها في كتابة النص وفيما يُكشفه ويحجبه كما تجلى ذلك في الأعمال الأولى لدريدا هو فعلٌ سياسيّ بامتياز دون أن يتناول السياسة بالضرورة بشكلٍ صريح. مثل هذا الموقف نجده أيضاً عند الباحثة الأمريكية من أصل إيطالي جيوفانا بورادوري التي تُدافع عن وجود فلسفة عمليّة دائمة الحضور في مجمل مؤلفات دريدا بما فيها الأولى منها حيث تقول بورادوري:
“إذا كانت أعمال هابرماس تكاد تنحصر في الفلسفة السياسية والاجتماعية، فإن دريدا قد أسهم، منذ البداية في مجموعة من الحقول الفلسفيّة، تبدأ من فلسفة الأدب إلى فلسفة اللغة مروراً بفلسفة التاريخ وفلسفة الأخلاق والسياسة. تتجلى مواقفه الأخلاقية والسياسية في كثير من المقالات التي بدأت بالظهور في سنوات الثمانينات، أي بعد عشرين سنة تقريباً من تأليفه أول أعماله الفلسفية. لهذا السبب يُظنُّ غالباً أن دريدا قد أخذ يهتم متأخراً جدَّاً بهذه المواضيع، تقريباً مثل جون لوك، وكانط، واسبينوزا، وهيغل الذين لم تأخذ عندهم مناقشات الأخلاق والسياسة أهميَّة فعليّة إلا في النصف الثاني من مسيرتهم الفلسفية. ولكن هذا لا يعدو كونه انطباعاً، فإن دريدا كان مُلتزماً ضمنيّاً بالفعل بتفكُّرٍ أخلاقي وسياسي منذ بدأ الكتابة”.
أما بالنسبة لي شخصياً فإنني لا أتشارك في الرأي مع الزمرة الأولى التي تُقلِّصُ التفكيك إلى مجرّد آلية لقراءة النصوص كما أنني لستُ مُقتنعاً تماماً بما يذهب إليه الفريق الآخر الذي يُجهد نفسه في البحث المُضني عن أثر لكامن أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي هنا أو هناك في نصوص دريدا الأولى. لا شك أنه يمكن لنا تفكيك النصوص الأولى لدريدا وأن نعتمد استراتيجيات التفكيك في كشف المخفي والمحجوب والمكتوب بين السطور وفقاً لعلاقات الحجب والإضافة والتورّية أو حتى قلب النص وجعل المسكوت عنه مُقالاً الخ أو أن نقوم بقلب علاقات الخضوع والسيطرة لثنائيات متقابلة فنجعل عاليها سافلها وأن نقول بأن غياب التفكيك للمسائل العمليّة في نصوص دريدا الأولى أو “دريدا الأول” كما أحب أن أسميه ليس في النهاية سوى غياب خادع بينما هو يسكن تلك النصوص ويجول فيها. وبمعنى آخر إنه حضور الغياب. الفئة الثانية التي تذهب إلى حضور الهاجس العملي في فلسفة دريدا الأول تتبع هذا الطريق (وإن بشكل بعيد غالباً عن الحِرَفيّة الدرديّة). بل إن دريدا نفسه يدافع عن مثل هكذا توجه ففي مقابلة أجراها معه ديديه إيربون عام 1996 يؤكِّد دريدا:
“إن ما تسمونه البعد”السياسيّ“لنصوصي ليس”حديث العهد“جدّاً وهو لم ينتظر صدور أطياف ماركس، ولكن دعنا من ذلك الآن (، فللاعتراف بأن نصّاً ما هو سياسيّ ربما يجب التوقف يوماً عن انتظار إعلانه بإشارات كبيرة لامعة أو بقرعات الطبل المدويّة اسم ماركس مثلاً أو كلمة”سياسة“هكذا بكل بساطة، بل وحتى كلمة أخرى من هذا القبيل من المفردات الكلاسيكيّة للشيء السياسيّ).... نعم كتبيّ سياسيّة”.
بين هذين الاتجاهين أميل شخصيّاً لاتجاهٍ ثالث يتحدّث عن تحولٍ في تفكيكية دريدا بدأ يتجلى بوضوح في نصوصه منذ عام 1990 وحتى وفاته. وفق قراءتي الشخصية فإنني أزعم أنه وفي المرحلة الأولى لم يُقارب دريدا أبداً تقريباً بشكل مباشر تلك المباحث التي تُصنَّفُ كلاسيكياً ضمن مباحث الفلسفة العمليّة. مما لا شك فيه، بالنسبة لي على الأقل، أن هناك غياباً واضحاً لأي منظور عمليّ في مجمل مؤلفات دريدا في المرحلتين الأولى والثانية. بينما أميل إلى الإعتقاد إلى أن سنوات التسيعنات من القرن العشرين تُمثِّل نقطة التحول إلى دريدا الثالث أو دريدا الكهل (أسوةً بتسمية هيغل العجوز أو ماركس الكهل). مع سنوات التسعينات تركّزت أعمال دريدا على قراءة وأشكلة أسئلة تتعلق بالفلسفة العمليّة مُباشرةً وصراحة بعد مرحلة غياب شبه تام عن نصوصه حتى نهاية الثمانينات. إن ميلي إلى هذا التصوّر له عدّة أسباب لعل أهمّها موضوع مؤلفات دريدا نفسها التي أخذت تظهر منذ بداية التسعينات حيث راح دريدا يُفكّك فيها إشكاليات تنمتي تقليدياً لمباحث الفلسفة العمليّة مثل العلاقة بين السياسة والصداقة، العلاقة بين القانون والحق والعدالة، العفو، الإرهاب، الديمقراطيّة، السيّادة، الدولة الخ.
ولأكون أكثر تفصيلاً وتوضيحاُ فإنني سأُجري قائمة بتطور تفكير دريدا من خلال مؤلفاته في المراحل الثلاث التي افترضتُها أعلاه. المرحلة الأولى التي سادت فيها مجموعة من الأبحاث الرصينة بمعاييرها الدقيقة وهي مرحلة الكتابة التي سميتُها : “لفلسفأدبيّة” وهي تنقسم بدورها على مرحلتين الأولى هي مؤلفات دريدا الثلاث التي ظهرت في نفس العام 1967 والتي كانت لا زالت مُتأثرة على نحو كبير بفينومينولوجيا هوسرل والتي تمثّلت في : في علم الكتابة De la Grammatologie، والكتابة والاختلاف L’Écriture et la difference، والصوت والظاهرة La voix et le phénomène؛ ثُم المرحلة الثانية والتي ظهرت فيها أيضاً ثلاثة مؤلفات لدريدا ظل فيها اللون الفلسفيّ يطغى على الأدبي وتمثِّل مرحلة ازداد فيها تأثير هايدجر على حساب هوسرل في نصوص دريدا الثلاث التي نُشرت في عام 1972 وهي: هوامش الفلسفة Marges de la philosophie، ثم الانتثار La dissémination، ثم مواقف Positions.
بعد هذه المرحلة راحت مؤلفات دريدا تشهد تداخلاً جديداً بين خيوط الأدب والفلسفة طغت فيها الكتابة الأدبية متحرّرة من معايير وضوابط الفلسفة الكلاسيكيّة منذ كتاب مهاميز ـ أساليب نيتشه (1972) Éperons. Les styles de Nietzsche مروراً ﺑ أجراس (1974) Glas ليستمر بخاصة في سنوات الثمانينات شاهداً انزياحاً ملحوظاً من “الفلسفأدبي” إلى “الأدبفلسفيّ” عبر البطاقة البريدية (1980) La carte postale. De Socrate à Freud et au-delà ؛ ثم نغمة القيامة المُتبناة مؤخراً في الفلسفة (1983) D’un ton apocalyptique adopté naguère en philosophie حيث يُدافع فيها عن موقف الحدس الشعري في وجه العقل، ثم من أجل بلول سيلان (1986) Schibboleth : pour Paul Celan، ثم جرامافون أوليس (1987) Ulysse gramophone، ثم ذكريات من أجل باول دو مان (1988) Mémoires – Pour Paul de Man.
بعد هذه المرحلة من النصوص الأدبفلسفيّة ستشهد مرحلة التسعينات تحولاً ملحوظاً آخر، ولكن هذه المرّة نحو مسائل الفلسفة العملية حيث ستتلاحق مؤلفاته “التفكيكعمليّة” ابتداءً من أطياف ماركس (1993) Spectres de Marx، ثم قوّة القانون (1994) Force de loi ، ثم سياسات الصداقة (1994) Politiques de l’amitié، ثم مواطنون عالميون لكل البلاد (1997) Cosmopolites de tous les pays ; encore un effort، ثم ماركس في الرهان (1997) Marx en jeu، ثم في الضيافة (1997)De l’hospitalité، ثم العصر والعفو (2001) Le siècle et le pardon، ثم ماركس وأبنائه (2002) Marx & Sons، ثم الفلسفة في زمن الإرهاب (2003) Le concept du 11 septembre، ثم السَّوَقَة (2003) Voyous (التي ناقش فيها مسألة السيادة ودور الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة العالميّة وأثر العولمة على مفاهيم سياسية كالديمقراطية والإرهاب).
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما الذي حصل بين منتصف سنوات الستينات ولغاية بداية التسعينات من القرن الماضي حتى يتحول اهتمام دريدا بوضوح وصراحة، بل وبشكل مباشر نحو تفكيك معضلات وإشكاليات وأسئلة مباحث الفلسفة العملية في القانون والسياسة والأخلاق التي كانت غائبة أو خجولة أو محجوبة في مؤلفاته السابقة؟ إنني افترض وجود أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لهذا التحول الأخلاقي ـ القانونيّ ـ السياسيّ في تفكيكيّة دريدا.
من بين الأسباب الذاتيّة يمكن لي أن أقول بحذر أن التقُّدم في العمر غالباً ما قاد العديد من الفلاسفة للاهتمام بالقضايا الاجتماعية والعمليّة في سنٍ مُتأخرٍ نوعاً ما وهذا ليس قاعدة وإنما ظاهرة يعرفها تاريخ الفلسفة . يُظهر لنا هذا التاريخ ما يدعم هذا الافتراض من أمثلة وقد أشارت جيوفانا بورادوري إلى هذه الظاهرة عند غير دريدا من الفلاسفة حيث تقول في حواريتها الفلسفة في زمن الإرهاب أن جاك دريدا مثله “مثل جون لوك، وكانط، وسبينوزا، وهيغل الذين لم تأخذ عندهم مناقشات الأخلاق والسياسة أهميَّة فعليّة إلا في النصف الثاني من مسيرتهم الفلسفية.” يبدو أنه وبوصول الفيلسوف إلى سنّ معيّن يُصبح أكثر توجُّساً حول مدى مساهمته في الحياة العملية والاجتماعيّة. كما لو أنه يُدرك مع الزمن أن المساهمة في تغيير العالّم هي المهمة الأكثر نُبلاً والأكثر احتراماً للفيلسوف. وفقاً لهذا الافتراض فإن دريدا لا يُمثّل بتوجهه المُتأخر نحو الفلسفة العمليّة استثناءً يشُذُ عن القاعدة.
أما فيما يتعلق بالأسباب الموضوعية لذلك التحول الكبير في تفكيكية جاك دريدا نحو الفلسفة العمليّة فإنني أقترح سببين أساسيين لذلك: يتعلق الأول بتغير المُناخ الفكريّ العام الثقافي والسياسيّ والفلسفيّ والسياسيّ الذي شهده الفكر الفرنسيّ في سنوات الثمانينات، والثاني هو تأثر تفكيكيّة دريدا بالمُناخ الفكريّ العام الأمريكي الذي ازدهرت فيه في الثمانينات وما أقصده بذلك براغماتية الفلسفة الأمريكية.
ـ تغير الجو الثقافيّ في فرنسا:
إنني أزعُم هُنا حدوث تغيُّرٌ في “باراديم” الفكر الفرنسيّ من فلسفات ما بعد البنيويّة التي سادت في السبعينات إلى النزعة العمليّة التي حّلّت مكانها في سنوات الثمانينات من القرن العشرين. في تلك الفترة تراجعت قوى اليسار الفرنسيّ سياسيّاً وتقدّم اليمين السياسيّ دافعاً معه بموجة فكريّة يمينيّة داعماً لها ليستفيد من تنظيراتها لبناء إيدولوجيته من جديد بعد مرحلة فوران اليسار الفرنسيّ وثورات التحرّر التي سادت في نهاية الستينات وهيمنت على المشهد السياسيّ والفكريّ في السبعينات. تقدّم اليمين دفع بمجموعة من “الفلاسفة” الجدد والذين رغم عدم أصالتهم الفكريّة كما أرى، إلا أنهم استطاعوا من تغيير اهتمام الفلسفة الفرنسية في تلك الفترة نتيجة تسهيل ظهورهم الإعلاميّ وتعميم أفكارهم وأخيراً لحاجة المجتمع الفرنسيّ وقتها إلى شيء من الهدوء بعد مرحلة الستيان والسبعينات العاصفة. كان لا بد لذلك التغير في الباراديم أن يطال تفكيكيّة دريدا بشكلٍ ما. من الصحيح أن تفكيكيّة دريدا ازدهرت في الجامعات الأمريكيّة وبخاصة في مجالات النقد الأدبيّ بينما ظلت مُحاربة ومرفوضة بتعنت في فرنسا وجامعاتها إلا أنها مع ذلك ظلت جزئياً وبشكل ما نتاج الثقافة الفرنسية كما أن كل نصوص دريدا دون استثناء تقريبا كانت تُنشر بالفرنسية أولاً وفي فرنسا التي عاش دريدا معظم حياته فيها وليس في أمريكا . لذلك لا شك أن ذلك التغير في الباراديم في الفلسفة الفرنسية كان لا بد له وأن يؤثّر على تفكيكيّة دريدا التي لم ترد أن تخرج من المسرح وإنما أن تسير مع رياحه نوعاً ما فتُجدّد من موضوعاتها وتُغري المزيد من القراء الفرنسيين بنتاجها.
إن تغير الباراديم الذي أقصده هنا هو ذلك التغير الذي حصل في التوجهات السياسيّة والاجتماعية والثقافية الفرنسية في الثمانينات من القرن العشرين والذي يصفه فريدرك وورم أحد مؤرخي الفلسفة الفرنسية المعاصرة كما يلي:
“إن ما حدث مع مطلع الثمانينات على المستويين العلميّ والفلسفيّ والسياسيّ [...] لم يعد تعميقاً أو تجذيراً للمشاكل التي ظهرت في سنوات الستينات، ولكن على العكس تماماً، كان نقداً لها لم يتوقف هو أيضاً عن تعميق نفسه”.
وما يقصده وورم هنا بالتحول الفلسفيّ والسياسي أثناء الثمانينات يشرحه بالقول: “إنها مبادئ دولة القانون والديمقراطيّة” . يظل أن أقول أن تأثير المناخ العام الفرنسيّ الذي تغيّر في الثمانينات يظل على أهميته سبباً ثانوياً. فرغم استقطاب كتب دريدا على اهتمام الكثير من القراء الفرنسيين إلا أن أبواب الجامعة والثقافة الفرنسية ظلت موصدة تقريباً في وجه اتشار الدريديّة إلى الآن وأظن أن الحظر الأكاديميّ على دريدا وتفكيكيته سيتمر إلى أمد لا أظنه بالقصير. بينما لعل الأثر الأول والأهم في توجُّه تفكيكيّة دريدا نحو الاهتمام بالمسائل العمليّة يُفسَّرُ ربما بتأثر التفكيكية بالروح العامّة للبراغماتية الأمريكيّة وبالمناخ الثقافي العام الأمريكيّ حيث ازدهرت وانتشرت بسرعة كبيرة بل وبشكل لم يعرف له تاريخ الفكر المعاصر مثيلاً.
ـ الأثر الأمريكي:
ما يُثير الدهشة في مغامرة التفكيكيّة الدريديّة في أمريكا هو ذلك النجاح النجوميّ منقطع النظير الذي حظيت به. فقد تحوّلت هناك إلى مدرسة بل وبالأحرى مدارس متنوِّعة وصار لها أتباع في الفلسفة والأدب، ولكن أيضاً في العمارة والسينما والدراسات القانونيّة واللاهوت الخ... هناك ثوَّرت تفكيكية دريدا المناخ الثقافي الأكاديميّ الأمريكيّ بشكل كبير، ولكنني أزعم أنها بقدر ما أثَّرَت فيه فإنها تأثرت به أيضاً.
من المعروف أن مجموعة من المفكرين الفرنسيين والذين “غالباً ما كانوا مُهمّشين في فرنسا” مثل جاك لاكان، ميشال فوكو، جان فرانسوا ليوتار، و جان بودريار قد أصبحوا مشاهير في الجامعات الأمريكيّة، لكن يظل النجاح الأمريكيّ لجاك دريدا ظاهرة لا سابق لها تخطت حدود الأكاديميات لتصل إلى شتى المجالات بما في ذلك الموضة. في مقابل الإنكار الفرنسيّ العنيد لدريدا وتفكيكيته، تحظى في النهاية أصالة أفكار دريدا ما يليق بها من اهتمام في أمريكا ولعل هذا ما جعلني افترض أن الأثر الأمريكي على تفكيكيّة دريدا بتوجيهها نحو الفلسفة العمليّة هو أعظم أثراً من التغير في باراديم الفلسفة في فرنسا . كانت مناهج النقد الأدبي في الثمانيات في أمريكا تعاني من التكلُّس والتكرار فجاءت التفكيكيّة بطرق واستراتيجيات جديدة في القراءة لتُخلّص تلك الأقسام من تكلُّس نظرية النقد الأدبي الجديد New Criticism التي فقدت بريقها آنذاك.
لكن توطين التفكيكيّة الدريديّة في أمريكا سيستدعيّ بعد وقتٍ قصير ضرورة تحوّلها وتأقلمها مع البيئة الجديدة التي نزلت فيها وما أقصده هنا حاجتها للاندماج والتكيُّف مع الروح الأمريكيّة البراغماتيّة العملياتيّة. هذه الأخيرة كما نعلم تشترط إيجاد حلول عمليّة للمشاكل المطروحة ومعيار الصدق فيها هو في معيار التحقق والإمكان. التفكيكيّة الدريدية في أمريكا ستخضع بذلك إذاً لقوانين لعبة الداخل بالخارج والخارج بالداخل وعملية التأقلم والتبييء. إن عملية التأقلم تلك قد ساعدت، برأيي، في تجديد التفكيك الدريديّ وفتحه على مجالات الفلسفة العملية التي تجاهلها سابقاً. ولنفهم بشكلٍ أفضل مسار التفكيك الدريديّ في الولايات المُتحدة الأمريكيّة فإنني سأسوق أولاً هذا التساؤل لفرانسوا كوسيه صاحب كتاب French Theory في فصل سماه “ورشات التفكيك” « Les chantiers de la déconstruction » يقول فيه وهو يتساءل عن سر نجوميّة دريدا في الولايات المُتحدة:
“كيف وجد ذلك المسار غير الواضح نفسه مُحتكراً ومُكثّفاً وموجّهاً ومُعالجاً بجرعات فرديّة في حقل أدبيّ أمريكيّ وقد شعر بأن جوانح قد نبتت له وهو لم يكتف بتأطير هذا الفكر المُتطَلِّب في مناهج السنوات الأولى من الجامعة، ولكنه حوله أيضاً لبرنامج تحقيق ابستمولوجي ـ سياسيّ لا سابق له؟ كيف حصل أنه مقابل كل فرنسيّ واحد يقرأ كتاب لدريدا، في بلد الفلسفة في الثانويّة، يكون هناك عشرة أمريكيين قد جاؤوا على الكتاب رغم تكوينهم الفلسفيّ الضعيف؟”
في محاولة الإجابة على الأسئلة التي طرحها، يُلاحظ كوسيه أنه إن كانت الجامعات الأمريكيّة قد احتضنت تفكيكيّة دريدا، فإنها لم تستقبلها استقبال العاجز المنفعل فقط بل الفاعل الموثِّر أيضاً حيث يقول: “لا شك أن أمريكا هي في قلب الرحلة الدريديّة وهي تعيد إنتاج أعماله وفقاً لغاياتها الخاصة.”
مما لا ريب فيه أن دريدا كان على وعيّ بهذه “الاتفاقيّة” غير الصريحة والمسكوت عنها بين تفكيكيته وأمريكا والتي تتلخص ﺑ: اعطِ لكي تأخذ وهو لم يكن ينقصه الذكاء ليجدد في كتاباته وأساليبه وموضوعاته وأن يعيد تكييف التفكيكية مع الروح البراغماتية الأمريكية (دون أن يعني ذلك أبداً مزاوجة الفلسفة البراغماتية مع التفكيكية ـ مع أن دراسات جديّة يمكن أن تُبحث في أسباب اهتمام بعض أهم الفلاسفة البراغماتيين الأمريكان مثل ريتشارد رورتي بتفكيكيّة دريدا وأثر هذه بتلك أو العكس). إني افترض بوضوح إذن أن الحرية التي منحتها الجامعات الأمريكية وبخاصة أقسام النقد الأدبي لتفكيكيّة دريدا في البداية لم تكن حرية مطلقة وإنما كانت مشروطة تريد استثمار التفكيك الدريديّ براغماتيّاً على الطريقة الأمريكية مقابل فتح الأبواب أمامه. وهذا ما حصل ونجح بشكل منقطع النظير وكان إيجابياً لصالح الطرفين: أي الأكاديميات الفرنسية التي أدخلت التفكيك واحتضنته من جهة ودريدا الذي صار بفضل الجامعة الأمريكية عراب مدرسة جديدة لم يصلها إليه أي فيلسوف معاصر آخر من جهةٍ أُخرى. في كتابه ذكريات من أجل باول دو مان يُناقش دريدا مُصطلح “التفكيكيّة الأمريكيّة” بالتساؤل:
“هل للتفكيكيّة وجود في الولايات المُتحدة؟ في أوروبا أولاً ثم في الولايات المُتحدة، كما يظن البعث بتسرُّع، طارحاً بذلك مشكلات تظل مثيرة حول استقبالها، وترجمتها، وتكييفها، الخ؟”
يجيب دريدا على تساؤلاته تلك باللقول:
“إن التفكيكيّة، على خلاف ما يُظنُ غالباً، لم تُستورَد من أوروبا إلى الولايات المتحدة. إذ أن لها في هذا البلد الكثير من التجليات الأصليّة التي أثارت بدورها آثاراً فريدة في أوروبا وفي مناطق أُخرى في العالم كما تشهد على ذلك آلاف الإشارات.”
ثم يؤكد دريدا أنه من أجل دراسة “التفكيكيّة في أمريكا” يتوجب استحضار جميع مظاهرها مثل: المظهر السياسيّ، والمظهر الأخلاقي، والمظهر الدينيّ، والمظهر التكنولوجيّ، والمظهر الأكاديميّ الخ.
ولكن يظل السؤال مُحتاجاً إلى المزيد من الإيضاحات فما الذي حصل حتى تتحوّل التفكيكيّة الدريدية التي كانت تُعلن أن “لا شيء خارج النَّص”، نحو تفكيكية تُعالج مشاكل عمليّة في الفلسفة والأدب والقانون والدين الخ؟ يمكن القول أن ما سأدعوه هُنا ب “التفكيكيّة الفرنسيّة” لجاك دريدا قد تحولت بعد عقد من الزمان من الاحتضان الأكاديميّ الأمريكيّ لها من تفكيكيّة نظريّة، نصيّة، بل وصوفيّة، إلى تفكيكيّة عملية بل وعملياتيّة وتطبيقيّة حتى. وبمعنى آخر تمت أمركة التفكيكيّة الدريديّة براغماتياً إن صح التعبير. فرانسوا كوسيه انتبه بدوره إلى هذا التغير في التفكيكيّة نحو العملياتيّة بفعل الجو الأمريكي حيث يقول:
“إن السؤال الرئيسيّ الذي يواجهنا غالباً، هو ذاك المُتعلِّق بنفعيّة ذاك”النقد النشط“« hypercritique » أو كما يدعوه دريدا أحياناً بالتفكيك. وبخاصة بالنسبة لبلد لا يأخذ بالحسبان سوى”التطبيق العمليّ في التعليم“وذلك لاستبدال طريقة التعلُّم كُلما كان ذلك مٌتاحاً” (كما لاحظت ذلك حنا أرندت). إن ذلك يعني أن تكون التفكيكيّة مطواعة، يُمكن استخدامها، وقابلة لتطبيقات متعدِّدة ـ كقراءة قصيدة واحدة أو لإعادة قراءة كل تاريخ الأفكار سياسيّاً“.
رغم اشتراطاتها الكثيرة، وغموضها، ودقتها التي لا نظير لها وانطولوجيتها السلبيّة، إلا أن التفكيكيّة الدريديّة الأولى نجحت إذاً في التأقلم مع الروح البراغماتية الأمريكيّة فاستمرت وتتجدَّدت وأثمرت. وهكذا تحولّت، لكن على طريقتها وبشروطها إلى حدٍّ ما، إلى فلسفة عملية بامتياز إلى درجة أن دخلت مفردة التفكيك إلى اللغة اليومية في الأنجليزيّة الأمريكية مخترقة بذلك الإطار الأكاديميّ المنعزل عن المجتمع في ذلك البلد. هكذا فإن تفكيكيّة دريدا ستدخل حيزاً عملياً حيوياً جداً في حياة الثقافة الأمريكية وسيتم استثمارها في: نقد الدين، وتفكيك الأخلاق، وتفكيك السياسيّة، والأهم من هذا وذاك ذلك الفتح التشريعي الذي أفضت إليه كتابات دريدا (على قلتها على أية حال في مجال فلسفة القانون) ابتداءً من عامي 1990 ـ 1991 للدراسات النقدية القانونيّة Critical legal studiesفي جامعة غاردوزو للدراسات القانونية Cardozo Law School في نيويورك.
لقد أدى هذا التحول الأخلاقيّ ـ السياسيّ ـ القانونيّ في تفكيكية دريدا إلى الانقسام في الرأي في حقول العلوم الإنسانية في جامعات أمريكا حول إمكانية الحديث عن”سياسية دريدية، وعن توجهاتها، وعلاقتها الإشكالية جدّاً مع الإرث الماركسيّ“. لا شك أن السياق الأمريكيّ ببراغماتيته المعروفة والذي انتعشت ضمنه التفكيكيّة الدريدية قد قاد إلى تسييس هذه الأخيرة على نحوٍ ما. حول هذه النقطة يكتب كوسيه أنه ومن أجل مواءمة التفكيكية الدريدية مع السياسة وتثبيت أقدامها في الجامعة الأمريكية فقد:
” أجبر مجموعة من مناصريّ المرأة أو مفكري مرحلة ما بعد الاستعمار التفكيكيّةَ، ضد نفسها، على إنتاج “إضافة” سياسيّة إلى أن وصلنا إلى ذلك التناقض السخر الذي صار فيه دريدا وهو المؤلِّف الأقل سياسةً بشكل مباشر ضمن منظومة النظرية الفرنسية (مقارنةً بدولوز وليوتار وفوكو) هو الأكثر تسييساً في الولايات المُتحدة.“
إن هذه الأسباب الذاتيّة والموضوعيّة التي سُقتها في هذا البحث هي من قادت بنظري تفكيكيّة دريدا لكي تتحوَّل من”لاهوت سلبيّ“كما سمّاها البعض عند من أُسميّه ﺑ”دريدا الأول“الذي كانت نصوصه لا تزال غير مُكترثة مُباشرةً بمسائل الفلسفة العمليّة حيث”لا شيء خارج النص“(حتى بالمعنى العموميّ الذي أعطاه دريدا لاحقاً لدلالة النص) نحو تفكيكيّة عملياتيّة يصفها”دريدا الأخير“أو كما أدعوه بتسميّة أُخرى”دريدا الكهل“بأنها:
”ليست وليس عليها أن تكون مُجرّد تحليلٍ للخطابات و للشروحات الفلسفيّة أو المفاهيم وعلم الدلالة، ولكن عليها أن تُهاجِم، إذا ما أرادت أن تكون مُتّسقة، المؤسسات، والبنى الاجتماعية والسياسيّة والتقاليد الأكثر رسوخاً؟“
في آخر سنة عاشها دريدا كان يُدرك أن أيامه صارت معدودة وأن سرطان البنكرياس الذي أصابه سيمنعه قريباً من الحركة قبل أن يُغيِّبه تماماً. في تلك الظروف تحول دريدا إلى زُنبرك للحركة لا يهدأ فكثّف مقابلاته وحواراته وكتاباته ومداخلاته في كل مكان حول العالم تقريباً وكانت المواضيع التي تحدث فيها تدور تقريباً كلها حول الدور السياسيّ الذي يجب أن تضطلع به أوروبا من أجل إحلال السلام والعدل. ورغم اشتداد المرض عليه إلا أنه ثابر حتى وفاته في الحديث عن الديمقراطية القادمة وعن العدالة التي تتجاوز القانون الوضعي أو ما يُسيه ﺑ”العدالة المُستحيلة“وعن ضرورة دعم مؤسسات السلام العالمي والمحاكم الدوليّة وقوى التحرر في العالم والتأكيد على قيم المواطنة العالمية والاختلاف والعدالة وحقوق الإنسان.
هكذا عاش دريدا انتقاله وتحوله من النظريّ إلى العمليّ الذي أثراه وأغنانا كصراع داخليّ مع نفسه. في مقالة مُتأخرة جداً صدرت بعد موته بعنوان”أنا في حربٍ مع نفسي“يُلخّص دريدا هدف التفكيكية”العمليّة“بكونها السعي نحو”امتلاك الحق في حياةٍ جديرةٍ بأن تُعاش.“
ليس دريدا الكهل بنظري بأكثر أهمية من دريدا الشاب. أُحب الاثنين معاً وأعرف أن زمن قراءة دريدا لم يأتِ بعد، لكنه سيأتي عندما نتعلم أن نقرأ ونفكك قبل أن نُحاكِم ونتهم ونُقزّم ونسخر قبل أن نقرأ أو حتى دون أن نقرأ أبداً ولعل هذه هي محنة دريدا لدى الكثير من المثقفين في عالمنا العربيّ الذين عندما لم يستطيعوا قراءة دريدا قاموا بسجنه في مقولات العبث والفوضي والعدميّة والسلبية بل واللاعقلانية والشعوذة.
في حواره الأخير الصادر بعد موته يُجيب دريدا عن تصوره لمصير مؤلفاته بعد”رحيله“بالقول:
” في عمري هذا، أنا مستعد لأكثر الفرضيات تناقضا بهذا الشأن: وإني أحس في نفس الوقت، وأرجو أن تصدقني في ذلك، بشعوريْن متناقضين، فمن جهة ـ سأقول ذلك مبتسماً ودون تواضع ـ بأنني لم أُقرأ بعد وإنه في حال تواجد الكثير من القراء الجيدين (ربما بضعة عشرات في العالم)، فإن حظيّ بأن أُقرأ سيتجلى فيما بعد في النهاية؛ أما من الجهة الأخرى فإنني أشعر أنه وبعد موتي بخمسة عشر يوما على الأقل، سوف لن يبقى شيء سوى ما يحفظه الايداع القانوني في المكتبة. أؤكد لك انني أؤمن بصدق وفي الوقت نفسه بهاتين الفرضيتين.“
سأهمس بأشباح دريدا الحاضرة الغائبة وأقول لها/له : عم سلاماً يا دريدا حيث أنت فقد شرعنا للتو فقط في قراءتك وأنك لن”تُنسى كأنك لم تكُن"...