محمد شوقي الزين في الثلاثاء مارس 16, 2010 11:33 am
بقلم الطيب بوعزة
عن جريدة "العرب" (قطر)، 27 ديسمبر 2008
نقصد من قراءتنا لأشهر ما خطه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أي كتابه «في النحوية» (الغراماتولوجيا) أن نتخذ منه وسيلة لفهم فلسفته!!
لكن ترى لماذا أتبعنا كلامنا السابق بعلامات تعجب(!!)؟ هل لأن فكر الرجل غير قابل للفهم؟
لن نبالغ لو قلنا ذلك، بل لن نبالغ كثيرا حتى لو قلنا إن السيد دريدا نفسه يصعب عليه فهم دريدا!! وتحضرني هنا نازلة جامعة كمبردج، التي كان لها صدى إعلامي عند وقوعها. فقد أقدمت هذه الجامعة العريقة في مايو من عام 1992 على إعطاء دريدا درجة الدكتوراه الفخرية، وكان بإمكان الحدث أن يمر كغيره في مقام احتفالي. ولكن قبل أسبوع من تسلمه الدكتوراه نشرت جريدة التايمز رسالة احتجاج ممهورة بأسماء 20 من أشهر فلاسفة بريطانيا وأميركا وأستراليا، رسالة تطالب الجامعة أن تتراجع عن قرارها هذا، لأن دريدا ليس فيلسوفا، بل مجرد رجل يلهو بالكلمات، ويحرص على إنتاج خطاب غامض يخفي خواءه المعرفي وراء غموض أسلوب التعبير! حتى شبهته الرسالة بكونه يشبه في كتابته عبثية التيار الدادي في الفن، حيث تقول: «وفي نظرنا، يبدو السيد دريدا وكأنه على وشك تأسيس موقعه المهني اعتماداً على ما نعتبره ترجمة إلى الحقل الأكاديمي لعدد من الحِيَل وأدوات الحاوي المشابهة للدادائيين..» وانتظمت مع هذه الرسالة حملة واسعة لمنع الجامعة من إنجاز قرارها، حتى اضطر مجلسها في الأخير إلى عرض قرار منح الدكتوراه الفخرية أمام التصويت. وكانت سابقة غريبة، ورغم أن التصويت انتهى في الأخير إلى انتصار القائلين باستحقاقه، بفارق غير كبير (336 صوتا مقابل 204)، فإن هذه الضجة كانت بحد ذاتها مؤشرا آخر يؤكد حقيقة هذه الفلسفة المشاكسة، التي ما كان بإمكانها أن تدخل جامعة كمبردج -أحد معاقل التيار الفلسفي الكلاسيكي- دون أن تثير رد فعل غاضب!
ونعود إلى السؤال: كيف السبيل إلى فهم هذا الفيلسوف الذي -حسب رسالة المنافحين عن شرف كمبردج- يلعب بالكلمات والمعاني على طريقة الحواة؟
لا ريب أنها مهمة صعبة، فلغة دريدا لغة انزياحية تتفلت من الإمساك الدلالي، ومن جهة ثانية نجد موقفه الفلسفي موقفا عدميا لا يؤسس لدلالة ولا لمقاييس ومعايير مضبوطة على مستوى التقعيد. لكن رغم ذلك دعنا نأخذ من نصوصه مفهومين اثنين كافيين للاقتراب من هذا الفكر المراوغ، وهما مفهوم التفكيك، ومفهوم الاختلاف. فنقول:
إن ثمة قرابة مفاهيمية وتصورية تربط داعي التفكيك الفرنسي بالمنهج الجنيالوجي عند نيتشه، لكنه في أبعاده الإجرائية لم يكن ينحصر في الاشتغال الفيلولوجي كما هو الحال في كثير من مواقع المتن النيتشوي، بل كان أكثر من نيتشه حرصا على التقويض. لذا لا عجب أن نجد الكثير من النقاد ينعتون منهجه التفكيكي بكونه منهجا «عدميا»، وهو النعت الذي سيرفضه دريدا بشدة. غير أن التفكيكية، من حيث رؤيتها للعقل والحقيقة، هي فلسفة استجمعت في ذاتها أهم خصائص الموقف ما بعد الحداثي في بعده العدمي المدمر. حيث تقوم على نظرية في اللغة مستمدة من هيدغر وكذا من اللسانيات البنيوية منذ تأسيسها مع دي سوسير، وخلاصة هذه النظرية أن النسق اللغوي يتكون من علامات، والعلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة اعتباطية ناتجة عن محض تواضع واتفاق. ومن ثم ليس بين الدال ومدلوله أي علاقة طبيعية. لكن اعتباطية هذه العلاقة لا تعني عند دريدا مجرد تعريف طبيعة الدليل اللغوي، بل إنه يدل على أكثر من ذلك حيث يشير إلى ضرورة مراجعة علاقة الخطاب اللغوي بمؤلفه، وعلاقة هذا الخطاب بالأنطلوجيا.
فما هي النتائج الفلسفية لهذه المراجعة التفكيكية؟
إن انفكاك وانفصال الدال عن مدلوله ينتهي إلى ضرورة تمويت المؤلف وتخطيه، لأن وجود هذا الانفصال يجعل الدلالة تشتغل في استقلال عن قصد مؤلفها. لأنه أصلا يستعمل وحدات لفظية مشروخة في كينونتها (الشرخ بين الدال/ المدلول)، وهذا الشرخ هو ما يُمَكِّنُ الخطاب اللغوي من أن يستقل عن صاحبه وينتج دلالات لم يكن مؤلفه يتصورها، أو حتى يقصدها! فالخطاب اللغوي مستقل في آليات إنتاجه للدلالة عن قائله/ كاتبه.
هذا هو التصور الهيدغري للغة، وهو نفس التصور الحاضر عند رولان بارت، ولذا نجد هيدغر يقول «نحن لا نتكلم اللغة بل اللغة تتكلمنا»!
إن ثمة فاصلا بين اللغة ومستعملها، فاللغة ليست مجرد أداة مطواعة للاستخدام، وليست مجرد قطع لفظية نركبها كيف نشاء، بل اللغة نسق لا يمكن لك أن تستعمله إلا بالخضوع له أولا، فأنت تخضع لنمط التسمية، وتخضع لنمط تركيب الألفاظ حتى يتأتى لك التواصل اجتماعيا. ومن ثم فالكائن الإنساني ليس حرا في استعماله للغة.
تأسيسا على ما سبق نظرت التفكيكية إلى النتاج اللغوي بوصفه مستقلا عن إرادة مخاطبه. لكن التفكيكية لا تقف في تناولها للنص عند هذا المستوى، بل تنزع نحو أفق آخر في عملية قراءة دلالات النص، فهي لا تعتقد بوجوب استخلاص الدلالة المصرح بها، بل تعمل على الحفر في طبقات النص لاستنطاق الدلالة الكامنة التي تفلَّتَت من قصد مؤلفها، أي الدلالة التي ينتجها النص في استقلال عن أي قصدية ذاتية. فكل نص فيه مسكوت عنه ينبغي استنطاقه. وهذا هو التفكيك بوصفه منهج قراءة.
ثم إن دريدا يؤكد أولوية المكتوب واستقلاليته، ففي كتابه «في النحوية» ينتقد ما سماه بالتمركز حول ظاهرة الصوت، حيث إن الخطاب الثقافي يتمحور حول فعل الكلام ونتاجه ويتناسى الكتابة. ولذا دفع دريدا بمشروع معرفي جديد يعطي الأولية للمكتوب على المقول، للنص المخطوط على الخطاب الملفوظ.
ويزعم دريدا أنه منذ أفلاطون وحتى هوسرل هَيمَن تقليد فلسفي أهمل مسألة الكتابة. حيث أرجعها إلى كونها مجرد نقل للصوت إلى الورق. وفي كتابه هذا يعيد قراءة تاريخ المشروع الفلسفي الغربي من مدخل جديد، وهو مفهوم الكتابة في علاقته بمشروع الماورائيات. متسائلا عن سبب هيمنة الصوت في الثقافة الأوروبية، وهي عنده هيمنة ميتافزيقية (في البدء كانت الكلمة). كما يحرص في القسم الأول من الكتاب على نقد النظرية المنطقية في وضعها للصوت والنطق في موقع محوري (لاحِظ أيضا الجذر اللغوي العربي لعلم المنطق وعلاقته الصميمة بفعل النطق أي الصوت والكلام).
فما هي قيمة هذا الاستبدال، استبدال الكتابة بالكلام؟
في هذه أيضا يتبدى النزوع ما بعد الحداثي لفكر دريدا، فالكلام يستحضر المتكلم بينما المكتوب ينفصل عن قائله/ عن الذات، ويرسم مساحة تباعد وانفصال. وهذا التباعد والتغييب لحضور الذات هو ما يحرص دريدا على إبرازه.
ثم بما أن علاقة الذات بالنص علاقة مشروخة، تعطي استقلالية للنص عن ذاتية مؤلفه، فإن علاقة النص بما يشير إليه في الواقع هي أيضا مصابة بشرخ وانكسار. فقد قلنا من قبل إن العلامة اللغوية في كينونتها تقوم على علاقة اعتباطية، حيث إن الدال مستقل عن المدلول، ومن ثم يغدو النص مستقلا عن الواقع ومكتف بذاته. وهنا يتبين البعد الوظيفي لمنهج التفكيك، أي إبراز الشرخ الأنطلوجي الذي يميز الكينونة اللغوية. لكن إذا كان دي سوسير ومن قبله فلاسفة اللغة اقتصروا على إبراز الشرخ الكامن بين اللفظ وما يدل عليه، بين الكلمات والأشياء، فإن وظيفة المنهج التفكيكي في اشتغاله الإجرائي تتحدد أساسا في المطلب التالي، وهو بما أن كيان اللغة كيان مشروخ بالثنائيات والفواصل، فإن بنية الخطاب اللغوي ينبغي إعمال التفكيك داخلها لإبراز شروخاتها وتناقضاتها الداخلية، التي تثوي خلف الانسجام الظاهري، الذي ما هو إلا انسجام مظهري زائف.
وإذا كان دريدا فيلسوف التفكيك، فإنه أيضا فيلسوف الاختلاف! فعملية إنتاج المعنى لا يتم تفسيرها عند دريدا إلا بالاختلاف، إذ لا يكتسب اللفظ معناه إلا باختلافه مع لفظ ومدلول آخر، ففعل الاختلاف فعل يخترق كينونة اللغة والحياة، ومن ثم ففي النص يكمن حراك دلالي متفجر بالتنازع والاختلاف.
ومحورية مفهوم الاختلاف في فلسفة دريدا هي ما تجعله مباينا في رؤيته للمنظور البنيوي. فالقراءة السطحية وحدها هي التي يمكن أن تنتهي إلى نعته هذا المشروع الفلسفي بكونه بنيوي النزعة. وما يؤكد هذا أيضا أن دريدا كان ينظر إلى الإسهامات البنيوية بوصفها مجرد إعادة إنتاج للرؤية الميتافيزيقية النازعة نحو الثبات. حيث إن المنظور البنيوي ينزع نحو إنتاج النسق وإبراز انسجامه ولازمانيته، ثم إن فعله المنهجي في النص فعل يستهدف كشف بنية ثاوية فيه، بينما دريدا يسعى إلى تقويض ما هو مهيكل ومُبَنْيَنٌ في النص. إنه فيلسوف الهدم والتفكيك لا فيلسوف البناء والتنسيق.