عندما يجلس ممثلو الأطراف المعنية في مفاوضات إحلال السَّلام في سوريا فإن ممثل تنظيم داعش ليس من بينهم، وهذا معقول تمامًا فهدف التَّنظيم المذكور هو الحرب وليس السَّلام. إنَّ النّظام الجديد للعالم قد صنعه ميزان القوى بين صليبيي الغرب ومؤمني الخلافة الاسلاميَّة. وها هي الأيديولوجيا الدّينيَّة لداعش تحلّل خطوط الصّراع وفقًا لنفس مبادئ صاموئيل هنتنغتون: الحضارات في صراع مع بعضها.
استولى تنظيم داعش على ثلاثة أرباع المناطق السُّنيَّة من العراق، وهو يشكّل مع نظام الأسد الوحدة القويَّة الوحيدة تقريبًا في سوريا. واتَّحدت المناطق العراقيَّة والسُّوريَّة كقاعدة للخلافة الَّتي تريد داعش تأسيسها.
يعرض المؤرّخ الفرنسيُّ والباحث في شؤون الشَّرق الأوسط بيير جان لويزارد في كتابه “فخُّ داعش” كيف جرى تصميم دولة الخلافة الجديدة. وحسب لويزارد فقد استقبلت داعش كمحرِّرة في المناطق الَّتي فتحتها، حيث أنَّها طردت وبفضاضة الإدارات الشّيعيَّة والحكَّام السنَّة الفاسدين، وسلَّمت السُّلطات الرَّسميَّة إلى شيوخ القرى وإلى زعماء القبائل ذوي الشَّعبيَّة الرَّاسخة، وجرى فرض نظام ضريبة إسلاميّ لتمويل الخدمات الاجتماعيَّة، وأُنشئت مؤسَّسات شبيهة بالوزارات في أراضي الخلافة الَّتي قسّمت إلى سبعة أقاليم، مثلما كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة القديمة. وألغيت المحاكم وحلَّ محلَّها نظام الشَّريعة. وعيَّنت داعش ضبَّاط شرطة جددا كان من بين واجباتهم مراقبة التّجارة في الأسواق. أمَّا النّساء فيتمَّ التَّحفظ عليهنَّ من قبل لواء النّساء الذَّي يدعى “الخنساء”، نسبة إلى الشَّاعرة الَّتي عاشت في القرن السَّابع.
يتمعن لويزارد في هذا الدُّستور الجديد وفي أساليب القيادة الَّتي كانت بمثابة الجنين للدَّولة الجديدة، دولة الخلافة. وإلى جانب هذا فإنَّ العنصر الحاسم في هذا الكيان هو البنية الفوقيَّة الدّينيَّة، فالحكم المحلي والادارة يجب أن يخضعا لإسلام داعش المتشدّد، وهو ما كانت له عواقب وخيمة على النّظام التَّعليمي، فقد استبعد الأخير من مناهجه العلوم الطبيعيَّة وأي تفكير نقدي، وفرض التَّشدد الإسلامي هيمنته. وهنا جرى تحويل الجامعات إلى أجهزة تلقين. ويستنتج لويزارد بأنَّ جميع أجيال الشَّباب سوف تعاني من جهل كبير بل وحتَّى من الأميَّة.
يكشف لويزارد عن مفارقات كثيرة في “نجاحات” داعش. فهذه الحركة الرَّجعيَّة إلى درجة عميقة نراها في مجال التَّطبيق “حديثة” بشكل واضح: تكنولوجيا حاسبات متقدّمة، مجلات فخمة، ستراتيجيات عسكريَّة قويَّة. ونجحت داعش في تجنيد مقاتلين من كلّ أنحاء العالم، وبذلك ربَّما تكون هي القوَّة الوحيدة القادرة على تشكيل ألوية عالميَّة فتخلق بهذه الطريقة تضامنًا عالميًّا. يا لها من صورة فضيعة لعصرنا!
في يونيو (حزيران) 2014 هدمت داعش الحدود بين سوريا والعراق. كانت تلك حركة رمزيَّة مليئة بالازدراء لعمليَّة رسم الحدود الفرنسيَّة – البريطانيَّة لبلدان المنطقة (سايكس – بيكو)، كما كانت ذات أهميَّة رمزيَّة في صراع هذه الحركة الاسلاميَّة ضدَّ الكولونياليَّة، سواء التَّاريخيَّة أو الجارية اليوم. ويعتقد لويزارد أنَّ من لا يفهم هذا العداء للكولونياليَّة لا يمكنه أبدًا أن يفهم شيئًا حول الشَّرق الأوسط: حيث يمكننا تفسير الجرائم والاعدامات الَّتي تقترفها داعش بوصفها إعادة نسخ تاريخيَّة لجرائم الغرب الَّتي لا حصر لها بحقّ العالم العربيّ: القتل الجماعي، الاستغلال، تقطيع أوصال الوحدات الجغرافيَّة سياسيًّا وبشكل ارتجالي.
كما تحتقر داعش تيَّار القوميَّة العربيَّة، الَّتي ترغب في تمجيد زعماء كعبد النَّاصر أكثر من بناء حالة تشارك إقليمي.
إنَّ ما يعود بداعش إلى الماضي هو الذّكريات عن دولة الخلافة، أي الامبراطوريَّة العثمانيَّة، وكذلك التَّدين النَّقي، المتشدّد، الحامي من خطر الصليبيين.
لكنَّ نجاحات داعش لها أساس ماديٌّ أيضًا. يتحدَّث لويزارد في كتابه عن اقتصاد النَّفط لداعش، وعن عمليات البيع المربحة جدًّا للقطع الفنيَّة الأثريَّة والَّتي لا يمكن تعويضها، وعن الدَّعم المالي الضَّخم من السَّعوديَّة ودول الخليج. وعندما استولت داعش على الموصل وضعت يدها على الأرصدة المصرفيَّة الكبيرة وسبائك الذَّهب، وكلّ هذا شكل ما قيمته مئات الملايين من الدُّولارات. إنَّ أرصدة داعش تكفي لتمويل المناطق الَّتي تستولي عليها ولبناء قوَّة عسكريَّة جيّدة نسبيًّا. فجيشها الَّذي يقارب تعداده ثلاثين ألف مقاتل استغلّ، وبشكل ستراتيجيّ، الانهيار الَّذي حصل في الدُّول الَّتي كانت سابقًا مستعمرات للكولونياليَّة العالميَّة، حيث دمرَّت هذه الدُّول ومزّقت في القصف الأمريكيّ. فالعراق لم يعد له وجود كأمَّة، كما يكتب لويزارد، حيث جرى تقطيعه إلى ثلاثة أقسام. وسوريا تتعرَّض للتفكُّك، ليس فقط جراء الاضطهاد على يد نظام الأسد وإنَّما نتيجة للتَّناقضات الدَّاخليَّة أيضًا، تلك الَّتي حملتها البلاد منذ زمن الكولونياليَّة. يقول لويزارد أنَّ هاتين الأمّتين كان بالإمكان أن تظلاَّ موحدتين في ظلّ دولتين استبداديتين مثل كلّ الدُّول الاستبداديَّة المعروفة الَّتي تقوم سلطة الأقليَّة فيها بقمع مجتمع الأغلبيَّة، وغالباً بمساعدة القوى الغربيَّة.
إنَّ داعش تشن حروبها بناء على استراتيجيَّة التَّوتر الدَّموي. فأهدافها واضحة وعلنية: تجنيد مسلمي أوروبا الشُّبان المحبطين أو العميقي الإيمان، وتحضيرهم للحرب الأهليَّة. فالهجمات على ما يسمى “بالأهداف الناعمة” (باريس، نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، مثلاً) ستخلق حالة من الرُّعب وتؤدي إلى عسكرة الدُّول الغربيَّة وتضطرها إلى شنّ الحرب على “دولة الخلافة”، في صراع حضارات مصيري، وهو الهدف النّهائي لداعش. واليوم يتكوَّن ضدّ داعش تحالف دولي عريض، منتشر بشكل عملي، معبئاً كلّ القضايا السّياسيَّة والدّينيَّة ولكنَّه متَّفق - تقريبًا - على هدف القتال ضدّ داعش.
غير أنَّ لويزارد متشكك إزاء الجبهة العالميَّة ضدَّ داعش. فهذه الجبهة تواجه عدم ثقة بين النَّاس في الشَّرق الأوسط، حيث إنَّها تأتلف مع أنظمة حكم متفككة كما في العراق، ومع دول استبداديَّة في الخليج، وربَّما حتَّى – مع مرور الوقت – مع نظام بشار الأسد. إلى جانب ذلك فإنَّ التحالف ضدَّ داعش ليس لديه “أي منظور سياسي يقدّمه للسُّكان الَّذين انضموا إلى داعش أو أذعنوا لها” كما يكتب لويزارد. ويستنتج بأنَّ الجبهة العالميَّة ربَّما يمكنها الانتصار على داعش عسكريًّا ولكن - بالمقابل - لن يغيّر النَّجاح العسكري السَّبب الأبرز لنجاحات داعش: التَّمرُّد على الكولونياليَّة.
لم يدعم الغرب أبدًا الدّيمقراطيَّة في الشَّرق الأوسط. ولم يكن حتَّى متضامنًا مع الحركة الدّيمقراطيَّة العريضة أثناء الرَّبيع العربي، وإنَّما بدلاً من ذلك تدفَّقت الأموال والأسلحة إلى الجنرالات والانقلابيين الفاسدين. إنَّ مائة عام من الكولونياليَّة الدمويَّة قد خلقت بؤسًا اجتماعيًّا وإنسانيًّا ولكنَّها خلقت أيضًا وحوشًا مرعبة، وتنظيم داعش هو أحد هذه الوحوش.
هامش:
أوله سفينينغ Olle Svenning: كاتب وصحفيٌّ سويديٌّ مخضرم. كان رئيس تحرير أكبر صحيفة سويديَّة. عمل في مكتب مجلس الوزراء، وكمستشار إعلاميّ في السّفارة السُّويديَّة في مدريد. أصدر عددًا كبيرًا من الكتب.