محمد شوقي الزين في الخميس أغسطس 13, 2009 9:50 am
فصل من كتاب :
محمد شوقي الزين،
سياسات العقل: صدمة الواقع و مستويات القراءة، دار الغرب، وهران (الجزائر)، 2005، ص. 133-139
التفكيك: في ما وراء التشكيكفي تعقيبه على حوارنا "الكتابة وتجربة الاختلاف"، كتب الأستاذ نبيل حضّو في جريدة "اليوم" الجزائرية (الخميس 30 أوت 2001) مقاله "مراجعة الذات لا تفكيك الذات". في ما يلي ردّ على تعقيبه أبيّن فيه المغزى من التفكيك كإحدى مستويات القراءة لواقع معقّد.
أولا: ما أورده الأستاذ نبيل ينمّ عن رؤية متفحّصة واهتمام متأني فيما آل إليه الواقع والفكر إلى درجة عاعية من البؤس والانحسار. لكونه لا يرى في التفكيك الشكل الممكن في طريقة الاختلاف وقبول الآخر في غيريته وآرائه، ربّما لأنه يتخذ مفهوم التفكيك في صيغته "العدمية" ويعتبره فلسفة جاهزة أو فكرة ثابتة. وهو ما يتورّع عنه التفكيكيون أنفسهم بمن فيهم دريدا الذي يعترف بأن مقارباته الفلسفية والأدبية تتخذ العنوان الفكري والتقني المسمّى "التفكيك" وليس حتما التفكيك في مفهومه الأكاديمي المغلق أو الميتافيزيقي المطلق. لأن دريدا أو كرستوفر نوريس أو ريشار رورتي يرى في التفكيك صيغة ذكية في قراءة التراث الغربي باختلافه والولوج في عوالمه ومراقبة وظيفته. فعندما نلج في رواسب النص تتبدّى حقائقه مجزأة ومتباعدة لأنها جملة مفاهيم أو مقولات أو أفكار ثمّ جمعها ونسجها لتصبح نصّا محكما أو رسما مسيّجا.
فالتفكيك كما أراه أو أعقله ليس تقطيع مادة النص وإرجاعها إلى وحداتها الأولية (سوى على سبيل المجاز) وإنما الغوص في أنسجة النص ليتبدّى هذا الأخير في حقيقته الماكروسكوبية فنجوب أروقته أو نجول في إقليم فتظهر مجزّأة ومنفصلة على غرار أشياء العالم في لانهائيته. وعليه، عندما نقارب النص تفكيكيا ليس بالمعنى الذي نمزّق فيه أنسجته أو نبدّد دواله أو نشتّت دلالته أو نفجّر مادّته ومسحوقه (كما يذهب الكاتب العربي أميري فندي المقيم في ألمانيا في طموحه نحو تأسيس "ما بعد التفكيكية" في مشروعه"تفجير النص") وإنما بالمعنى ةالذي يبدو فيه النص قبل القراءة نوعا ما نلج في مداخله ونغوص في رواسبه وتشعّباته يتبدّى على حقيقته كنص مركّب من أنسجة مفهومية أو طبقات لغوية أو شبكات فكرية أو جذور قيمية وسياسية تتشعّب وتتكاثر بحيث يصعب القبض على أصولها أو الإحاطة بمكامنها أو استنفاذ مضامينها.
ثانيا: ليس التفكيك بالمعنى الأنطولوجي ممارسة حديثة ومعاصرة بقدر ما هو آلية في السبر والفحص لا تنفك عن صيغها التاريخية والجمالية والفلسفية كما تبدّت عند القدماء وأيضا الطبيعية والكونية. فحتّى الطبيعة لها عقل تفكيكي بالمعنى الذي تتبدّى فيه منتظمة ومتوازنة بينما الفوضى أو اللايقين ينخرها من الداخل ويصبح القبلي الواقعي والمتواري لنظامها المرئي وبهائها الجليّ. فما يقع في الضفّة الأخرى من الوجود كله عماء أو فوضى أو إبهام على ما يقرأ الفيلسوف اللبناني الدكتور سامي أدهم أنطولوجيا هيدغر، هذا الأخير الذي ألقى بمفاتيح الوجود بعدما أذهله الصمت المرعب للدازاين وتتبّدى وراء حجبه الوقائع المبهمة وما لا يمكن وصفه أو نعته أو قوله بتعبير فتغنشتين.
صحيح أنّ التفكيك هو ذو نزوع عدمي لأنه يفكك ويخرّب دون غائية مسبقة أو تأسيس قيمي كما فعل هيدغر مع مصطلح "التدمير"، لكن الفتح الجليل الذي حقّقه هو كون التفكيك ينطوي على ما يستبعده بالذات وهو البناء أو التأسيس لن كل حقيقة وجودية إنّما تنطوي على نقيضها في ذاتها وليس خارجا عنها. والسؤال الذي يعتبر أنّ التفكيك يفكّك ذاته وينحو صوب العدمية والسقوط هو من قبيل تحصيل الحاصل ! لأنّ التفكيك بالمعنى التقني والإجرائي هو بناء لشيء وإرادة في فهم شيء أو الإحاطة بأسرار شيء، لأنه ممارسة فكرية واشتغال على المادة المعرفية، فهو إذ يفكّك إنما يفعل شيئا هو عبارة عن تأسيس أو بناء لشيء يسمّى على سبيل الحقيقة أو المجاز "التفكيك".
فعندما يتخذ العمل الفكري لذاته إسما أو رسما فإنه يتحوّل القانوني والإجرائي فقط وإنما بالمعنى الذي يترتب فيه الخطاب ويتموقع أو يتقنّن ويتوزّع. من هنا كان التفكيك "مؤسسة" في مقاربة اللغة ومراقبة المعنى وهذا يفسّر لماذا اتّخذ جاك دريدا من محاضراته في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية اسم "المؤسسات الفلسفية" والتي كان لنا الحظ في متابعة البعض نها لدى زيارتنا لدريدا في باريس. فكل ممارسة فكرية هي رهينة "المؤسسة" بالمعنى الفلسفي وأيضا التقني والقانوني (جريدة، مجلة، كتاب، معهد، جامعة...) ولا ينفك التفكيك عن مؤسساته ولا يشكّل هذا دليلا على مأزقه أو قصوره بقدر ما يؤسس علامة على تناهيه وحدوده بجوب أقاليمه واختيار أساليبه وأدواته.