ربيعة " ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
عدد الرسائل : 204
تاريخ التسجيل : 26/10/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | دلالة السؤال "ماهي الفلسفة؟" في الفكر الحديث والمعاص | |
لعل أهم ميزة للفكر الفلسفي المعاصر في تفكيره في الفلسفة، أنه لا يعتبر الفلسفة مجرد خطاب، بل هي أكثر من ذلك: إنها تفكير ومؤسسة(1). وبما هي كذلك، فهي تفتح على تاريخ. وليس المقصود من هذا القول المطابقة بين الفلسفة وبين التاريخ أو بينها وبين وجهة نظر معينة حول التاريخ (تاريخ الفكر والممارسة) على طريقة "هيجل" أو "ماركس" أو غيرها. كما لا نقصد من ذلك أيضا اعتبار الفلسفة مدخلا لفهم التاريخ أو المؤسسات السياسية وغيرها، بل ما نقصده حقا هو تأكيد فهم معين للعلاقة بين التفلسف في الغرب على الخصوص، وبين تاريخية الغرب. فكل الكتابات والدراسات الفلسفية في الفكر الحديث والمعاصر حاولت -وهي تتساءل عن الفلسفة- أن تنفتح بتساؤلها ذلك(2) على خيوط خفية تشد الفلسفة في الغرب إلى تواريخ عديدة كتاريخ الدولة أو تاريخ العقل والمعنى أو تاريخ الاستعارة أو تاريخ السؤال ذاته(3). ولعل قارئ الكتابات الحديثة والمعاصرة حول الفلسفة منذ "هوسرل" حتى "جيل دولوز" يكتشف عنصرا هاما وخفيا يشد تلك الكتابات والدراسات ببعضها البعض، هو وحدة المبدإ: ليست الفلسفة مسألة بيداغوجية خالصة، ولا يفتح التساؤل عن الفلسفة (الذي طرح في الغالب في شكل السؤال: "ماهي الفلسفة"؟، والذي تكرر تقريبا من "كانط" حتى "دولوز" و"ديريدا") على خطاب بيداغوجي تعليمي حول التفلسف، بل يستدعي عودة جذرية إلى طريقة في السؤال لم تعد تجد وظيفتها ولا مكانها داخل الحداثة الفكرية الغربية، طريقة متجذرة في تاريخ الغرب وتقتضي من المفكر في الفلسفة أن يخرج عن أفق الحداثة لكي يعيش داخل فضاء قبل-حداثي هو فضاء المدينة اليونانية. تلك هي طريقة السؤال عن الماهية (من هنا السؤال: ماهي الفلسفة"؟). لذلك ارتبط فعل السؤال: ماهي الفلسفة؟، بالتفكير في وضعية السؤال وعلاقته بأصول التفلسف، وضرورة الوعي بقيمة السؤال قبل الاتجاه نحو الإجابة عنه بشكل متسرع انطلاقا من استحضار تاريخ ما عن الفلسفات وعن الفلاسفة، أو نظرة بانورامية عن القضايا والإشكاليات والمحاور الكبرى للتفلسف. فلم تكن العودة إلى السؤال: "ماهي الفلسفة"؟ راجعة في الواقع إلى هواجس تعليمية حتى حينما كان هذا السؤال يطرح داخل المؤسسات المدرسية أو الجامعية، بل هو سؤال "أساسي". وكل من يطرحه يعي جيدا أنه ملزم بالعودة إلى جذور التفلسف. هذه العودة هي ما جعلت الفكر المعاصر يحذر كثيرا من مفاهيم وأدوات البحث السائدة في العلوم الإنسانية واللسانية حين التفكير في الفلسفة. وإذا كان تدريس الفلسفة في المؤسسات المدرسية والجامعية في الغرب يفرض بدءا تحويل الفلسفة إلى مادة تعليمية وربطها بمؤسسات تربوية وغايات وأهداف ومناهج وتقنيات للتقويم وما إلى ذلك، فإن حماية الفكر الفلسفي وضمان استمراره يتجاوزان حدود التدريس والدفاع عن الفلسفة وتعلميها (تلك هي مهمة GREPH في فرنسا)، لأنها مسألة تمس ما يمكن أن نسميه "التاريخية" و"الإنسية": تاريخية الغرب وإنسية بلغة "هوسرل" الذي يربط لأول مرة الفكر الفلسفي الحديث بين التفلسف وبين تاريخ الإنسية الأوروبية(4). ولا نقصد بالتاريخية مجرد التاريخ بمعناه الشائع (تاريخ المجتمع ومؤسساته أو تاريخ الفكر)، بل ما يجعل ذلك التاريخ ممكنا (أي ما يجعل المؤسسات الاجتماعية والأخلاقية والفكر وعموما الثقافة الاجتماعية ممكنة في لحظة ما أو في لحظات عديدة من التاريخ). وإن ما نريد معالجته في هذه الدراسة، هو أن السؤال عن الفلسفة في الفكر المعاصر، ليس مجرد سؤال بيداغوجي الهدف منه التعريف بالفلسفة وتزويد المتعلم بإشكاليات الفلسفة وقضاياها وتقنيات الكتابة الفلسفية، بل هو سؤال "جذري". (بالمعنى الذي يعطيه "ماير" M. Meyer للسؤال الجذري في كتابه De la problèmatologie (5)، أي سؤال مؤسس لا يقود مباشرة إلى إجابة أو إجابات فلسفية ما، بل يدفع إلى التفكير في الإجابة وفي ماهية السؤال بالذات. لذلك، لم يكن استفهاما عاديا (كل استفهام عادي يتطلب إجابة مباشرة في شكل منطوق أو خطاب يثبت أو ينفي، يصف أو يؤول... إلخ)، بل هو تساؤل يدفع بالذات المفكرة إلى مزيد من السؤال، ويقودها إلى تأمل السؤال قبل البحث عن إلغائه، أي عن الإجابة عنه. ومن ناحية ثالثة هو سؤال جذري لأنه يعود (كما رأينا سابقا) بالذات المتسائلة إلى جذور التفلسف في الغرب ويدفعها إلى التخلي عن سذاجتها والتفكير في تاريخية الغرب بكل مؤسساته السياسية والثقافية التي هي أساسا مؤسسات العقل. لقد كانت ميزة "هيكل" -بعد "كانط"- أنه ربط بين التفلسف وبين العقل ومؤسساته في الغرب. وربما هذا ما جعل "جاك ديريدا" -أكثر من غيره-، وهو الناقد المقوض لآليات التفلسف الخطابية والاستدلالية، يعتبر الفلسفة مؤسسة، ودفعه إلى الحديث عن "الجسد المدرس" وهو يحلل هذه المؤسسة وعلاقتها بالجامعة. يستمد السؤال: "ماهي الفلسفة؟" أهميته الفلسفية من كونه أولا سؤالا عن الماهية، والسؤال عن الماهية سؤال أولي. فهو الذي يحدد منطلق ومنتهى التفكير الفلسفي، وبالخصوص الأنطولوجيا. السؤال عن الماهية أيضا سؤال تراثي يوناني تأسيس: فهو الذي أسس مفهوم "العلم" في تاريخ الغرب. كان الدافع إلى طرحه الفراغ المعرفي الذي تركه السؤال السقراطي (السؤال السقراطي التوليدي ولد سؤالا آخر حول الماهية، والتهكم السقراطي دفع إلى ولادة الأنطولوجيا مع "أفلاطون"). السؤال عن الماهية يولد عادة في ظروف الأزمة: مع "سقراط-أفلاطون" طرح في ظل أزمة قيم يونانية، وجود فراغ نظري بصدد الممارسة (السياسية والأخلاقية والعملية). لقد كان السؤال عن الماهية عند اليونان يعري الفراغ ويدفع إلى الرؤية Théoria ، رؤية الفراغ، لكن يدفع إلى ما هو أهم، إلى رؤية الحقيقة في امتلائها الكوني. الرؤية هي "النظرية". والمثال Idéa هو ما يجعل الحقيقة مرئية. وليست الحقيقة حقيقية إلا لأنها مرئية. وإذن، تلازم السؤال عن الماهية عند اليونان بإعادة النظر في كل شيء: في الحقيقة السائدة وحدود العلوم المتداولة وفي النظام السياسي وقوانينه. السؤال عن الماهية طرح أيضا مع "كانط" لحظة أزمة العقل التي اعتبرها أزمة للفلسفة (=للميتافيزيقيا) وللماهية أيضا. وهذا ما سيدفعه إلى إعادة النظر في نظام المعرفة ومكانة العقل وضرورة الميتافيزيقا. مع "كانط"، سيتحول السؤال عن الماهية إلى نقد العقل ودعوة إلى إعادة تربيته بشكل يستجيب لضرورات الحداثة. السؤال عن الماهية سينقل الفكر -مع "هيكل"- من ضرورة النقد إلى ضرورة التاريخ. غير أن "هيكل" سيطرحه داخل أزمة تخص العقل، لا بمعنى الملكة، بل بمعنى نظام العقل في القرن الثامن عشر: العقل السياسي والأخلاقي والعقل المنتج فنيا. مع "هيجل" سيصبح السؤال عن الماهية سؤالا عن إمكانية نظم العقل. وأخيرا، سيتلازم السؤل عن الماهية (= عن الحقيقة) مع "هايدجر" مع إعادة النظر في مفهوم التفلسف والأنطولوجيا وتاريخ الميتافيزيقا والتفكير في السؤال بالذات. ينبثق السؤال عن الماهية إذن داخل أزمة ما. وها هو السؤال عن "ماهية الفلسفة" ينبثق من جديد داخل الفكر الحديث (مع كانط وهيكل وهوسرل وهايدجر على الخصوص) والمعاصر (مع برغسون وإيريك فايل وبول ريكور وديريدا ودولوز وغيرهم) داخل أزمة حضارية عاشها الغرب منذ القرن التاسع عشر، خصوصا: أ – بعد أن تحول المذهب الماركسي إلى نظام سياسي واجتماعي وأصبحت ديكتاتوريا الطبقة العاملة ديكتاتوريا مؤسسة الدولة، ب – وبعد ظهور الحربين العالميتين وانفجار الآلة العسكرية، جـ - وبعد انهيار قيم العقل الشمولية كما صاغتها الثورة الفرنسية في القرن18م. والحال، لم يكتمل نظام العقل (كما تنبأ بذلك "هيغل"). اختل نظام العقل السياسي (الدولة) والأخلاقي (الواجب) والفني (القيم الجمالية). لم يتطابق التاريخ والعقل (هيكل) ولم يتطابق التاريخ مع نضالات الطبقة العاملة (ماركس)، بل أصبح التاريخ شاهدا على العنف واللاعقل، أصبح التاريخ الحديث أكثر التواريخ شاهدا على تفاقم ظواهر العنف السياسي (عنف الدولة) والعرقي (الاقليات، استعمار القوميات الأوروبية لغيرها من شعوب العالم الثالث...) والأخلاقي (موت الأخلاق، النزعة العدمية، وضعيات التطرف الديني في المجتمعات على وجه التقريب...). ليست العودة إلى السؤال: "ماهي الفلسفة؟" في الفكر الحديث والمعاصر مجرد اشتعال فكري أو إعادة تأسيس للفلسفة في ظل شروط اجتماعية وبيداغوجية حديثة، بل يرتبط بأزمة قيم مست نظام العقل في المجتمع الغربي(6). والواقع أن أهمية السؤال: "ماهي الفلسفة؟" لا ترتبط بكونه يطرح التفلسف مجردا، بل بكونه يثير مسألة الفلسفة بوصفها جزءا من تاريخ الغرب، إنها تمس أساس هذا التاريخ وهو العقل. لقد بنى الغرب مفهومه عن ذاته داخل الفلسفة منذ فجر تكوينه. وحينما نقول "عن ذاته"، فإنما نقصد عن مؤسساته السياسية (وأولها الدولة) وعن مبادئه وغاياته الأخلاقية، وعن معايير الحقيقي واللاحقيقي (أي عن نظام الدولة والأخلاق والمعرفة). لقد كانت الفلسفة دائما تفكر في هذه الأنظمة الثلاثة التي اعتبرت في جوهرها -داخل الفكر الفلسفي الغربي- نظاما متكاملا للعقل. على أساس ذلك، كان السؤال "ماهي الفلسفة؟" سؤالا يمس ذلك الفكر الغربي، وعبر ذلك، يمس نظام العقل ومؤسساته فيه. وكان كل نقد لـ"الفلسفة" في الواقع نقدا للعقل يجد جذوره داخل الحداثة منذ "كانط" حتى "جاك ديريدا" و"جيل دولوز" مرورا بـ"نتشه" و"فرويد" و"هوسرل" و"هايدجر" وغيرهم كثير. وسنحاول في هذه الدراسة عرض بعض هذه المواقف من خلال دراسة بعض مؤلفاتهم الأساسية التي طرحت مسألة "ماهي الفلسفة" بشكل مباشر على الخصوص. 1 – جاك ديريدا: السؤال عن الفلسفة والحق في التفلسف: يشكل السؤال عن الفلسفة -في جل كتابات "ديريداط-(7) جزءا من عملية انخراط الفكر داخل سؤال أعم عو السؤال عن الذات والآخر، سؤال عن علاقة الذات المفكرة بهوامشها... لكنه أيضا خطوة أولى داخل استراتيجية نظرية أهم أهدافها اكتشاف ما ينقال بشكل خفي داخل الخطاب الفلسفي وما يعرض ذاته بين النصوص داخل البياضات. وإذا كانت ميزة الفلسفة هي أنها تكشف وتعرض أمام الأنظار وضعيات قابلة للتفكير، فإنها أيضا تخفي كخطاب -وتلك مفارقتها أيضا- خلفياتها وعمليات إنتاج مفاهيمها وصورها واستعاراتها... إلخ. لذلك وجب على "التقويض" أن يكتشف هذه العمليات والخلفيات. لكن ليست الفلسفة -رغم كل ما قيل- مجرد خطاب يوجد لأجل التقويض والنقل، بل هي أيضا مؤسسة وجزء من تاريخ فهم الغرب لذاته. ويتأسس هذا الفهم داخل مؤسسات للمعرفة كالجامعة والمدرسة والوظائف التربوية المرتبطة بهما. من هنا ارتبطت استراتيجية النقد عند "ديريدا" بتحليل علاقة الفلسفة بالقانون والمؤسسة والجامعة والتفكير في البنيات القانونية والأخلاقية والأنطروبولوجيتة التي تدعم الفلسفة وتدريسها وإنتاجها وتاريخ هذا التدريس وهذا الإنتاج. وإذا كان من غير الممكن التفلسف دون تكوين سابق (في مجال تاريخ الفلسفة)، ودون تعليم ومؤسسات فلسفية، ودون اللغة والمعرفة اللتين تصرفهما تلك المؤسسات، فلا يمكن أيضا التفكير في الفلسفة خارج "المؤسسة الفلسفية" وفي استقلال عن "الجسد المدرس"(8). وربما ما كان يشد انتباه "ديريدا" في اشتغاله بمسألة الفلسفة في كتاباته، هو السؤال: "ما هو الفلسفي؟": Qu’est ce que le philosophique وليس: "ماهي الفلسفة؟". ويرجع ذلك في نظره إلى أن الأول سؤال استراتيجي يوجد داخل كل القرارات المؤسسية التي تمس الفيلسوف والحق في التفلسف، ويرتبط بإصدار المنظومات الفلسفية داخل المؤسسات الجامعية وغيرها من مؤسسات المعرفة، كما يمس أيضا معايير التفلسف التي تمكن في لحظة ما من معرفة ما إذا كانت فكرة ما أو جملة ما أو تجربة ما أو عملية ما فلسفية. إن السؤال: " ما هو الفلسفي؟" ينتمي إلى الفلسفة ويخرج عنها في آن واحد. من هنا يسمح للذات التي تطرحه بأن تتحرك بحرية كبيرة ما بين الفلسفة وخارج – الفلسفة، داخل المكان الفلسفي وخارجه(9)، ويمكنها من أن تلجأ إلى لغات مختلفة وهي تطرحه وتحاول البحث فيه (لغة فلسفية وأخرى غير فلسفية أي تاريخية، سوسيولوجية، سيكولوجية...). أما السؤال: "ماهي الفلسفة؟"، فهو سؤال فلسفي بامتياز لماذا؟ لأنه سؤال يشد الذات (أو الخطاب) التي تطرحه إلى داخل الفلسفة، إلى مكان فلسفي هو المكان اليوناني حيث انبثقت لأول مرة لغة السؤال عن الماهية وظهر اللوغوص الذي يسكنه هاجس الماهية. إنه السؤال الفلسفي الوحيد الذي تظل صياغته وإمكانية البحث فيه فلسفيتين. فهو سؤال عن الماهية أولا، وهو بوصفه كذلك، يعطي لمن يطرحه حقا خاصا هو الحق في التفلسف. لا يمكن أن نطرح سؤالا عن الماهية دون أن نتفلسف أو أن ننخرط في تقليد فلسفي معين له جذوره في تاريخ الفلسفة. يقول "دريردا": "ينتمي السؤال: "ما هو...؟" -حينما يطرح بصدد علم من العلوم أو فن من الفنون- إلى الفلسفة برأي الفلاسفة. وهو ينتمي إليها بحق. هنا يكمن حق الفلسفة. وبما أن الفلسفة تمتلك -حسب اعتقادها- هذا الحق وحدها دون غيرها، فهو امتياز لها أيضا، بل إنها تصبح نفسها هذا الامتياز بالذات. فهي لن تكتسب هذا الامتياز من الخارج، بل تكون تلك القدرة التي تمنح ذاتها بذاتها ذلك الامتياز(10). هناك شكلان أو طريقان للإجابة عن السؤال: "ماهي الفلسفة؟" حسب "ديريدا": -الأول يركز على "ماهية الفلسفة"- والثاني يركز على وظيفتها. وقد ارتبط البحث عن ماهية الفلسفة في التراث الفلسفي بالبحث عن ارتباطات الفلسفة بالتاريخ أو بالأصول أو المعنى الأصلي أو بجذور ما للتفلسف اعتبرت حدثا أساسيا في تاريخ الفكر... إلخ. وقد حاول هذا الشكل الأول أن يفكر في الفلسفة من زاوية الفلسفة ذاتها، أي من منطلق كينونتها كفلسفة منذ انبثاقها كحدث فكري وتجربة داخل لغة ما خاصة (هي لغة الإغريق) طرحت بشكل أصيل مسألة الكينونة(11). لكن الشكل الثاني المقابل يبحث عن وظيفة الفلسفة، فما يهمه، ليس أصل ما للفلسفة داخل الفكر أو اللغة أو المعنى، بل هو "الحقيقة البراغماتية" للفلسفة: ما الذي مارسته الفلسفة؟ وما الذي نمارسه حاليا باسم الفلسفة؟ ما الذي نستفيده منها كخطاب وأفق للحوار وكفكر ونقد للتجربة والممارسات الاجتماعية والسياسية والمؤسسية؟ إن ما يهم هذا الشكل الثاني هو الأثر الفعلي للفلسفة ووظيفتها النقدية لا أصولها المنسية أو الخفية(12). وغالبا ما يخضع هذا الشكل من الإجابة إلى معطيات العلوم الإنسانية ويوظف تصوراتها حول المعرفة والتفكير وعلاقاتهعما بالممارسة الإنسانية. غير أن الاختلاف بين هذين الشكلين في الإجابة عن السؤال: "ماهي الفلسفة؟" في الفكر الحديث لا ينفي ترابطهما حسب "ديريدا". فالموقف الثاني البراغماتي رغم رفضه فكرة الماهية، ينطلق من تصور خاص أو معنى ما للتفلسف على أساسه يتساءل عن وظيفة الفلسفة. كما أن الموقف الأول -عند هايدجر على الخصوص- يفترض من جهة حد ثاما أو تسلسلا بين أحداث (أي تاريخا) داخله يتطابق التفكير الفلسفي -عند انبثاقه كحدث متميز- بفعل أو تجربة خاصة للغة كانت ممكنة داخل ثقافة معينة (هي اليونانية على الخصوص). وعليه، رغم توجهه نحو ماهية الفلسفة، فإنه ظل يستند إلى لحظة ما داخل الزمان أو التاريخ، وداخل اللغة، أصبح فيها ممكنا ظهور الفلسفة وشغلها وضعية ما داخل الفكر واللغة والثقافة بشكل عام(13). لا يرفض ديريدا الموقف الأول باسم الثاني أو العكس، ويظهر أنه يحاول أن يفهم الفلسفة داخل الفكر الحديث عبر الأسئلة التي طرحت بصددها ومن خلال شكل الإجابات التي قدمت حولها والمفاهيم الأساسية التي اعتمدت في ذلك. لقد كانت قصديته هي أن يفهم ما يدعم هذين الموقفين معا تجاه الفلسفة وما يجعل منهما ضروريين في الفكر الحديث. فالأساسي ليس هو بناء موقف منطقي متكامل حول الفلسفة (ماهيتها أو وظيفتها) بل فهم خصوصية الفلسفة والوعي بأن هذه الخصوصية مفارقة. فالفلسفة ليس لها وضع ثابت داخل نظام المعرفة الاجتماعية لأنها تمس بأسئلتها كل مكونات هذا النظام. كما أنها -بوصفها مادة تعليمية- تختلف عن المواد الأخرى لكونها توجد داخل كل فروع وشعب الثقافة المدرسية. وهي أخيرا نمط من التفكير يصعب -حسب ديريدا- وصفه بالعلمي أو الديني أو الأدبي. لكنه نمط ملزم بالانفتاح على باقي المواد وأنماط التفكير الأخرى دون أن يذوب فيها(14). فالفلسفة لها هويتها المؤسسية. وينبغي أن نحافظ لها على هذه الهوية (المفارقة) وأن نفهمها جيدا لكي نثبت الحق في الفلسفة والتفلسف. غير أن ما يفهمه ديريدا من عبارة "الهوية المؤسسية للفلسفة" ليس مجرد ماهية فكرية مجردة، بل كونها تجربة أو حدثا يتم داخل اللغة والثقافة ونظام المعرفة. هذا الحدث يصبح مؤسسة، أي خطابا ونتاجا له تاريخ يربطه بممارسة خاصة باللغة والكتابة والمعرفة، علاقة الفلسفة-المؤسسة بالتاريخ واللغة هي ما يجعلها تشكل ذاكرة -أي مكتبة- لها تصوراتها للحقيقة والمنهج والمعرفة واللغة والقيم والإنسان بشكل عام. ومادامت الفلسفة في الغرب مؤسسة، فإنها -مثلها مثل كل مؤسسة أخرى- تمتلك مكانا رمزيا ما (يمكن أن نكتشفه داخلها) انطلاقا منه تبرر ذاتها ومشروعيتها. قد يكون هذا المكان الرمزي (الذي ينضاف إلى المكان الجغرافي والسياسي) جزءا من الماضي أو الحاضر، بكنه يبقى قابلا لأن نقيم فيه ونفهم انطلاقا منه الفلسفة كحدث (أي كانبثاق تجربة للفكر واللغة داخل الثقافة حسب تصور هايدجر) وكوظيفة (كفعل داخل اللغة والممارسة). ولا يمكن لأي تساؤل حول الفلسفة في الفكر الحديث أن يتجاهل هذا المكان الرمزي رغم أنه ليس وحده الذي يبرر كينونة الفلسفة، بل توجد أمكنة كثيرة تحيط بالفلسفة يمكن اكتشافها، أو حسب تعبير هايدجر، يمكن سلوك طرق شتى نحوها كالمكان السياسي والتربوي... وليس اللغة (= النصوص) إلا مكانا أوليا -رغم كونه أساسيا- من خلاله ننفتح على باقي الأمكنة الأخرى. من هنا لم يعد ممكنا فهم الفلسفة انطلاقا من مقولة الخطاب وحدها، بل يجب استحضار كل الرهانات والأمكنة والتصورات التي تحيط بالتفلسف. داخل هذا الإطار لم تكن العودة إلى السؤال: ماهي الفلسفة؟ لأجل التبرير والدفاع (التبرير الفلسفة). فعودة الفلسفة الحديثة إلى هذا السؤال ينبثق من حقها في السؤال أولا، وفي طرح سؤالها الخاص بها ثانيا (السؤال حول الماهية). وهي لا تطرح السؤال: ماهي الفلسفة؟ لأجل إجابة ما مقصودة في ذاتها كإجابة، بل تطرحه لأنها كانت دائما وأبدا فكر السؤال وسؤال الفكر أيضا. لذلك، كان السؤال: ماهي الفلسفة؟، يعلن على مستوى الخطاب (أي على مستوى الفعل اللغوي للسؤال) انتماء الذات المتسائلة حاليا للفلسفة أولا، وللمجموعة التي اختارت السؤال كتجربة(15). والحال أنه مهما بلغ تعدد الخطابات التي حاولت الإجابة عن السؤال: "ماهي الفلسفة؟"، فإنه لا يفعل سوى أن يستدرج المجموعة المتسائلة بكاملها إلى حوار حول الفلسفة (هذا الحوار لن يتم حسب ديريدا -في فرنسا على الخصوص- خارج "الكريف" –G.R.E.PH - أو "السيف" –C.I.PH - الكوليج الدولي للفلسفة)، لكنه حوار مفتوح يدعمه دائما الحق في التفلسف والفلسفة. غير أن هذا الحق لا يعود إلى افتراض امتلاك ماهية ما عن الفلسفة أو خطاب يكون وحده حقيقيا حولها، بل يعود إلى إمكانية التساؤل وإلى إمكانية الانتماء إلى الفلسفة، أي إلى تراث تاريخي يمتد حتى اليونان، ويعود أخيرا إلى إمكانية الانتماء إلى المجموعة التي تطرح السؤال دائما وتمارس بواسطته حرية التفكير داخل حوار مفتوح ومتعدد الأطراف حول الفلسفة. لكن حينما يستعمل "ديريدا" عبارة: "الحق في الفلسفة"، فلا عني ذلك أن الفلسفة تعيش وضعية تجاهل أو رفض أو منع جوهرية. فالفلسفة متجذرة في تاريخ الغرب ولا يمكن نسيانها بسهولة. يطرح "ديريدا" مبدأ "الحق في التفلسف" -مع آخرين- داخل أفق يريد منه أن يكون مجالا يجعل من السؤال الموجه إلى الفلسفة (من داخل الفلسفة ومما يحيط بها من علوم ومعارف) تجربة للانتماء إليها وإلى الفكر والحوار، تجدد فيه الذات المتسائلة مفاهيمها وتتحرر من التصورات الطبيعية حول الفلسفة والمعرفة بشكل عام، التي ترسبت منذ الحداثة على الخصوص داخل الجامعات والمعاهد ومؤسسات التعليم (في فرنسا خصيصا). الحق في الفلسفة هو إذن حق في الانفتاح على فكر بدون حدود ولا آفاق، أو بلغة "جيل دولوز"، هو تجربة في ولوج صداقة عميقة مع الفكر خارج ترسبات الحداثة الضيقة حول الفلسفة. من يدعم "الحق في الفلسفة"؟(16). من يدعم حق الفلسفة في الوجود داخل المجتمع المعاصر؟ إنها الديموقراطية والدولة التي تؤمن -حسب "ديريدا"- الشروط التقنية والمهنية والمؤسسية والتربوية للحق في الفلسفة دون أن تكون الفلسفة ذاعنة لهذه الدولة أو تلك ومبررة لهذه الديموقراطية أو تلك، ليست الفلسفة مسؤولة إلا أمام الفكر في وجودها رغم كونها مرتبطة بالدولة في ذلك الوجود(17). تلك هي خلاصة تفكير "ديريدا" في السؤال: "ماهي الفلسفة؟"، وفي مسألة الحق في الفلسفة الذي يدعم كل سؤال موجه إلى الفلسفة أو منبثق عنها. كيف تم التفكير في الفلسفة من منطلق هذا "الحق في الفلسفة" الذي أعلنه "ديريدا"؟ هذا ما سنحاول اكتشافه من خلال دراسة بعض النماذج الفلسفية الأساسية في الفكر الحديث والمعاصر أهمها على الخصوص "هوسرل" وهايدجر و"جيل دولوز" و"إيريك فايل"... 2 – هوسرل: السؤال عن الفلسفة ومسألة "التاريخية": يرتبط السؤال عند ماهية الفلسفة عن "هوسرل" بالبحث عن ما يسميه الإنسية الأوروبية L’humanité européenne وتاريخية هذه الإنسية. غير أنه لا يفكر في هذه الإنسية من زاوية غايتها العامة وقيمتها الأخلاقية ومبادئها السياسية... إلخ، بل من زاوية تاريخيتها التي يربطها بنشأة التفلسف والتحول الحذري الذي أحدثته هذه النشأة في ظهور وتطور إنسية جديدة لها وجهها الثقافي ونمط تفكيرها الخاص. غير أن "هوسرل" لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول من جهة ثانية أن يربط تفكيره في ماهية الفلسفة بما يسميه "أزمة الإنسية الأوروبية" كما حاول تشخيصها في نهاية القرن 19م وبداية هذا القرن. وبالفعل، إن ما يميز تفكير "هوسرل" في "ماهية الفلسفة" ووظيفتها -خصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين- (وهي فترة عصيبة جدا في تاريخ أوروبا)، هو نزعته التشخيصية التي ارتبطت بدعوة إلى العودة إلى الأصول: أصول الإنسية الأوروبية الثقافية التي تمتد جذورها إلى ما قبل الحداثة العلمية، وبالخصوص قبل ظهور الديكارتية (رغم أن "هوسرل" يعتبر الديكارتية هي أساس الفينومينولوجيا في صيغتها الحديثة(18). حقا، لقد تميزت أغلب كتابات "هوسرل" حول الفلسفة والفينومينولوجيا بطابعها النقدي والتأسيس: فقد دعا إلى إعادة تأسيس الفلسفة كعلم دقيق. وقد انصبت هذه الدعوة على ضرورة العودة إلى الأشياء والماهيات، وإلى الوعي بوصفه قصدية تنفتح على تلك الأشياء لتدرك ماهياتها الخالصة. كما دعا إلى ضرورة بناء منهج فلسفي دقيق بواسطته تؤمن من الفلسفة كينونتها كعلم، في مواجهة الهيمنة الفكرية الكبيرة التي مارستها علوم الطبيعة على العقول وامتداداتها الفلسفية التي تجلت على الخصوص في النّزعات الطبيعانية والوضعية والمادية... ومع ذلك، ورغم أهمية كل كتابات "هوسرل" حول الفلسفة(19)، وحول مشروع الفينومينولوجيا بوصفها علما، فإن محاضرته التي ألقاها سنة 1935 بـ Kulturbund في "فيينا" بعنوان: "أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة"(20) تقدم بحق نموذجا فلسفيا لفهم العلاقة بين مسألة الفلسفة وبين تاريخية الغرب (كما يشخصها فيلسوف ما)، خصوصا وأنها تأتي في زمن أرغم فيه "هوسرل" على الصمت (كان قد أحيل على التقاعد سنة 1928، ثم أرغم على الابتعاد عن كل نشاط داخل التعليم العمومي منذ سنة 1929(21)، زمن تداعي قيم العقلانية والنزعة الإنسانية بفعل الحرب وتنامي العنف السياسي في أوروبا وخارجها... تلك هي الخلفية التاريخية التي تعطي قيمة فلسفية كبرى لـ"أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة" في رأينا. | |
|