23 يناير 2014 بقلم
رشيد العلمي الإدريسي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:أريد في هذه المداخلة الوقوف على مفهوم العلمنة (la sécularisation)، في الفكر الألماني الحديث، لما أثاره من خلافات وتباينات فكرية في غاية من الأهمية، سيما في ما يتعلق بعلاقته بالتراث الديني وبالحداثة.
في الواقع هناك سؤالان أساسيان يتموضعان وراء الخلاف حول العلمنة:
1) هل تتمتع الحداثة بالمصداقية والأصالة والمشروعية، كما يدعي ذلك مناصروها؟
2) هل هي حقا البراديغم، أو المفهوم المفتاح الذي يمكن على أساسه فهم وتفسير بروز وتطور الحداثة؟
أراد هانس بلومانبرغ (Hans Blumenberg) الإجابة عن هذين السؤالين، من خلال كتابه المهم: "مشروعية الأزمنة الحديثة"[1] واعتبر أن مفهوم العلمنة قد يسعفنا في فهم تطور وتغير الأنساق الفكرية، وسنعود إلى هذا الكتاب.
بالفعل، كان مفهوم الحداثة، منذ البداية، موضوعا للجدل وللخلاف، وأثار من حوله الشك والحيطة.
برزت الحداثة في سياق صراعي ضد التقليد التراثي منذ القرن السادس عشر في أوربا. هناك رموز فكرية تدل على هذا الخلاف: كمونتاني وديكارت...
[2].
وذهب البعض إلى أن هذا الصراع قام بين أنصار القطيعة والانفصال عن التراث القديم، الإغريقي واللاتيني، وأنصار التمسك والتشبث بهذا التراث.
في الواقع إن السؤال الأساسي الذي كان مطروحا في ذلك الحين هو التالي:
ما هو المنهج الذي يجب الاعتماد عليه لتجاوز حالة الانحطاط والتخلف، والنهوض بالمجتمعات الأوربية والارتقاء بحضارتها؟
هل يمكن الوصول إلى هذه الغاية عن طريق العودة إلى التراث القديم، بإحيائه وتأويله، أو عن طريق نهج جديد في الفكر، دون إغفال التراث القديم.
إن فلسفة الأنوار لدى كانط تدعو إلى تحرر الفرد من طغيان التقاليد والأفكار الموروثة، والحكم على الأشياء انطلاقا من معايير عقلية، دونما وصاية أو تسلط.
فمجتمع "الحداثة" هو مجتمع متحرر، عقلاني تسود فيه قيم إنسانية: الحرية، المساواة، الأخوة، الكرامة... على أن الحداثة ستبرز وكأنها نسق متناقض البنية، هناك القول وهنا الفعل، هناك القيم الإنسانية، وهناك أفعال السيطرة والغلبة (الاستعمار، الامبريالية...)، منطقان يتجاذبان الدولة الحديثة في أوربا: منطق القيم المنحدر من فلسفة الأنوار، ومنطق الرأسمال والبيروقراطية.
هذا هو التناقض الأساسي الكامن في بنية الدولة الحديثة الذي حاول يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) دراسته وتحليله.
اتجاهات مختلفة ومتباينة في أسسها الفكرية، اعتبرت أن قيم الحداثة ظلت مفارقة للواقع، حيث نتجت عن إرادة سياسة فوقية ومتعالية، في حين أن القيم التي تترسخ في المجتمع، هي التي تتولد عن تطور طبيعي للمجتمع: هذا ما نصادفه على سبيل المثال فيالفكر الرومانسي، والفكر الوضعي، والفكر التاريخاني والفكر الليبرالي التطوري.
كانت القيم الإغريقية تنحدر من سياق نظري يدعمها، ويضفي عليها المشروعية. أما القيم المسيحية، فلها إطارها الديني الذي يدعمها.
فما هو الإطار الداعم لقيم الحداثة، سيما وأنها تدعي انفصالها عن الدين وعن الميتافيزيقا؟
هذه الإشكالية قادت عدة مفكرين، سيما في ألمانيا، إلى وضع قيم الحداثة موضع شك وتساؤل، بل إلى نزع المشروعية عنها، بدعوى أنها تجتر مفاهيم دينية قديمة.
سنقوم بتقسيم الموضوع على النحو التالي:
1- العلمنة والحداثة الموهومة
أ- العلمنة وانعدام المشروعية
ب- استمرارية الفكر الديني
2- العلمنة، حدث فكري حقيقي وقائم بذاته
أ- العلمنة والانفصال عن التراث
ب- العلمنة، المقولة التفسيرية للحداثة
1- العلمنة والحداثة الموهومة:
أ- العلمنة وانعدام المشروعية:
اللافت للنظر، أن العلمنة في بداياتها، ارتبطت بحدث تاريخي في أنجلترا وألمانيا. ذلك أن الإصلاح الديني البروتيستاني قاد إلى نزع ممتلكات الكنيسة وحولها إلى ملكية الدولة.
[3] وكان هذا فعلا سياسيا محضا، خاليا من أية مشروعية قانونية ومنافيا لقيم التسامح؛ هذا ما ردده كثير من معارضي الحداثة. فالعلمنة برزت منذ البداية بفعل غير مشروع ومتناقض مع المبادئ التي تنادي بها.
اعتبر كارل سيمت (Carl Schmitt) المفكر والمنظر القانوني، المعارض للنظام الديمقراطي-الليبرالي، أن "كل القيم المؤسسة للدولة الحديثة، تنحدر من الفكر الديني".
[4]فالديمقراطية تقوم على فرضية أساسية مفادها أن الإرادة الشعبية قويمة بالضرورة ومعصومة من الخطأ. وهذه النظرية تعيد إنتاج الفكر الديني في حلة جديدة، والذي يرى أن السيادة هي من صفات الألوهية.
يدعو كارل شميت إلى مناهضة ومقاومة النظام الليبرالي الذي يقوم على النفاق السياسي، ويدعو إلى رد الاعتبار إلى الدين، والاعتراف بالسياسة في كل مكان هي موجودة فيه بالقوة؛ إذ أن كل إخفاء للسياسة ينم عن إرادة توهيمية ومخادعة.
[5]ارتبط اسم كارل شميث بالنظام النازي، واللافت للنظر، أن هذا المفكر لم يغير آراءه بعد انهزام هذا النظام في الحرب، ومازال له تأثير في الأوساط الثقافية اليمينية، بل اليسارية كذلك
[6].
والدليل على هذا أن كتاباته ترجمت إلى عدة لغات، وكانت موضوع لعدة لقاءات فكرية.
ب- فلسفة التاريخ واجترار الفكر الديني:
ذهب كارل لوفيت (Karl Lowith) في كتابه "التاريخ والخلاص": "إن فلسفة التاريخ الحديثة تخفي بين ثناياها المنظور الديني للتاريخ".[7]
فالمسيرة تاريخية كما يراها، الحداثيون هي مسيرة تتجه نحو التقدم المتواصل، وتروم الوصول، في نهاية المطاف إلى المدينة المثلى.
اعتبر القديس أوغسطين (Saint-Augustin) أن مسيرة الإنسان التاريخية، في العالم الدنيوي، هي عابرة ولا قيمة لها. لذا، يبحث الإنسان عن المدينة الفضلى الموجودة في عالم آخر، خارج العالم المدنس.
[8]هذا التصور للتاريخ، كسيرورة تنحو نحو عالم أفضل، نصادفها بصيغة أخرى، عند كل من هيجل وماركس.
فالدولة الكاملة في الفكر الهيجلي، توحد بين المثال المطلق والواقع، معلنة بذلك نهاية التاريخ.
أما المجتمع الشيوعي، فيجسد المجتمع الأمثل الذي ينهي الجدل التاريخي.
ويرى كارل لوفيت أن فلسفة نيتشه، رغم انتقاداتها الشديدة للحداثة اجترت هي الأخرى مفاهيم دينية قديمة، كـ "العود الأبدي" أو "العودة الإلهية".[9]
ويمكن القول في الخلاصة، أن الفكر الذي يتموضع في سياق الحداثة، لم يتمكن من التحرر من المفاهيم الدينية ولم يستقل بذاته.
2- العلمنة، حدث فكري حقيقي وقائم بذاته:
أ- العلمنة والانفصال عن التراث:
هذا ما توصلت إليه أبحاث ودراسات ليوستروس .(Leo Strauss) إن العلمنة هي عملية انفصام وانفصال عن التراث القديم وعن الدين.
فماكيافيلي أحد رموز الحداثة السياسية، صرح بذلك علانية، ويجب تصديقه ولا داعي لتكذيبه.[10]
فقد أراد إبعاد الدين والتراث الإغريقي لتحرير الأمير من كل القيم ومن كل القيود. إن المعيار الوحيد للسياسة يتمثل في النجاعة والفعالية.
أكثر من ذلك، سعى ماكيافلي إلى تدمير البنية النسقية للفلسفة.
إن الفلسفة تتطور حسب قانون باطني فيها، يتمثل في التعارض بين الاتجاه العقلي والاتجاه الإيماني-الديني.
هذا الجدل بين العقل والإيمان يوحد الفلسفة ويدفعها إلى التطور.
[11]إن الحداثة بنظر ليو ستراوس، هي مرحلة متدنية من الفكر؛ إذ أن مقياس السياسة الذي كان قديما يقترن بالمثل العليا، وبالكون والطبيعة، أصبح يقترن بالفعالية، أو بالإنسان كما تواجد افتراضا في "الحالة الطبيعية".
[12]ب- الحداثة استثمار جديد للفكر[13] تبعا لمنهجه الفينومينولوجي "الظاهراتية"، يرى هانس بلومنبيرغ في كتابه "مشروعية الأزمنة الحديثة"، أن تاريخ الفكر هو تاريخ الأنساق الفكرية؛ وهذه الأنساق نابعة من تاريخية الأزمنة وصيرورتها، وغالبا ما تجيب عن تساؤلات تثيرها الحقب التاريخية. فلكل عصر تساؤلات وقضايا، وقد تتشابه أو تتماثل فيما بينها أحيانا. أما الإجابات، فيلزمها أن تتغير وتتجدد، حيث إن التطلعات والآمال تختلف من عصر إلى آخر.
إن النظام الأفلاطوني-الأرسطي أجاب عن تساؤلات تعذُر على الفكر الأسطوري الإجابة عنها.
إن الفكر الأسطوري ظل صامتا أمام تطور العقلانية، وتغير أنماط الاجتماع والحكم، اعتقادا منه أن الإنسان هو خارج المسارات و التطورات، ويبقى خاضعا لها، مستسلما. ويرى بلومنبيرغ أن العلمنة هي مقولة -catégorie- تاريخية، ولها قوة تفسيرية لتطور أنماط الفكر.
فالعلمنة -sécularisation - تنحذر من -secular-وتعني الزمن. وبالتالي فهناك عمليات علمانية مختلفة، أو "علمنات" مختلفة.
[14]فالقول بأن الحداثة هي عملية توهيمية، إذ تستبطن في داخلها مفاهيم دينية قديمة، يقوم على فرضية مفادها أن هناك ثوابت فكرية لا تتغير لا في الشكل ولا في الجوهر. والقول بان الإنسان الحديث لم يتمكن من الاستقلال بفكره، هو حكم مسبق لا يستند إلى برهان.
يرى بلومنبرغ أنه لا يمكن الجمع بين ماهيتين في فكر واحد، أن المسيحية لها معاييرها للحقيقة والحداثة لها معايير مغايرة.
[15]إن الفكر المسيحي قام ب "علمنة" الفكر الإغريقي، وأراد إعطاء تفسير لظروف الحياة الإنسانية، انطلاقا من الخطيئة الأصلية، والإحساس بالذنب والمسؤولية. أن للبشر ''مسؤولية جماعية" عما يحدث في العالم. ومع ذلك، أعطت المسيحية للإنسان فرصة التوبة وإمكانية الوصول إلى حياة أفضل، على أن الفكر المسيحي وضع الأمل خارج العالم الدُنيوي.
هناك تناقض في اللاهوت المسيحي، حسب بلومنبيرغ، لما يقول بالمسؤولية الجماعية للإنسان، وبالإله الخالق والعارف بكل شيء.
كيف يمكن تجاوز هذه "المسؤولية"؟ وما هي قدرة الإنسان على الفعل؟ وما مدى حرية الإنسان؟
أرادت الحداثة الإجابة عن هذه الأسئلة المتعثرة، ووضع الأمل في الدنيا، حيث للإنسان القدرة على صنع تاريخه وبناء مدينة تليق به، وتهذب أخلاقه، وتضمن له الحرية، تبعا لأحكام القانون الذي أسهم الجميع في وضعه. إن الحداثة تعبر عن رغبة الإنسان في تأكيد وجوده في العالم.
إن المسيحية تناست المدينة الدنيوية؛ فالقديس أوغسطين يدعو إلى الابتعاد عنها. أما الحداثة، فهي دعوة إلى التفكير في المدينة قصد إصلاحها وتغييرها بشكل كلي. وهذه الإمكانية التجاوزية والتغييرية موكولة لإرادة الإنسان التواقة إلى الحرية.
فضلا عن ذلك، ارتبطت المسيحية بالارستقراطيات والملكيات المطلقة، واتسمت بالتالي بالقهر والاستبداد، فكيف يمكن لها أن ترتبط كذلك بالحداثة التواقة إلى مجتمع الحرية.
فكل عملية "علمانية" تروم في الواقع جعل الفكر ملائما و مناسبا للعصر.
إن الفكر الأفلاطوني-الأرسطي لم يربط بين الألوهية والإنسان، ولم يتساءل حول "أصل الشر" في العالم. ولم يحدد مسؤولية الإنسان في العالم الدنيوي. وهذا ما سعى الفكر المسيحي إلى الإجابة عنه.
وكتاب هانس بلومنبيرغ هو في الواقع محاولة فكرية جادة للرد على طروحات كارل سميث "Carl Schmitt" التي تنفي مشروعية الفكر الحداثي.
يرى كارل سميث أن "الحالة الاستثنائية" التي تنص عليها الدساتير الحديثة، تكشف عن الموقع الحقيقي للسيادة، وفي هذه الحالة تصبح السياسة ظاهرة في كل مكان، وهذه هي الحالة العادية التي يجب أن تكون عليها الدولة الكلية ETAT- TOTAL.
أما هانس بلومنبيرغ، فيعتبر أن هذا التصور يعبر عن "إطلاقية السياسة" في فكر كارل سميث الذي ينضاف إلى الحضور القوي للدين. ولما تكون الدولة بهذا الشكل، يتعذر عليها التحكم في كل شيء وضمان الاستقرار، وتبقى عرضة لتقلبات مفاجئة، مما يدفعها إلى تصدير العداء الداخلي إلى الخارج، وبإشعال الحروب مع الدول المجاورة.
اعتبر كارل سميت: إن النظام اللبرالي يدعي الحيادوالتعالي على المصالح وبالتالي يسعى إلى نزع السياسة وتحييدها "neutralisation" عن كل المجالات كتالفن والاقتصاد ... فالنظام اللبرالي يتسم بنظر كارل سميت , "بالجهات المستقلة للثقافة".
ويلاحظ ليوستراوس أن كارل سميت لم يتحرر كليا من الليبرالية التي ينتقدها ويناهضها، حيث إنه يقر بوجود مجال سياسي مستقل بذاته وحاسم يتحدد من خلال معيار أساسي لديه، وهو "الصديق والعدو".
[16]
الخميس يوليو 30, 2015 4:08 pm من طرف سميح القاسم