27 أبريل 2015 بقلم
أنس الطريقي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:هل يمكن القول من المنظور التأويليّ إنّ آليّة الردّ المستمرّة في فكرنا العربيّ الحديث والمعاصر، كانت من أسباب تضييع مطلب الإنسيّة فينا؟
لكن ألا يكون سؤالنا حول الإنسيّة بصفتها مطلبًا للفكر والواقع، استشكالاً فارغًا نواصل به تضييع الوقت على أنفسنا، والحال أنّ الإنسيّة كانت من بين السرديّات الحديثة عرضة للنقد ما بعد الحداثي للحداثة، من زاوية النظر القطائعيّة التطوّرانيّة، التي نظرت بها ما بعد الحداثة إلى الحداثة؟ وبالصورة نفسها هي في جوهر الحديث عن معاداة الإنسيّة.
من هذه الزاوية (القطائعيّة) قد نتناقض مع أنفسنا منهجيًّا ونظريًّا. ولكن ألا يقتضي المنظور التأويليّ تفكيرًا فلسفيًّا يخلّص الفكر من إحداثيّاته، ليبحث فيه عمّا هو متجاوز للمكان والزمان، وللعقل الزمنيّ المنتج لمعناه الزمنيّ بالضرورة؟ ليس الأمر هنا إيمانًا جوهرانيًّا (essentialiste) مثاليًّا بحقائق ثابتة ذات وجود موضوعيّ مخترق للتاريخ، إنّما هو تأكيد ينصّ على أنّ علاقتنا بالأفكار هي معاودة إنصات مستمرّة، ممّا يحوّل ممارستنا للتفكير إلى محاولة ارتباط جديد بنوع من الاستمراريّة، يضمنها الإنسان فينا، بما هو تشكّل مستمرّ في الزمان، يحتوي من زمانيّته الخاصّة على قدر ما يحتويه فكرًا متفاعلاً مع تلك الزمانيّة. ومن هذا المنطلق يكون اتصالنا به اتصالاً بتلك الحركيّة القارّة بما هي سيرورة، لا من جهة المضمون المتغيّر الذي تمنحه في كلّ مرّة للحياة والوجود.
من المنظور التأويليّ نرى أنّ مطلب الإنسيّة هو المطلب التأويليّ الأساسيّ الذي يتعيّن علينا التعلّق به باستمرار، مادام من شبه المجمع عليه وقتيًّا على الأقلّ فيما يخصّ علوم الإنسان والفكر، أنّ لا حقائق وإنّما هناك فقط تأويلات، وأنّ حقيقة وضعنا في الحياة منذ نشأة التاريخ فينا، وهي نشأة للتفكير في التاريخ، عمليّة "تذييت" (subjectivation) قارّة، تتجاوز في كلّ مرّة المحتوى التعريفيّ الذي تسنده إلى مفهوم الذات (le sujet)، أي "للذاتيّة" ((la subjectivité التي ننتجها في كلّ طور. فمن هذه الزاوية أليس تاريخنا جدلاً مستمرًّا بين "التذييت" و"الذاتيّة"؟
هذه الاستنتاجات تنسجم مع أفكار نيتشه (ت1900م)، وهو الذي يعدّ عند الكثيرين بداية إعلان الحرب على الحداثة، من قبل من سمّوا أنفسهم ما بعد حداثيين، وعلى رأسهم فرونسوا ليوتار، وهؤلاء أيضا سمّوا بمعادي الإنسيّة (anti-humanistes). فقد كان شعار الحداثة أيضًا تطويرًا لمعنى الإنسيّة الذي عرف أكبر رواجه فترة النهضة، في أعمال توماس مور (ت1535م)، وإيرسم (ت1536م). ولكن أليس تذكير هيدغر (ت1976م)، وهو من معادي الإنسيّة، بضرورة إعادة محورة الفلسفة الغربيّة على "الدازين"، استعادة في الحقيقة لمطلب التأويل القارّ فينا، وتوضيحًا -من ثمّ- لحقيقة اتّصال قول نيتشه بالإنسان، ضدّ ما يفهم منه ظاهريًّا، بصفته نسفًا للإنسيّة من أساسها؟
لم يكن رفض نيتشه للحداثة من منظور الإنسيّة ثورة على الإنسيّة، إنّما هو احتجاج على توقّف ذلك الجدل في تاريخ الإنسان المعاصر بين "التذييت" و"الذاتيّة" الذي كرّسته الحداثة، ودعوة إلى استعادة فاعليّتها تجاوزًا لكلّ مضمون قارّ، وضدًّا له، ولكلّ ثبات. هو ثورة على إنسيّة الحداثة بالقدر الذي كان يقع فيها من تضييع لمعنى الإنسيّة بوصفها صيرورة قارّة، لا تنتهي، لمعنى الإنسان. من هنا تكون ما بعد الحداثة، ومعاداة الإنسيّة، كما تتجلّى مع أغلب ما بعد الحداثيّين، ومع بيتر سلوترديجك (و1947م) خاصّة، احتجاجًا لأجل الإنسيّة، لا ضدّها، ويكون التاريخ الغربيّ بداية من النهضة خاصّة -إن لم نشأ العودة إلى جذوره الإغريقيّة، والرواقيّة- استعادة لمعنى الإنسيّة تفكيرًا مستمرًّا منطلقه الإنسان ومبتغاه. ألم يكن ذلك التاريخ في بدايته الحديثة تلك، رفضًا للإهمال المسيحيّ الذي مورس عليه من قبل المسيحيّة، في شكل إيقاف لتلك السيرورة جدلاً بين "التذييت" و"الذاتيّة"؟ ففي هذا السياق يمكن أن ننظر إلى بنود لوثر الخمسة والتسعين الرافضة لاحتكار فهم كلمة اللّه، بوصفها تحريكًا لذلك التوقّف، وفي هذا السياق أيضًا يمكن أن ننظر إلى ترجمة إيرسم للعهد الجديد، وإلى محاولته حول حريّة الاختيار (1524)، وإلى جداله المعروف للوثر، حرصًا على مزيد ذلك التحريك.
من هذا المنظور يبدو جنون نيتشه المحتجّ على الحداثة، وعدميّته، كجنون سقراط الذي ما أراد التفريط فيه تعلّقًا بالإنسان الحيّ، جدلاً مستمرًّا بين "التذييت" و"الذاتيّة"، ضدّ تعلّق من واجهاهما بتثبيت معناه في صيغة قارّة ونهائيّة. لم تكن عودة النهضة الأوروبيّة إلى أخلاقيّة الرواقيّة الإغريقيّة من خلال شيشرون، من هذا المنظور، سوى احتجاج لأجل الإنسيّة ضدّ المسيحيّة، شبيه بذلك الاحتجاج الذي مارسه سقراط من أجلها موتًا. هو عين الرفض أيضًا الذي أنجزته ما بعد الحداثة للحداثة تعلّقًا بالإنسان، أي بذلك الجدل القارّ بين "التذييت" و"الذاتيّة"، احتجاجًا على توقيفه الديكارتي، باشره نيتشه، وأسّسه هيدغر فلسفيًّا.
من هنا يبدو لنا مطلب الإنسيّة بصفته استمرارًا لذلك الجدل، في قلب ما بعد الحداثة، منظورًا إليها مرحلة في تاريخ المعرفة. ومن هنا أيضًا يبدو لنا استشكالنا حولها في جوهر الاستشكال المعرفيّ لزماننا العربيّ، ونحن نعيشه توقّفًا لجدل "التذييت" و"الذاتيّة".
بدأ فينا ذلك التوقّف لمّا اكتفينا بتحديد نهائيّ لمعنى الذاتيّة، أي لمعنى الإنسان عندنا، ثبّته الفهم العالم للإسلام، لمّا قرّر سقفًا نهائيًّا "للتذييت" فهمًا للإنسان في حدود اللّه، أي في حدود منزلته مخلوقًا، مرتبطًا بشروط الخلق بما يعنيه، من خضوع وتبعيّة. هو عين التوقّف الذي وقع في التاريخ الغربيّ في فترته المسيحيّة. لكنّهم أعلنوا منذ نهضتهم الثورة عليه، فمنعوا باحتجاجهم على المسيحيّة الباوبيّة أيّ إمكانيّة للتوقّف من جديد. في حين اكتفينا نحن بإعلان تبرّمنا منه، دون أن نعرف ربّما طريقنا إلى زحزحته، أو دون أن نجرؤ على ذلك.
متى أنهينا توضيح صلاحيّة استشكالنا المطروح في بداية هذه المقالة، وعدنا إلى أطروحتها المبدئيّة، حول دور آليّة الردّ القارّة فينا في نفي الإنسيّة عنّا، فكيف تكون هذه الآليّة في فكرنا العربيّ الحديث والمعاصر استمرارًا لتضييع الإنسيّة فينا؟
قد يكون استدلالنا على ذلك بعيدًا، ولكن ما دمنا نمارس المنظور التأويليّ، فليس ذلك البعد إلاّ توافقًا مع ما يقتضيه هذا المنظور بوصفه رؤية ومنهجًا، فهو ليس رؤية ومنهجًا للمعرفة العالمة فحسب، بل هو أيضًا نمط للوجود ولوجودنا أيضًا.
ومن هذا الوجه المزدوج، هو يتوافق مع مطالبنا لهذا الفكر العربيّ، بما أنّه يتعيّن عليه أن يتبنّاه منهجًا للتفكير حول نفسه، وفي واقعنا، في وجوده، وفي وجودنا، لا سيما وقد صار أساسًا للمعرفة، منذ جعله ويليام ديلتاي (ت1911م) أساسًا لعلوم الإنسان، في تمييزه المعروف بين الفهم والتفسير منهجين أساسيّين للمعرفة يفرّقان المعرفة بالإنسان عن المعرفة بالطبيعة.
وحسب هذا المنهج المعرفيّ، فإنّ مفهوم الحلقة التأويليّة الغادامري، يعدّ أداة أساسيّة تمدّنا به علبته للأدوات، لتناول هذا الموضوع.
من منظور الحلقة التأويليّة، يبدو لنا أنّ آليّة الردّ في فكرنا العربيّ الحديث، هي أبرز أسباب تضييع مطلب الإنسيّة عندنا. فهي آليّة عاملة في كلّ مستويات حياتنا الثقافيّة الجماعيّة، لا سيما في مستواها الدينيّ المؤسّس هنا. فتبعًا لهذا المفهوم الملزم بقراءة الجزء ضمن الكلّ، فإنّ الكلّ الذي يشدّ هذه الثقافة هو المنظومة الدينيّة الرّسميّة السنيّة، وإنّ الكلّ الذي يشدّ هذه المنظومة الدينيّة هو مفهومها للتوحيد الإسلاميّ. إنّه هذا الكلّ باعتباره حسب أبرز مؤسّسي التأويل ويليام ديلتاي، رؤية العالم المؤطّرة لكلّ ثقافة.
فكيف نوضّح هذا الأمر؟ كيف نبيّن أنّ آليّة الردّ الساكنة فينا من تصوّراتنا التوحيديّة، هي المتسبّبة في تعطّل مطلب الإنسيّة عندنا؟ ولو أردنا مزيدًا من الدقّة والانسجام مع شروط التأويل تصوّرًا للفهم الإنساني، لقلنا إنّ آليّة الردّ هذه خاصيّة إنسانيّة، وليست حكرًا على ثقافتنا، فهي تابعة للخاصيّة التداوليّة للّغة، كونها عمليّة حجاج قارّة، وحربًا بين الناطقين على أقاليمهم الصغرى الذاتيّة أو مجالاتهم الخاصّة، تنجز أثناء الخطاب. وهي تابعة أيضًا إلى كون اللّغة وسيطًا من الوسائط المكوّنة لذاتيّاتنا الإنسانيّة، ألم يقل البنيويّون إنّ الإنسان ظنّ أنّه سيّد نفسه فإذا هو صنيعة خطابه؟ ولكنّها مكرّسة عندهم كما يبدو في العمل على الذات المتعدّدة، في شكل صراع قارّ على تغيير مضمون هذه الذاتيّة. بينما هي عندنا تبدو موجّهة نحو الذات لا لتغيير مضمون هذه الذاتيّة، إنّما لتكريسها في مضمون واحد، يوقفها عند معنى واحد تفرضه حدود النظريّة التوحيديّة الرسميّة السنيّة.
توضيح هذا الأمر في نظرنا ممكن إذا ما عدنا إلى أبرز أساتذة عصورنا الإسلاميّة الحديثة، ولاحظنا من خلالهم كيف تعمل هذه الآليّة الكامنة في تصوّراتهم التوحيديّة، عملها الخفيّ على إيقاف مطلب الإنسيّة، وهي توقف عندنا جدليّة التذييت والذاتيّة.
يجري ذلك عند أبرز ممثّلي هذا الفكر، ممّن يسمّون عندنا بروّاد النهضة العربيّة الحديثة، منهم الإصلاحيّون، الذين سمّوا بذلك لأنّهم استجابوا لمفهوم الإصلاح بما هو تجديد يجري من خلال الأطر المرجعيّة الذاتيّة، وعلى رأسها الدين، أو كانوا هم المرجع في تحديد معنى الإصلاح. يمثّل محمّد عبده في هذه الحالة أهمّ نموذج ممثّل لهم، ويكشف ألبرت حوراني في كتابه المرجعيّ
[1]، عن ذلك بردّ كلّ التيّارات الناشئة في الفكر المصريّ الحديث إلى محمّد عبده
[2]. ومنهم من ينطبق عليه أكثر مفهوم التحديث، فقد سعوا إلى إيجاد نقاط ربط تشدّ بها المفاهيم الحديثة إلى المنظومة المرجعيّة الإسلاميّة، وهؤلاء منهم محمّد الطاهر بن عاشور، وعبد العزيز جاويش، في تعاملهم مع مفهوم الحريّة. ومنهم من استغنى عن هذه المرجعيّة الإسلاميّة بل اعتبرها معطّلاً للتقدّم، وهؤلاء هم دعاة العلمانيّة، ومن جيلها الأوّل فرح أنطون، وإسماعيل مظهر، وشبلي شميل، وغيرهم. وهؤلاء أيضًا تمثّل عندهم آليّة الردّ على الإسلام، أو على النموذج الغربيّ، أبرز موانع تأسيس نظري لمضامين المفاهيم التي تحدّثوا عنها. وفي هذا السياق نستحضر دفاع فؤاد زكريا عن العقل والعقلانيّة، بمنطق معاكس للنقد الموجّه إليها في تشكّلها الغربيّ الحديث، عقلانيّة أداتيّة حرّفت انطلاق الحداثة الإنسي عن رهاناته الأخلاقيّة.
لنأخذ مثلاً على ذلك محمّد عبده. من المعلوم أنّ محمّد عبده حين كان يدافع عن علاقة الإسلام بالعلم والعقل، كان يجيب على اتهامات فرح أنطون للإسلام بأنّه دين لا يسمح بتأسيس الحضارة، ولذا فحلّ العلمنة ليس مجرّد خيار للعالم الإسلاميّ، إنّما هو الطريق الوحيدة للدخول في ركب الحضارة. كان عبده يدافع عن علاقة الإسلام بالتقدّم، من خلال دفاعه عن علاقته بالعقل والعلم، ولهذا وصل به هذا الدفاع إلى تقرير أولويّة العقل إذا تعارض مع ظاهر الشرع. لكن هل كان عبده يقدّم من خلال ذلك الدفاع مضمونًا دقيقًا للعقل؟
الجواب يمكن إدراكه من مجموعة من المعطيات التي تبيّن معنى العقل عند عبده، أوّلها أنّه عقل يعتمد وسيلة لتحصيل المعرفة، فأمّا هذه المعرفة فهي المعرفة باللّه بوصفه مصدر كلّ المعرفة، وثانيها أنّ دور هذا العقل استدلالي بحت على عظمة اللّه. فما علاقة هذا بآليّة الردّ، وما علاقته بالتوحيد وبنفي الإنسيّة؟ يبرز تأثير آليّة الردّ في كون عبده دافع عن العقل في الإسلام بالمنطق نفسه الذي دافع به عنه فرح أنطون، فما كان يدافع عنه الأخير هو العقل الأداة، لا العقل الأساس لمعرفة العالم، وللمعرفة بذاته، لم يكن العقل تعريفًا للإنسان، إنّما كان أداة للمعرفة، هذا أوّلاً، فآليّة الردّ تجعل عبده يتبنّى تعريف الأنا بالآخر، وبالصيغة المحرّفة التي وقع فيها الآخر في تعريف العقل عنده، بعد أن كان هذا العقل عنده أساس إنسانيّة الإنسان. أمّا ثانيًا فإنّ هذا العقل يبقى في تعريفه فارغ المحتوى، فبما أنّ العقل أداة لمعرفة اللّه والاستدلال عليه، فإنّ طريقه إلى اللّه، ليس حرًّا قائمًا على عمل العقل على ذاته، إنّما هو عقل خاضع لعلاقته باللّه، وبصورة اللّه في هذا العقل. وليست هذه الصورة غير المبلّغة في مفهوم التوحيد الذي شرحه عبده تكرارًا لنظريّته التقليديّة، فالعقل على الرغم من أنّه الحاكم إن حدث تعارض بين العقل والشرع، فإنّه عقل عاجز عن التحسين والتقبيح، محتاج إلى الوحي والنبوّة، من هنا يشتمّ تأثير النظريّة التوحيديّة، فمادامت هذه النظريّة تأرجحًا في الفكر الإسلاميّ بين حدّين في وصف اللّه أو تحديد صورته، هما التشبيه والتعطيل، فإنّ علاقة عبده بالعقل تجري بين هذين الحدّين، فكلّما وقع الاقتراب من هذا الحدّ فخيف من التعطيل، كما في قول عبده بأولويّة العقل، وقع التراجع عن تلك المنطقة في اتّجاه الحدّ الثاني كما في قول عبده بأنّ العقل العاجز عن فهم النصّ لافتقاره لأدوات الفهم، عليه استشارة العلماء. في كلتا الحالتين، يبقى العقل متأرجحًا بسبب علاقته بالتوحيد بين القدرة والعجز عنها، حتّى وهو يعرّف بوصفه أداة وآلة.
فكأنّ آليّة الردّ على فرح أنطون، الموجّهة لتعريف العقل، تنضاف إليها آليّة ردّ أخرى هي الكامنة في التوحيد الإسلامي، وهي توجّه أيضًا تعريف العقل. هذه الآليّة الثانية ليست حادثة فيه إنّما هي مؤسّسة له فهي مؤسّسة لتصوّر اللّه بالتالي. يقال عن سورة الإخلاص وهي السورة الأساسيّة المعرّفة للّه إنّها نزلت ردًّا على سؤال اليهود المسلمين حول طبيعة ربّهم، فكانت جميع تعريفات أحديّة اللّه نفيًا للولادة ونفيًا للشبيه، وإذا كان النفي هنا تعريفًا بالخلف يبقي مضمون التعريف فارغًا، فإنّه سيؤدّي إلى ما سيعرف بمفارقة التوحيد في الإسلام، أي بقاؤه موزّعًا بين التشبيه والتعطيل. إنّ هذه المفارقة هي التي ستؤدّي إلى بقاء معنى العقل فارغًا أيضًا، فمادام صورة اللّه غير دقيقة متوتّرة بين التشبيه والتعطيل، فإنّ معنى العقل أيضًا يبقى غير دقيق بحكم تبعيّته لتلك الصورة. فيعرّف معنى العقل من دوره في علاقته بمخدومه، فاعلاً دون قدرة على الفعل.
قد يكون التوسع في شرح هذه الصورة للعقل المانعة للإنسيّة عندنا، من جهة كونها لا تؤدّي إلى تعريف إيجابي للعقل بماهيّته أو بقدراته، بقدر ما هي ردّ على ما يتّهم به العقل في الإسلام في تعريفه من قبل أنطون، وبردّ عمق هذه الآليّة إلى مقرّها في تعريفنا لتصوّر اللّه في التوحيد الإسلاميّ، بما ليس اللّه كما تبيّنه سورة الإخلاص، إلاّ أنّ ما يدعم بعدنا عن الإنسيّة بوصفها جدلاً قارًّا بين التذييت والذاتيّة، فهو تقيّدنا بهذه الصورة المكرّسة للّه عندنا من تمسّكنا بمفهوم التوحيد في العلم المعبّر عنه، لمّا كان بدوره ردًّا على اتهامات اليهود والنصارى، بل وردّا على التصوّرات الاعتزاليّة والصوفيّة للّه من قبل علماء الكلام السنّة. ليست هذه الآليّة كامنة في النصّ المؤسّس للتوحيد عندنا، بما أنّ علم أسباب النزول كان من لواحق القرآن، أي من عناصر تأويليّته الإنسانيّة، وليس تكريسها عملاً قرآنيًّا بما أنّه نصّ مفتوح على التأويل، ولكن في جميع الأحوال فإنّ قيام علم التوحيد على آليّة الردّ التي تعمل فيه داخليًّا، توتّرًا بين حدّين هما التشبيه والتعطيل، يبدو لنا من أكبر عوامل بقاء تعريفاتنا للعقل والإنسان دون مضمون، وبقاء صياغتها السنيّة مانعًا أكبر من استعادة سيرورة التذييت والذاتيّة في فكرنا الإسلاميّ. ومن هنا يكون مدخلنا من هذا الفكر إلى الإنسيّة بتثوير نظريّتنا التوحيديّة.