سجال بين "الميشالين": ميشال فوكو وميشال دو سارتو
|
| |
هو حوار متخيّل، كتبته أنا بأسلوبي الخاص بالاعتماد على أفكارهما
لم يقرأ فوكو ما كتبه سارتو أو نادراً؛ لكن سارتو قرأ كل ما كان يكتبه فوكو. في الوقت الذي كان فيه سارتو أستاذاً في الأنثروبولوجيا الثقافية والآداب الفرنسية في جامعة كاليفورنيا، كان فوكو يستعين بأحد أهم كتب سارتو "المس الشيطاني في لودان" في محاضرته "الشواذ" Les anormaux في الكوليج دو فرانس. أخيراً من باريس، يبعث فوكو تحية إلى سارتو في منفاه الأمريكي في لوس أنجلس. كان فوكو يتحاشى السقوط في فخ الأسئلة التي طرحها سارتو في مقالاته حول كتابات فوكو، وكان هذا الأخير يرجئ باستمرار الإجابة، أو جاءت هذه الإجابة في طيات كتابات جديدة.
فوكو: تبدو لي "السلطة" أعوص مفهوم واجهني في أبحاثي لأنني حاولت الولوج إلى الظواهر من وراء المظاهر، أن أرى العتبات التحتية (العلاقات) وليس فقط الهياكل المتجسّدة (الدولة مثلاً).
سارتو: لا أعتقد أنك توصّلت إلى "نظرية" في السلطة، على أقصى تقدير "نظرة" في مفهوم السلطة. يبدو لي أنك كنت رواقياً في طريقة مقاربتك للسلطة: كانت لديك رؤية "نسقية" (أول نسق في تاريخ الفلسفة هو النسق الرواقي) التي تقول أن العناصر المتشابكة فيما بينهما تشكّل نسقاً منسجماً ومتلاحماً، بحيث إذا تغيّر عنصر أو بدّل موقعه، فإنّ النسق بأكمله يتعدّل في البنية والوظيفة. وبالتالي، فإنّ الوحدات الصغرى (السجن، الأسرة، المدرسة) هي عناصر مصغّرة عن نسق أكبر يحتوي على وحدات كبرى (الدولة). فما يتغيّر في الوحدات الصغرى ينعكس بالضرورة على الوحدات الكبرى.
فوكو: رؤية صائبة. أعترف أنّ الرواقية كانت دائماً في اللوحة الخلفية (والخفيّة أيضاً) لكتاباتي. ما سميناه في مرحلة معيّنة "النسق" هو رديف ما سميناه في فترة الستينيات من القرن العشرين "البنية"، حيث توسّعت هذه البنية لتشمل كل الحقول والقطاعات في اللغة والتحليل النفسي والدراسات الأنثروبولوجية والأدب والفلسفة. الأمر الذي يشتغل في هذا القطاع هو عينه الشيء الذي يشتغل في ذلك القطاع. فهي تشترك في البنية وتختلف في الوظيفة؛ تتماثل في الصورة وتتباين في المحتوى.
سارتو: لنعد إلى فكرتك حول السلطة. أوافق رأيك حول اشتغال السجن والمدرسة والأسرة بالوتيرة نفسها، لأن الأمر يتعلّق بأدوات السلطة ذاتها من وحدة إلى أخرى، داخل نسق أكبر تجسّده الدولة. لكن دعني أخالفك في أمر هام: لقد جعلت من السلطة "وحدة وجود" إذا استعرتُ مصطلحاً في العرفان. بمعنى أنّ الحضور الكاسح، في أدق التفاصيل الممكنة، في كل واردة وشاردة، في كل خلية أو بذرة، جعلك تمنح للسلطة صيغة "ثيولوجية"، لاهوتية، بل وأيضاً حلولية.
فوكو: أنت المتخصص في العرفان، وكنت في فترة من حياتك كاهناً في الكنيسة، ومؤرخاً للثقافة الدينية، تعرف أحسن مني أن مضامين اللاهوت انتقلت إلى الناسوت، وأعتقد أنك حدّدت ذلك في منعطف الحداثة، أي في منعطف القرنين 16 و17. ألا ترى معي أن السلطة المطلقة التي يمكن أن ننسبها إلى كائن مفارق قد انتقلت إلى الطبع البشري من حيث الاستأثار بالقوّة؟
سارتو: تكلمتُ بالطبع عن منعطف تاريخنا الحديث (الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، من صورة الملك إلى صورة الشعب) لكن صورة الإله عند الإنسان عريقة وتعود إلى التمثلات الأولى حول وظيفة الكاهن والملك والعرّاف: فهي جزئيات بشرية لكليات إلهية أخذت عنها الصورة والمثال. يمكن كذلك أن نضيف صورة "الأب" التي لا تزال حاضرة بكثافة، خصوصاً في التحليل النفسي. لربما صورة الملك أو الكاهن أو العراف اندثرت بأفول هذه الشخصيات لمسوّغ تاريخي بديهي، لكن صورة "الأب" لا تزال تشكّل مادّة قراءاتنا للطبيعة البشرية.
فوكو: يعني أنك توافقني في الطابع "الحلولي" للسلطة، حتى وإن كنتُ أتحاشى استعمال مصطلحاتك العرفانية، الصوفية؟
سارتو: ليس بهذه الصيغة. أعتقد أنها مسألة مرايا متقابلة، أي عناصر متماثلة في نسق يفوقها: ما يعتمل من سلطات جزئية في السجن هو ما يعتمل أيضاً في الأسرة وفي المدرسة وفي الثكنة وغيرها من الوحدات الصغرى لتنظيم اجتماعي. يمكنني نعتها بانعكاسات (وهذا هو النسق بالمعنى الرواقي العريق)، لكن أن تكون السلطة حلولية، فهذا أتحفظ عليه. لأنها ليست السلطة عينها، أي ليست الإجراءات والاستراتيجيات ذاتها من وحدة (السجن، الأسرة، الثكنة..) إلى أخرى. فكل وحدة (أو عنصر) تستقل بميكانيزمات ووظائف تختلف في المضامين حتى وإن تماثلت في الأشكال.
فوكو: لكن القوة وبؤرة التأثير هي عينها، ألا ترى ذلك؟
سارتو: نعم، لا شك في ذلك؛ لكن القوة ليست فائضاً عديم الشكل أو كما سماه الإغريق القدامى "الأبيرون" Apeiron. لا بدّ للقوة أن تتشيّأ، أن تتجسّد، أن تتخذ لها هيكلا؛ فهي في السجن جملة العلاقات بين الحراس والسجناء، في المصحات العقلية بين من يمتلك المعرفة النفسية والطبية والمجنون الذي يستقطب في ذاته جماع هذه السلطة في صورة المعرفة؛ في المدرسة هي السلطة التربوية والتعليمية إزاء متلقي المعلومة، إلخ.
فوكو: ولم أقل شيئاً آخر غير هذا، أي أن السلطة تتجمّع في بؤرة وتتوزّع كالنقطة التي ينطلق منها الخط. السلطة هي خطوط حياتنا المادية والرمزية.
سارتو: نعم، ولكن "حلولية" السلطة عندك جعلك تسلب عن الفرد كل حرية في الاختيار والقرار. فهو سجين السلطة كالفريسة في نسيج العنكبوت. لقد جعلت من السلطة هذا العنكبوت الذي يُطبق على الممارسات والتصوّرات ولا يترك لها متنفّساً أو فسحة.
فوكو: ما هو اقتراحك إذن؟
سارتو:قيل لي أنك قدّمت محاضرة في الكوليج دو فرانس واستعنت بكتابي: "المس الشيطاني في لودان" La possession de Loudun، وتعلم أنني استعملت فكرتك حول السلطة لدراسة كيف أن جان ديزانج Jeanne des Anges والكاهن أوربان غراندييه Urbain Grandier المحكوم عليه بالإعدام بعد محاولاته لتعزيم جان ديزانج الممسوسة واتهامه بالشعوذة والسحر؛ كيف أن هذه الفرديات كانت محط معرفة تقنية (الطبيب، المعزّم، الكاهن) ومعرفة سلطوية (قاضي التحقيق، الكنيسة، الحاكم العام ريشليو Richelieu) في أزمنة كانت تشهد انهيار الوحدة اللاهوتية وإعادة توزيع الخريطة السياسية والدينية.
فوكو: أدركتُ ذلك وتبيّنت لي قراءتك التاريخية لظاهرة المسّ الشيطاني كقراءتك المدوّية للعرفان: فيها من القوّة والبلاغة ما غاب عن أبرع مفكّر في زماننا. وما علاقة هذه القراءة التاريخية لظواهر شاذّة في نقد فكرتي عن السلطة؟ بدت لي قراءتك للظواهر الهامشية مشابهة لقراءتي لظاهرة الجنون والطب النفساني في فجر بزوغه التاريخي.
سارتو: قيل لي أنك قدّمت محاضرة في الكوليج دو فرانس واستعنت بكتابي: "المس الشيطاني في لودان"
فوكو: أدركتُ ذلك وتبيّنت لي قراءتك التاريخية لظاهرة المسّ الشيطاني كقراءتك المدوّية للعرفان: فيها من القوّة والبلاغة ما غاب عن أبرع مفكّر في زماننا. وما علاقة هذه القراءة التاريخية لظواهر شاذّة في نقد فكرتي عن السلطة؟ بدت لي قراءتك للظواهر الهامشية مشابهة لقراءتي لظاهرة الجنون والطب النفساني في فجر بزوغه التاريخي.
سارتو: هنا يكمن سرّ القراءة. هذه الظواهر الشاذّة واللغة المخرومة المصاحبة لها (جان ديزانج كانت عبارة عن "إثنان في واحد": من كان يتكلّم في الممسوسة؟ هي وهو: من هو هذا "الهو" الناطق بلسان جان ديزانج؟ هنا مكمن العلّة) تبيّن كلها أن الحيلة الدفينة للممسوسة جان ديزانج كانت تفلت من قنوات الرصد السلطوي للمعزّم والطبيب النفساني والقاضي والحاكم العام. أي هناك أمور تفلت من السلطة ولا يمكن اعتبار هذه الأخيرة حلولية.
فوكو: نعم، تبيّن لي أيضاً أنك نقلت نتائج ذلك في دراستك لظاهرة الاستهلاك في الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية وأنك الأوّل في فرنسا، حسب علمي، من اقترح قراءة تداولية تأخذ في الحسبان حيلة المستهلك في الإفلات من سلطة الإشهار والتأطير الإقتصادي في أزمنة تشهد صعود الاقتصاد والمالية كنموذج مهيمن مثلما كان النموذج السائد من القرن 18 إلى القرن 20 هو الدولة، والنموذج المهيمن في العصر الوسيط هو اللاهوت والكنيسة.
سارتو: بالفعل، لقد نقلتُ نتائج هذا الاكتشاف في الحقول الأخرى التي اشتغلتُ عليها في التاريخ والعرفان والحياة اليومية. وهنا بدت لي الفكرة الحلولية للسلطة خاطئة منهجياً.
فوكو: وكأنك جعلت من "جان ديزانج" نموذج الحيلة الدفينة للإفلات من كل سلطة، طريقة ملتوية ومراوغة في ابتكار لغة مرموزة تفلت من المعرفة الموضوعية المصاحبة لكل سلطة أدائية.
سارتو: يمكن قراءة المسألة بهذه الصيغة. لم أقم بتعميم حالة تاريخية خاصّة لها نطاقها العقلي والثقافي وخطابها المبهم، لكن أخذت بالصورة فقط أسوة بما فعلت أنت أيضاً. بدت لي هذه الصورة التي تفلت من بداهة المعرفة/السلطة أحسن طريقة في مقاربة الممارسات الاجتماعية من قراءة واستهلاك وتسكّع ورسم وخربشة، أي كل الممارسات الحيّة على هامش التأطيرات الصلبة الآتية من قمة الهرم.
فوكو: أفهم الآن لماذا تنبني فلسفتك الاجتماعية على ثنائية الإستراتيجية/التكتيكية. الإستراتيجي هو السلطوي بالمعنى الذي طرحته أنا، وفكرتك حول التكتيكي هو نقد غير مباشر لنظريتي في السلطة، ولم تكن نماذج جان ديزانج، الهنود الحمر في أمريكا، المورسيك في الأندلس بعد سقوط غرناطة، المستعمَر أمام الاستعمار، كلها حيل وتكتيكات للإفلات من الآلة الجبارة التي كانت هي سلطة المهيمن.
سارتو: تفهم لماذا كنتُ أفكّر مع فوكو ضدّ فوكو آخذاً بالفكرة السلطوية وهي الإستراتيجية، لكن بإزاحة جوهرية وهي قدرة إفلات الكائن من المحيط المطوّق والحتمي بتكتيكات دفاعية يبتكرها في اللحظة، بأدوات وإجراءات يقوم بأقلمتها مع السياق والبيئة.
فوكو: تبيّن لي أنك الوحيد في زماننا من أحسن القيام بهذه الإزاحة التي كنا نبحث عنها جميعاً. لجأ دريدا إلى الاختلاف الراديكالي différance، لكن نظريته كانت عسيرة وغارقة في التجريد؛ وبورديو إلى "الهبتوس" habitus (العرف، السمت، الملكة) في تقاطع الموضوعي والذاتي ولكن بصيغة لم نعرف فيها أين يبدأ الموضوعي وأين ينتهي الذاتي في نظريته السوسيولوجية. فكرة الإستراتيجية والتكتيكية باللجوء إلى عيّنات تاريخية وإثنولوجية كانت هي الجوهرة النادرة التي كنا نبحث عنها، خصوصاً وأنك أدرجت أيضاً التحليل النفسي عند صديقك جاك لاكان عندما قمتما بتأسيس المدرسة الفرويدية في باريس سنة 1964. يتّضح لي أنك جعلت "التكتيكي" داخل "الإستراتيجي" كالحيلة داخل العقل، الوجدان داخل البرهان وهي إجراءات فرويدية طبعت نمط كتاباتك أيضاً.
سارتو: نعم، لأن "الإستراتيجي" كاسح في بنيانه، صلب في هيكله، مهيمن بسلطته فهو "البداهة" التي ليس لنا منها بدّ؛ "التكتيكي" هو فارّ في عفويته، متوّج في كيانه، متذبذب في مساره. إنه "الباده" في عنفوانه. الخطأ الذي استبدّ بالحداثة الغربية أنها أقصت هذا التكتيكي، الحرّ، الحيوي، الفارّ لأنها كانت تخشى الحيلة، البلاغة، الاستعارة ووطّدت الحجّة، البرهان، الترتيب العقلي. كانت تنعت كل ما لا يدخل في قيود سلطتها بالسفسطة (تاريخ السوفسطائية مفيد في هذا المضمار)، وقامت بحصره، نبذه، إقصائه من كل دراسة جادّة وبحث منهجي، فجئت أنت في القرن العشرين لتعيد للمقصي حقه في الكلام (المجنون، المسجون، الشاذ..)
فوكو: لكن إذا كانت التكتيكية تشتغل في قارة الإستراتيجية الصلبة، فهي إذن في داخلها وتجري منها مجرى الدم في الشريان، كالحيلة الدفينة في قارة العقل المتوازن؛ فكيف نستطيع التفريق بينهما؟ أو بتعبير أدق: كيف يمكن القبض على الباده بالبداهة مع أن هذا الباده هو الفارّ، الحرباوي؛ في مواجهة السلطة التي هي القارّ، العنكبوتي؟
سارتو: هما متلاحمتان ولا يمكن إدراك صيغتهما سوى بالاستعانة باستعارة مادية وجغرافية: الماء هو نفسه سواء كان صلباً/جامداً أو سائلاً/جارياً. لكن حكم كونه "صلباً" ليس هو حكم كونه "سائلاً" مع أنه هو هو. فالاستراتيجية هي هذا الماء الصلب، هذا الجليد، لأن السلطة هي بالتعريف الصلب، الجامد، الصلد، كالحديد أو الفولاذ؛ والتكتيكية هي هذا الماء السائل، الجاري، فهي عفوية، سلسة. الإستراتيجية هي "الخشن"، التكتيكية هي "الليّن". إذا كانت التكتيكية تقطن في صلب الإستراتيجية فلأن ليس لها نظام في الصلابة الذي تعتمد عليه، فهي رخوة. ولقد بيّنت أنت كيف أن المكان يشكّل عاملاً في السلطة، لأنه مبني هندسياً، وبالأخص بطريقة بانوبتيكية: "أن نرى ولا أحد يرانا". التكتيكية تعتمد على الزمان، الزمان الهيرقليطي في سيلانه الدائم والمتجدّد. لكن من الممكن أن تتحوّل الإستراتيجية إلى تكتيكية وعكسه، وهذا بيّنه التاريخ: الثورات هي بمثابة تكتيكيات لأن فيها العفوية والتموّج والذبذبة بانهيار نُظم وتصوّرات ومعاجم، وبالتدريج ما هو تكتيكي في الثورة يصبح استراتيجي أي سلطوي لأنّ نُظماً خطابية وتصوّرية تحلّ محلّ النظم الآفلة والزائلة فتتصلّب بالتدريج. إذا استعرت الصورة المائية أقول: حرارة الثورة تجعل السيولة والعفوية عبارة جليد بحلول برودة السلطة وصلابتها؛ والعكس أيضاً، عندما تكون الإستراتيجية متصلّبة إلى حدّ الاختناق فإنها تنهار تحت وطأة الحرارة الثورية والانقلابية: فالحديد والفولاذ يتمّ صهرهما بنيران الثوران.
فوكو: صورة بلاغية جميلة تغنينا عن البحث المضني عن تفسيرات مملّة للممارسات والتصوّرات عبر التاريخ. لهذا بدت لي نظريتك في الإستراتيجية والتكتيكية من القوّة والانسجام ما أعجز عن وصفه، ولم أكتشف زخم أفكارك وكثافة مفاهيمك سوى في الفترة الأخيرة من حياتي الفكرية، ومن حياتي باختصار (توفي فوكو سنة