[size=35] ثلاثية سوفوكليس وأسطورة أوديب[/size]
ملخص الأسطورة:
يقول الدكتور فيكتور د.ساليس ما يلي:
كان لايوس ابن لابداكوس قد اشتهى شهوة عارمة كرسيبوس وقام باختطافه، فلَعَنَه والد الفتى المخطوف "بيلوبِس"،لا نعرف حتى أية نقطة يعيد هذا الحَدَث انتشار العادة الكريتية في خطف الفتى لتلقينه (تنسيبه) أسرار الجنس، كانت عملية الخطف والمسارَرَة من قبَل أحد ما من الجنس نفسِه، مع تواطؤ من قِبَل والِدَيْ الفتى المخطوف أو حتى بدون تواطئهما. وفي الحقيقة، كان الخطف يحدث في تواتر أكثر مع موافقة الوالديْن، اللذين كانا يتركان نافذة المنزل مفتوحةً لتسهيل دخول الخاطِف. طلب بيلوبِس عندما لعَنَ لايوس بأن يموت دون أن يترك له خَلَفًا. فيما بعد تزوَّج من جوكاستا أخت كريونتي، وأصبح ملك طيبة. وأعلن وسيط وحي دلفي في إحدى المناسَبات أنه إذا ما حصَلَ على أبناء، وكان بينهم رجلٌ فهذا الأخير سوف يعمل على قتلِه، مؤكدًا بنبوءتِه هذه لعنة بيلوبِس، وبالفعل حصل الزوجان على صبي وللتخلص من لعنة وسيط الوحي طَلَبَ لايوس من جوكاستا بأن تسلِّم الطفل إلى راعٍ، وقام هذا الأخير بثقب قدمي الطفل وربطِهما، وترتَّبَ عليه أن يتركه على جبل سيثيرون لكي يموت هناك. ومع ذلك، امتلأ قلب الراعي بالشفقة عليه، فقام بتسليمِه إلى رفيق له اعتاد أن يرعى قطعان بوليبوس وزوجته ميروبي، اللذين أطلقا عليه اسم أوديب (قَدَم منتفِخَة) وقاما بتنشئتِه كما لو أنه ابنهما، ذلك أن القَدَر لم يكن قد منحهما طفلاً حتى الآن. وعندما بلغ أوديب سن الرشد، دعاه ذات يوم أحد سكان كورنثوس بابن زنا، وكان هذا الشخص ثملاً. فتوجَّه أوديب وهو مندهش من ذلك إلى وسيط الوحي، وهذا الأخير لم يقُل له شيئًا بخصوص أصلِه. بل أظهَرَ له بأنه سوف يقتل أباه ذات يوم، ويتزوج من أمه نفسها. وكان يظن آنذاك أن بوليبوس وميروبي هما أبواه الحقيقيان. فقرَّر بألاَّ يعود إلى كورنثوس لكي يتجنَّب اقتراف جريمة شنيعة إلى هذا الحد. وفي ذلك العهد، كان سكان طيبة مروَّعين من السفينكس، لأنه كان يفترس سكان المدينة العاجزين عن إيجاد حل لأحاجيه التي كان يطرحها. وقيل إن المدينة كلها كانت تحت رحمته.
إذا عدنا إلى ثلاثية سوفوكليس، نجد مستويين لهذه الثلاثية، المستوى الأول يتمثل في سؤال السفينكس[1] الأساسي (من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين تذهب؟) وكان الجميع عاجزًا عن حل هذا اللغز، حتى وصل أوديب. وفي رأيي، أنه بوصول أوديب إلى طيبة مسرح الأحداث المأساوية والذي عبَّرَت عنه عبقرية جبارة مثل عبقرية سوفوكليس، فوصوله هذا إن عبَّر عن شيء فهو يعبِّر عن مرحلة دقيقة وحَرِجَة وانتقالية في تاريخ البشرية، إذ يشير علماء الأنثروبولوجيا إلى المرحلة الانتقالية من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي، أما علماء الروح فيشيرون إلى انتقال وظيفي للدماغ من هيمنة نصف الدماغ الأيمن الذي تشير الدراسات العلمية إلى أنه مركز الحدس والمركز الروحي والتأملي، ومن خلاله يشعر الإنسان بوحدته مع الجنس البشري بأكمله والكون بأسره، إذن، يشير هؤلاء العلماء إلى أن الانتقال حصل عندما أصبحت وظيفة الدماغ الرئيسية تكمن في نصف الدماغ الأيسر الذي يعرِّفه العلماء إلى أنه الدماغ الحسابي والمنطقي والأناني... على عكس النصف الأيمن تمامًا. ومن هذا المنطلق فإن وصول أوديب هو هذه النقلة أو هذه المرحلة الفاصِلَة في تاريخ البشرية، أو المرحلة الانتقالية، ولذلك كانت مأساوية، ونرى الدكتور ساليس يشير في نهاية الفصل بالفعل إلى ما يُسمَّى بانحطاط أثينا، الأمر الذي مهَّدَ لظهور الإمبراطورية الرومانية المكافئة لتقمِّصِها اليوم في الإمبراطورية الرأسمالية الأميركية، إن صح التعبير!
إذن، هذا الانتقال من الدماغ الأيمن كوظيفة إلى الدماغ الأيسر كوظيفة، تعبِّر عنها عبقرية سوفوكليس بتغيير في نوعية السؤال فالسؤال الأول لا يجيب عليه إلا الدماغ الأيمن، في حين السؤال الثاني لا يجيب عليه إلا الدماغ الأيسر!
ومن هنا كان سؤالاً يكاد يكون سخيفًا بامتياز على حد تعبير الدكتور ساليس، من هو الذي يمشي في الصباح على أربعة وعند الظهيرة على اثنتين وعند المساء على ثلاثة، فأجابه بطلنا ببساطة "الإنسان"، وإذَّاك رمى السفينكس بنفسه في البحر، أي غاب في اللاوعي، فهو لم يمت، ولكنه غاب في اللاوعي. وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ البشرية، تهيمن فيها وظيفة الدماغ الأيسر والتي يناسبها تمامًا النظام الأبوي، إنما ظهور النظام الأبوي كان مرافقًا لتحول في وظيفة الدماغ الإنساني.
إذن، استطاع أوديب دخول مدينة طيبة وتُوِّجَ ملكًا وتزوج من أمه بعدما كان قد قتل أبيه. وحسب فهمي المتواضع، أجد أنها لفتة عبقرية أخرى من سوفوكليس، انتبه إليها عبقري آخر هو فرويد، فإن أوديب لو لم يقتل أبيه مجازًا، وتزوج من أمه مجازًا لحاصَرَته عقدة وجودية خلال حياته كلها اكتشفتها عبقرية فرويد وأسماها عقدة الأوديب وهي نواة ما يُسمَّى بالعصاب النفسي سمة الإنسان الحديث اليوم!
أما انتحار جوكاستا عند معرفة الحقيقة التي كشفها العراف تيريسياس، فهي إن أشارت إلى شيء فهي تشير إلى انتهاء النظام الأمومي.
في حين قتل الأب أراد فيه أوديب قتل النظام الأبوي ولكن على نحوٍ لاواعٍ لأن السفينكس مختبئ هناك في لاوعيه، ويتهيأ للانقضاض عليه بعدما ظن أنه قد انتصر وغلبه وقضى على النظام الأبوي. فباعتقاده أنه قد غلب السفينكس الأمر الذي فتح له أبواب المجد الدنيوي فصار ملكًا على مدينة طيبة الأرضية، مثل أورشليم تمامًا!
إن بداية قصته بقدميه المثقوبتين تبشِّران برحلة العذاب والألم والقيامة، تذكرني بقدمي يسوع المثقوبتين أيضًا. ودخول أوديب ملكًا إلى طيبة يذكرني بدخول يسوع إلى أورشليم ملكًا يستقبلونه بسعف النخل ويصرخون هوشعنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب... إلخ. إذن كلاهما دخل ملكًا، وكلاهما كانت نهايتهما مأساوية إلى أبعد حدود المأساة!
لكن، ما أراد يسوع أن يُفهِم شعبه أن هناك أورشليم سماوية، وأورشليم الأرضية ليست أكثر من رمز لأورشليم الحقيقية، في عوالم كونية تفوقها جمالاً وروعة وعظمة ملايين المرات!
إذن، عرف أوديب الحقيقة، فمن لاوعيه بعث السفينكس بعقاب هائل، الوباء الذي اجتاح المدينة ليذكره ليس بالجريمة ظاهريًا كما أوحى إلينا سوفوكليس وإنما ليذكره بمدينة طيبة السماوية، أي السؤال الوجودي الأساسي الأول لا الثاني! فالسؤال الوجودي الأول هو الذي يقوده إلى طيبة السماوية. إذن، عند معرفته الحقيقة كما أوحى إلينا سوفوكليس باقترافه الجريمة، ولكن الجريمة الحقيقية لا أراها في قتل الأب والزواج من الأم وإنما في الانتقال المأساوي من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي الذي لم يفلح في الانتصار عليه، ففقأ عينيه، وما يستنتجه الدكتور ساليس أن معرفة الحقيقة لا تتم بالعينين الحسيتين، ولذلك فبقيامه بفقأ عينيه فتح عينًا يسميها الشرقيون بالعين الثالثة، التي ترى ما هو أبعد من الحس، أي العين التي يعاين الإنسان من خلالها العالَم الروحي أو اللاحسي أو الحقيقة.
والآن أنتقِل إلى النقطة الأكثر مأساوية والتي لم يُشِرْ إليها الدكتور ساليس وهي موت أوديب وهذا في الجزء الثاني من ثلاثيته وهي أوديب في كولون.
هنا نرى كيف يتسنَّم العمل الدرامي ذروته في نهاية أوديب، يذكر عالِم النفس الشهير ايريك فروم زعيم "الفرويدية الجديدة" و"مؤسس علم النفس الإنساني" ما يلي:
فبعد أن صلَّت الجوقة لـ"الربات غير المرئيات" لـ"العالم السفلي الإلهي" يروي الرسول كيف مات أوديب. كان قد استأذن ابنتيه في الانصراف – ولم يصطحبه سوى ثيسيوس، برغم أنه لم يقُده – وراح يسير إلى مكان الربات المقدس. وهو يبدو في غير حاجة إلى من يقوده، مادام قد وصل إلى وطنه أخيرًا ويعرف طريقه فيه.
ويرى الرسول ثيسيوس:
[... مبقيًا يده أمام وجهه ليحجب عينيه، كأنما لاح منظر رهيب، وكأنه لا أحد يستطيع أن يتحمل النظر إليه].
ويتابع الرسول:
[ولكن، أي موت كان قدر أوديب، لا أحد يعلم إلا ثيسيوس وحده. لم تنقله في تلك الساعة صاعقة الإله النارية، ولا أية ثورة لتدفق مفاجئ من البحر، بل رسول إما من الأرباب، وإما من عالَم الموتى انشقَّت له الحجارة السفلية الصلبة حبًا ومن غير انزعاج، لأن اجتياز الرجل تم من غير عويل، ومن دون مرض ومعاناة، بل على نحو يفوق عجائب الموتى...].
لقد دخل أوديب المدينة الحقيقية، حيث الربات تعني النظام الأمومي، وأصبح مخلص مدينة طيبة، وهكذا صار مسيحًا... ملكًا منقذًا لشعبِه!
أما عن موضوع الثلاثة التي أشار إليها الدكتور ساليس فالحدث الدرامي يبدأ عند مفترق طرق يتشعب منه ثلاثة طرق، ربما تكون الماضي والحاضر والمستقبل، ويشير الدكتور ساليس إلى ما يعنيه العدد ثلاثة من معاني روحية، لكنه نسيَ أن عمل سوفوكليس نفسه يحمل العدد ثلاثة، فهو عبارة عن ثلاثية، ولهذا دلالة كبرى فهو عمل كوني بما يشير الثلاثة.
تبقى نقطة أخيرة، أحب التنويه إليها كما يقول ايريك فروم:
إن قانون الدفن، قانون عودة الجسد إلى "الأرض الأم" موغل الجذور في صلب مبادئ الدين الأمومي. وأنتيغون تمثل تضامن الإنسان ومبدأ الحب الأمومي الشامل. "ليس من طبيعتي الانضمام إلى الكره بل إلى الحب" هذا ما تصرح به أنتيغون.
تظل لاشك مجرد محاولات في فهم عبقرية لا نظير لها في التاريخ... إنها تبدو مثل نسبية آينشتاين بصعوبة فهمها ومحاولة تفسيرها! والحمد لله فقد استعنت بعظماء حاولوا فهمها وبناء عليهم بنيت هذه الرؤية التي أرجو ألا تكون مشوَّشَة ومتناقِضَة.
ملاحظة:
بخصوص موضوع النظام الأمومي بوسع القارئ الرجوع إلى أسطورة ليليت، وهي في منتهى الروعة، وبوسعها أن تعبِّر خير تعبير عن النظام الأمومي وكيف احتل أو بالأحرى اغتصب منه السلطة النظام الأبوي!
أوديب
إن العَظَمَة تأتي من ذلك النور الذي يضيء كل شيء. حتى ذريرة الغبار التافهة تنال قسطًا من دفئه وجماله وروعته... والآلِهَة إن هي إلا تجليات لهذا النور... كما أن الأرض قد وطأَها عبر الأزمنة أناسٌ تمتَّعوا بموهبة التواصل مع هذه الآلِهَة، عبَّروا عنها بمختلف اللغات بعضُهم كانوا وسطاء وحي، وآخرون كانوا شامانًا، وآخرون حكماء أو قديسين أو عباقرة... إلخ. وأتت الأساطير ضمن هذا السياق من أعماق الأزمنة، أي من أعماق اللاوعي الإنساني البدئي حيث تختبئ تلك الحقيقة السرمدية التي يقف السفينكس متربِّصًا حارسًا لها، وهنا تكمن المسارَرَة الروحية التي لم تكن تنفصِل آنذاك عن المسارَرَة الجنسية لأنهما وجهان لطريق واحد يفضي إلى الحب، ولذلك قيل في الإنجيل من يحب يعرف الله ومن لا يجب لم يعرف الله لأن الله محبة، لكن، المسيحيين لم يفهموا شيئًا من هذا الكلام، لأنهم قاموا ببتر جسد المسيح عن جسده العالَمي أولاً وجعلوه خاصَّتهم، ثم قاموا بشطره إلى نصفين، كل طرف أراد إيثاره إلى نفسه، الأورثوذكسي من جهة، والكاثوليكي من جهة أخرى، ولم يقفوا عند هذا الحد، فبعد بتره، وشطره، جعلوه أشلاءً في طوائفهم المتعددة... إلخ. ومازالوا يصلبونه أكثر مما فعل اليهود، وأعتذر بالغ الاعتذار من المسيحيين إذا ما قلتُ لهم إن اليهود كانوا أكثر رحمة مع هذا المبدأ الإلهي والكوني منهم هم أنفسهم، فالرومان هم الذين قاموا بصلبه في حين أن المسيحيين يصلبون خاصَّتهم ويشوهونه ويعذبونه هم أنفسهم بأيديهم الخاصة في كل يوم وفي كل لحظة!
وأنا لا أستثني نفسي منهم إذا كنتُ أدين أو أنتقد لكنني أتألم ببساطة.
نعود إلى حديثنا... ففي أعماق اللاوعي الإنساني حيث بدء الأزمنة، وحيث العماء البدئي أو ما سوف نراه فيما يسميه سوفوكليس بالأمهات، أو الآلهات، اللواتي يعتبرهن بعض الدارسين أنهن أسبق من آلهة الأولمب الذكورية وفي هذا حديث طويل جدًا!
إذن، يتربَّص السفينكس حارسًا لبوابات الأبدية، لأن من يعرف الحقيقة ببساطة فقد حقق غاية وجوده ويستحق الخلود مكافأة له، لكن، لمعرفة الحقيقة لابد للمسارَر أن يجيب على أسئلته: من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين تذهب؟ والجواب لن يكون جوابًا عقليًا وإنما كيانيًا أو ما يعبِّر عنه الدكتور ساليس: بالحدس. لكن، ما حصل مع أوديب أن السؤال كان آخر، والجواب كان عقليًا بحتًا، وبالتالي ترتبت على ذلك تبعات وخيمة.
لاشك أن العظماء قد أرسلَتهم الآلِهَة لنا و كانوا على تواصل معها. ومن هؤلاء العظماء الذين عبَّروا عن عظمة وجلالَة السر الذي يحيط بوجودِنا، كان سوفوكليس الذي كتب ربما أعظم ما كتبته البشرية حتى وقتنا هذا في ثلاثيته: أوديب ملكًا، وأوديب في كولون، وأنتيغون.
كل عظيم كانت له طريقته في التعبير، سوفوكليس في المسرح، وبعده بأكثر من ألف سنة ظهر عظيم آخر هو بيتهوفن، فألَّف أروع الأعمال الموسيقية الخالدة، وأرى ارتباطًا وثيقًا بين ثلاثية سوفوكليس، وسيمفونيات بيتهوفن الخامسة التي تدعى بالقَدَرِيَّة، والثالثة التي تدعى بالبطولية، والتاسعة التي كانت آخر عمل له والتي ليس بوسعي إلا أن أسمِّيَها "أنتيغون"، فثمة رابط خفي أو خيط رفيع يربط فيما بينهما، يبلغ بيتهوفن الذروة في التاسعة!
إذن، هؤلاء العظماء وطأوا الأرض وتركوا لنا أعمالاً خالدة تفيض حكمة وعلمًا ومعرفة وتدفعنا صوب الآلِهَة، صوب النور، صوب الحكمة، صوب حقيقة نفوسنا، حقيقتنا الأبدية، وحقيقة وجودِنا!
تدفعنا في أفلاكٍ ومداراتٍ سماوية عليا، نحلّق فيها ونرتفع قليلاً ونبتعِد عن مآسي الأرض، وعذاباتها لنشعر قليلاً بالنشوة، والفرح، والحرية، والسعادة، ونلمح وميضًا، سرًا عميقًا، وجليلاً، ومهيبًا. نلمح ربما ذلك الذي لا نستطيع أن نعطيه اسمًا، فنسميه تعسُّفًا وظلمًا بخالق الكون، أو زيوس، أو إله الآلِهَة. وحينئذ، هل نسجد أمامه، أم نعبده أم ندخل في غيبوبة كالمتصوفة. لا أدري.
"من يراني لا يبقى حيًا" هكذا يقول الرب الإله!
إذن، كان أوديب ذلك البطل الأول من البشر الذي دشَّن الأبدية، وواجه السفينكس، ونرى فيما بعد بطلاً آخَر هو المسيح الذي واجَهَ إبليس في الثقافة اليهودية وبالطبع لن تكون المواجهة مع السفينكس في ثقافة تختلف عن مثيلتها في اليونان القديمة، ولعلنا نتذكر جيدًا في نهاية مأساة المسيح عودة الشيطان للانتقام منه من خلال العذابات والآلام والصلب، ولكن وفق الموروث المسيحي كان انتقام الشيطان سبيلاً لانتصار المسيح ونيلِه الخلود وصيرورته إلهًا خالدًا. لكن المواجهة في حد ذاتها كانت إشكالية إلى أبعد الحدود، مأساوية حتى نقيِّ العظام، تجعلنا نرتجف... نبكي... ونهلع. وأخيرًا، أوديب ملكًا يقتحم بوابات الأبدية حيث يصبح ملكًا حقيقة لا في طيبة بل فيما هو أبعد من طيبة بكثير وفيما هو أبعد من عالمنا هذا بكثير!
أوديب نموذج بدئي عن المسيح أو "الحقيقة المحمدية"[2] الكائنة في كل واحد منا. كل واحد منا أوديب، يسير على طريق قدره وينتظره بمضض ذلك السفينكس. وعلينا أن نتهيأ لهذه المواجهة في كل يوم، وكل لحظة، مواجهة لا مهرب منها البتة. وحينئذ فإن قطرات دم كل واحد منا سكبها على طريقه في طريق حياته الحافل بالأشواك حينًا وبالزهور حينًا آخر. لكننا نضعها هناك عند قدمي أوديب، ربما تكون هي - أي قطرات دماء قلبنا - هي الإجابة عن أسئلته وألغازه!