من آخر إصدارات رابطة
العقلانيّين العربّ بالتّعاون مع دار الطّليعة ببيروت كتاب "الاختيار
العلمانيّ وأسطورة النّموذج" للكتاب والباحث الفلسفيّ المغربيّ سعيد ناشيد.
وفيما يلي التّقديم الذي وضعه الكاتب له.
من ذا الذي منحني الحقّ في أن أوجه قلمي وأصوب كلامي نحو نقد "النفاق
العلماني" لدى أمم أكثر تحضراً مني ومن أمتي؟ بمثل هذا السؤال واجهني شخص
من هواة جلد الذات، وقد صاروا كثراً في هذه الأثناء. ثم أردف يقول:"من أنت
حتى تجرؤ على انتقاد دول كان الأجدر بك أن تتواضع أمام اعتبارها نموذجاً
لمستقبل لم نبلغه بعد، وقد يلزمنا الأمر مئات السنين قبل بلوغه، وقد لا
نبلغه أبداً؟".
هذا بالضبط! لن نبلغه أبداً.. لماذا؟ ضع السوط الذي تجلد به ذاتك وأرخ السمع قليلاً.
كل نموذج يظل حالة خاصة غير قابلة للتكرار، فقد ارتسم التاريخ على
مسارات لا تقبل العودة أو الإعادة، مسارات لا تتكرر فيها التجارب إلاّ بنحو
مبتذل. وليس هذا ما نريد، وليس هذا ما يحفز نخبنا وشبيبتنا على امتلاك
العقل واستعادة الإرادة والثقة في المستقبل.
كان بناة الحضارات وصناع التاريخ يتصرفون من غير نماذج جاهزة. لم يكن
الثوار الفرنسيون يبحثون عن أي نموذج يعمدون إلى تكراره، ولو فعلو ذلك لما
صنعوا النموذج الجمهوري الفرنسي. لم يجد الآباء المؤسسون للولايات المتحدة
الأمريكية من نموذج يمكن استيراده، ولو وجدوه لما أبدعوا نموذج الدّستور
الأمريكي. ولم يستعن البلاشفة الرّوس، حين صنعوا ثورتهم، بأي نموذج يحملونه
من مكان معين أو زمان محدد، هؤلاء جميعهم انطلقوا من الاستعمال الحر
للعقل، ولو حاولوا أن يقلدوا لأوجدوا تجارب هزلية أو هزيلة مثلما فعل آخرون
كثيرون، تجارب لا ذكر لها في غير موضع الأخبار والعبر. كل إبداع جديد إلاّ
ويبدو في مستهل عهده وكأنه زيغ عن الممكن وضرب من المحال، لكن العوالم
الجديدة لا تولد في العادة إلاّ حيثما يتم خرق مبدأ العادة.
هوس النموذج امتداد لصورة الأب لدى الطفل القاصر وتعبير عن النموذج
الإلهي الأعظم والأكمل والأدوم لدى الشعوب المتأخرة والنخب القاصرة، لذلك
فإن موت النموذج هو امتداد طبيعي لإعلان "موت الله"، بالمعنى النيتشوي.
لنترجم هذا الإعلان إلى شعار سياسي واضح، فنقول:
ستكون الدولة العلمانية دولة يتيمة، ليس فقط من رعاية الغيب وحضانة
السماء، وإنما ستكون دولة يتيمة من حضن واحتضان كل نموذج في السماء أو
نموذج في الأرض.
ثم ماذا؟
الوعي العلماني الأصيل لا يبحث عن أب بديل. لل
ثم ماذا؟
رفعاً لكل شبهة في عصر "المتشابهات"، فإننا نقول للبهلوان الذي يقدم
مشهداً مثيراً في جلد الذات بهدف الإمتاع قليلاً والترويع كثيراً:
النموذج الإسلامي ميت ابتداء ولا حاجة لجلد الذات تنكيلاً بالجثة. العرض
ممل، فليسدل الستار ولنناقش القضية في أقصى أبعادها. ثم ماذا عن النموذج
الغربي؟
لقد أصبح هذا النموذج الغربي المفترض، جرّاء المناخ الثقافي المهيمن
وطبيعة المنحى الاقتصادي الجديد، يهدد مستقبل الحداثة والديمقراطية وقيم
التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية. وبدأ ينزاح عن وعود عصر التنوير متجهاً
نحو أهداف يمينية، دينية، محافظة، وأحيانا استعمارية.
هذا النموذج الغربي القائم على عقيدة القوّة والتفوق، والذي يعول على
خدمة الشعوب الفقيرة للديون الخارجية وعلى تركة التقسيم الاستعماري وعلى
رعاية بعض العشائر والعسكر في أقاليم الشرق والجنوب وعلى تركة الحرب
الباردة وعشرات الشبكات الدينية التي شكلت ترياقاً ضدّ غواية الشيوعية، هذا
النموذج المثقل بأوهام احتكار مفاتيح الثروة وأسرار القوة، أصبح يهدد
القيم التي شكلت سحر الغرب على مدى عقود ليست بالقليلة: قيم العقل
والمساواة والسلام العالمي وحماية المجال البيئي والعيش المشترك، وأيضا…
وأيضا… وأيضا… إمكانية خلود النوع البشري.
إنه بات يهدد رخاء المواطنين حتى داخل المجتمعات الغربية.
يهدد وحدة النوع البشري وربما بقاءه أيضاً في زمن لا مكان فيه لسفينة نوح جديدة.
والآن، وقد وضعتَ السوط الذي تجلد به ظهرك فلا تفرك يديك من اليأس، وإليك كشف الأوراق قبل عرض المطارحات:
إننا لم نبدأ بعد، ولن نبدأ إلاّ عندما ندرك بأن علينا أن نبدأ ليس من
حيث انتهى أشباهنا الآخرون، ولا من حيث بدأ أسلافنا السابقون، وإنما أن
نبدأ من حيث يجب أن نبدأ: من جديد.