[ بعد مرور قرن على التّنظير لها، مازالت عقدة أوديب تثير مناقشات بين المحلّلين النّفسيين.
فلئن وضع فرويد المعالم الأساسيّة لهذه النّظريّة إلاّ أنّه ترك العديد من جوانبها معلّقا.]
سنة 1909، أعلن سيغموند فرويد ملاحظة لافتة للنّظر تتعلّق بطفل أطلق عليه
اسما جديدا هو هانس Hans، وهي الملاحظة الّتي وضعها سندا لمبحث "عقدة
أوديب". وكان مخطّطها بسيطا : رغبة ذات جنس sexué تجاه الأمّ، تمنّي الموت
للأب الّذي ينافسه عليها، الخشية من غضبه وتحديدا من عقاب يحلّ بموطن
اللّذّة ذاته. إنّ حكاية هانس هي نفسها حكاية أوديب… ولكنّها، يضيف فرويد،
هي حكاية كلّ البشر.
شريكان وغير مرغوب فيه سيقوم فرويد بتحسين هذا المخطّط حين اعتبر أنّه يتشكّل من صورتين
تكميليّتين. في الأولى، يكون الطّفل منجذبا إلى الأصل parent من الجنس
الآخر، ويكون المنافس هو الأصل من نفس الجنس. أمّا في الثّانية، فيكون
منجذبا إلى الأصل من نفس الجنس وفي تنافس مع الأصل من الجنس الآخر. يتعلّق
الأمر بمأساة (أم ملهاة؟) ذات شخصيات ثلاث، الأب والأمّ والطّفل. في هذا
المثلّث يتقارب اثنان ويزيحان الثّالث الّذي يعاملانه على أنّه غير مرغوب
فيه. توجد ثلاثة أضلاع في المثلّث وتوجد بالتّالي ثلاثة صور ممكنة : فلنضف
إذن، إلى جانب الصّورتين اللّتين تمّ تحديدهما أنفا، الصّورة الثّالثة حيث
يتقارب الأبوان ويتركان الطّفل جانبا. إنّه "المشهد البدائيّ"، مشهد
علاقاتهما الجنسيّة الّتي يقصى منها الطّفل جذريّا. ولنلاحظ أنّ اثنين من
الشّخصيات الرّئيسيّة في هذه الميلودراما هما من نفس الجنس أمّا الثّالث
فلا، أنّ اثنين هما من نفس الجيل أمّا الثّالث فلا. تتأسّس عقدة أوديب
وفقا لهذا الفرق المضاعف، الفرق بين الأجناس والفرق بين الأجيال. هكذا
يبدو المخطّط بسيطا ولكنّه يطرح أسئلة كثيرة تظلّ نابضة جدّا بالحياة. إذ :
• أنّ فرويد قد حدّد المخطّط الأوديبيّ في حالة الولد، فماذا
عن البنات؟ جرّب أن يتخلّص من المشكل بالقول إنّ ما يسري عليهنّ هو نفسه
ما يسري على الأولاد بعد تغيير الألفاظ، مضيفا أنّه لا يوجد بالنّسبة إلى
الطّفل (بنتا كان أو ولدا) إلاّ عضو جنسيّ واحد هو القضيب، بحيث أنّ
البنت، هذا الولد المخصيّ، ترغب في استعادته في حين أنّ الولد يخشى
فقدانه… كلّ هذا لاقى احتجاجا حتّى في صلب التّحليل النّفسيّ، ذلك أنّه لا
يسمح مطلقا بفهم طريقة دخول البنت إلى الأنوثة وإلى الأمومة.
• يتعلّق الأمر في كلّ حال بانجذاب، برغبة جنسيّة [ذات جنس؟]،
بانفعالات إيروسيّة… ولكن ماذا نعني بهذه الألفاظ؟ وهل يتعلّق الأمر
بتمنّي الموت بالمعنى الّذي نعنيه نحن الكبار؟
• يُفترض أنّ "المأساة الأوديبيّة" تجري نحو … السّنتين أو
الثّلاث أو الأربع؟ ولكنّها ليست أولى : فماذا يجري قبل ذلك؟ إنّ العمل
الهامّ الّذي أنجز عن هذه المسألة بعد فرويد قد غيّر التّحليل النّفسيّ في
العمق.
• حسب فرويد، هذه المأساة مؤسِّسة للشّخصيّة وبانية لها، فكلّ
إنسان يمرّ من هنا بالضّرورة، إنّها "كونيّة"، أي أنّها تجري بغضّ النّظر
عن جميع تغيّراتها الثّقافيّة. لكنّ هذا لم يمنع، على التّخوم بين
التّحليل النّفسيّ وعلم الإناسة، من وقوع اختلافات في الرّأي مازالت تحتفظ
بكلّ راهنيّتها. يمكننا أن نفصّل ونبسط قائمة هذه الأسئلة الّتي اشتُغل
عليها كثيرا. لكنّ ما يبقى جوهريّا هي فكرة صراع مؤسِّس تتعارض فيه
الرّغبة مع المنع. فأن تتوجّه الرّغبة أوّلا إلى الأمّ هذا أمر بديهيّ.
ويدافع المحلّل النّفسيّ عن أنّ هذه الرّغبة هي جنسيّة، أي أنّها تنبثق من
دوافع تنشّطها حياة جسد ذي جنس ورغباته (بالمعنى الضّيّق لكلمة ذي جنس،
ذكرا أو أنثى، ولكن أيضا ذكرا وأنثى). إنّه أمر ثانويّ أن نعرف من يصوغ
الممنوع في ثقافة محدّدة : قد يكون شخصا آخر غير الأب البيولوجيّ، المهمّ
هو أن يكون هذا الممنوع دالاّ. ولو أعدنا هكذا صياغة ما يمكن أن نعنيه بـ
"أوديب"، باستطاعتنا أن نستمرّ في التّأكيد على كونيته.
حيّ هو أوديبمع ذلك، ليست المسألة بطبيعة الحال منتهية، بل على العكس تماما، ويمكننا
التّأكيد أنّه إذا كان "أوديب حيّا" فيعود ذلك تحديدا إلى تعدّد وثراء
النّقاشات الّتي يصنعها هو اليوم. لنعيّن منها مدارين رئيسيين:
1- لقد توسّع حقل الممارسة التّحليليّة منذ فرويد بصورة ملحوظة،
لا فقط من خلال أخذ الاضطرابات العقليّة (الذّهان psychose) بعين الاعتبار
بل وأيضا من خلال ظهور عدد متزايد من الحالات الّتي من غير الممكن فهمها
في إطار التّفريق الكلاسيكي ذُهان/عُصاب (névrose). هذه الحالات المسمّاة
متاخمة borderline تبرز من خلال أعراض مرضيّة جدّ متنوّعة ولكنّها تتميّز
بالمرور إلى الفعل، بعدم تحمّل الإخفاق، بالعنف، بهشاشة التّخوم، الخ.،
وبصفة أكثر جوهريّة تتميّز بتنظيم "نرجسيّ" narcissique أكثر منه
"غيريّ" objectal(علاقات الذّات بالذّات تتغلّب على علاقات الذّات بالآخر)
وبهشاشة الأنا. كلّ هذا يتوافق جيّدا مع فرضيّة تنظيم أوديبيّ هشّ. وهكذا
إذن تمّ البحث عن مراجع نظريّة أخرى إلى درجة أنّ بعض المحلّلين النّفسيين
وصلوا منه إلى التّهوين من دور الصّراع الأوديبيّ في نموّ النّفسانيّة
وتنظيمها. وهذه غلطة حسب رأيي : فأوديب حيّ ولا بدّ أن يظلّ حيّا، لأنّ
التّخلّي عنه يؤدّي إلى انهيار أحد الأعمدة العظيمة في صرح التّحليل
النّفسيّ…
2- أزمنة مختلفة، أخلاق مختلفة : فقد ابتكر فرويد التّحليل
النّفسيّ وطوّره في إطار المجتمع الغربيّ، أثناء النّصف الأوّل من القرن
العشرين. وكان طبّه السّريريّ يخصّ مرضى تندرج اضطراباتهم في هذا الإطار،
وكان هو نفسه يفكّر ضمن هذا الإطار. هذه الإمكانيّة أدّت بالكثير من
النّقّاد المتسرّعين إلى أن يستخلصوا منها أنّ التّحليل النّفسيّ قد مات
من الشّيخوخة. ولكنّ هذا غير صحيح البتّة، باعتبار أنّه أبدا لم يكفّ هو
بنفسه عن مساءلة هذه الإمكانية. السّؤال هو : باعتبار أنّ العلاقات بين
الجنسين وبين الأجيال قد تغيّرت اليوم تماما، فكيف يجري في كلّ طفل
الصّراع بين الرّغبة والمنع الّذي مازال يحدّد أوديب، وكيف تُوسم به حياته
الآتية؟ أوديب حيّ لأنّ هذه الأسئلة مطروحة بحدّة.