هناك أياد خفية تريد تشويه الإسلام... أجهزة مخابرات سرية تريد إجهاض مشروع الوحدة العربية... الغرب يحقد على المسلمين... هناك مؤامرة عالمية ضدّ الإسلام. تعكس هذه العيّنة من التصريحات مدى تغلغل نظرية المؤامرة في الخيال العربي، ونعني بهذا الخيال جملة التصوّرات والمعتقدات التي تحدد نظرة المجتمعات العربية إلى نفسها، ومن ثمّة إلى العالم. في هذا السياق، يحاول الخيال العربي، عبر نظرية المؤامرة، تأويل حدث ما أو قرار تاريخي كنتاج “أطراف” تحبك في الخفاء بغية تحقيق غاية محددة، غالبا ما تكون سلبية. إلا أنّ تواتر الأحداث التي غيرت مجرى العالم - نذكر من أهمّها الحادي عشر من سبتمبر وحرب الخليج والثورات العربية - جعلنا نشهد في العشرية الاخيرة عودة هيمنة نظرية المؤامرة على الرأي العام العربي، وتعددها في خطاباتنا السياسية وفي شبكات التواصل الاجتماعية، إلى حدّ أصبحت فيه ظاهرةً تسيطر على أغلب حواراتنا ونقاشاتنا. فماهي اسباب هذه الظاهرة؟ وماهي حدودها؟
الأسباب الأنثروبولوجية: المؤامرة كأسطورة:
يرى أستاذ التاريخ المعاصر راؤول جيرارديه (1) ان نظرية المؤامرة، في شكلها الحديث، تلعب دور التعويض: إن الإنسان، منذ العصور البدائية، ما فتئ يؤول العالم من منطلق ميتافيزيقي، فيفسر جملة الأحداث التي تقع خارج نطاق إرادته بتفاعل قوى إلاهية غايتها الجبروت. وبما أن الإنسان الحديث هو نتاج تاريخه، فإنه عوّض هذه القوى الغيبية بقوى عالمية خفية تسعى إلى السيطرة وإلى تحديد مصيره. أي أن نظرية المؤامرة، حسب راؤول جيرارديه، ليست سوى تطوّرٍ للأساطير القديمة التي تلخص العالم في مواجهة بين الإرادتين البشرية والإلهية، مثل البطل الملحمي أوليس الذي تاه سنوات في البحار بسبب مخططات الآلهة. على هذا النحو، ترى المجتمعات الحديثة أن بعض المستجدّات هي حصيلة تحركات تسعى سرا إلى فرض واقع جديد، فتفضي على “الآخر” – المتآمر- قدرات ربّانية خارقة وتحمله مسؤولية ما يجري مثلما كانت، في الماضي، تنسبها إلى الآلهة الأسطورية.
الأسباب التاريخية والثقافية: أسطورة المؤامرة في التاريخ العربي الإسلامي:
من المرجح أنّ أسطورة المؤامرة عند بني قومنا تستند إلى “حجج نقلية” وذلك بإسقاطهم صراع الرسول مع اليهود والنصارى على عصرنا، واعتبارهم اليهود أو النصارى الذين يخاطبهم القرآن هم اليهود والنصارى في كلّ عصر (وهذا يتماشى بالضبط وما يتوهمه بعض الإسلاميين من أنّهم تجسيد حيّ للرسول وأصحابه كما رأيناه في مطار قرطاج عند استقبال راشد الغنوشي بأهزوجة طلع البدر علينا..وهذه قصّة أخرى...).. وهذا ما يجعلهم يستلهمون آيات قرآنية خارج سياقاتها وأسباب نزولها مثل تفسيرهم لما ورد في سورة آل عمران : “ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم و ما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون”، أو “يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون”، أو“قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلّكم ترجعون” (آل عمران:69، 71، 72)، وورد في سورة البقرة : “ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحقّ” (البقرة: 109).
من المرجح أن أسطورة المؤامرة ترجع، بصفة خاصة، إلى الإسلام الأوّلي، إذ نجد بعض الآيات القرآنية التي لا تخلو من فكر المؤامرة، مثلما ورد في سورة آل عمران : “ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم و ما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون”، أو “يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون”، أو“قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلّكم ترجعون” (آل عمران:69، 71، 72)، و ورد في سورة البقرة : “ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحقّ” (البقرة: 109).
(كما يجد هذا الارتياب إزاء أهل الكتاب خاصّة منهم اليهود بعض جذوره في..) يعود هذا الارتياب إزاء أهل الكتاب، وخاصة إزاء المجتمع اليهودي، إلى نوع العلاقة التي كانت تجمع الرسول محمّد بالنصارى واليهود، خاصة بعد هجرته إلى المدينة، ثمّ كسر العهد الذي كان بينهم(2). فيما بعد، أخذت أسطورة المؤامرة مكانتها التاريخية باندلاع الفتنة الكبرى فاتهم العلماء، وأولهم سيف ابن عمر التميمي، شخصية عبد الله ابن السباع، مسلم من أصل يهودي، بالتآمر على الخليفة عثمان ابن عفان، وبتأليب المسلمين بعضهم ضدّ بعض، وبكونه أوّل من خلق الاتجاه الشيعي. وإن تبقى هذه الشخصية محلّ جدال الباحثين حول حقيقة وجودها و تأثيرها على أحداث الفتنة الكبرى، فإنه لمن المهمّ أن نرى فيها بعدا رمزيّا: أن الخيال العربي ما فتئ يؤول سلبيات تاريخه و شخصياته من منطلق خارجي يتجسد غالبا في صورة “العدو” المقنّع. تواصل هذا النشاط على مرّ الزمن ليتجلى في الخطابات السياسية المعاصرة، مثل تحميل جمال عبد الناصر الدول الغربية هزيمته في حرب 1967، ولترتسم أسطورة المؤامرة من جديد كمحاولة لفهم سلسلة الأحداث التي يعيشها المجتمع العربي اليوم.
الأسباب النفسية والاجتماعية: أسطورة المؤامرة كهروب من الواقع:
يقف الإنسان حائرا أمام التغيرات، عاجزا عن فكّ شفرتها، فيسعى خياله أحيانا إلى الكشف عنها عبر صياغة جملة من السيناريوهات والشخصيات الغامضة التي تتحرك من وراء الستار لبسط نفوذها على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. تمثل أسطورة المؤامرة إذن شرحا منطقيا ومرافقا معزّيا للواقع المؤلم الذي يعيشه العالم العربي في الوقت الحاضر. يرى الباحث التونسي لعفيف الأخضر أن الخطابين القرآني والديني ما فتئا يرسمان لخيالنا أنموذج الأمة المثالية التي فضّلها الله على سائر المؤمنين، وذلك انطلاقا من الآية: “كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و تؤمنون بالله و لو آمن اهل الكتاب لكان خير لهم منهم المؤمنون وأكثر الفاسقون” (110: آل عمران)(3). ولكن، بدأت هذه الصورة تتصدّع مع عصور الانحطاط. ثمّ أحدث الاستعمار والنكبة الفلسطينية وحربا الخليج شروخا بليغة في هذه الصورة، فاتسع الفارق بين الصورة المثالية للأمّة وواقعها المرير. رفضا لهذا الوضع وتأثرا بالأنموذج القرآني، رجع الخيال العربي إلى سيناريو القوى الشريرة التي تخطط من الخارج، متيقنا أن “العلّة” لا تكمن في “خير أمة أخرجت للناس”، بل في “الآخر”. يتجسد هذا “الآخر” تارة في العالم الغربي و“أهدافه الإمبريالية”، وطورا في اللّوبي الصهيوني باعتبار “كرهه التاريخي للعرب”، كما يتجسد في المجتمعات السرية مثل الماسونية(4) التي تسعى أحيانا - مع الطرفين الأولين- إلى “القضاء على الإسلام”، حتى تصل هذه الاتهامات إلى تشكيل دوّامة من المؤامرات يصعب حلّها. أمام غياب الأدلّة المادية المقنعة وضبابية آلياتها، لا تبارح أسطورة المؤامرة السجل الافتراضي ممّا يجعلها مقياسا يوضّح خللا اجتماعيا ما. يرى راؤول جيرارديه أن هذه الأسطورة تعبّر عن مجتمع يعيش أزمة تأقلم مع مختلف التطورات التي جاءت لتزعزع نظامه، ومن أهمّها التطورات الاقتصادية.
الأسباب الاقتصادية: أسطورة المؤامرة كنتيجة للعولمة:
مع العولمة، بدأت الأسس الثابتة التي تنبني عليها نظرتنا إلى العالم تتهاوى. خلف انفتاح الحدود الاقتصادية بين الشرق و الغرب و انتصار اللبرالية الجديدة إحساسا بالغزو الثقافي الآتي من الغرب، هذا الغرب الذي يمثل، منذ الحقبة الاستعمارية، الثقافة المهيمنة. تملّك المجتمع العربي شعور بخطر الاضمحلال و فقدان دعائم هويته، فلم يجد سوى النزعة الانطوائية كآلية دفاع مضادة لما يعتبره العرب “غزوا حضاريا”، وصار الغرب “المحتلّ” يجسّد مجموع همومهم. تظهر أسطورة المؤامرة إذن في المجتمعات التي لم تتمكن من استيعاب و تبني جملة التحولات الناتجة عن ما بعد الحداثة كالعولمة. والجدير بالذكر أن نظرية المؤامرة شكّلت كذلك مطيّة الملكيين والكنيسة لشرح اندلاع الثورتين الإنجليزية والفرنسية، ودخول أوروبا باب الحداثة.
نحو عقلنة الخطاب العربي:
تزداد نظرية المؤامرة تغذّيا بالخطابات السياسية والدينية والإعلامية السطحية التي غالبا ما ترجع تخلّف الأمة العربية إلى كيد الحاقدين والحاسدين، الشيء الذي يستدعي مراجعة الخطاب العربي وعقلنته. إنّ معظم هذا الخطاب اليوم بعيد كل البعد عن العقلانية، و يرجع ذلك إلى كونه يستهدف عاطفة الجماهير - التي لا تخضع لأية نظرة موضوعية - قصد ابهارها وإغراءها و مداعبة نرجسيتها. في تغييب للرؤيا العقلانية، يلجأ الخطاب العربي إلى تفسير واقع معقد عبر تبسيط العلاقات التي تجمع العالم العربي بال“آخر” و تلخيصها في صراع ثنائي بين قوى الخير والشرّ: الأمة “المثالية” ضدّ الغرب “الشيطاني”. وبالتالي، تريح أسطورة المؤامرة الفكر من عبء التساؤل، كما تجنبنا عناء النقد الذاتي الذي به يتطور العقل البشري، فيبعد شبح المؤامرة كل الشبهات عن العرب ويرجع مجموع فشلهم وأخطائهم ونقائصهم إلى “الآخر” (تلك القوة الماورائية الشريرة). أوّلا، يجب على الخطاب العربي أن يحاكي العقل وأن يجد سبيلا نحو تفسير واقعنا بصفة موضوعية حتى لا يبقى خيالنا رهينة تصورات خرافية. ثانيا، “يجب طرح جانبا نظرية المؤامرة المشرّعة من طرف حداثة مجهولة الهوية ومناهضة للإسلام أو للعالم العربي الإسلامي. لا وجود لمؤامرة. هناك بكلّ بساطة مظاهر حداثة مجهولة الهوية، مجردة وخطيرة ومضرّة لكلّ الناس، لكل المجتمعات، لكل الثقافات ولكلّ الديانات. يجب تفادي الخطابات الإيديولوجية البحتة التي تخفي الحقائق، وترسمها بصفة كاريكاتيرية، وتتستّر على المسؤوليات المتوقعة لكلّ مجتمع (...). أخيرا، يجب تجنب التفكير أن مجتمعا حديثا هو بالضرورة مجتمع ضدّ الله أو بدون الله”(5).