0inPartager Share on Thumblr" والشاعر المجيد حقا يمتاز من غير المجيد، بأنه إذا تحدث إليك لم يمكنكَ من أن تسير معه كما تسير مع نفسك، وإنما يضطركَ أن تفكر وأن تجهد نفسكَ في أن تفهمه، وتحسه وتشعر معه". بـول فاليري
ظروف تشكّل الشعر العربي الحديث:
عُرف الشعر العربي الحديث - وهو لمَـَّا يَزَلْ حَدَثاً يحبو في دنيا التأسيس- في الدراسات الأدبية والنقدية المعاصرة بعدة تسميات أبرزها:
شعر التفعيلة، والشعر الحر،والشعر الحديث، والشعر المنطلق، والشعر المرسل، ، والشعر الجديد.. وقد تناسلت مجموعة من الظروف والعوامل التي تفسر الإبدالات التي مسّت بنية هذا الفتح الشعري الجديد، لعل أبرزها:أحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية،وما رافقها من حركات تحرر ترنو إلى التحرر والديمقراطية والعدالة، ثم ضياع فلسطين زمن نكبة 1948، الذي جعل الشاعر المعاصر يحدق في اليقظة المفزعة والحقيقة المرة، التي حملتها رياح الأزمات والحروب والأوضاع السياسية المتأزمة على المنطقة العربية، بالإضافة إلى انفتاح الشاعر على الآداب العالمية والثقافات الغربية،والإغتراف من الروافد والأيديولوجيات والأفكار والفلسفات المختلفة سيّما الاشتراكية والوجودية،وكذا الشعر العالمي (توماس إيليوت،لوركا،ماياكوفسكي،ناظم حكمت..)والملاحم والأساطير اليونانية والبابلية (جلجامش،العنقاء، سيزيف، عشتار..)،والموروث السِّيري والصوفي الإسلامي والعربي القديم(سيرة عنترة،أبي زيد الهيلالي../ الحلاج، ابن عربي..).
كل هذه العوامل أسهمت في تشكّل تصور جديد للشعر العربي،يؤسس لبدائل تعبيرية جديدة جاءت لتستفزّ السّجل النصي للقارئle répertoire du texte ، وتجعله يستنفر كل خزّاناته الذهنية والفكرية لتأويل المنجز النصي الجديد، وفك رموزه ومكوناته اللغوية والدلالية (على رأسها العنوان باعتباره بوابة النص ولبنة من عتباته، تستثير القارئ لاكتشاف محتواه من حيث التركيب والدلالة والإحالات المرجعية sigmatiqueوالتداول،حسب ليوهوك، والقرائن الزمنية والمكانية وقرائن الإرسال والاستقبال، والوظائف والموضوعات والإشارات النوعية والإغرائية حسب جيرار جنيت[1]). وتقوم هذه البدائل على تحولات إيقاعية وفنية ودلالية، تجاوزت القصيدة القديمة في بنيتها الإيقاعية والتركيبية والدلالية،وكسرت نمطها الصارم وبنيتها من حيث المعالـم الشكلية،ونظام القافية والروي الموحد،وأسست لـشعر التفعيلة، الذي يتيح للشاعر آفاقا رحبة قادرة على استيعاب المستجدات والمعطيات الحضارية والفكرية والواقعية للعصر، عكس القصيدة الشطرية التي تقيد الشاعر بشكلها الهندسي الصارم - الذي لا يصح الخروج عنه- وتكبح أفكاره المحمومة بنموذجها الواحد.تقول نازك الملائكة مبررة دوافع تحرر الشاعر الحديث من الشكل القديم:"لقد وجد الشاعر الحديث نفسه محتاجا إلى التحرر من هذا النظام الهندسي الصارم الذي يتدخل حتى في طول عبارته،وليس هذا غريبا في عصر يبحث عن الحرية، ويريد أن يحطم القيود، ويعيش ملء مجالاته الفكرية والروحية"[2].بهذا أصبح شعر التفعيلة/الشعر الحر متحررا من الشكل الهندسي القديم، وحافظ الشاعر المعاصر فيه على الوزن والقافية لكي"يحقق بهما الشاعر نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه"[3]، ووظف السطر الشعري بدل الشطر الشعري، تماشيا مع نظرته الشعرية الخاصة، ودفقته الشعورية والوجدانية والعاطفية والتأملية، وأحدث رجّة لدى النقد المحافظ بعد إعلان التيار الجديد قطيعته الابيستيمولوجية مع القديم في مضامينه وهيكله العمودي؛ إذ أرسل المحافظون شواظا من نار على هذا المولود الجديد الذي يرنو إلى التحديث والمعاصرة استجابة للتحولات المعاصرة، فكانت المعركة أشرس من تلك التي أعلنها الرومانسيون العقاد والمازني على مَن سموهم "أصنام الشعر" الإحيائي:حافظ وشوقي والرافعي ..
ولكَ أن تعود إلى كتاب:"الشعر المتفلت"لعدنان علي رضا النحوي[4]، لتقرأ العجب العجاب، وكيف اعتبر الشعر الحر "شرا على دين الله ولغة دينه"، بل "فتنة وابتلاء من الله لعباده"، قال في إهدائه:"إلى كل من أغرته فتنة الزخرف الكاذب من الشعر المتفلت ليرجع إلى الحق"[5]، وقال في مقدمته: "والشعر المتفلت بالتفعيلة أشد خطرا على اللغة العربية من المتفلت بالنثر- يقصد قصيدة النثر - وكلاهما خطر شديد ومؤامرة على اللغة العربية"[6].
واعتبر الدكتور أن المثل الأعلى في الشعر هو نظام الشطرين الذي لا يحيد عن الوزن والقافية والروي، ولم يغادر صغيرة وكبيرة في الشعر الحر إلا هاجمها وندد بها، وكأني به نقد فقهي أو عاطفي وليس أدبيا ولا نقدا منهجيا! وما ذلك إلا لأنه ينطلق من الفكر المؤامراتي الذي يعتبر كل جديد في الأدب معولا لهدم الثقافة والدين واللغة .. إلخ ، وليت شعري ماذا يقول في أبي تمام وبشار وأبي نواس ومسلم بن الوليد وابن الرومي الذين التزموا بالقالب العمودي ولم يلتزموا بالمعاني التي تُصبّ فيه ..؟ وحتى الشعراء الذين وُصفوا بالزندقة والمروق، واتهموا في دينهم وطباعهم وثقافتهم كمطيع بن إياس، وحماد عجرد، و والبة بن الحباب، والحسين بن الضحاك، وأبان بن عبد الحميد، وصالح بن عبد القدوس .. التزموا بالقديم في شكله وتجاوزوه في أهم مقوماته وسُنَنه الشعرية، وأجادوا في مبناه وسبكه ومعانيه؟ وماذا يقول في شعر الرومانسيين إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران الذين نظموا على نظام الشطرين ونظام المقاطع وكان شعرهم جيدا، ولَمّا يكونوا مسلمين في عقيدتهم! ولو عاد إلى الشعر القديم سواء العباسي أو الأندلسي لوجده مفعما بالتجديد والأشكال الجديدة والمعاني الجديدة، عُدْ مثلا إلى أبي نواس في وثوبه على المقدمة الطللية وهي إحدى ركائز المنجز الشعري القديم، وانظرْ إلى التجديد لدى أبي تمام في حماسته الصغرى والكبرى، وابن المعتز في "البديع" وهو يؤسس لمنهج شعري جديد، ولا يخفى كذلك على الدكتور ما أبدعه شعراء الأندلس من جديد على مستوى الشكل، وما الموشحات والمخمسات والرباعيات والمزدوجات منا ببعيد، وحتى النقاد والبلاغيون القدامى – حينما نتحدث في جانب آخر مثلا عن مسألة الوزن- الذين شددوا في مسألة الوزن في الشعر كابن رشيق اعتبروه مجرد عنصر كباقي عناصر الشعر الأخرى، وذهب إلى أن الشاعر سمي شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استظراف لفظ وابتداعه ...كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة (راجع: العمدة)، وإذا تتبعنا شعر الأولين نجد أن بعضه أو كثير منه- سيما الجاهلي- لم يرد على ميزان الخليل وما تمليه قواعد الخليل في عمود الشعر.ولهذا فالشعر يعيش عصره، بأشكال تتلاءم ومتطلبات العصر ومضامينه، فكان لابد من"تطوير الإيقاع الشعري العربي وصقله على ضوء المضامين الجديدة.فليس للأوزان التقليدية أية قداسة"[7].
رواد الشعر الحر:
ومن أهم رواد هذا الاتجاه الشعري الجديد الأوائل نذكر: الناقدة والشاعرة العراقية نازك الملائكة بقصيدتها "الكوليرا"ومقدمة ديوانها "شظايا ورماد"، وكتابها المؤسس لعروض الشعر الجديد"قضايا الشعر المعاصر"،وبدر شاكر السياب في ديوانه "أزهار ذابلة" الذي ضم قصيدة حرة بعنوان"هل كان حبا"،بالإضافة إلى عبد الوهاب البياتي بديوانه"ملائكة وشياطين"، واتسعت دائرة هذا الاتجاه لتشمل صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، ومظفر النواب، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأدونيس، ويوسف الخال، ومحمود درويش، وخليل حاوي، وفدوى طوقان، ونزار قباني..وفي المغرب :عبد الله راجع، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد الأشعري، ومصطفى المعداوي، وأحمد المعداوي، ومحمد السرغيني، ومحمد بنيس..
· تكسير البنية وتجديد الرؤيا:
إن تكسير البنية القديمة لا يعني التمرد الكاسح والخرق الكلي لعمود الخليل، والخروج المطلق عن كل الأسس الإيقاعية للقصيدة الشطرية، وإنما يعني عدم التزام الشاعر المعاصر بتفعيلات محددة، وقافية موحدة، ومعجم يستدر معانيه من ضرع القاموس القديم، ونهجه نهجا إيقاعيا جديدا، رغبة منه لجعل القصيدة وحدة متماسكة، تعبر عن المضمون الفكري المرتبط بقضايا العصر، وإحباطات الإنسان المعاصر وعذاباته، فالشعر الحديث" لا يتقيد بعدد محدود من التفاعيل لكل بيت، ولا يلتزم بجميع أحكام العروض التقليدية، بل يسمح لنفسه بتنويع الإيقاع مجاراة لما يتطلبه المضمون الفكري والعاطفي"[8].
لقد سعى الشاعر المعاصر إلى تشكيل رؤاه الخاصة، في ظل المستجدات والقضايا التي يعرفها الواقع المعاصر، بآليات فنية وتعبيرية مختلفة وتراكيب جديدة، فأصبح الشعر رؤيا تتطور بتطور العالم، ومدى انفتاح الشاعر عليه، وإحساسه الشامل بحضوره فيه، موظفا رموزا وأساطير لتجسد مشكلات الشاعر، وقلقه والصراع العميق مع الذات والواقع البشري.
- الشكل الطباعي والهندسي للقصيدة الحديثة :
السطر الشعري: اتخذ شعر التفعيلة شكلا طباعيا جديدا يختلف عن الشكل الطباعي لنظام الشطرين، فاعتمد الشاعر أسطرا شعرية متفاوتة الطول والعدد، وظف فيها التفعيلة توظيفا مغايرا للقصيدة القديمة، يحقق الانسجام الإيقاعي بين الأسطر الشعرية، ويُخضع طول السطر الشعري أو قصره لطبيعة"الدفقة الشعرية" لديه. ومن أمثلة هذه الأسطر المتفاوتة نورد قصيدة"الآفاق" لعبد الوهاب البياتي:
سكتت وأدركها الصباح،وعاد للمقهى الحزينْ
كالسائل المحروم،كالحلزونْ
يتظر المساءْ
وغدا ستوصد بابها في وجهه،ويعود للمقهى الحزين
ولا يعود
كالسائل المحروم،ينتظر المساء"[9]
انبنت هذه القصيدة على بنية مفتوحة، يتفاوت فيها طول البيت بحسب التفعيلات، ويرتبط هذا التفاوت بالإيقاع النفسي للشاعر ودفقته الشعورية.
وقد لا يرتبط الشاعر المعاصر بنفس التقسيم الشكلي الذي عُرف به الشعر الحر، فيوظف كَالِيغْرَافاً قائما على توزيع الأسطر والكلمات وتجزيئها حسب الحمولة الدلالية للقصيدة، فتتفاوت الأسطر أو تتساوى لخدمة النسق المضموني الذي بنيت به القصيدة، لعل أبرز مثال، قصيدة لصاحب الشاهر بعنوان"قصيدة أخرى تأكل نفسها"[10] يقول فيها:
سيدي الحبّ أملى عليّ القصيدة مبتلةً بالرصاصِ فصحتُ:اخطئيني
سيدي الحبّ أملى عليّ القصيدة مبتلةً بالرصاصِ فصحتُ:
سيدي الحبّ أملى عليّ القصيدة مبتلةً بالرصاصِ
سيدي الحبّ أملى عليّ القصيدة مبتلةً
سيدي الحبّ أملى عليّ القصيدة
سيدي الحبّ أملى عليّ
سيدي الحبّ أملى
سيدي الحبّ
سيدي
فالشاعر هنا"أراد أن يرمز بالشكل للواقع المتآكل، فكان أن وظف الشكل متناقضا متآكلا، ليبرز تآكل المجتمع، أو تآكل المعاني والقيم فيه وشروعَ هذه القيم في التراجع.فلهذا جماليته الخاصة، حيث تنتج الدلالة بتوظيف الرمز للواقع على هذا النحو التشكيلي العجيب، الذي يُلمّح إلى إمكان جعل الشكل في ذاته، موضوعا شعريا من ناحية،وعنصرا دلاليا من ناحية"[11]
المقطع الشعري: يرتبط المقطع الشعري أساسا بالأسطر الشعرية التي تتألف منها القصيدة،إذ تتوزع هذه الأسطر إلى محطات أو مجموعة من الأسطر الشعرية المنسجمة فيما بينها، يفصل بينها الشاعر بعلامات، أو أرقام، أو عناوين فرعية، أو أشكال، أو نجمات، أو مثلثات، أو حروف، أو مربعات، أوبياضات، أوفراغات.. وتسمى كل مجموعة مقسمة مقطعا شعريا.وقد يتحدد المقطع الشعري بنواة دلالية توحد بين أسطره،أو جملة، أو عبارة معينة، أو لازمة تتكرر في بداية كل مقطع أو نهايته.ومثاله قصيدة"أرى شبحاً قادماً من بعيد"[12] من بحر المتقارب لمحمود درويش إذ يقول:
أُطلُّ، كشرفة بيتٍ على ما أريدْ
أُطلُّ على أصدقائي وهم يحملون بريدَ
المساء:نبيذا وخبزاً،
وبعض الروايات والأسطواناتْ ...
أُطلُّ على نورس،وعلى شاحنات جنودْ
تغير أشجار هذا المكانْ.
أُطلُّ على كلب جاري المهاجرِ
من كندا، منذ عام ونصف...
أطل على اسم "أبي الطيب المتنبي"
المسافر من طبريا إلى مصر
فوق حصان النشيدْ
أطل على الوردة الفارسية تصعدُ
فوق سياج الحديدْ
أُطلُّ، كشرفة بيتٍ على ما أريدْ
§
أطل على شجر يحرس الليل من نفسهِ
ويحرس نوم الذين يحبونني ميّتاً ..
أطل على الريح تبحث عن وطن الريحِ
في نفسها ...
أطل على امرأة تتشمس في نفسها ...
أطل على موكبِ الأنبياء القدامى
وهم يصعدون حفاةً إلى أورشليم
وأسأل:هل من نبي جديدٍ
لهذا الزمان الجديدْ؟
أُطلُّ، كشرفة بيتٍ على ما أريدْ
أطلُّ على شبحي
قادما
من
بعيد...