نبيل سليمان في "هزائم مبكرة" :
حكاية جلد الذات المبارك
حسين سرمك حسن
الحكي .. كعلاج : ولكن بعد أن تنخذل النفس البشرية وتتراجع منكسرةً ومقرةً بالرحيل الأبدي ، تجعل تلوب لاستعادة تماسكها والإلتفاف على سطوة الموت التي لا ترحم . تريد العودة إلى نشوة الشعور المغيّب بالخلود بفعل لاشعورنا الذي يحكمه قانون "التضاد الأولي – primary paradox " حيث يقرّ عادة بموت الآخرين ويُنكر فناءه الشخصي . يستميت الإنسان من أجل توفير سبل لـ "الخلود الرمزي" تداري هشاشته وقابليته على الإنجراح . والإنسان ــ أيّ إنسان ــ يعـبّر عـادة عن الحاجة لهذا الخلود الرمزي من خلال خمسة أشكال حسب تحديد (لفتون ، وأولسون) وهي :
1ـ الخلود البايولوجي ــ ويتضمن الإمتداد من خلال الأبناء والأحفاد (تأكيد ديمومة واستمرارية الخلايا الجنسيّة)0
2ـ الخلود اللّاهـوتـي ـ ويتضمـن الرمـوز الديـنيـّة والفـلسفيـّة لحيـاة مـا بعد الموت 0
3ـ الخلـود الطـبـيعي ــ من خلال ديمومة الطبيعة : (من التراب جئت والى التراب
ينبغي أن تعود)0
4ـ الخلـود الإجـرائي ــ و يتضمن شعور الفرد بالصـحة والسعـادة لكـونه حيّاً و يركّز على المشاركة الكاملة في كـلّ ما تمنحه الحياة والعيش بصورة أكبر في الحاضر 0
5ـ الخلود الأبداعي ــ الـذي يتـيح للبـشر الأمتـداد والـديمومة مـن خـلال الـفـن الأدب والأنجازات البارزة في حياتهم0
ويعتقد الباحثان أنّ كل هذه الطرز من الخلود الرمـزي تمنح الأنسان إحساساً بالأنتماء لمن سبقه ولمن سيأتي بعده ــ والأهم ــ هو أنـّها وسـائل للسـيطرة علـى القلق المتعلّق بالموت – death anxiety .
على المستوى البايولوجي ، كان يتراءى للراوي أن حياة خليل هي حياتهم التي لم تكتمل بموته (وأن نصري هو الذي سيكملها . ومن يدري ، فقد تكملها إبنتي الوحيدة أيضا – ص 19) .
إما على المستوى الإبداعي فيذكّرنا بالدرس الأول الذي جاء على يدي جدّنا العظيم جلجامش الذي ، وبعد أن سرقت الأفعى عشبة الخلود ، وتأكد لديه وبلا تردد أن نصيب الآلهة الخلود ونصيبه الموت حسب تعبير "سيدوري" ، ومعنى اسمها هو : الشباب الدائم ، قرّر أن ينتصر على الموت بالكلمة والحجر ، فأعلى أسوار أوروك ، وكلّف الشاعر بكتابة ملحمته : "هو الذي رأى كل شيء" . وبمرور الأزمان ، اندرست الأسوار وظلت الكلمة عصيّة على الفناء . وقد طلب خليل تحقيق ذلك السبيل بالكلمة . فـ :
(الحياة تُفقر وتفقد أهميتها حينما لا يتعرض للخطر أغلى ما في لعبة العيش نفسها من قيمة وهو الحياة نفسها . إنها تصبح مسطحة . إن روابطنا الوجدانية وشدة حزننا غير المحتملة تجعلنا لا نميل إلى جلب الخطر لأنفسنا ولأولئك الذين ينتمون إلينا . إننا لا نجرؤ على أن نفكر في القيام بأشياء كثيرة للغاية تكون خطرة ولكنها مما لا غنى عنه . ويشلنا التفكير في من سيحل محل الابن لدى الأم والزوج لدى الزوجة والأب لدى الأبناء إذا ما وقعت الكارثة . ويجر استبعادنا الموت من حساباتنا في أعقابه عددا من الاستنكارات والاستثناءات . ونتيجة حتمية لهذا كله يتعين علينا أن نبحث في عالم الرواية ، في عالم الأدب بشكل عام ، وعالم المسرح عن تعويض لإفقار الحياة وتسطحها ، فهناك لا نزال نجد أناسا يعرفون كيف يموتون ، بل هم في الحقيقة قادرون على قتل آخر . وهناك فقط يمكننا أن نستمتع بالظرف الذي يجعل في إمكاننا أن نروض أنفسنا على الموت – أي أننا ، خلف كل تقلبات الحياة نحتفظ بوجودنا دون أن يمحقه شيء . ذلك أنه من المحزن للغاية أن يكون الأمر في الحياة كما في لعبة الشطرنج ، حيث يمكن أن تؤدي حركة خاطئة واحدة إلى خسارتنا المباراة ، ولكن مع اختلاف هو أننا لا يمكننا أن ندخل مباراة ثانية في الحياة ، فلا مباراة إعادة ولا تعادل ، أما في مجال الأسطورة والرواية فإننا نكتشف ذلك التعدد في الحياة الذي نتوق إليه . إننا نموت في شخص بطل معين ، ومع ذلك فإننا نعيش بعده ، ونحن مستعدون لأن نموت مرة أخرى مع البطل التاريخي بالقدر نفسه من الأمان ) (5) .
هذا ما كان يطمح إليه خليل في طلبه من الراوي كتابة حكايته ، ولكن "أوالية الإنكار – denial" الإنتقالية عطّلت جهد الأخير :
(أربكني موته مثلما راح نصري يربكني . وحين طال ذلك ، سألني أن أحدّثه وأساعده ، فهو الذي سينفّذ الوصية . حسدته على شبابه ورحت أحاول . أخذت أتخفف من ارتباكي أثناء العمل .. صعب علي الأمر . خشيت أن يكون نصري محقّا – ص 19) .
وحين بدأ الراوي بتناول "حكاية" خليل ، كتبها بضمير الأنا المتكلم ، الأمر الذي أثار غيظ الإبن نصري محتجا بأن هذا النهج قد ضيّع أباه . وفي كثير من الأحوال يخضع اختيار الضمير السارد لعوامل نفسية أولاً ، وفنية وجمالية ثانياً . وقد يكون اختيار ضمير الأنا المتكلم من قبل الراوي هو – بدرجة كبيرة - بضغط قلق الموت الذي استثاره رحيل خليل ، واستفز الإحساس المكبوت بالفناء في أعماق الأول . وفنّيا فإن المُمتحَن الأساسي كشخصية ترتبط بها الحكاية ، وهو خليل سيُزاح كثيرا عن مركزها الملتهب حين يصبح ضميرا "غائبا" بالتأكيد . وهي معضلة فنّية كبيرة . فحين ينبري الراوي – الذي جعلنا الروائي لا نعرف من هو أو ما هو اسمه حتى الآن – ليحكي حكاية خليل بصوته – ضمير الأنا – فهي حركة تعزز المصداقية "الخارجية" في رصد الحوادث وتحليلها بعين "محايدة" . لكن هذا سيفقد الوقائع حراراتها "الداخلية" التي لا يعرفها غير خليل نفسه . فوق أن صوت الراوي السارد بضميره قد يكون منسربا للتحاملات والإنحيازات التي هي من سمات النفس البشرية الأصيلة ، فالإنسان ليس كائنا منطقيا بل هو كائن تبريري :
not rational , but rationalized humanbeing" "
وهو من المكتشفات الثورية للتحليل النفسي :
(فقال [= نصري] إن أباه قد ظهر على يدي مصابا بوساوس لا حصر لها ، وعدّ من ذلك وسواس الوحدة أو عبد الناصر . وحاجّني في أن أباه كان ضد عبادة الفرد ، وأنه لم يكن مأخوذا بالوحدة ، أيّة وحدة . وأكّد أنه يعي أكثر منّي إلحاح أبيه على الحريات جميعا . من المظاهرات إلى العشق . وأشار أيضا إلى وسواس النساء والإيمان – ص 19) .
وهذا التوقع السالب نفسه يصحّ في أي نظرة تراجعية تنظر إلى الماضي بعين الحاضر سواء من قبل الأشخاص الذين صنعوا الأحداث أنفسهم كخليل والراوي مثلا ، أو من قبل الجيل اللاحق ممثلا بإبن خليل : نصري ، وإبنة الراوي :
(نصري هو الذي سيكملها . ومن يدري ، فقد تكملها إبنتي الوحيدة أيضا . ثم ، إنهما وهما يفعلان ، قد يعيدان تشكيل كل شىء من جديد : ليس المستقبل وحسب ، بل الماضي كذلك – ص 19) .
وهناك عامل "المنظور" الذي لا تحدده عوامل فنية حسب بل عوامل نفسية تتعلق بشخصية السارد أيضا . فحين يحاول نصري "كتابة" سيرة أبيه علينا أن نضع في حسابنا السردي مرحلته العمرية الضاجة بالحماسة والإندفاع ، والظروف الملتهبة التي تحيط به ، وطبيعة نظرته إلى خسارة أبيه وعلاقته السابقة به . وستؤثر في هذه العملية حتما طبيعة مواقف الأب وصلتها بمراحله العمرية التي سيكتب عنها الإبن . لقد كان الإبن يختلف مع أبيه على أمور "متفق" عليها كما بيّنا قبل قليل ؛ أمور تجري في الحاضر ، فكيف سيحكم الإبن على أفعال جرت في ماض يمتد لثلاثين عاما ولم يكن طرفاً فيه ؟ وأمام حماسة نصري ورفضه : (تذكّر الراوي كلام خليل عن الشباب . حاولتُ أن أشرح لنصري كيف أن هذه الأمور هي التي تجعلني أفهم اليوم كلام أبيه عن العمر الذي ينزف قطرة قطرة . قلت له إنك تصوّر ما آل إليه أبوك ، لا ما كانه في مقتبل العمر ، وأنا ما كتبت إلا عن ذلك . أنا عاجز عن أن أتابع ، الآن ، وقد أفعل ذات يوم . ورجوته أن يعينني على نفسي ، كما رجوت جميلة ويوسف والآخرين جميعا أن يعينوني عليه – ص 20 ) .
ونحن هنا لا نستطيع الحكم على مصداقية أيٍّ من الموقفين : موقف الراوي أو موقف نصري ، إلا بعد أن نُكمل تحليل الرواية كاملة لكي توضع أفعال وأفكار كل شخصية ضمن شبكة العلاقات التي سيضمها الإطار الكلي للنص . ولا أعرف لماذا استوقفني مفهوم مصطلح "النص" هنا بين اللغتين الإنكليزية والعربية . فضمن إستقبالاتنا المشوّهة لمعطيات موجة الحداثة ، البنيوية خصوصا ، والتي ماتت في الغرب كمدرسة عام 1966 وأحياها نقادنا الأشاوس في نهاية السبعينيات واعتبرها جابر عصفور "فتنة" – فقد روّج البعض لمبدأ "العنوان ثريا النص" و"الإستهلال مفتاح النص" في حين أن كليهما : العنوان والإستهلال ، قد يكونان مُربكين ويحملان دلالات مناقضة تماما لما سنواجهه من معان بعد إكمال النص . فعنوان "المئذنة" لإحدى قصص المبدع "محمد خضير" قد يوحي بمضمون ديني أو صوفي مثلا في حين يتحدث النص عن مومس تشتاق للعودة إلى مبغاها بعد حياة زوجية "نظيفة" باهتة . وغير ذلك الكثير . ولو أخذت استهلال رواية نبيل سليمان هذه (عرفت هذا الرجل منذ ثلاثين سنة .. ) إلى (طرد منذ فترة من مرفأ اللاذقية – الصفحة الأولى من الرواية) ، فسوف لن يوحي لك إلا بخصائص عامة لشخصية تدمن الهموم لأي سبب . ولكن الصورة ستتغير قطعا وبصورة جذرية حين نمضي مع السارد ، وخصوصا بعد أن نكمل قراءة النص . وكلمة النص – text الغربية تعني "نسيج" أصلا ، سطح متساو ، وأجزاؤه متساوية الأهمية . أما في اللغة العربية فالجذر "نصص" يتضمن سمة مكملة وفارقة في الوقت نفسه ، هي البروز والعمق (نصّت العروس برزت على المنصة .. ويقال : نصَّ فلاناً : استقصى مسألته عن شيء حتى استخرج كل ماعنده ..) وغيرها . وهذا الفارق يذكّرني أيضا بالفارق في مصطلح الشخصية في الثقافة الغربية والعربية . فالشخصية لديهم personality مأخوذة من persona ، وهو القناع الذي كان يضعه الممثل الإغريقي على وجهه عند ظهوره على المسرح . أما في العربية فإن الشخصية من الجذر "شخَصَ" وتعني البروز والإرتفاع والظهور . وعليه يجب على الكاتب أن "يُبرز" ما يتضمنه نصّه ككل ، ويغوص في أعماق موضوعه بصورة كلّية سواء كان عنوانا أو استهلالا أو متناً . ويتضح هذا الفارق بدرجة واضحة في عبارة الختام/ الدعوة التفاؤلية التي يقولها الراوي والتي تنطوي على معاني الإنكار أيضا :
(لا ، إن خليل لم يمت ، واليقين بحياته يملؤني ، فكيف أكتب عنها من ألفها إلى يائها وهو حي ؟ حسب المرء يا نصري أن يكتب شطراً من حياة الأموات ، فكيف الأحياء ؟ ومهما يكن من الأمر ، فهذا ما بوسعي ، ولعلك تفعل ما عجزت عنه ، مثلما سوف تفعل ما عجز عنه أبوك .
ألم يكن ذلك حلمه الكبير بك ، وبكل شاب وشابة ؟ - ص 20).
وقد انتهينا الآن بموقف نفسي متعاطف من الراوي تجاه خليل يغاير الموقف شبه المستهجن في الإستهلال ، والذي وقفه الراوي من خليل كمدمن هموم ، والذي تصاعد في الصفحات التالية لينطفىء تدريجيا مع موت خليل وبعده .
ولا يمكن فهم أي جزء من أجزاء هذه "الهوامش" في الحكاية من دون تحديد موقعه في شبكة دلالاتها ، هذه الشبكة التي يجب أن "تبرز" كلها ؛ أن "تنص" على منصة القراءة بقوة وكمال مؤثر ، وأن لا يكتفي المتلقي بالوجه الظاهر من دلالات النص بل عليه أن يقلّب متنه على "وجوهه" المختلفة ، مثلما على الكاتب أن يتناول ثيمته من أكثر من جانب ووجه . ألهذا كان التكرار بارزا في النصوص العربية – وحتى في النص القرآني – القديمة وخصوصا في سيدة الحكايات ؟!
وفي هذا المقطع الختامي أيضا ، نلاحظ تلك الإنتقالة الهادئة والذكية من قبل الروائي من ضمير الغائب في الفقرة السابقة ، وهو يتحدث عن نصري بضمير الغائب (قلتُ له .. ) – ومن دون أن نشعر كمتلقّين – إلى ضمير المخاطّب (حسب المرء يا نصري .. ) . وأعتقد أن تغييب انتباهتنا – وهذا فعل تلقائي لدى المبدعين الكبار – قد أسهم فيه إشغالنا من قبل الكاتب القلق بلعبة الحياة والموت .
# تلك هي اللاذقية :
وفي الفقرة الأولى من الفصل الأول اللاحق (ص 23) يبدأ السرد بضمير المتكلم أيضا :
(تلك هي اللاذقية !
التقيتها أول مرة حين قدمتُ مع يوسف وآخرين لتقديم طلبات الإنتساب إلى الثانوية الصناعية ، وتدبير السكن – ص 23).
فنعتقد أن الكاتب قد جعل راويه الأول يواصل الحكاية التي بدأها في الهوامش . لكن سيتضح لنا بعد قليل أن الدور السردي قد أُسند الآن إلى (خليل حمدان) وبلسانه . لقد اقتنع الراوي الأول بأن صاحب الحكاية هو "الأحق" بسردها . ولا هو ، ولا الإبن نصري لهما الحق في أن يحلّا محلّه . ومنذ الصفحة الأولى من هذا الفصل يكشف الراوي (خليل الآن) عن بنية شخصية مهتزة هي بنية مراهق في ذروة سني مراهقته التي تحفل عادة بتضاربات من الإنفعالات والمشاعر الهائجة التي تبحث لها عن "موضوع حب" ، وتقلبات في الإختيارات الفكرية والسلوكية التي تكون بعيدة تماما عن الإيمان المستقر على قاعدة الفحص الواقعي الهادىء والعميق والمراجعات العقلية النقدية المحسوبة . تأتي الأفكار والعقائد لتشبع الرغبات المُحبطة وتنعش المشاعر النرجسية من ناحية ، ولتعزيز الإحساس بالهوية والوحدة من جانب آخر . في هذه الأعمار يكون الفرد في حالة قلق من "التهديد" الذي يأتي من الداخل بفعل ضغوط الغرائز المكبوتة ، "المحارمية" خصوصا ، ومن "الخارج" من التابوات التي يشعر بأنها تقف عائقا أمام تحقيق تفرّده واستقلاليته . لكن بالمقابل هناك قوى شد تقابلها قوى جذب (خلع) تتواجه بضراوة . فهو يشعر بقسوة تراخي روابطه الطفلية بالأنموذج الأمومي خصوصا ، وتمظهراته من بيت وأرض ومرابع طفولة وصداقات وصلات عائلية ، مثلما يقف بمشاعر متضادة تجاه عوامل تشده وتجذبه لتأخذه نحو الخارج حيث فضاءات أكثر سعة ، وعلاقات أشدّ تنوعاً تدغدغ مكامن الحرمان ، ولكن لا يمكن أن يطمئن إليها بسهولة إلا بعد "تدريب" طويل وتعوّد و "تحضير" للإنفصال . وأغلب هذه المشاعر جمعها الكاتب في حزمة أفكار متزاحمة كانت تتطاير في ذهن خليل في ليلته الأخيرة وهو يودّع طرطوس نحو اللاذقية ، وكأنه سيقوم برحلة من رحلات السندباد البحري المليئة بالمخاطر :
(حين دخلت السيارة إلى المدينة أفقت مما بي مجفلا . تلك البداية لم تكن تريد أن تنتهي . تارة كان يبدو أنها تنطوي سريعا فأخلد ، وغالبا كانت تبدو قاتلة ببطء ، فتستفز وتُؤرّق . إنها الليلة الأخيرة في طرطوس . كنتُ أترقب تلك الوحدة بشوق متعاظم ، وبقلق متعاظم أيضا . أمّا الآن ، فقد استبد القلق بالوحدة ، ولا أحد يدري متى يطلع الفجر ، ولا كيف يكون .
كان الحلق يغص كلّما جالت عيناي في انحاء الغرفة على هدي الضوء الواني المتسلل من الشارع . تجتمع عليّ الغربة القادمة ، تلك اللاذقية التي ستهلّ في الصباح ، موت الجدّ بالأمس القريب ، أيام طرطوس الهنيّة ، لا ، أيام الدريكيش الآمنة المديدة ... وثمة ، في الركن القريب ، الحقيبة التي سترافقني غداً . إنها كل ما سيتبقى لي من هذا البيت . و .. سعاد .. أتراها حزينة عليّ الآن ؟ غدا ؟ ولمَ أشعر بالغبطة إذ أتيقن من أن ذلك سوف يكون ؟ - ص 23 و24).
وقد يندهش المتلقي الراشد من سماع تداعيات واستعادات وأفكار حاضرة متضاربة من شخص سينتقل من مدينة إلى أخرى في بلاده نفسها . لكن هذا أولا حال الناس وخصوصا من صغار السن آنذاك حيث لم يكونوا يتركوا قراهم أو مدنهم الصغيرة إلا في مراحل التحول الحاسمة من حياتهم دراسيا أو مهنيا وأحيانا اجتماعيا . كما إنها ردّة فعل طبيعية من مراهق يستثير لديه هذا الإنتقال مشاعر "قلق الإنفصال – seperation anxiety" الكامنة فيعمل من "الحبّة قبّة" كما يقول المثل العامي . ودائما تتوزع هذه الأفكار متداعية وحاضرة على محورين أساسيين : الإرتباط الأمومي بتمظهراته المختلفة شخوصا وأماكن وعلاقات ، و"موضوعات الحب" المبكرة خصوصا ، والتي غالبا ما تكون بدائل للموضوع الأول الأثير . يتذكّر خليل أيام مكان طفولته الحاني الصغير "الدريكيش" وذكرياتها وحضورها الذي صار حقيبة الآن ، و "سعاد" التي كانت تسكن الغرفة الملاصقة في طرطوس أيام الدراسة الثانوية . كان يشعر بنوع من مشاعر النقص تجاه منافسيه على قلبها خصوصا زميليه : يوسف ومنصور ، فكلهم أكبر منه سنّاً وحجماً . وحوض سعاد المُرتج يذكّره بحوض "أم قاسم" . وأم قاسم زوجة أبيه الذي كانت تعصف به الإنفعالات المحارمية تجاه جسدها الممتلىء ونهديها المترجرجين .
وكل تلك المشاعر تأتي مضخّمة عادة ومفعمة بالإنفعالات الصاخبة ويختلط فيها الواقع بالخيال . والأخير يتكفل بـ "الإخراج الدرامي" المؤثّر للحكاية . هو نفسه يشعر بهذه الخلطة وهو يودّع طرطوس :
(أعزّي النفس بتلك الأسرار تختلط عليّ في الليلة الأخيرة ، فأتوه بين ما كان منها حقاً وما أتوهمه ، فأي عزاء يا سعاد ! (..) إنها الأخيلة والأوهام التي ملأت أيامي ، وها هو ذا كل شيء يفلت من أصابعي اليوم على أبوابك أيتها اللاذقية - ص 25) .
والغريب أنه لم يوافق على عرض صديقه يوسف بمرافقته إلى اللاذقية ، وقرّر "الإعتماد" على نفسه بالوصول إلى المسكن الجديد ، ليخيّب ظنّ يوسف الذي كان يعتقد أنه لن يستطيع الحضور إلى اللاذقية بمفرده (ص 26) . إنها حساسية هذه المرحلة العمرية الفائقة .. أفكار رجل وسلوك طفل .. رؤى قدّيس وأفعال شيطان . ومن بين أهم الخصائص السلوكية الجنسية الشيطانية هي السمة "التبصصية" . في طرطوس كان يتبصص على صدر سعاد وحوضها .. والآن في اللاذقية ، وقد دخل بيت أم محمود للسكن في غرفة سبقه إليها يوسف ، ها هو يتلصص على ظهر "مجيدة" إبنتها وانحناءاتها في الحديقة الصغيرة .
# النزوع المحارمي ومصائد اللاشعور الماكرة :
إنه إنهواس بالبلوغ المبكر الذي يعكس فورة الجسد بيولوجياً وفورة الهرمونات فسيولوجياً واستئساد الغريزة الجنسية نفسياً . وفي العادة ، ومرافقة لكل ذلك ، تشتعل في الأعماق معضلة موضوع الحب أو موضوع الإشباع البديل . وفي أغلب الأحوال ، وفي كلتا الحالتين ، يكون هذا الموضوع مرتبطا بشكل ما بالموضوع الأول : الأم بصورة مباشرة أو غير مباشرة . وبالنسبة لخليل فقد كانت المعضلة شائكة ويسيرة . يسيرة لأنها قريبة وتتضمن نوعا من التحفّز الثأري في العلاقات بين أطراف المثلث الأوديبي ، وشائكة لكونها مرتبطة بموضوع أمومي برغم كونه منافسا وبديلا للأم الأصلية المتعبة الكسيرة ، ومفضّلا من قبل الأب المتسلط . لقد كان ممثلا في "أم قاسم" زوجة الأب التي أبعد الوالد ، بسببها ، أم خليل وأخواته إلى القرية منذ الأيام الأولى في "بقعو" مقر عمل الوالد الأخير :
(لا أحد يدري كيف صارت أم قاسم تؤويني في سريرها ، كلما قضى الوالد ليلته خارج البيت كانت تلفني ، أجل ، وأدفن رأسي في صدرها الدافىء الكبير، وأغفو مطمئنا ، خدِراً ، ثم صرتُ ألفّها ولا أنام . صرتُ أتمنى أن يغيب الوالد كثيرا ، وأن تطول ملاحقته لأعداء الحكومة ، وأن تدعني أم قاسم أداعب ذينك الثديين اللذين يملآن وجهي ، مثلما كنتُ أفعل مع نعيمة قبل مجيئنا إلى الدريكيش . صرتُ أصحو في بعض الليالي على توتّر حاد يجتاحني ، فأدير عيني في الظلمة ، أشتعل وأغفو : أين المفر ؟ - ص 32 ) .
وكانت أم قاسم طرفا في ما اسمّيه "مصائد اللاشعور الماكرة" . كانت تأويه في سريرها وهو في عمر قريب من عمر الرشد والشباب . قد تكون قامت بذلك تحت دافع "الأمومة" ، وهي ذات محاذير حين تجري تجاه مراهق هو إبن زوجها . وهذه هي مصائد اللاشعور الماكرة التي تبدأ مشوبة بما يشبه اللعب .. بريئة ولا مقصد لها غير "أداء الواجب" . أم بديلة وحيدة – زوجها غائب وقتياً – وأمامها إبن ضرّتها فتريد أن تثبت حبّها له وتمسخ الصورة النمطية الشائعة عن زوجة الأب "الميدوزا" ، فتحاول أن تُبدي له أقصى درجة من "الحنان" و"الحب" فتحتضنه في سريرها الدافىء الملىء بالشياطين ، هو المراهق ذو الرغبات الجنسية المشتعلة الباحثة باستماتة عن الإرتواء والإشباع :
(لا ، لستُ مسؤولا عما جرى . لماذا صارت أم قاسم تؤويني في سريرها ؟ ولكن لماذا صرتُ أسعى إلى ذلك أيضا ؟ كيف عرفتْ هذه اليد سبيلها إلى ذينك الثديين ؟ لماذا كانت تدعني ألهو بهما حتى أغفو ؟ - ص 33 و34 ) .
ونعلم مقدار الحساسية التس تلتهب في نفوس المتلقين حين يتحدث التحليل النفسي عن الدوافع المحارمية التي يبدو أنها راسخة ومتأصلة ، ولذلك يتطلّب ردعها قوانين صارمة ولا تلجمها نواهٍ دينية أو تابوات اجتماعية . عبّر عن ذلك جيمس فريزر صاحب الغصن الذهبي أبلغ تعبير وأدقّه :
(إننا لا نرى جيدا ما الذي يحيج غريزة متأصلة إلى أن تعزز بقانون . إذ ليس هناك من قانون يأمر الإنسان بالطعام والشراب أو ينهاه عن وضع يديه في النار . والناس يأكلون ويشربون ويبعدون أيديهم عن النار بصورة غريزية خوفا من العقوبات الطبيعية . وهذا الذي تحرمه الطبيعة وتعاقب عليه ليس بحاجة إلى ان يعاقب بقانون . ولهذا فنحن نستطيع أن نقبل بلا تردد أن الجرائم الممنوعة بقانون هي حقا جرائم يرتكبها بسهولة كثير من الناس بحكم الميل الطبيعي . ولولا وجود الميول السيئة لما وجدت الجرائم ، ولولا وجود الجرائم لما كانت هناك جدوى في منعها.
وهكذا فأننا بدلا من أن نخلص من التحريم الشرعي لإتيان المحارم إلى وجود كراهية طبيعية يجب علينا بالعكس ، أن نخلص إلى الإعتراف بوجود غريزة طبيعية تدفع إلى إتيان المحارم . ولئن كان القانون يحرم هذه الغريزة ككثير من الغرائز الطبيعية الأخرى ، فذلك لأن الناس المتمدنين شعروا بأن إرواء هذه الغرائز الطبيعية أمر موذٍ من وجهة النظر الاجتماعية ..) (6) .
ويقف لاشعور الكاتب المتواطىء خلف "زلة" تعبيرية يزعم فيها خليل المراهق أنه صار يبيّت الإلتصاق بزوجة أبيه (فأسهر مغمضا حتى أتيقن أنها قد أغفت – ص 34) .
ولا نعلم هل إن غفوة المرأة ستعفيها من الإنتباه للأصابع التي تداعب ثدييها ؟!
لكن شيطان خليل صار أكثر جسارة ، وشيطان اي مراهق هو كذلك فعلا ، لا يقنع بجرع محسوبة على الدفء الأمومي المشروع برغم أنه حتى الرضاعة البريئة في المرحلة الفمّية تشبع نداءات الجوع والغريزة مجتمعة. إنه نهم لا يبغي أقل من الإشباع الكامل . لكنه إشباع محرّم سينهض الرقيب/ الأنا الأعلى ضده بحزم رادع:
(وزادت جرأتي ووساوسي . صارت أم قاسم تتململ وأنا ألتصق بها ، فأجفل وأهجع . صرتُ اكتفي بهدأة قصيرة لأعاود سعيي إلى تلك اللذة المبهمة . لكنها أفاقت ذات ليلة تستعيذ من الشيطان ، تتلمس قميصها ، تشتمني.. فطرت إلى غرفتي ، وأطبقتُ الباب لا أرين : أين المفر يا خليل ؟ تعوّذ أنت من الشيطان الرجيم ، لا كابوس أم قاسم ولا سواه ، لا الدريكيش ولا طرطوس ، ومن يدري ، فقد تكون اللاذقية أدهى ! - ص 34 ) .
# المراهقة السياسية وجنون التماهي :
في اللاذقية وجدوا عالما جديدا مغايرا يختلف عن عوالم قراهم . هناك تعرّف خليل على إبراهيم جعفر وعلي نصّار وطلال غانم ، وكلّ منهم ستكون له "عقيدة" سياسية مميزة و"مواقف" سياسية محددة تتبعها وتؤثر حتى في علاقاته الإنسانية الحميمة . وهناك تجلّت أولى أزماته : الحاجة الملتهبة إلى غطاء الجماعة للهروب مما يلاحقه ويتربص به من "أخطار" الماضي ؛ أخطار هي اللاشيء في حساب الوعي النفسي والإجتماعي المباشر للتهديدات ، ولكنها على مستوى حسابات اللاوعي تمثل تهديدات "المكبوت" أولا , وذيول أفاعي "الخطايا" اللائبة ثانيا ، والتي يخشى انفلاتها من عقالها وتجدّد مطالبها التي لا تعرف تعطيلا في وسط جديد لا يعرف كيف سيرتّب لها منافذ جديدة – إلتفافية عادة – فيه ثالثاً :
(وكان ثمة ما يدفعني دفعا نحو الآخرين ، كأنّما أفرّ من شيء يلاحقني ، قريب تارة ، بعيد تارة ، هو من طرطوس أو من الدريكيش ، وربّما أبعد من ذلك ، ربما كان من القرية أو من جدّي ، من أم قاسم أو من أمّي ، ولم أكن أعود إلى الغرفة إلا منهكا ، وسؤال يوسف ينتظرني : أين تذهب كل هذا الوقت ؟ - ص 35) .
كان يوسف يهرب من المدرسة (الثانوية الصناعية) إلى الورشة ، في ما يهرب خليل مع طلال وإبراهيم وعلي إلى الكورنيش ، وإلى ثانوية البنات ، للتحرّش بالفتيات (ص 36) .
وحين يفرغون من معاكسة الفتيات : (صار طقس المرور بثانوية البنات يوميا .. يدورون حولها حتى تحل الدقائق الأخيرة قبل الثامنة ، فتدفعهم نحو مدرستهم دفعاً -ص 43) ، يتفرّغون لـ "الهمّ" الأكبر المفارق العجيب الذي لا ينسجم أبداً مع هذا السلوك الطفولي أو المراهق . ولكن لمَ العجب وأغلب الأنشطة البشرية كما قلنا ينسرب فيها الدافع الجنسي الماكر . كان خليل يشارك يوسف ومنصور اللغط السياسي ويذكر عبد الناصر والقرارات المتتالية التي ترفع من شأن التعليم الصناعي (ص 36) .. (وكنتُ أدور مع الآخرين كل ليلة في الدريكيش حتى تكل أقدامنا ، نحمل صور عبد الناصر بالبذلة العسكرية ، نغني ، نصرخ ، ننط – ص 37) .
ومن عاش تلك المرحلة الغليانية الرهيبة سيتذكّر أنه كان هناك بين ابناء ذلك الجيل نوعاً من "جنون التماهي" مع عبد الناصر . كان عبد الناصر أول "إبنٍ" يتصدى للعملية العبورية الفاصلة الممثلة بـ "قتل الأب" ، والتي أُجهضت قبل اكتمالها . كان "الأخ الأكبر" الذي اجترأ على المهمة المستحيلة التي أقضّت مضاجعهم طويلا . وكان الأنموذج الذي تتحصّن وراء عملية الإقتداء به نفوسهم الهشّة الجريحة (7) . ولكن في ثنايا تلك العملية التقمّصية الصاخبة انسربت أول حالات التناقض المقدّرة بيولوجيا ، والتي اشتعل جنون التماهي في جانب منه للتستّر عليها . ففي الدريكيش ؛ في تلك المرحلة المبكرة طفحت صارخة التناقضات بين "المضمون" البنائي التلقائي كمرحلة عمرية بيولوجية حاكمة ، وبين "الشكل" المظهري السلوكي "الإصطناعي" .
يبدو هذا التناقض في جانب منه في حكاية خليل مع "سميرة" التي كانت تجلس قبالته في الصف الثانوي ، والتي كانت تعلَقْ بها الأعين والأنفس ، ولاحقته صورتها حتى في اللاذقية حتى صار يتخيلها في وجوه بنات الثانوية هناك . كانت كبرى بنات الصف ، وكانت تتقدّم الطلّاب في كل مظاهرة . تهتف بصوت رنّان وحناجر الطلبة تلتهب وراءها :
(في خريف الـ 56 هتفتْ ، ضد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وأمريكا . هتفت ، وكان الراديو يصدح : الله أكبر فوق كيد المعتدي . كان صوتها يكاد يغطي على صوت الراديو . في خريف الـ 57 ملأتِ الفضاء : من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبّيك عبد الناصر – ص 45 ) .
وكان أقران خليل يحسدونه لأن هذه "القائدة" تجلس قبالته في الصف . ثم ورّطوه في فعلة طفولية شنيعة هي سقطة أخلاقية بكل المعاني لكنها من أفضح الدلائل على سيكولوجية هذا الجيل . فقد قرّروا [= الذكور من طلبة الصف] أن يتبوّلوا على كراسي البنات اللائي أعفاهن مدرس التربية الفنية من الحضور . كانوا قد استلوا آلاتهم وشرعوا بالفعل المنكر . لكنهم لم يستطيعوا إطلاق قطرة واحدة . كان خليل ينظر إليهم مترددا وهم يصفونه بالجبان الذي لم يحاول . فانبرى لهذا الفعل القبيح واستطاع إنجازه . تبوّل في درج المقعد وسال البول على البلاط . كان عقابه ضربا مبرّحا من الأستاذ وفضيحة مدوّية أمام الأولاد والبنات .
هؤلاء البوّالون في الصف الدراسي وقرّاء أرسين لوبين ، كانوا هم الذين يتصدّون ، في الشارع "السياسي" للتظاهرات الصاخبة ، ويدعون لإسقاط مؤامرات الإستعمار والصهيونية والتحقيق الفوري للوحدة العربية .
ومن المهم أن نتّقي أي إساءة فهم تجعلنا نُعدّ ممن يسيئون فهم أبعاد الحركة الثورية آنذاك ، أو يقومون بمراجعة إدانة لها تحت غطاء التحليل ، فنقول إن مثل هذه الظواهر حفلت بها الحركة الثورية العالمية في الشرق والغرب ، ووصلت ذروتها في ثورة الطلبة في فرنسا عام 1970 ليبدأ الإنحدار الثوري والصعود الإمبريالي في الغرب ، والديني تحت شتى الأغطية في الشرق ، موظّفا خيبة الحركات الثورية ومستغلا حاجة الشباب الجامحة إلى بديل منقذ . لقد تصدى قطاع الشباب في كل العالم وخصوصا العالم الثالث لحركة التغيير في بدايات القرن العشرين . ولعل سمات شباب الجيل الوجودي العابث والمتمرد قد انتقلت إلينا من فرنسا خصوصا في الخمسينيات والستينيات متفاقما بعد دمار الحرب العالمية الثانية . وقد عكست ذلك الأدبيات السردية المعروفة . لكن في الوطن العربي حصلت ظاهرة مميزة هي هبوط معدّل أعمار الشباب المشتغلين في السياسة الثورية ليصل مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة حيث يفخر بعض السياسيين والمناضلين بأنهم سُجنوا سياسيا وعمرهم لم يتعد الثالثة عشرة (الشاعر العراقي علي الشباني سجن بتهمة الشيوعية في سجن الحلة مع الشاعر مظفر النواب وكان عمره ثلاثة عشر عاما) . ولم تكن هذه حالات استثنائية . لقد كان بناء الطبقة المتوسطة في بداياته في الوطن العربي ، وكانت الشريحة التعليمية هي الأشد حضورا والأكثر وعيا والأوسع تركيبا والأكثر تأثيرا وظيفيا . ومن الطبيعي أن نتوقّع أن يكون هذا الجيل المراهق قد احتلّ مساحة كبيرة تتناسب مع حجمه ونشاطه في المجتمع . وسنتوسّع في طرح مبرّرات نظرتنا بعد قليل . لكن علينا ألّا نتهاون أبدا في طرح التحليل الموضوعي بروح تعرّضية واقتحامية مثل الروح الذي ساق الروائي الجسور على الأقل . وعليه لن نتردّد في القول إن خليل "السياسي" كان أشد ما يعاني منه بعد وصوله اللاذقية ليس آمال الأمة ومعضلاتها حسب ، بل احتباس الغريزة الجنسية أيضا وبدرجة تفوق الهمّ الأول . ومن أول علامات ضغوط الغريزة واحتباسها المضني هو اضطراب النوم ، تقطّعه ، وكثرة الإستيقاظ ، وكأن الفرد يبغي إنجاز شيء ما أو البحث عنه هائماً مهتاجا . والأكثر تكرارا وإيلاما هو : الأرق خصوصا . يبدو النوم وكأنه مصيدة . وتحمل كلّ إغفاءة خطر انبثاق شياطين المكبوت من ظلمة اللاشعور في صورة كوابيس أو صور محارمية . هذا الأرق كان خليل يعاني منه كل ليلة ، في حين كان يوسف – المتصالح مع ذاته ظاهريّا على الأقل - يغطّ في نوم عميق بسبب الإرهاق واستنزاف طاقاته في الورشة :
(ولكن لكلّ ليلة ما يملؤها . ماذا بوسعي أن أفعل ؟ كلّ ليلة أجد نفسي في شرك ما . وربّما كنتُ قد نهضت من فراشي مرارا ، وربما غفوت أو حلمت أو كبسني الكابوس ففتحت عيني – ص 36).
يمتزج ضغط الغريزة الوحشي بضغوط الإنفصال الحديث ومتطلبات التكيف مع عالم جديد ، فهو مشدود إلى الخلف ولا يستطيع الإفلات للتعامل مع المكان الجديد ، ولهذا يشعر بقلق باشط يعيق تكيّفه مع المحيط الجديد : (يعلو حاجز موجع بيني وبين اللاذقية – ص 36).
كان الإنشغال بالغريزة الجنسية في مقدمة إنشغالاته ، بل هو الأول فيها ، وينسرب في ثنايا الأنشطة الأخرى مهما كانت "براءتها" أو مظهرها الحياتي "المحايد" الذي قد يبدو بعيدا عن الجنسية :
(طرطوس ليس فيها مبغى ، ومنصور يؤكّد أن في اللاذقية مبغى كبيراً منذ أيام فرنسا . العود يتلوى، السرير مغمور بالصور التي تناوش الأيام ، تتصدى لقطرة ماء ، تنسحب قطرة بين اليقظة والمنام ، تهدأ النفس ، تنشط متلذذة ، ترتسم قطرة الماء في سعاد ، قي أم قاسم ، في كثيرات بلا أسماء تفور بهن الروايات والأفلام ، يرتجف العود ، يرتد أسوأ مما كان – ص 34).
# حكاية خليل هي حكايتنا جميعا :
وحين نركز بدرجة كبيرة على شخصية خليل فليس لأن الحكاية "حكايته" هي حكايتنا فحسب ، بل لأنه – وأعتقد أن هذه فكرة الكاتب الأساسية و "فلسفته" – خلاصة خصال وأنموذج جيل كامل لعب الدور الأساس على ساحة الحياة العربية على شتى المستويات ، وخصوصا في الجانب السياسي الذي تحكّم بدوره ببقية أوجه الحياة في المجتمع العربي .
لقد انحدر خليل من بيئة فلّاحية حاله حال أغلب ابناء جيله ، وقد أثقلت كاهله ، وبصورة مبكرة ، عوامل ضغط نفسية واجتماعية ، ضاعفت ضغوط مرحلة نضجه القلقة . لقد كانت الصراعات والشجارات دائمة بين والديه خصوصا بعد أن تزوج أبوه بامرأة أخرى سحبت بساط الحظوة من تحت قدمي أمّه المقهورة . ولم يكن خليل "منقذا" لأمّه كما تتيح له خيالات عوالم المراهقة في العادة . كان الأب متسلطاً متجبّراً تضاعفت مظاهر قوته وجبروته من خلال عمله كممثل للسلطة القامعة ، هذا العمل الذي مثّل له مصدر "عيب" ونقيصة أمام نفسه ورفاقه المنشغلين بمقاومة السلطة . وبرغم ذلك لم يكن الأب سلطة "محايدة" ، حاله في ذلك حال السلطة الأم البغيضة ، فقد كان منحازا للزوجة الثانية وممعنا في تكدير عيش الأم الأصلية ومن ثم مزاج أولادها من خلالها . كان الشجار يعلو بينهما ليل نهار. وقد أكره الأب إبنه حسن ، شقيق خليل ، على السفر للعمل في بيروت ، ففقد خليل رفيق صباه المولع باللهو واللعب ، وهو أول من قاده إلى مكتبة الشمالي فراح يستأجر روايات طرزان وأرسين لوبين .
# أول انقسام "طائفي" :
وفي الثانوية أيضاً شهد خليل أول إنقسام "طائفي" إذا ساغ الوصف بين أقرانه الشباب في الثانوية . فقد وقع شجار بين أحد الأساتذة وأحد الطلاب الذي أخطأ عفواً في تشغيل إحدى الآلات . إتسع الشجار لتحصل معركة بين الأساتذة والطلاب ، كان من ذيولها تحوّل الأمر إلى ذم لفئة الفلاحين المتخلفين وتشهير بلهجتهم وأعيادهم وألبستهم . وأوشك الجدال أن يتحول إلى شجار جديد . ولكن ، وعلى الرغم من كل ذلك ، اندفع الطلبة بعد وقت قصير من الباب الخلفي للثانوية ، وملأوا الشارع صخبا ، كأن شيئا لم يكن . وهذه هي انفعالات المراهقة وبكورة الشباب . حتى خليل الذي كان منهك النفس والجسد ، ناقما على حظه في السباكة ، والجوع يزيد في تنغيصه ، تغيّر مزاجه ، وضاعت همومه – وهي مواد إدمانه كما وصفه الراوي بدقة في الهوامش – ونسي ضيقه وجوعه وسط أقرانه الصاخبين ؛ أقرانه الذين يبدو أنهم يغلون في المئة مئوي ولا يبردون بل ينتقلون من إنفعال إلى آخر ولا هدنة بينهما .
وقد يرى القارىء الأمر غريبا أن نقول إن هذا التعاطي يشمل حتى التعامل مع المتغيرات الجادة والعقلانية كالأمور السياسية . فحتى هنا – وليتذكر ذلك القارىء لاحقا – يغلب التفكير العاطفي على التفكير المنطقي المحسوب والهادىء . وفي هذا الموقف الذي خرجوا فيه متلاحمين متزاحمين بصخب ، جاءهم منصور لينبّههم إلى أمر مثير يجري حولهم :
عبد الناصر غداً في اللاذقية !
كانت لحظة فرح تأريخي اجتاحتهم فاندفعوا يهزجون ويصفقون ويدورون في شوارع المدينة . فعادت إلى ذهن خليل صور طوفان البشر تموج بهم الشوارع في طرطوس وحتى الدريكيش الصغيرة حين زار عبد الناصر طرطوس من قبل . وكان خليل ينفعل للخطباء والشعراء ويستميت للحصول على صورة لعبد الناصر يرفعها وسط المظاهرات . لم يكن يلتفت إلى طبيعة الشخوص الهاتفين . نبّهه يوسف إلى مساوىء المفتي الذي كان يخطب في الناس (ص 51) . وكيف حصل انقسام وعراك بين البعثيين والشيوعيين غذّته – حسب تشخيص أبيه – أصابع القوميين السوريين . تلك كانت في المرحلة التمهيدية التي سبقت اتفاق الوحدة . أما هذه الزيارة فتأتي بعد إعلان الوحدة . وها هي الحشود تستقبل الزعيم بنفس الحماس المفرط وتحوّل الإستجابة السياسية إلى إنفعال جسدي كما يقول خليل وهو في ساحة جول جمال حيث (كانت فرقة موسيقية تعزف . لذّ لي السير على صوت الموسيقى أكثر – ص 52). كانوا يتمثلون السياسة بأجسامهم ، وتوظّف أجسادهم إمكانات السياسة للتفجر والإشباع .
لكن في شارع السياسة الخلفي حيث اجتماعات البيوت وغرف الطلاب والمقاهي والإجتماعات السرية ، كانت الإستجابة غير ذلك . يعبّر عن ذلك حوار الثلة – الثلة كما وردت في القرآن الكريم ، وليس "الشُلّة" كما يكررها نبيل سليمان كثيرا في روايته هذه متأثرا بالعامية المصرية طبعاً – الذي ينقله لنا خليل بعد أن عادوا منهكين من ساحات تدريب الفتوة تهيّؤا لوصول المنقذ :
(كنّا قد تناولنا السندويش إثر انتهاء التدريب ، وانطلقنا نحو الغرفة ، وما إن جلسنا حتى انطلق منصور يرغط :
-أنا أفدي عبد الناصر بروحي . نعم ، لكن بالله عليكم منْ يستطيع أن ينسى أن الذين قادوا سورية إلى الوحدة استقالوا منذ أيام قليلة فقط ؟ ما معنى هذا ؟ إشرحوا لي بالله عليكم .
واندفع طلال في مثل حماسه :
-الآن نسى عبد الناصر الفضل ؟ من جاء به إلى هنا ؟ بأي حق يسرّح الضباط وينقل من ينقل إلى مصر وو .. ؟
أمّا يوسف فقد سمّر عينيه في طلال قائلا :
-لماذا لا تتابع يا طلال ؟ بأي حق يسحب الناس من بيوتها إلى السجون بلا سؤال ولا جواب ؟
ثم التفت إلى منصور :
-على كل حال ليس لك أن تحكي ما حكيته وأبوك في الإتحاد القومي .
صاح منصور :
-بلا مسخرة يا ابن المعروك .
ولفّنا جميعا بعينيه:
-ماذا تفهمون من السياسة والدنيا ؟
كنتُ قد ألفت منذ عهد طرطوس أن يلعب منصور بيننا دور الكبير ... أما طلال .. فها هو يخاطبنا بلهجة منصور ، ملقياً علينا آخر ما سمع من عمّه :
-كل شيء يخرب في هذه الأيام . ماذا يساوي الإتحاد القومي ؟ الأحزاب لا تقوم بقرار من رئيس الجمهورية . النوّاب لا يُعيّنون بقرار من رئيس المباحث – ص 52 و53).
ويتصاعد النقاش بينهم حدّ الشجار فتتدخل "أم محمود" صاحبة البيت .. وينسحب الجميع ضاحكين !! وهي الخاتمة التي تفرضها الفيسيولوجيا .. فوسط موجة غضب خليل حين لمّح يوسف إلى مهنة أبيه القمعية يوشوش منصور في أذن خليل :
(مرحى خليل حمدان مرحى . مَنْ تلك الصبية التي تقف بقميص النوم خلف العجوز ؟ إياك أن تترك إبن المحروك يلعب على ذقنك وينفرد بها – ص 54).
وسيكون إنشغال خليل بتحركات يوسف الغرامية بنفس مستوى انهمامهم بالعمل السياسي أو أقل قليلا بفعل خطورة الثاني وطابعه الملح .
ثم جاء عبد الناصر ومعه تيتو وظهرا من شرفة نادي الضباط ومعهما المشير عبد الحكيم عامر . كانت أمنية حياة خليل هي أن يرى عبد الناصر . لقد أخبرنا من قبل أنه أحبه منذ صحى على الدنيا .. منذ أول مرة رأى فيها صورة له . الآن يصف مشاعره وهو يقف وسط بحر من البشر :
(كان ثمة بحر من البشر إزاء البحر الذي ينتظر خروج عبد الناصر منه . وقفنا على الرصيف حتى جاءت اللحظة الساحرة ، وبانت سيارة عبد الناصر تتهادى ، وإلى جانبه الرجل الضخم تيتو . تدافع الناس خلف السيارة ، وذبت في الجموع المندقعة . جريت مع الناس حتى الكورنيش ..
هزّ قدوم عبد الناصر كياني . بتّ لا أشبع من الشوارع ، لا آبه للجوع ولا للوقوف المديد والبرد . رحتُ أقبل على الوجوه المصرية حيثما صادفتها ، كأنما لم أرها من قبل . وكان يوسف ومنصور يناكدانني أحيانا .. إذا كان والد يوسف ضد عبد الناصر فلينل جزاءه . وإذا كان هذا الزعيم أو ذاك الضابط ضد عبد الناصر فمع السلامة – ص 55).
وحين تكون إستجابة الفرد ، أي فرد ، لأي مؤثر ، مفرطة نوعا أو كمّا ، فعلينا أن نتنبه إلى العمليات اللاشعورية الدفينة التي تقف وراء إنضاجها ، وهي من القدرة حتى أنها تجعل ملامح صورة السلوك الظاهري تختلط وتتشوش فلا يستطيع المراقب ، بل الفرد الفاعل نفسه الإمساك بالخيوط الخفية التي نُسجت منها قماشة السلوك المعني . وليس بالأمر المعقّد الذي يتطلب فهما عسيرا أن أمم الأرض كلها تشترط أن يكون عمر أي فرد يبغي الإنخراط في نشاط رسمي عام أكثر من ثمانية عشر عاما (يسمونه السن القانونية !) . وهذه سنّ الشروع .. لكن سن "القيادة" و"المسؤولية" أكبر من ذلك بكثير . قد يتحدث قارىء عن النضج المبكر ، وهذا قد يحصل لكنه سيشمل المظاهر العقلية الخارجية من إدراك وأحكام لكنه لن يشمل مكوّنها العاطفي .