** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
مجتمع بلا طبقات I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 مجتمع بلا طبقات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سبينوزا
فريق العمـــــل *****
سبينوزا


عدد الرسائل : 1432

الموقع : العقل ولاشئ غير العقل
تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..

من اقوالي
تاريخ التسجيل : 18/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5

مجتمع بلا طبقات Empty
28122012
مُساهمةمجتمع بلا طبقات

مجتمع بلا طبقات

حنة أرندت

"الرجال الأسوياء لا يعرفون أن كل شيء ممكن"

دافيد رسِّيه

1 ـ الجماهير

ما من سمة أدل على الحركات التوتاليتارية بعامة، وأكثر تمييزاً
لقادتها الممجدين، سوى تينك العجلة والسهولة المدهشتين اللتين يطوى معهما
ذكر الحركات الآنفة وقادتها، وتستبدل بأخرى وآخرين. فما أنجزه ستالين
بجدٍّ. وخلال سنواتٍ كثيرة وعبر صراعاتٍ داخلية متصلِّبة وامتيازات هائلة
أقله باسم سلفه (وذلك من أجل إرساء شرعيته باعتباره وريث لينين السياسي)،
حاول خلفاء ستالين القيام به دون أي امتياز، باسم سلفهم العتيد. مع ذلك،
فقد تسنى لستالين أن يتصرف بحقبة من الزمن طالت ثلاثين عاماً، وكان في
متناوله جهاز دعاية ضخم. كان لا يزال مجهولاً في زمن لينين، لطالما أعانه
في تخليد اسمه. الأمر ذاته ينطبق على هتلر، الذي جعل من نفسه، إبان حياته،
موضع افتتانٍٍ مزعوم لا يقاوم، حتى إذا هزم ومات، أغفل ذكره الناس إغفالاً
تاماً، فبات لا يؤدي أي دور، حتى في صفوف الفرق الفاشية الجديدة في
ألمانيا. ولا شك أن لهذا الطابع الزائل صلة بتقلب الجماهير المأثور
وبالمجد الذي يوكل إظهاره إليها، بل إن ذلك ليجد تفسيره في الهاجس
التوتاليتاري بالحركة الدائمة: فالتشكيلات التوتاليتارية لا تلبث في السلطة إلا بمقدار ما تظل في حركة، وبمقدار ما تدفع كل ما يحيط بها إلى الحركة.
إلى ذلك. يتبدى هذا التزعزع نفسه، في معنى ما، شاهداً مثيراً للزهو في ما
خص القادة المتوارين، لكونه يثبت أن هؤلاء نجحوا في بث رعاياهم جرثومة
التوتاليتارية الخاصة ونقلوا إليهم عدواها، إذ لو صح أنه توجد شخصية
توتاليتارية أو عقلية توتاليتارية، تكون هذه الطاقة على التكييف وغياب
الاستمرارية الغريبان السمتين الأساسيتين الغالبتين في الشخصية المذكورة،
بالطبع. إذاً، قد يخطئ المرء إن ظن تقلب الجماهير الَنَّساء دليلاً على
شفائها من الوهم التوتاليتاري، الذي يتماهى عادة بعبادة هتلر الشخصية أو
بعبادة ستالين، وقد يكون العكس صحيحاً.

ثم إنه من الخطأ الأفدح أن ينسى المرء، بحجة هذا التزعزع، أن الأظمة
التوتاليتارية أياً كان أمد سلطانها، والقادة التوتاليتاريين، طالما بقوا
على قيد الحياة، أن هؤلاء "يبسطون سلطتهم مستندين إلى الجماهير" حتى
النهاية. على ذلك فقد رأيت هتلر يبلغ السلطة بصورة شرعية ووفق قاعدة
الأغلبية الحاكمة، وما كان له ولستالين أن يستمسكا بزمام سلطتهما على شعوب
عريضة بأسرها، وأن يصمدا في وجه أزمات داخلية وخارجية عديدة، لو لم يكونا
حائزين على رضا الجماهير وثقتها. وما كانت دعاوى موسكو، ولا حملة التصفية
في "روهم"، ممكنة الوقوع لو لم تكن الجماهير أيدت ستالين وهتلر. وفي هذا
السياق، ساد اعتقاد فترة من الزمن مؤداه أن هتلر لم يكن إلا محض عميل
للصناعيين الألمان، وأن ما نصر ستالين في معركة خلافة لينين التي خاضها
إنما كانت محض مؤامرة مشؤومة. بيد أن هذا الاعتقاد إن هو إلا خرافة
مزدوجة. تدحضها الوقائع العديدة، ولا سيما شعبية القائدين الآنفين. كما
أنه من غير الممكن أن تنسب شعبيتها إلى الغلبة التي أحرزتها حملة دعائية
كاذبة، أحسن فيها المزاوجة بين الجهل والحماقة. ذلك أن الحملة التي تخوضها
الحركات التوتاليتارية، على جري عادتها، تكون صريحة بمقدار ما تكون خادعة،
في حين أن الطامحين إلى مرتبة الديكتاتورية التوتاليتارية يشرعون في
حرفتهم، بعامة، متفاخرين بجرائمهم الماضية ومعلنين بالتفصيل عن جرائمهم
الآتية. لقد كان النازيون "على قناعة بأن الشر يمارس في عصرنا قوة جذب
مرضية" وتلك نقطة تقاسمهم إياها الدعاية الشيوعية، في روسيا والخارج،
وتقوم على تأكيد أن البلاشفة لا يعترفون بالمعايير الأخلاقية المعتمدة.
وقد تبين بالاختبار، ولمرات متوالية عديدة، أن قيمة الجريمة الإعلانية،
لدى الشيوعيين، واحتقارهم العميم للمعايير الأخلاقية، إنما هما منفصلان عن
اعتبار المصلحة المحضة، وهي التي يفترض أن تكون العامل النفساني الأفعل
والأهم في السياسة.

إن افتتان الدهماء بالشر والجريمة افتتاناً أكيداً ليس بالأمر الجديد.
إذ لطالما ثبت أن الرعاع يرحبون "بأعمال العنف قائلين بإعجاب: لئن كان ذلك
غير جميل، فإنه بالغ القوة، بالتأكيد". على أن العامل الأهم، في سيرورة
التوتاليتارية، هو اللامبالاة الصادقة التي تلازم المنضوين في لوائها: لئن
كان ممكناً أن يقدر المرء عدم اهتزاز قناعات النازي أو البولشفي حين ترتكب
الجرائم في حق أناس لا ينتمون إلى الحركة موضوع التآمر المزعوم، أو يكونون
أعداء لها، فإنه لمن المذهل ألا يرف له جفن حين يشرع الغول في افتراس
أبنائه، وحين يصير هو نفسه ضحية الاضطهاد، وحتى في حال أدين ظلماً، أو طرد
من الحزب وسيق إلى الأشغال الشاقة أو إلى معسكر اعتقال.
إنما
العكس يصح فيه، إذ يحدث، إزاء ذهول العالم المتمدن، أن يكون مستعداً
لإعانة متهميه ولأن يلفظ بنفسه حكم إعدامه، شرط ألا يمس مركز عضويته في
الحركة.

قد يكون من السذاجة أن يعتبر المرء هذه القناعة العنيدة، التي صمدت في
وجه كل الخبرات الواقعية وأبطلت المصلحة الشخصية الشديدة اللصوق بالفرد،
بمثابة التعبير المحض عن مثالية متحمسة. إذ أن المثالية، أية كانت صبيانية
أم بطولية، إنما تنبع من قناعةٍ ومن قرار شخصيين على الدوام، وتلبث خاضعةً
للاختبار والمناقضة. على أن تعصب الحركات التوتاليتارية بعكس كل
أشكال المثالية، يتلاشى في اللحظة التي تترك فيها الحركة مناصريها
المتعصبين لها وتجعلهم هملاً، قاتلة فيهم كل بقية من قناعة كان يمكن أن
تصمد إزاء تقصف الحركة نفسها.
غير أن الأمر مختلف داخل إطار
الحركة المنظم، طالما صمدت الأخيرة، إذ لا يكون أعضاؤها المتعصبون لها
عرضة لزعزعة قناعاتهم، لا من خلال الاختبار، ولا من خلال المحاجّة، ذلك أن
تماهي هؤلاء بالحركة والامتثالية المطلقة بدا وكأنه قضى على ملكة معاناة
الاختبار نفسها، باعتبار الأخير معادلاً التعذيب والخشية من الموت لشدة
وطأته عليهم.

غالباً ما تسعى الحركات التوتاليتارية إلى تنظيم الجماهير وتفلح في
ذلك ـ بخلاف الأحزاب القديمة القائمة على المصالح والتي تهتم بالطبقات
والناشئة في غالبيتها في أمم أوروبية، وبخلاف ما تذهب إليه الأحزاب في
البلدان الأنكلو ـ ساكسونية من حيث اهتمامها بالمواطنين ذوي المصالح،
وبتأثير الآراء العامة في مسار الشؤون المحلية. وإذا كانت كل الجماعات
السياسي تنسب إلى مراكز قوى نسبية في المجتمع، فإن الحركات التوتاليتارية تتبع قوة الأعداد
وحدها، بحيث تبدو الأنظمة التوتاليتارية محالة في بلدان ذات تعداد سكاني
محدود نسبياً، حتى في ظل ظروفٍ مؤاتية للغاية. بعد الحرب العالمية الأولى
جازت القارة الأوربية موجة من الحركات شبه التوتاليتارية والتوتاليتارية
تظهر العداء الشديد للديمقراطية وتؤيد الديكتاتورية، كما عمت الحركات
الفاشية كل بلدان أوروبا الوسطى والشرقية تقريباً، (في حين شكل الجزء
التشيكي من تشيكسلوفاكيا أحد الاستثناءات البارزة) بدأ من إيطاليا، مع
ذلك، فإن موسوليني نفسه، الذي طالما راقت له عبارة "الدولة
التوتاليتارية"، لم يحاول إقامة نظام توتاليتاري تام واكتفى منه بأن أرسى
ديكتاتورية الحزب الواحد. إلى ذلك فقد انبثقت ديكتاتوريات مماثلة، غير
توتاليتارية، قبل الحرب في رومانيا وبولونيا، وفي الدول البلطية، وفي
المجر، والبرتغال وفي إسبانيا فرانكو. بيد أن النازيين، الذين ما ونوا
يملكون حدساً أكيداً في تقصّي الفروق في ما بين الديكتاتوريات الآنفة،
راحوا يسترسلون في تأويلاتهم حول جوانب التقصير لدى حلفائهم الفاشيين،
بينما جعل إعجابهم الحقيقي بالنظام البولشفي في روسيا (وبالحزب الشيوعي في
ألمانيا) يعادل ـ دون زيادة أو نقصان ـ احتقارهم الأعراق التي تتكون منها
شعوب أوروبا الشرقية. إن رجلاً واحداً نال "احترام هتلر دونما حد" إنما
كان "ستالين العبقري". وبالمقابل إذا نظرنا في حال ستالين ونظامه الروسي،
حتى لو لم نكن نملك الوثائق الضخمة عنها (ولن نحصل عليها أبداً)، والتي
توفرت لنا عن ألمانيا، أدركنا، من خلال خطاب خروتشيف أمام مؤتمر الحزب
الشيوعي العشرين، أن ستالين ما كان ليثق إلا برجل واحد، وأن هذا الرجل
الفرد كان هتلر.

والمهم في الأمر، أن الديكتاتوريات غير التوتاليتارية في كل من هذه
البلدان الأوربية الصغيرة كانت سبقتها حركات توتاليتارية: إذن، لما بدا أن
التوتاليتارية كانت هدفاً طموحاً للغاية، حتى إذا انتهت من تنظيم صفوف
الجماهير وأعدتها بالفعل لاستلام زمام السلطة فتولتها، أجبر حجم البلاد
الأقصى الطامع إلى التوتاليتارية على التناغم مع تراسيم أكثر إلفة، كأن
تقتصر سلطته على ديكتاتورية الطبقة أو الحزب. أما الحقيقة البسيطة فهي أن
هذه البلدان ما كانت لتملك العدد الكافي من الجهاز البشري الذي يخولها
الاستبداد التام وما يستتبع ذلك من خسائر بشرية فادحة. ولما كان الطغاة في
هذه البلدان الصغيرة، فاقدي الأمل من افتتاح أراضٍ ذات أعداد سكانية أكبر،
وجدوا أنفسهم مجبرين على اتباع نهج معتدلٍ نسبياً، خشية أن يفقدوا أفراد
رعيتهم المعدودين.

وذلك هو نفس السبب الذي ألزم النازية بأقل قدر من التماسك وبأدنى درجة
من البطش من صنوها النظام الروسي، وذلك منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية
وحتى انتشار النازية في أنحاء أوروبا بكاملها، بل إن الشعب الألماني نفسه
لم يكن كثير العدد حتى يسمح بتنمية شكل هذا النظام الجديد كلياً تنمية
كاملة. والواقع أن ألمانيا ما كان يمكن لها أن تشهد استبداداً
توتاليتارياً تاماً إلا في حال انتصارها في الحرب، ولو تم ذلك لكان أوجب
تضحياتٍ يعجز عن تقديرها المرء، ليس في حق "الأعراق التي بلغتنا. أيا يكن
الأمر، فإن ألمانيا لم تقارب على إقامة نظام توتاليتاري حقيقي، إلا بعد أن
وفرت لها الحملات الشرقية جماهير بشرية عظيمة، باتت معها معسرات الاعتقال
والإبادة ممكنة. (على العكس من ذلك، فقد تبدى أن مخاطر النظام
التوتاليتاري ماثلة بصورة مخيفة في البلدان التي ألفت الاستبداد الشرقي
التقليدي، كالهند والصين، هاهنا المادة الأولية التي لا تنضب في سبيل
تغذية الاستبداد الكلي، وآلياته، التي لا تني تراكم السلطة وتدمر البشر
وهذا الشعور الغالب لدى "إنسان الجمهور" بأنه غير ذي نفعٍ، ولئن كان ظاهرة
جديدة كلياً في أوروبا، إذ لبث ينبع من بطالة الجموع ومن النمو الديمغرافي
الذي لحق بها في أثناء المئة وخمسين عاماً الأخيرة، فإنه ظل يسود هنالك
منذ غابر العصور، في حالة عميقةٍ من احتقار قيمة الحياة البشرية). لا يمكن
للمرء أن ينسب اعتدال الحكم أو اتباعه أساليب في التسيد أقل دموية، إلى
محض الخشية من انتفاضة شعبية، إنما هو النقص الفادح في السكان الذي يشكل
تهديداً جدياً للاستبداد التام. والحق أن النظام التوتاليتاري يكون ممكناً، في حال توافرت له جماهير عريضة
وفائضة في السكان أو يمكن أن تكون مستخدمة دون أن تؤول إلى إقلالٍ في
السكان مفجعٍ، على اعتبار أن النظام الآنف متميز عن الحركة اتوتاليتارية.

إن الحركات التوتاليتارية تكون ممكنة أنى كان حيثما توجد الجماهير،
التي انكشفت فيها شهية لا تقاوم إلى الانتظام السياسي، لسبب أو لآخر. إذ
لا يوحد الجماهير وعيها صالحها المشترك، ولا تملك ذلك المنطق المخصوص
بالطبقات الذي يعبر عنه بمتابعة أهداف مضبوطة، ومحدودة وقابلة التحقق. في
حين أن عبارة "الجماهير" تنطبق على الناس، الذين عجزوا، لسبب
أعدادهم المحضة، أو لسبب اللامبالاة، أم للسببين المذكورين معاً عن
الانخراط في أي من التنظيمات القائمة على الصالح المشترك ـ أكانت أحزابا
سياسية، أم مجالس بلدية، أو تنظيمات مهنية أو نقابية. توجد الجماهير،
وجوداً بالقوة، في كل البلدان، وتشكل غالبية الشرائح العريضة من الناس
الحياديين، واللامبالين سياسياً، والذين نادراً ما يصوتون ولا ينتسبون إلى
أي حزب.


إن ما يميز انطلاقة الحركة النازية في ألمانيا والحركات الشيوعية في
أوروبا، بعد العام 1930، هو أنها اجتذبت إليها أنصاراً من هذه الجمهرة من
الناس اللامبالين في الظاهر، والذين كانوا موضع رفضٍ من الأحزاب الأخرى
جميعها، لاعتبارهم غاية في البلادة أو الحماقة، مما يصرف النظر عنهم.
وكانت النتيجة أن غالبية المنتسبين إليها كانت مشكلة من أناسٍ لم يتسن لهم
الظهور على الساحة السياسية من قبل. وهذا مما سمح بإدخال مناهج للدعاية
السياسية جديدة كلياً، وما سوغ اللامبالاة إزاء حجج المعارضين، ونشأ عن
ذلك أن هذه الحركات لم تجد نفسها خارج نسق الأحزاب ورافضة إياها بالجملة
فحسب، بل إنها اهتدت إلى زبائن كثيرين أيضاً لم يكونوا قد مسوا من قبل
نظام الأحزاب ولا أفسدتهم الأخيرة على الإطلاق. لذا لم تحتج الحركات
التوتاليتارية هذه إلى دحض الحجج التي كان المعارضون يوجهونها إليها، بل
آثرت التهديدات بالموت المنتظمة بديلةً من الإقناع، والإرهاب على القناعة.

ومضت تزعم أن الخلافات إنما تنشأ من مصادر عميقة، وطبيعية، وتستمد من
جذور اجتماعية أو نفسية، تكون عصية على رقابة الفرد وعلى المنطق بالتالي.
على أن هذا كان يمكن أن يتحول ضعفاً لو أنها رضيت بالمنافسة الصادقة مع
غيرها من الأحزاب، كما أن الأمر عينه كان يمكن أن يصير قوة لو أنها كانت
واثقة في تعاملها مع أناس كان لهم من الأسباب ما يجعلهم معادين لكل
الأحزاب.

لقد كان من شأن نجاح الحركات التوتاليتارية في جذب الجماهير إليها أن
دق ناقوس الحزن لوهمين توليا الديمقراطيات بعامة، والأمم الأوربية ونظام
أحزابها بصورة خاصة. أما الوهم الأول فكان يقضي بأن يشارك الشعب في
غالبيته، مشاركة فعالة في الحكم، وأن يتعاطف أفراده جميعهم مع هذا الحزب
أو ذاك. على العكس من ذلك فقد بينت هذه الحركات التوتاليتارية أن الجماهير
المحايدة سياسياً واللامبالية يسعها بيسر أن تكون الغالبية في بلد
ديمقراطي: وبالتالي، فإن الديمقراطية يمكن أن تعمل وفق القواعد التي لا
تعترف بها عملياً إلا أقلية. في حين أن الوهم الثاني الذي ما لبثت الحركات
التوتاليتارتة تهاجمه بعنف يرى إلى هذه الجماهير عديمة الأهمية، باعتبارها
محايدة حقاً ولا تشكل سوى لوحة الأساس الصماء في حياة الأمة السياسية.
واليوم، جعلت الحركات التوتاليتارية تبين ما كان يعجز أي عضو، مما يشكل
الرأي العام، عن إظهاره: ذلك أن النظام الديمقراطي يستند إلى
الاستحسان والتسامح الصامتين اللذين تبديهما الشرائح الصماء واللامبالية
من السكان، بمقدار استناده إلى المؤسسات والمنظمات البينة والمرئية في
البلاد.
ثم إن الحركات التوتاليتارية يوم اجتاحت البرلمانات، بدا
احتقارها للنظام البرلماني ظاهرة تشوش محضة: فالواقع أنها نجحت في إقناع
الغالبية العظمى من السكان أن الأغلبيات البرلمانية ظالما كانت مزيفة ولا
تتلاءم بالضرورة مع الحقائق الوطنية، مقوضة بذلك الكرامة البشرية وثقة
الأنظمة التي ما ونت تعتقد بقاعدة الأغلبية بمثل إيمانها بمؤسساتها
المخصوصة.

لطالما أشار المحللون إلى أن الحركات التوتاليتارية تفيد من الحريات
الديمقراطية وتفرط فيها، في سبيل تحسن القضاء عليها. غير أن الأمر أبعد من
أن يكون محض مهارة شيطانية من جانب القادة، أو حماقة صبيانية من قبل
الجماهير. ولئن صح أن الحريات الديمقراطية قامت على أساس من
المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، إلا أنها لا تكسب معناها
ووظيفتها العضوية إلا حالما ينتمي المواطنون إلى جماعات تمثلهم، أو تشكل
في ذاتها هرمية اجتماعية وسياسية
. والحال أن انهيار منظومة
الطبقات، هي التفريع الاجتماعي السياسي الوحيد السائد في الأمم الأوربية،
كان أحد الأحداث الأكثر مأساوية في تاريخ ألمانيا القريب العهد. وكما كان
هذا الانهيار مؤاتياً لانطلاقة النازية، بمثل ما كان غياب التفريع
الاجتماعي في صلب الأعداد الهائلة من سكان الأرياف في روسيا (هذا الجسد
الكبير والرخو، العديم التربية السياسية والذي يكاد يكون ممتنعاً على
الأفكار الجديرة بتشريف الفعل). صار لدى انقلاب البولشفيين على نظام
"كيرينسكي" الديمقراطي. على أن الظروف التي مرت بها ألمانيا في المرحلة
السابقة لهتلر هي أدل على المخاطر التي يتعرض لها الغرب بصورة ضمنية، إذ
لا يزال يتكرر، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نفس الانهيار المأساوي
في منظومة الطبقات داخل كل البلدان الأوربية، بينما جعلت الأحداث في روسيا
تعين بوضوح الوجهة التي يمكن أن تسلكها الانقلابات الثورية المحتومة في
بلدان آسيا. ومن المنظار العملي، فإنه لا طائل من أن تعتمد الحركات
التوتاليتارية ترسيمة النازية أو البولشفية، وأن تنظم الجماهير باسم العرق
أو باسم الطبقة، أو أن تتظاهر باتباع قوانين الحياة أو الطبيعة أم الجدلية
أو الاقتصاد.

إن اللامبالاة إزاء الشؤون العامة، والحياد في المجال السياسي، ليسا
شرطين كافيين لنمو الحركات التوتاليتارية. وكان المجتمع البورجوازي القائم
على المنافسة والتملك، قد أثار البلادة وحتى العداء إزاء الحياة العامة،
ليس في نفوس الطبقات الاجتماعية التي راح يستغلها، والتي ما ونى يستبعدها
من المشاركة الفعالة في إدارة البلاد فحسب، بل في نفوس أبناء الطبقة
البورجوازية عينهم أيضاً. وقد أعقب حقبة التواضع المزيّف الطويلة، والتي
اكتفت فيها الطبقة البورجوازية بكونها الطبقة السائدة دون أن تطمح إلى
الحكم السياسي (الذي تركته طوعاً للطبقة الأرستقراطية)، عهد الامبريالية:
آنئذٍ رفعت البورجوازية عقيرتها وراحت تعلن عداءها المتعاظم للمؤسسات
الموجودة، وشرعت في تنظيم نفسها مطالبة بممارسة السلطة السياسية. إن
البلادة الآنفة والإلحاح المذكور في ممارسة احتكار ديكتاتوري على صعيد
إدارة شؤون الأمة الخارجية، لهما نفس الجذور كلاهما:نمط حياة وفلسفة عيش
متمحوران بصورة شديدة الحصرية حول نجاح الفرد أو فشله في منافسة لا هوادة
فيها، بحيث تستشعر معها واجبات المواطن ومسؤولياته باعتبارها إضاعة محضة
للوقت والطاقة على السواء. إذاً، تبدو هذه المواقف البرجوازية جزيلة
الفائدة لأشكال الديكتاتورية هذه حيث يمكن "رجلاً قوياً" أن يأخذ على
عاتقه المسؤولية المربكة في تولي الشؤون العامة، غير أن ذلك مما يشكل
حائلاً حقيقياً دون مرامي الحركات التوتاليتارية، التي لا يسعها أن تتسامح
إزاء أي فردية، أكانت برجوازية أم غيرها. حين أن القطاعات البليدة في
مجتمع تسوده البرجوازية، وأياً كان نفورها من تحمل مسؤولياتها المدنية،
تلبث مستمسكة بشخصيتها، لأنها في حال أفقدتها، انتفى لديها كل أمل في
الصمود وسط دوامة المنافسة من أجل العيش.

إنه لمن الصعوبة بمكان أن يتبين المرء الفروق العميقة ما بين تنظيمات
الرعاع في القرن التاسع عشر وبين الحركات الجماهيرية في القرن العشرين.
والواقع أن القادة التوتاليتاريين العصريين لا يختلفون في شيء البتة، أكان
من الناحية النفسانية أم من ناحية العقلنة، عن مثيري الجمهرات السابقين،
واللذين تشبه معاييرهم الأخلاقية ومسلكهم السياسي معايير ومسلك القادة
البرجوازيين إلى حدٍ بعيد. مع ذلك، وبمقدار ما ميزت الفردية مسلك
البرجوازية كما مسلك الرعاع، فقد وسع الحركات التوتاليتارية أن تدعي
بكونها أولى الأحزاب المعادية للبرجوازية، إذ أن أحداً من أسلاف القادة
البورجوازيين أو الرعاع هؤلاء إبان القرن التاسع عشر، ولا من جمعية العاشر
من كانون الأول (ديسمبر) التي أعانت لويس ـ نابليون على الإمساك بزمام
السلطة، ولا أحداً من عصابات السفاحين في مسألة درايفوس، ولا مقاتلاً في
صفوف جمعية "المئة ـ السود"، قاتلة يهود روسيا، ولا زعيماً من الحركات ذات
العصبية السلافية أو العصبية الألمانية، إن أحداً من هؤلاء لم يتمكن من
المنتسبين إليه حتى يفقدهم كل حاجاتهم وطموحاتهم الشخصية،ولم يرتإ أي منهم
أن تنظيماً يسعه أن يدمر الهوية الفردية بصورة متواصلة، وليس أثناء القيام
بالعمل الجماعي أو البطولي فحسب.

والحق أن الصلة ما بين مجتمع الطبقات، الذي تسوده البرجوازية، وبين
الجماهير الناشئة من انهيار الأول، لا تماثل الصلة بين البرجوازية
والرعاع، الذين يمثلون نتاجاً دونياً في الإنتاج الرأسمالي. أما الجماهير
فلا تقاسم العامة سوى ميزة واحدة: إنها جميعها غريبة عن كل التفريعات
الاجتماعية وعن كل تمثيل سياسي سوي. ولكن الرعاع في حال ورثوا ـ وإن بصورة
مخالفة للطبيعة ـ معايير الطبقة السائدة ومواقفها، مضت الجماهير تعكس
معايير ومواقف "كل" الطبقات حيال الشؤون العامة، وتشوهها. والحال أن
معايير الرجل المنتمي إلى الجمهور، لا تحددها الطبقة التي كان ينتمي إليها
فحسب، ولا بشكل رئيسي، بل عدوى التأثيرات والقناعات التي تروح تتناقلها كل
طبقات المجتمع، بصورة لا واعية.

وأياً كان الانتماء إلى طبقة أحقر وأقل تحدداً عبر الأصل الاجتماعي
منه عبر فئات المجتمع القروسطي ودوله، فإنه يلبث متوقفاً على الولادة
بعامة، ووحدها الهبات أو الحظوظ الغريبة يسعها أن تبدل من هذا الانتماء.
ثم إن الموقع الاجتماعي يحسم في طبيعة مشاركة الفرد في السياسة وفي ما عدا
الأحوال التي ينشأ فيها خطر وطني محدق، إذ يضطر هذا الفرد إلى التصرف
بمعزلٍ عن انتمائه إلى طبقة أو حزب، لا يجد الفرد نفسه معنياً مباشرة في
الشؤون العامة، ولا يشعر أنه مسؤول عن مسلك الطبقة والحزب الآنفين،
مسؤولية مباشرة. وحين ترتقي طبقة إلى دور أهم في الجماعة، يبرز بعض من
أفرادها، ممن أوتوا المعرفة والإعداد، لكي يشتغلوا في السياسة اشتغالاً
مهنياً، بأن تدفع لهم أجورهم (أم لا إذا كانت لديهم وسائل التحصيل الخاصة
بهم) باعتبارهم أعيان طبقتهم في البرلمان وممثليها. أما غالبية الشعب فتظل
خارج كل حزب، أو خارج كل تنظيم سياسي مغاير، مما لا يكون أمراً خطيراً في
عين امرئ، ومما يصح وقوعه في طبقة كما في أخرى. وفي عبارات أخرى، إن
الانتماء إلى طبقة، مع ما يستلزمه من ارتباطات جماعية ومحدودة، وما
يستتبعه من مواقف تقليدية إزاء السياسة، يحول دون ولادة مواطنين يشعرون في
ذواتهم، فردياً وشخصياً، مسؤولين عن حكم البلاد. على أن هذا الطابع
اللاسياسي الذي لبث يسم سكان الأمة ما كان ليوضع موضع اهتمام إلا حين
انهار نظام الطبقات حاملاً في سقوطه كل الشبكة ذات الخيوط المرئية وغير
المرئية التي ما ونت تربط الشعب بالجسم السياسي.

لقد كان من شأن انهيار نظام الطبقات أن أفضى بصورة آلية إلى انهيار
نظام الأحزاب نفسه، ولما كانت هذه الأحزاب قائمة على المصالح، لم يسعها أن
تمثل مصالح طبقة من الطبقات. على أن بقاء هذه الأحزاب كان يسترعي اهتمام
أعضاء الطبقات القديمة، التي جعلت تأمل، أياً كان الأمل ضعيفاً، بأن
تستعيد موقعها الاجتماعي السالف، والتي ظلت مجتمعة، ليس بسبب أنه كان لها
مصالح مشتركة، بل لأنها ظلت تأمل باستردادها كاملة. وعليه، فقد صارت
الأحزاب أكثر احتفالاً بعلم النفس والإيديولوجيا في أساليبها الدعائية،
وباتت أكثر تبريرية فأكثر وأقرب ميلاً إلى الحنين في مقاربتها السياسية.
إلى ذلك، كانت هذه الأحزاب فقدت، دون علمٍ، دعم هؤلاء المحايدين، الذين لم
يكونوا اهتموا بالسياسة لأنه كان لديهم الانطباع بأنه لايوجد أي حزب يهتم
بمصالحهم المخصوصة ثم إن أولى انشقاقات أعضاء الحزب القدامى عن حزبهم،
إنما كانت العجز عن ضم المحازبين إليه من الجيل الجديد، وفقدان رضا
الجماهير غير المنظمة، عنه ودعمها الصامتين: والدليل على ذلك أن الجماهير
هذه راحت تنفض عنها بلادتها ومضت أنى كان، حيث تسنى لها فرصة للتعبير،
تعلن عن معارضتها العنيفة الجديدة.

لقد أحال سقوط الجدران التي طالما احتمت الطبقات بها الأغلبيات التي
كانت لا تزال تغفون في ظل كل الأحزاب إلى جمهور كبير وحيد عديم الشكل ممثل
من أفراد موتورين. لم يكن لهذه الأغلبيات أي قاسم مشترك فيما بينها، أقله
الوعي الغامض بأن آمال المنتسبين إلى الأحزاب كانت عبثاً، وأن أعضاءها
الأكثر احتراماً، بالتالي، والأكثر ثقافة، والأقدر تمثيلاً من المجموعة
بانت حمقاء، وأن كل القدرات القائمة كانت، أقل سوءًا أخلاقياً مما هي
بلهاء وتدليسية. حينئذٍ، لا يعود المرء يبالي بالكيفية التي تمت فيها
ولادة هذا التضامن السلبي المرعب، وبأي شكل كان الواقع المفروض والقوى
القائمة مكروهةً: بالنسبة للعاطل عن العمل كان الحزب الديمقراطي ـ
الاجتماعي، وبالنسبة لصغار المالكين الذين حرموا ملكيتهم، كان حزب الوسط
أو من اليمين، وبالنسبة للطبقات الوسطى والعليا القديمة، فكان اليمين
المتطرف التقليدي. وسرعان ما تضخم جمهور هؤلاء الناس الخائبين واليائسين
عامة، في كل من ألمانيا والنمسا، بعد الحرب العالمية الأولى، حين فاقم
التضخم والبطالة تصدع المجتمع الذي أعقب الهزيمة العسكرية. حتى إذا نظرت
إلى كل الدول التي كانت أقيمت، قبيل الحرب، وجدت نسبة ضخمة من مواطنيها
على هذه الحال، وراحوا يؤيدون الحركات المتطرفة، في فرنسا وإيطاليا على
سبيل المثال، منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وسط هذا المناخ، وخلل انهيار مجتمع الطبقات، أخذت تتنامى نفسية "رجل
الجمهور" الأوروبي. ولئن أصاب نفس المصير جمهوراً من الأفراد، في تماثلية
رتيبة ومجردة، فإن ذلك لم يحل دون أن يطلق هؤلاء على أنفسهم أوصاف الفشل
الفردي، كما لم يحل دون إطلاق أحكام الظلم المخصوص على العالم. مع ذلك،
فإن هذه المرارة الشخصية ما كانت لتشكل رابطاً مشتركاً بين أعداد الناس،
رغم حدوثها في حالاتٍ فردية كثيرة ومعزولة: ورغم ميل هذه المرارة إلى محو
الاختلافات الفردية، لم تقم على أية مصلحة مشتركة، أكانت اقتصادية، أم
اجتماعية، أو سياسية. وبالتالي، فإن الانطواء على النفس بات متلازماً مع
إضعافٍ إرادي في غريزة البقاء. وقد تجلى ذلك في عدم المبالاة، بمعنى ألا
يكون للمرء قيمة في نظر نفسه، وفي الشعور بإمكان أن يكون المرء مضحى به،
على أن هذين لم يكونا تعبيراً عن مثالية فردية، إنما دلا على ظاهرة
جماهيرية. حتى إن القول المأثور الذي يحسب أن الفقراء والمضطهدين لا
يملكون شيئاً لخسرانه سوى قيودهم، هذا القول ما عاد ينطبق على ناس
الجمهور، لأنهم فقدوا أكثر من قيود بؤسهم إذ كفوا عن الاهتمام برفاههم
المخصوص: بهذا جعلوا منبع كل القلق وكل الهموم التي تحيل الحياة البشرية
مضنيةً ومغمومة، ناضباً. إلى حد أننا إذا قارنا انصرافهم عن الماديات
بمسلك راهب مسيحي لغدا الأخير منغمساً في شؤون هذه الدنيا. وقد قال" هتلر"
في هؤلاء الذين مضى ينظمهم ويتعرف عقليتهم معرفة تامة، واصفاً ليس أفراد
الشرطة السرية الألمانية خاصته، بل شرائح عريضة من الناس من حيث يجتذب
عملاءه، إذ يعتبر أنهم لا يهتمون مطلقاً "بالمسائل اليومية"، إنما
"بالقضايا الإيديولوجية التي يجدر الاهتمام بها لعشرات السنين ولقرون، حتى
أن الإنسان... يدرك أنه يسعى في مهمة كبرى، لا ينبري مثيل لها سوى كل 2000
عام".

على أن تكديس هذا العدد الهائل من الأفراد كان من شأنه أن أفضى إلى
عقلية يطاول فكر الفرد، بموجبها، القارات، ويجاوز إحساسه العصور، على حد
ما قال "سيسيل رودس" لأربعين سنة خلت.

كان عدد من أبرز الفلاسفة ورجال الدولة الأوربيين قد تنبؤوا، منذ
أوائل القرن التسع عشر، بولادة "رجل الجمهور" وحلول عصر الجماهير. وكان
أدب قائم بنفسه حول مسلك الجماهير ونفسيتها أوضح هذا المفهوم الأليف
للغاية بالنسبة للقدماء، وأعان على تعميمه، وأبان عن الفرق الدقيق ما بين
الديمقراطية والديكتاتورية، وبين حكم الرعاع والاستبداد. ولعل هؤلاء
المؤلفين مهدوا السبيل أمام بعض المفكرين الغربيين، من ذوي الوعي السياسي
التام وذوي الإدراك الإنساني العالي، فأبرزوا، دون علم، كتاباً دهماويين،
من ذوي الصدقية المشكوك فيها، والتطير والفظاظة الشديدة. مع ذلك، ولئن صح
أن كل هذه التنبؤات تحققت، فإنها خسرت كثيراً من دلالتها حين انكشفت ظواهر
غير متوقعة، من مثل خسارة الاهتمام بالمصلحة الشخصية خسراناً جذرياً،
واللامبالاة المشوبة بالتهكم أو السأم إزاء نكبات شخصية أخرى، والميل
الجارف إلى اعتماد التصورات الأكثر ذهنية وتجريداً قواعد حياة، والاحتقار
التام لكل قواعد الرشاد الأكثر بداهة.

لم تكن الجماهير ثمرة المساواة المتنامية في الظروف، على ما كانت تزعم
التنبؤات الآنفة، ولا كانت نتاج تنامي التثقيف العميم، مع ما يستدعيه ذلك
من انخفاض في مستوى معرفة العامة وتبسيط في المضمون الذي تنطوي عليه. (حين
أن أمريكا، تشكل مثالاً نموذجياً، حيث تتساوى ظروف العمل مع درجة التثقيف،
إلى كل النواقص التي تستدعيها الأخيرة، وهي لهذا السبب أقل تمثيلاً لنفسية
الجماهير فيها من أي بلد آخر في العالم). وسرعان ما بدا أن الأشخاص الأكثر
تثقفاً وإعداداً، كانوا أميل إلى الحركات الجماهيرية بصورة خاصة، وأن
فردانية مرهفة لا تحول دون إهمال النفس في وسط الجمهور، بل إنها تسهل لها
الأمر أحياناً.

لقد كان هذا الواقع الحتمي من الغرابة وعدم التوقع بحيث راح النقاد
يعزونه إلى السمة المرضية والعدمية في نتاج أهل الفكر المعاصرين، وإلى
مازوشية تكون نموذجية لدى خاصة المثقفين، أو شيء من التعاكسية ما بين
الروح والانطلاقة الحيوية، و"العداء ما بين الروح والحياة". مع ذلك، فقد
كان هؤلاء المفكرون، المحتقرون للغاية، المثال المحض الصارخ والناطقين
الأوضح والأصرح باسم ظاهرة أعم بكثير. إن التذري الاجتماعي والفردانية
القصوى كانا متقدمين على الحركات الجماهيرية، التي لبثت تجذب إليها الناس
العديمي التنظيم، والفردانيين العنيدين الذين طالما كانوا يرفضون الاعتراف
بالروابط والواجبات الاجتماعية، بأيسر من الأعضاء وأسرع منهم، مع كون
أعضاء الأحزاب التقليدية الأخيرين اجتماعيين وغير فردانيين.

والحال أن الجماهير راحت تتنامى انطلاقاً من شرائح مجتمع شديد التفتت
والذي ليست بنيته التنافسية ولا الوحدة الفردية فيه محددة سوى في الانتساب
إلى طبقة من طبقاته. بيد أن الميزة الرئيسية في رجل الجمهور ليست الفظاظة
أو التخلف العقلي، إنما تكمن في الانعزال والنقص في العلاقات الاجتماعية
السوية. لقد نشأت هذه الجماهير من مجتمع طبقاتٍ بلغت فيه التشققات مبلغاً
بحيث لا يلحم أجزاءه إلا الشعور الوطني المتشدد: إن هو إلا طبيعي، أن يكون
لدى هذه الطبقات ميل، تحت وطأة هلعها الأول، إلى وطنية متشددة متسمة
بالعنف الشديد، والتي انقاد إليها زعماء الجماهير، بعكس غرائزهم وأهدافهم
المخصوصة، وذلك لأسباب ديماغوجية محضة.

لم تنفع الوطنية العشائرية ولا عدمية الانتفاض الجماهيرَ نفعاً
إيديولوجياً ولا طبعتاها بميسميهما، بمثل ما خدمتا الرعاع وطبعتاها، غير
أن قادة الجماهير الأكثر موهبة في زمننا كانوا خرجوا من صلب الرعاع أكثر
من صدوهم عن الجماهير. وها سيرة هتلر أمثل دليل على هذا الأمر، في حين أن
الأهم في شأن ستالين أنه كان متحدراً من جهاز التآمر في الحزب البولشفي،
الوحيد بخليط أعضائه المسقطين والثوريين. أما حزب هتلر، الذي كان، في
أصوله، مكوناً بصورة تكاد تكون تامةً من غير المتكيفين والفاشلين
والمغامرين، فقد شكل حقاً هذا "الجيش من الغجريين، الذي لم يكن سوى مقلب
المجتع البرجوازي الآخر، والذي لم تن البورجوازية الألمانية تستخدمه
لصالحها بأنجع السبل وأنجحها. والواقع أن النازيين خدعوا البورجوازية أيما
خدعة، تماماً كما خدعت عصبة "الروهم ـ شليشر" من قبل الحرس الإمبراطوري:

إذ لم يبارح الظن البورجوازيين هؤلاء أن هتلر، الذي استخدموه بمثابة
عراب،أو فرق الشرطة الألمانية التي كانوا قد استخدموها من أجل حملتهم
الدعائية العسكرية وتدريبهم العسكري الرديف إنما كانوا بنظرهم بمثابة
عملائهم وأنهم لبثا بعيونهم على إقامة الديكتاتورية العسكرية. وكان هؤلاء
وأولئك قد راحوا ينظرون إلى الحركة النازية ويطلقون عليها أوصافاً مستمدة
من تعابيرهم الخاصة. بحسب عبارات فلسفة سياسية خاصة بالرعاع، وأخذوا
يهملون، في الآن نفسه، الدعم المستقل والعفوي الذي ظلت تؤديه الجماهير
لقادة الرعاع الجدد، كما مضوا يتركون جانباً الاهتمام بكفاءات هؤلاء
القادة الحقيقية في خلق أشكال من التنظيم جديدة. ذك أن الرعاع، بحكم كونهم
محركي الجماهير، فإنهم لم يكونوا عملاء البورجوازية ولا أي شخصٍ آخر
البتة، إنما كانوا عملاء الجماهير نفسها، دون غيرها.

لطالما كانت الحركات التوتاليتارية أحوج إلى ظروفٍ خاصة تكون فيها
الجماهير مفتتة ومشظاة، منها إلى غياب بنية في مجتمع يتشكل من الجماهير.
ذلك ما يتضح تماماً للمرء إذ يقارن بين النازية والبولشفية، اللتين نشأتا،
كل في بلدها على التوالي، في ظروف غاية في الاختلاف.

وفي حين كان ستالين مجبراً على خلق المجتمع المتشظي هذا خلقاً
اصطناعياً، في سبيل أن يحول الديكتاتورية الثورية التي أرساها لينين إلى
نظام توتاليتاري كلياً، كانت الظروف التاريخية في ألمانيا هي التي مهدت
السبيل أمام النازيين لصنع ديكتاتوريتهم الخاصة.

إن انتصار ثورة أوكتوبر المدهش بسهولته إنما أحرز في بلاد حيث كانت
البيروقراطية الاستبدادية المركزية تسود جمهوراً من الشعب العديم الشخصية.
والحال أن أياً من بقايا الفئات الإقطاعية في الريف، ولا الطبقات
الرأسمالية الجنينية في المدن، أفلحت في تنظيم هذا الجمهور.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مجتمع بلا طبقات :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مجتمع بلا طبقات

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: