الكرخ فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 964
الموقع : الكرخ تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | د. عبدالله إبراهيم: الفلسفة والمجتمع التقليدي | |
حينما يدور الحديث عن الفلسفة، يلزم التفريق بين مادة الفلسفة، وهي المفاهيم، من جهة، وبين تاريخ نشوء الفكر الفلسفي، وهو الوصف التدريجي لأعمال الفلاسفة وجهودهم وعصورهم واتجاهاتهم، من جهة ثانية. والسائد في ثقافتنا العربية، القديمة والحديثة، هو الاقتصار على معرفة جوانب متفرقة من تاريخ تطور الفكر الفلسفي، وتجنب معرفة المفاهيم الفلسفية. وبغياب فعالية المفاهيم غاب التفكير الفلسفي الحقيقي، ولم يتأسس تراث فكري جدير بإثارة السؤال، ولم يبن بعدُ منهج المساءلة في علاقاتنا وفكرنا وتصوراتنا، حتى أن مبدأ الحق شاحب، لا يعرفه أحد، ويُخشى منه، كأن الحق جناية. وبمرور الوقت نمت تبعية ذهنية، فقد وجدنا أنفسنا في منطقة فراغ فكري تتصادم فيها المقولات والمفاهيم بدون ضوابط، فلا يتم هضمها، ولا تدخل في النسيج العام للتداول الفكري، إلى ذلك فإن تواريخ الفكر الفلسفي ظلت مدرسية، ونمطية، وتلقينية، ولم تعتمد على مناهج حديثة تلم بالظاهرة الفكرية وتقاربها من شتى الجوانب، وجرى عزل بين المفاهيم وسياقاتها الثقافية، وهذا الأمر هو الذي جعل الفكر العربي كالعباءة المملوءة بالهواء. من الصعب القول بوجود قصدية مسبقة لتثبيت المسار الأعرج لقضية الفلسفة في ثقافتنا، وليس من المفيد الطعن في جهود المشتغلين بالفلسفة وتاريخها، لأنهم جزء من مجتمع تقليدي لا يقر بأهمية التغيرات الكبرى في حياته، ويتمسك بمسلمات لاهوتية متخيلة، ويحوم في دوائر مغلقة تؤمن له أسباب اليقين والحق، ولم يزل دون الرغبة العقلية في إثارة السؤال والشك بالمسلمات المهيمنة، وهو-كما أشرنا في أكثر من مناسبة- محكوم بنسق متماثل من القيم شبه الثابتة أو الثابتة، و يستند في تصوراته عن نفسه وعن غيره من المجتمعات إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، تتحكّم بها روابط عشائرية أو مذهبية، وهذا المجتمع لم يفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسه وعن الآخر، فلجأ إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي يفسّره باعتباره تمسكا بالأصالة، وهو مجتمع أبوي- ذكوري يتصاعد فيه دور الأب الرمزي من الأسرة، وينتهي بالأمة، ولم تتحقق فيه الشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات، ويخشى التغيير في بنيته الاجتماعية، ويعتبره مهددا لقيمه الخاصة؛ فالحذر قائم تجاه كل تحديث فكري، وهو مجتمع تأثيمي مشغول بلوم أفراده وثأثيمهم وتقريعهم، حينما يقدِّمون أفكارا جديدة، ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم، وهو مجتمع معتصم بهوية ثقافية قارّة لا تعرف التحوّل، ولا تقرّ به، ولا تعرف معناه، وقد لاذ بتفسير ضيق ومغلق للنصوص الدينية، وصار مع الزمن خاضعا لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعه للقيم الثقافية والأخلاقية والروحية للنصوص الدينية الأصلية. وبالإجمال هو مجتمع التي لم يتمكن بعدُ من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفاسير والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة أخرى، فتوهم بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه، فأضفى قدسيّة عليها، وصار يفكر بها ويتصرّف في ضوئها، وهي تفاسير وتأويلات تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان، وأنتج تصورات ضيقة عن مفهوم الحرية والمشاركة، فاعتبرهما ممارستين ينبغي عليهما أن تمتثلا لشروط النسق الثقافي السائد، وأن تتمّا في ولاء كامل لشروط البنية الثقافية التقليدية، فمفهوم الحرية ليس مشروطا بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة والتغيير، إنما هو مقيّد بالولاء والطاعة، وكل خروج على مبدأ الطاعة والامتثال للنسق الثقافي السائد، مهما كان هدفه، فيعدّ مروقا وضلالا، لا يهدف إلى الاصطلاح إنما التدمير؛ لأن المرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأشياء وأهميتها وجدواها مشتقة من تصوّرات مغلقة على الذات، ومحكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير ضيق للماضي. هذا- فيما نرى- هو السياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي يحول دون ظهور التفكير الفلسفي بصورته الحقيقية، فلا قيمة لمفهوم فلسفي في مجتمع راكد حسم علاقته بالفكر، وقطع الصلة بينه وبين مسؤولية التفكير، ولهذا تتزايد الخلاصات المدرسية التعليمية لتاريخ الفلسفة في الجامعات والمكتبات، ولكن أثر المفاهيم الفلسفية يكاد يكون غائبا عن نظام التفكير العام، حتى أن التحولات الكبرى في مصائر المتفلسفين العرب تكشف حالة من اليأس بإزاء مجتمع يبدي صدودا كبيرا عن الانخراط في أية ممارسة تهدف إلى التفكير، فيما يتكالب بالملايين على الوعاظ والدعاة الذين يقدمون له وصفات جاهزة، ومعدّة بمزيج من الوعود والمسلّمات الأفيونية التي تعارض جوهر القيم الدينية الكبرى كالعدالة والحق والصدق والعمل والواجب والمشاركة، فيتوهم بأنه خطا نحو الحقيقة واليقين بوساطتهم، ويعود ذلك إلى أن مجتمعاتنا مازالت رهينة حالة التباس معقدة، وقد وقعت في المنطقة السرابية التي تضخم الوعود، وتنفخ في المطلقات، ولا تلتفت لأي صوت يدعو لإعمال االمزيد فلسفة | |
|