وليدات فرانسيس رشيد نيني -
raninyster@gmail.com بعد حل جيش التحرير ومطاردة زعمائه
من طرف ميليشيات حزب الاستقلال واغتيال الناشطين في المنظمات والأحزاب
المعارضة لاتفاقية «إكس ليبان» وبنودها السرية التي سلمت بموجبها فرنسا
المغرب استقلاله المشروط بالبقاء رهن التبعية الاقتصادية واللغوية
والثقافية لها، تسلم حزب الاستقلال مقاليد أول وزارة تعليم تحمل حقيبتها
محمد الفاسي.
فقد فهم الحزب، منذ البدء، أنه للاستمرار في احترام التقسيم الاستعماري
للمغرب إلى مغرب نافع ومغرب غير نافع، يجب تقسيم التعليم بدوره إلى تعليم
نافع وتعليم غير نافع، تعليم مجدٍ وعلمي ينتج النخبة التي ستتحكم في
الأغلبية التي ستتلقى تعليما متواضعا لا يحترم متطلبات سوق الشغل.
وهكذا، ففي سنة 1957 سيعلن وزير التعليم الاستقلالي محمد الفاسي عن قراره
تعريب التعليم الإعدادي انسجاما مع روح حزب الاستقلال الذي يدافع عن الهوية
الدينية للمغاربة. وعندما حلت سنة 1962، قرر المجلس الأعلى للتعليم
الوطني، بضغط من حزب الاستقلال دائما، تعريب التعليم العمومي بجميع مراحله.
وبينما كان زعماء حزب الاستقلال يجربون تعريب التعليم في أبناء الشعب، كانت
مدارس البعثات الفرنسية تستقبل أبناءهم بالأحضان. وعندما تسلم الاستقلالي
عز الدين العراقي حقيبة التعليم في أكتوبر 1977، كانت حظوظ خروج نخبة
متعلمة ومثقفة من مدارس التعليم العمومي شبه منعدمة. ولكي تصبح هذه الحظوظ
منعدمة بشكل كامل، قرر الوزير الاستقلالي تعريب التعليم إلى حدود
الباكلوريا. بعد تسع سنوات قضاها عز الدين العراقي في وزارة التعليم وست
سنوات قضاها كوزير أول على رأس الحكومة، كان لديه الوقت الكافي لكي يضحي
بجيل كامل من أبناء المغاربة وجدوا أنفسهم ضحايا نظام تعليمي عمومي لا منطق
يحكمه سوى منطق الإقصاء والتجهيل.
وطبعا، خلال هذا الوقت كان أبناء الزعماء الاستقلاليين وأبناء العائلات
يتلقون تعليما خاضعا لبرامج وزارة التعليم الفرنسية في مدارس البعثة. وإذا
عدتم إلى الموقع الإلكتروني لمدارس هذه البعثة ستعثرون على التواريخ التي
نال فيها أبناء عز الدين العراقي الباكلوريا في «ليسي ديكارت»، كما ستعثرون
على تواريخ حصول نزار بركة وغلاب والدويري وبقية أبناء زعماء حزب
الاستقلال على شهادة الباكلوريا.
والاتفاق الذي تم بين مفاوضي حزب الاستقلال والفرنسيين في «إكس ليبان» كان
يقتضي أن تخرج فرنسا من المغرب، شرط أن يستمر حزب الاستقلال في ضمان تبعية
المغرب اقتصاديا ولغويا لفرنسا، وإلا ما حاجة حزب الاستقلال إلى جريدة
يومية ناطقة باللغة الفرنسية اسمها «لوبينيون»، هو الحزب المدافع عن اللغة
العربية وحامي حماها.
وطبعا، لضمان مصالح فرنسا الاقتصادية في المغرب، أو ما يسمى بـ«الوجود
الفرنسي» في المغرب، كان ضروريا خلق نخبة مفرنسة تتلقى تعليما متطورا
وعصريا في مدارس البعثة الفرنسية، وبعدها في المعاهد الفرنسية المرموقة،
كمدرسة «الطرق والقناطر» و«المناجم» وHEC والتي تخرج منها أغلب أبناء
الزعماء الاستقلاليين وأصبحوا وزراء ورؤساء مؤسسات عمومية.
ببساطة شديدة، فقد قام حزب الاستقلال طيلة السنوات التي تلت مفاوضات «إكس
ليبان» بالتدبير المفوض للاستعمار الفرنسي. هكذا، نجحت فرنسا في استعمار
المغرب عن بعد وبتكلفة أقل. والفضل كله يرجع إلى حزب الاستقلال الذي فهم
الدرس جيدا وأعد أبناء زعمائه وأبناء العائلات المحترمة لكي يكونوا سفراء
فرنسا في المغرب، يتحدثون لغتها ويدافعون عن ثقافتها ووجودها لعشرات السنين
المقبلة.
ويكفي أن يراجع الواحد منا اليوم أسماء الشركات التي تتعاقد معها المؤسسات
التي تسيرها الحكومة الاستقلالية لكي يفهم أن الأغلبية الساحقة من هذه
الشركات فرنسية، تستهلك منتجات فرنسية وتوظف مكاتب دراسات فرنسية بخبراء
فرنسيين.
فرنسا اليوم، وحسب إحصائيات 2009، تعتبر المستثمر الأجنبي الأول في المغرب.
والاسم الذي تطلقه فرنسا على هذا الاستثمار هو «الوجود الاقتصادي
الفرنسي»، وهي أرضية تجمع كل الشركات الفرنسية المتواجدة بالمغرب والتي
لديها ارتباط مباشر بالشركات الأم الموجودة بفرنسا. وبالإضافة إلى فروع هذه
الشركات، هناك المكاتب التمثيلية والشركات الخاصة. باختصار، هناك ما يزيد
على 1000 شركة فرنسية، منها 400 فرع بالمغرب لشركة فرنسية كبرى، توجد كلها
ضمن ما تسميه الحكومة الفرنسية «الوجود الاقتصادي الفرنسي».
الجميع يعرف أن الشركات الفرنسية الموجودة بالمغرب مجتمعة كلها حسب غرفة
التجارة الفرنسية والصناعة بالمغرب ضمن تسمية كبيرة هي «الوجود الاقتصادي
الفرنسي».
لكن ما حكاية «الوجود الاقتصادي الفرنسي» بالضبط؟
إذا عدنا إلى تقليب بعض الصفحات المنسية من التاريخ الراهن للمغرب، فإننا
سنعثر على جذور هذه المؤسسة منذ بداية الخمسينيات. فقد كانت عبارة La
Présence Française تحيل على منظمة قوية تدافع عن المصالح الاقتصادية
للمستعمر الفرنسي بالمغرب. ولم تكن هذه المنظمة تكتفي بالدفاع السلمي عن
مصالح المستعمرين الفرنسيين الاقتصادية، بل كانت لديها ذراع مسلحة تقودها
ميليشيات تطارد المقاومين المغاربة.
أحد زعماء منظمة «الوجود الفرنسي» كان هو الدكتور «كوس»، وكانت ضمن أعضاء
منظمته شخصيات ذات نفوذ كبير من أمثال «كاترين لاكوست» و»جون دوشاطو»
والصحافي «ماكسينس طوماس». ولأن «الوجود الفرنسي» كان محتاجا إلى أدوات
إعلامية لربح معركته، فقد جاءت فكرة تأسيس إمبراطورية «ماص» الإعلامية.
وهكذا، أصبحت مجموعة «ماص» تتحكم في الأغلبية الساحقة من الصحف الصادرة في
المغرب، وأطلقت جرائد بالفرنسية أهمها «ليكو دي ماروك»، و»لوبوتي ماروكان»،
و»لافيجي ماروكان»، و»لوكوريي دي ماروك»، و»لاديبيش ماروكان». وقد تخصصت
هذه الجرائد في الدفاع عن الإيديولوجيا العنصرية الاستعمارية لمنظمة
«الوجود الفرنسي» وتحويل المقاومين المغاربة إلى إرهابيين.
ولعل أكبر ضربة تلقتها منظمة «الوجود الفرنسي» كانت هي اغتيال أحد أدمغتها
المفكرة وأحد أكثر أعضائها تأثيرا، ويتعلق الأمر بالدكتور «إميل إيرود»
الذي تربص به ثلاثة مقاومين يوم 30 يونيو 1954، هم محمد بلمختار وإدريس
لحريزي وإبراهيم فردوس، وأردوه قتيلا في أحد شوارع وسط الدار البيضاء.
الآن وقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر ونسي المغرب مقاوميه ونسيت فرنسا
معمريها، ما جدوى تسمية غرفة التجارة والصناعة الفرنسية بالمغرب للشركات
الفرنسية الموجودة بالمغرب باسم «الوجود الاقتصادي الفرنسي»، علما بأن هذه
التسمية تعني في الوجدان الشعبي المغربي ما تعنيه.
السؤال نفسه يطرحه كثيرون عن جدوى الاحتفاظ بتسمية الثانوية الفرنسية التي
تجسد التمثيل الأسمى للتعليم والتكوين الفرنسي باسم «ليسي ليوطي»، علما بأن
هذا الاسم فيه حمولة استعمارية واضحة، بحكم إحالته على اسم الماريشال الذي
كان مشرفا على تنفيذ مخطط الاستعمار الفرنسي بالمغرب.
والمصيبة أن اسم هذا الماريشال، الذي استعمر المغرب وقتل أبناءه بالآلاف،
أصبح مرادفا لدى المغاربة للتعليم الجيد الذي يضمن مواصلة التكوين في معاهد
فرنسا والحصول على شواهد تصلح لتقلد مناصب المسؤولية في المغرب.
هكذا، عوض أن يكون ليوطي رمزا للاستعمار أصبح رمزا للتعليم والتكوين الجيد
الذي يتهافت عليه المغاربة ويدفعون نصف رواتبهم من أجل تعليم أبنائهم فيه.
إن إصرار غرفة التجارة والصناعة الفرنسية بالدار البيضاء على جمع شركاتها
وفروع مؤسساتها المالية بالمغرب تحت مؤسسة «الوجود الاقتصادي الفرنسي»،
والذهاب إلى حد إصدار دليل سنة 2008 يحمل هذا الاسم، ليس من قبيل الصدفة،
بل هو رسالة واضحة إلى كل من يقرأ التاريخ ويفهمه، مفادها أن هناك جهات في
فرنسا لازالت تعتبر المغرب مستعمرة تابعة لنفوذها الاقتصادي لا يحق لأية
دولة أخرى الاقتراب منها.
وكما كانت لمنظمة «الوجود الفرنسي» صحافة «ماص» التي تدافع وتبرر سياستها
العنصرية الاستعمارية، هناك اليوم صحافة فرنكفوفونية مجندة يوميا وأسبوعيا
للدفاع عن مصالح الوجود الفرنسي في المغرب. وقد رأينا جميعا كيف تحركت
وزارة الخارجية الفرنسية بنفسها وحركت معها ذراعها الإعلامي «فرانس 24»
وإذاعة «ميدي1» عندما صادرت وزارة الداخلية مجلتي رضا بنشمسي بسبب خرق هذا
الأخير للقانون ونشره، باتفاق مع جريدة «لوموند»، استطلاعا للرأي حول
الملك.
إن هذا النوع من المجموعات الإعلامية المسخرة بالكامل لخدمة التدبير المفوض
للاستعمار عن بعد وبكلفة أقل، أصبح يشتغل بالطريقة نفسها التي كانت تشتغل
بها صحافة «ماص» خلال فترة الاستعمار الفرنسي. ولفرط استعلائها وتجبرها
واستئسادها على ثقافة ولغة ومقدسات بلادها، أصبحت صحافة «ماص» الجديدة
تطالب علانية بإلحاق المغرب بفرنسا لغويا وثقافيا وسياسيا.
غدا بحول الله نشرح تجليات هذا التدبير المفوض للاستعمار الفرنسي في حياتنا
اليومية، ونحلل بالأرقام كم يكلف هذا التدبير المفوض للاستعمار خزينة
الدولة بالعملة الصعبة.