أمطري علينا شيئًا يا سماء!
صبري
يوسف*
خَرَجَ
من منزله ممتعضًا من صدى الأخبار المسمومة.
تَمْتَمَ مُتسائلاً:
-
لماذا اندلعَتْ هناك كلُّ
تلك النيران المجنونة؟!
قادتْه
قدماه بعيدًا عن ضجيج المدائن. اشتعل في قلبه
الحزن. ارتقى طريقًا ترابيًّا وأسرع في خطاه.
لمح فراشةً ملوَّنة بألوان الفرح، تركضُ
خلفها فتاةٌ في عمر الزهور. همسَ للأشجار:
-
آه، لو عشنا براءة الأطفال!
ثمَّ
وجَّه أنظاره نحو قبَّة السماء مناجيًا آلهة
النار:
-
لماذا تنهج رؤى بعض البشر
منهجَ توجيه البشر نحو هاوية الجحيم؟!
كانت
أشجار النخيل واقفةً بشموخ تسمع همساته
الحزينة. الهواء كان نديًّا ومنعشًا. تناهى
إلى مسمعيه خريرُ المياه الصاعد من عمق
الوادي. شعر بغربة داخلية تهيمنُ على كيانه،
وراوده أنَّ هذه الغربة كانت حُبلى بأمِّه
فولدَتْ هاجسًا مسربلاً بالقهرِ ومقمَّطًا
بأنين الحياة! [آهٍ، يا غربة الإنسان مع أخيه
الإنسان!]
وكفيلمٍ
سينمائيٍّ بدأ يستعرضُ طفولته المقهورة،
شبابه المتوهِّج برحيق الكلمة، وكهولته
المهدورة بالمعاركِ السوداء. آهٍ، يا أيَّتها
المعارك الظالمة!
القلق
كان يغلِّفه من رأسه حتى أخمص قدميه. كان
يفكِّرُ بالأطفال والشباب والأشجار
المترنِّحة والأمَّهات الناحبات والكهول
والشيوخ الذين ترقرقَتْ عيونُهم بالدموع –
وآهٍ، يا دموع!
آلاف
الأسئلة تغلي في كيانه الحزين – هذا الكيان
الذي تجذَّرَتْ فيه الآهات – آهات ملايين
البشر الذين ينتظرون الموت. آهٍ، أيَّتها
الأسئلة الحارقة الملتصقة بسماوات الروح!
تتراءى
أمامه جماجم أصدقائه مهشَّمةً ومخضَّبةً
بالدماء. شعر بقُشَعْريرة حارقة تسري في مسام
جلده. أغمض عينيه بيديه وحاول أن ينحِّي
جماجمَ أصدقائه المعفَّرة بالتراب من
مخيَّلته، لكنْ عبثًا. لم يستطِعْ. ظلَّتْ
عالقةً في أعماق الذاكرة. كم كان غائصًا في
الهموم والانكسارات!
تلاشَتْ
الأهداف من أمامه وتحوَّلَتْ أجمل الأشياء
إلى سراب. وبدأَتْ رؤاه تتأرجح ما بين هواجس
الخوف من موت الأطفال على قارعة الطرقات،
وبين الزنزانات الظالمة الوسيعة التي كانت
تُحكِمُ الخناق على رقاب الملايين من كافة
الجهات! وآهٍ، يا جهات! وآهٍ، يا سماء! أمطري
علينا شيئًا يا سماء!
وبينما
كان سائرًا خلال الحقول تعثَّرَتْ خطاه
وارتطم رأسُه بجذع شجرة باسقة، فتطايرَتْ من
فمه شراراتٌ من الغضب. تَمْتَمَ:
-
اللعنةُ عليكِ أيَّتها
الهزائم والانتصارات!
ثمَّ
ردَّدَ بصوت عالٍ:
-
الانتصارات هي وجه من وجوه
الهزائم. والهزائم هي مزيدٌ من الغنائم على
حساب رقاب القوم! [آهٍ، وألف آه!] ما جدوى
الانتصارات إذا كانت تحملُ بين طيَّاتها
هزائمَ بشرٍ آخرين؟ الانتصارات على هذا النحو
هي إحدى هزائم القرن العشرين. إنه التطوُّر
العقيم. [حالة انتقال من واحة خضراء إلى بيداء
مكثَّفة بالقحط البشريِّ.] ما هذا التراجع
البغيض الذي تراه يكتنفُ إنساننا اليوم؟!
تابع
سيرَه متثاقلاً في خطاه. ثمَّ أرخى جسمه
المثقل بالكوابيس – الكوابيس التي ولَّدتْها
الحروب الطائشة الظالمة. أرادَ أن يهربَ من
هذا الجوِّ الخانق. استلقى على ظهره يستمع إلى
الإيقاعات التي تنشدها الضفادع برتابةٍ
موصولة. بعض الضفادع كان نقيقها متقطِّعًا
ومبحوحًا.
أفكاره
متقلِّبة ومشتَّتة. عيناه زائغتان. تمتمَ
باغتياظ لاعنًا الإيديولوجيات القميئة
لهؤلاء البشر الذين يخطِّطون لموت الإنسان.
نهض رافعًا يديه للسماء قائلاً:
-
أيَّتها الآلهة! أَلا ترين
كيف يقودُ بعضُ البشر أبناء جنسهم نحو براكين
الهلاك؟
يُخيَّلُ
إليه أحيانًا أنَّ الآلهة تغطُّ في سباتٍ
عميق، تاركةً البشر في مواسم الحصاد تحصد
بعضها بعضًا. وأحيانًا أخرى يخيَّل إليه أنَّ
الآلهة لها صبر أيُّوب، بل أكثر بكثير!
تراكمَتِ
المراراتُ في سقف حلقه، وتصوَّر أنَّ حياة
الإنسان أشبه ما تكون بقصة خرافية نَسَجَها
الجانُ تحت جنح الليل. امتزج في ظلِّه هاجسُ
القلق والخوفُ من تفاقم المستجدات الظالمة.
ثمَّ توغَّل الهاجسُ، رويدًا رويدًا، في
قلبه، إلى أن استوطن مساحاتِ روحه.
كم
كان كئيبًا ومغمومًا! بدَّدَت الطبيعة همومه
قليلاً. كان النسيمُ يداعبُ زقزقة العصافير.
أنظارُه مشدودة نحوَ زرقة السماء. وبينما كان
غارقًا في أحزانه، مرَّ سربٌ من البلابل على
مقربة منه. شهق شهيقًا عميقًا، متمتِّعًا
بالطيور المغرِّدة التي كانت تسبح بين أحضان
النسيم. قطَعتْهُ من لذَّة الاستمتاع "رشقةٌ"
قوية من أحد البلداء. وأخذَتِ البلابل تتهاوى
على الأرض مهيضة الأجنحة، مفقوءة العيون،
مهروسة اللحم، مخلخلة العظام، وريشُها
الملوَّن المتطاير يملأ حيِّزًا كبيرًا من
المكان!
ساءَلَ
نفسه بقلبٍ منكسر:
-
لماذا لا يتعلَّمُ الإنسان
أغاني الفرح من تغريد البلابل وحفيف الأشجار؟
لماذا يغوص الإنسان في أفانين الحرب ويقضي
أغلبَ أيامه ولياليه لمعرفة كيفية تحطيم قلوب
الأطفال وهم بين أحضان أمَّهاتهم؟ لماذا يسحق
بعضُهم الزهور ويقتل بعضُهم الآخر تغريدة
الفرح وهي معلَّقة بين مناقير الحمام؟
هَمَسَ
للريش المتطاير قائلاً:
-
وا أسفاه! هذه المناهجُ
البليدة تتفاقم يومًا بعد يوم.
أجفل
فجأةً عندما رأى أرنبًا برِّيًا يقفز قفزات
مديدة وخلفه وحشٌ ضارٍ تقطرُ أنيابه موتًا
بغيضًا. تلمَّس خاصرته متناولاً "عفريته"،
وسدَّد فوهتَه نحو هذا الوحش الضاري، فتحوَّل
إلى كتلة هامدة. نَظَرَ الأرنبُ المذعور خلفه
فرأى غريمه مكوَّمًا تحت شبح الموت!
صعد
الأرنب المرتفعات الجبلية ثمَّ بدأَ يهبط
باتجاه الوادي، مبتعدًا عن نيران المدائن.
كان ريشُ البلابل ما يزالُ يتطايرُ فوق أشجار
النخيل يرفضُ الانحدار نحو هاوية الموت. نهض
يلملم أشلاء الطيور المعفَّرة ليواريها
التراب فوق قمم الجبال. وفيما كان على وشك
الوصول إلى قمَّة شاهقة، سمع بعض الثعالب
تتساءل فيما بينها:
-
لماذا لا نبني علاقة حسن
جوار مع الطيور اللذيذة؟
كان
محاصرًا بالهموم. فجأةً بدأَ يردِّد:
-
إنِّي وجدتها! إنِّي وجدتها!
جاءتْه
فكرةٌ كومضة سريعة، وشعر أنَّ هذه الفكرة
كانت معلَّقة بأذيال الغيوم، فاستطاع أن
يلتقطها رغم كثافة الضباب.
وقف
متأمِّلاً الأفق البعيد، مستعرِضًا آخر
استنتاجاته وتحليلاته حول الإنسان: بعد
التجربة الدورانية الطويلة في الحياة، وبعد
أن ازدادتْ سَحقًا جماجمُ الأطفال واليمام
تحت رايات العفونة البشرية، تبيَّن أن داروِن
أخفق في نظريَّته عندما قال إنَّ الإنسان كان
أصله قردًا، فتطوَّر ذلك القرد إلى أن وصل إلى
ما وصل إليه الإنسان في صورته الآدميَّة الآن!
هكذا
قال داروِن... وأما هو فيقول العكس تمامًا: حيث
يعتبرُ أنَّ القرد كان أصلُه إنسانًا قبل أن
يكون قردًا. وتطوَّر ذلك الإنسان عبر مراحل
زمنيَّة طويلة جدًّا إلى أن أصبح قردًا
بهيئته الآدميَّة الآن!
وإلا
فما هذه القرود البشرية التي تزداد يومًا بعد
يوم، وتتحكَّم بشكل غوغائي بمصير أغلب البشر
المبعثرين على هذا الكوكب السابح بين أحضان
السماء!
ستوكهولم،
آب 1992