من يشرع للبشر قوانينهم؟
[size=16]يُشكل شعار (الإسلام
هو الحل) تحديًاً أمام المصريين،
لأنه يضعهم أمام الاختيار بين
نظامين للحكم: نظام حكم الدولة
الدينية، ونظام حكم الدولة
العالمانية التي رسّخت آليات
الليبرالية بشقيها الفكري
والسياسي، والتي أنتجتْ بدورها
المفهوم العصري للديمقراطية
بتفريعاتها المتعددة من حريات
جماعية وحريات فردية. وبالتالي
فإنّ الاختيار بين هذيْن
النظامين للحكم سيحدد مصير
المصريين لعدة عقود قادمة: إما
الاستمرار في التخلف الحضاري
الذي يتراكم يوماً بعد يوم،
والذي يترتب عليه المزيد من
التراجع عن الخصائص والمزايا
التي حققتها الدولة المصرية منذ
عهد محمد علي، وبصفة خاصة
التشريعات المدنية والجنائية
إلخ، أو التطلع نحو المستقبل
لتحقيق مجتمع العدل والحرية
والتنمية والرفاهية.
وأعتقد أنّ الغالبية العظمى من
المصريين تواجه مشكلة حادة في
اجتياز الاختيار بين نظاميْ
الحكم المشار إليهما، فهذا
الاختيار أمامه عائقان يُشكلان
تأثيرًا مؤكدًا في اتخاذ القرار
لصالح الجماعات الإسلامية
وبالتالي لصالح الدولة الدينية.
العائق الأول: طغيان اللغة
الدينية على مجمل الواقع المصري
منذ يوليو1952. لغة دينية طغتْ
وتحكمتْ في كل مؤسسات الدولة
وأجهزتها، وبصفة خاصة في
مؤسستيْ التعليم والإعلام،
وبالتالي حدّدتْ و(صنعت) توجهات
وقناعات المواطنين. وقد حققت هذه
السياسة التعليمية والإعلامية
النتيجة التي يرصدها المشهد
الثقافي والسياسي بصعود الإخوان
المسلمين إلى السلطة التشريعية
بأغلبية تقترب من ربع عدد مقاعد
البرلمان (عام 2005) الأمر الذي
ينبئ تحت سنابك الآليات الحالية
التي تُعظم من طغيان اللغة
الدينية، بأنّ رصيد التيار
الديني في الدورة البرلمانية
القادمة، سيحقق لهم أغلبية
ساحقة تقترب من نصف عدد مقاعد
البرلمان، لو تمت الانتخابات
بشفافية كاملة وبرقابة دولية
وبدون أي تدخل من الحكومة. طغيان
اللغة الدينية هو الذي أقنع
غالبية المصريين ، أنّ من يتكلم
باسم الإسلام ، وأنّ دستوره
القرآن ، هو الأفضل ، لأنه هو
الذي سيطبق شرع الله ، وبالتالي
اكتسب شعارهم (الإسلام هو الحل)
مصداقية وصلتْ إلى مرتبة
الإيمان العقيدي . أما العائق
الثاني فيتمثل في أسلوب الخداع
الذي لجأ إليه بعض الأصوليين
الإسلاميين الذين رفعوا شعار (دولة
مدنية ذات مرجعية دينية) وهو
شعار خادع لأنه ـ ببساطة يحمل
تناقضه بداخله. إذْ أنّ مصطلح
دولة مدنية (بغض النظر عن الأصل
التاريخي لكلمة "مدنية")
يعني في العرف السائد دولة
مؤسسات ، لا دولة خلفية أو أمير
أو سلطان أو مرشد . في الدولة
المدنية (واسمها الحقيقي دولة
علمانية/ ليبرالية/ ديمقراطية)
يتم الفصل التام بين السلطة
التشريعية والسلطة القضائية
والسلطة التنفيذية ، وأهم
سماتها وخصائصها أنّ البشر هم
الذين يشرعون القوانين التي
تنظم واقعهم السياسي والاقتصادي
والتجاري والعلمي . وتنظم علاقة
المحكومين بعضهم ببعض وعلاقاتهم
بنظام الحكم . إنّ هذه الخصائص (وهي
على سبيل المثال) تختفي تمامًا
تحت سيطرة أي نظام يشترط أنْ
تكون مرجعيته مرجعية دينية . أي
أنّ الشطر الثاني من الجملة (مرجعية
دينية) ينفي ويلغي الشطر الأول (دولة
مدنية) وبالتالي فإنّ أصحاب شعار
(دولة مدنية بمرجعية دينية) لا
يختلفون عن أصحاب شعار (الإسلام
هو الحل).
وإذا كان طغيان اللغة الدينية
يُشكل عائقا أمام غالبية
المصريين في الاختيار بين
الدولة الليبرالية والدولة
الدينية ، فإنّ محور (التشريعات
القانونية) يُشكل تحديًا أمام
التيار الديني بكل فصائله. إنّ
هذا المحور هو المحك الرئيسي في
الإجابة عن هذا السؤال: هل هناك
قيود أو حدود تقّيد أو تحد من
سلطة الشعب (أي شعب) في تشريع
القوانين التي تعبر عن ثقافته
القومية من ناحية ، وتلائم روح
العصر الذي يعيشه من ناحية أخرى؟
كما أنّ (الإجابة) ستحدد: من مع
الدولة الدينية (حتى وإنْ تمسح
في مصطلح الدولة المدنية
المراوغ) ومن مع الدولة
الليبرالية ؟ وفيما يلي بعض
الأمثلة التي أرجو أنْ يفكر فيها
كل من انخدع بطغيان اللغة
الدينية ، وأنْ يكون التفكير
مجردًا من أية عواطف مسبقة :
أولا : آيات قرآنية توقف العمل
بها :
1. نص الذكر الحكيم "فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
فريضة" (سورة النساء/24) هذه
الآية الكريمة محل خلاف بين أهل
السنة الذين يرون أنه توقف العمل
بها في عهد النبي محمد (ص) وبين
أهل الشيعة الذين يرون أنّ الذي
أوقف العمل بها هو أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب (ر) ويذهب رأي
الشيعة إلى أنّ هناك من الصحابة
من يرى إباحته مثل الإمام على بن
أبي طالب (ر) وعمران بن الحصين
الخزاعي وعبد الله بن مسعود.
الخلاصة "أنّ عددًا كبيرًا من
الصحابة منهم ابن عباس حبر الأمة
وعلي بن أبي طالب في قول الشيعة
يرون أنّ زواج المتعة مردود إلى
الآية المنّوه عنها وأنّ بعضًا
منهم كانوا يقرأون هذه الآية
بإضافة عبارة (إلى أجل مسمى) "فما
استمتعتم به منهن (إلى أجل مسمى)
فآتوهن أجورهن فريضة" بما
يقطع بتأقيت هذا الزواج إلى أجل
مسمى يحدده الطرفان" ( ) فهل
يمكن ونحن في القرن الواحد
والعشرين أنْ يصدر تشريع قانوني
يبيح زواج المتعة ؟ وإذا كان
البعض سيعترض قائلاً: أنّ هذا
رأي الشيعة وحدهم ، فإنّ الواقع
أثبتَ أنّ أهل السنة فعلوا نفس
الشيء واستنسخوا من (زواج المتعة)
زواجًا شبيهًا أطلقوا عليه اسم (زواج
المسيار) ومُطبق بالفعل منذ عدة
سنوات في بعض بلاد الجزيرة
العربية.
2. نص الذكر الحكيم في أكثر من آية
على حق الرجل في الجمع بين
زوجاته الأربع وحقه في
الاستمتاع بما يملك من الإماء (المفرد
أمة أي عبدة) وفقا لنظام (ما ملكت
أيمانهم) وهو ما نصّتْ عليه
الآيتان الكريمتان رقما (6،5) من
سورة المؤمنون "والذين هم
لفروجهم حافظون. إلاّ على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم
فإنهم غير ملومين" وكذلك ما
نصت عليه الآية الكريمة رقم (3) من
سورة النساء "وإنْ خفتم ألاّ
تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما
طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع فإنْ خفتم ألاّ تعدلوا
فواحدة أو ما ملكت أيمانكم"
فهل يستطيع أي تيار ديني اليوم
ونحن في القرن الحادي والعشرين
أنْ يسن تشريعًا قانونيًا ينص
فيه على حق الرجل في الجمع بين
زوجاته وبين اللاتي في حوزته (ملك
اليمين) ؟
3. وهل يجوز لقوى التيار
الليبرالي المطالبة بسن قانون
ينص على إلغاء تعدد الزوجات وهي
الدعوة التي طالب بها كثير من
المفكرين قبل يوليو 1952، مثل عبد
الحميد الحديدي ودرية شفيق ( )
وهو نفس المطلب الذي طالبتْ به
اللجنة العليا للسيدات بحزب
الوفد برئاسة السيدة هدى شعراوي
، حيث تقدمنَ إلى مجلس النواب
والشيوخ بمذكرة تضمنت عدة مطالب
، كان من بينها ضرورة سن قانون
يمنع تعدد الزوجات إلاّ للضرورة
كأنْ تكون الزوجة عقيمًا أو
مريضة بمرض يمنعها من أداء
وظيفتها الزوجية ، وفي هذه
الحالات يجب أنْ يثبت ذلك الطبيب
الشرعي، وكذلك سن قانون يُلزم
المطلق ألا يطلق زوجته إلاّ أمام
القاضي، ومحاولة التوفيق بحضور
حكم من أهله وحكم من أهلها قبل
الحكم ( ) إنّ رواد النهضة
المصرية الذين طالبوا بإلغاء
تعدد الزوجات انطلقوا من روح
النص القرآني الحكيم ، وهو ما
عبّرتْ عنه هدى شعراوي حيث كتبتْ
"أظن أنّ القرآن الكريم
بتحديده عدد النساء إلى أربع
مطاع ، ولكنه لا يوحي بهذه
العادة التي كانت منتشرة عند
قبائل العرب قبل الإسلام ، فإنه
يقول بالنص "وإنْ خفتم ألاّ
تعدلوا فواحدة (النساء/3) "ولن
تستطيعوا أنْ تعدلوا بين النساء
ولو حرصتم" (النساء/129) إذن
يكون لها (المرأة) حق المطالبة
بإلغاء هذه العادة التي توجد
الشقاق في الأسر وتولد البغضاء
بين الأخوة والأخوات من أمهات
مختلفة إلخ" ( ) أعتقد أنّ
الإجابة عن هذا السؤال تحدده
طبيعة القوى المسيطرة على آلية
التشريع (البرلمان) وعلى السلطة
التنفيذيـة ، وباختصار على مجمل
الثقافة السائدة في أي مجتمع
بشري .
4. يشير المستشار محمد سعيد
العشماوي إلى مثاليْن من
الأحكام الوقتية التي نص عليها
القرآن العظيم. المثال الأول:
النص على حصة المؤلفة قلوبهم من
الصدقات (أو الزكاة) وهو النص
الذي رفض عمر بن الخطاب (ر)
تطبيقه لدرجة أنْ بصق على الكتاب
الذي أرسله إليه أبو بكر (ر)
ومزّقه ، لأنّ عمر كان يطبق (
بوعي أو بدون وعي) قانون (التغيّر)
إذْ بعد أنْ قويتْ شوكة الإسلام
، وبعد أنْ كثر الأتباع
والمؤيدين ، فما حاجة الإسلام
بهؤلاء الذين كان الرسول الكريم
يحد من عداوتهم ويبطل هجومهم على
الإسلام بـ الحصة التي يقدمها
لهم من الصدقات؟ وفي صياغة دقيقة
كتب المستشار العشماوي "هل
يمكن أنْ يطبق حكم المؤلفة
قلوبهم في العصر الحالي ـ رغم
وجود نص قرآني وعدم نسخه ـ
فتُعطى الحكومات الإسلامية
نصيبًا من الصدقات (أو الزكاة)
إلى حكومات أخرى قوية تتألفها،
أو إلى عصابات مسلحة تُعلن عليها
الحرب أو تهددها، فترى الحكومات
(الإسلامية) ألاّ تحاربها أو
تعاديها وإنما تتألفها بإعطائها
الصدقات؟" المثال الثاني "يتعلق
بوقف الحكم الخاص بتوزيع
الأراضي المفتوحة على الفاتحين
لها. لأنّ عمر بن الخطاب رأى أنّ
حكم إعطاء الأراضي المفتوحة إلى
الفاتحين لم يعد من الممكن
تطبيقه ـ لعلة أو لأخرى ـ مع أنّ
هذا الحكم في القرآن لم يُنسخ.
فهل يكون هناك وصف لتصرف عمر
وفهم المسلمين وإجماعهم إلاّ
أنهم رأوا أنّ هذا الحكم كان
رهنًا بوقت معين أو مخصصًا بظرف
خاص ؟" ( )
5. هل يستطيع أي تيار ديني (مهما
بلغ تشدده ومهما بلغتْ نظرته
الأحادية) أنْ يُطالب باستصدار
تشريع يُقنن أحكام الرق (=العبودية)
والتسري بالإماء وهي أحكام
منصوص عليها في القرآن العظيم ،
ولم تُنسخ لا بالقرآن ولا بالسنة.
وقد طرح المستشار العشماوي
سؤالاً مهمًا : هل هذه الأحكام
عامة لكل زمان ومكان لا يستطيع
أحد أنْ يطالب بوقف العمل بها
وإلاّ كان كافرًا مرتدًا ، أم
أنها أحكام مؤقتة بعصر معين
وفترة خاصة ، كان الرق فيها
ضرورة اقتصادية واجتماعية ،
بحيث لم يمكن إلغاؤه مرة واحدة ؟
وإذا كان الرق والتسري بالإماء (ملك
يمين) وهي بعض أحكام القرآن
أحكامًا عامة ، فإنّ معنى ذلك
المطالبة بإلغاء الدكريتو (=
فرمان أو قانون سلطوي) الصادر
بتاريخ 4/8/1877 والأمر العالي
الصادر في 21/1/1896 بإلغاء الرق .
وأنْ يدعو (المعترض على ذلك) إلى
إباحة الرق (حتى لا يؤمن ببعض
الكتاب ويكفر ببعضه ، والتصريح
بأسواق النخاسة ، وتخويل من يشاء
حق شراء الإماء والتسري بهن حتى
يحمي نفسه من الانحراف ويعصم
ذاته من الزنا ( )
ثانيًا : إشكالية تنفيذ العقوبات
الحدية المنصوص عليها في القرآن:
1. حد السرقة: قطع اليد:
أ. في هذه الإشكالية يلاحظ أنّ
التشريعات الحديثة ، حتى في
الدول التي يدين أغلب سكانها
بالإسلام، لا تُطبق عقوبة قطع يد
السارق ، باستثناء المملكة
السعودية ، وفترة زمنية من حكم
نميري في السودان، وحكم طالبان (=
طلبة الشيعة) في أفغانستان. وأنّ
المعمول به في معظم الدول
الإسلامية ، هو توقيع عقوبة
الحبس أو الغرامة المالية أو
كليهما.
ب. تمثل عقوبة قطع اليد إشكالية
أخرى ، وهي إلى أي مدى يحرص
النظام السياسي والاجتماعي (في
أي مجتمع) على الاستقرار، وتحويل
الإنسان الذي يعتدي على حق
الآخرين وسرقة ممتلكاتهم إلى
إنسان صالح وعضو مفيد ومنتج ؟
وأنّ عقوبة الحبس تتيح له (بعد
قضاء فترة العقوبة) الانخراط في
المجتمع ، وأنّ هذا الانخراط لا
يتحقق إلا إذا كان له عمل شريف
يكون هو مصدر دخله. وهذا العمل
الشريف لا يمكن أنْ يتحقق بعد
قطع يده ، خاصة إذا كان هذا
الإنسان (السارق) لا يجيد أي نوع
من أنواع الأعمال الذهنية (رغم
أنها تتطلب استخدام اليد أيضًا)
ولكن الصعوبة تتمثل في الفئات
الذين يعتمدون على سواعدهم في
الأعمال الحرفية (نجار، حداد ،
عتّال إلخ) فإنّ قطع يده سيحرمه
من إمكانية الاعتماد على العمل
الشريف. وبالتالي فإنّ النظام
السياسي والاجتماعي الذي يُطبق
عقوبة قطع اليد ، يُحوّل مجموع
مقطوعي اليد إما إلى منحرفين أو
متسولين.
ج. الإشكالية الثالثة تتمثل في
تعريف المال المسروق وفقا للفقه
الإسلامي: إذْ أنه يوجد إجماع
بين الفقهاء على أنّ "حد
السرقة لا يُطبّق في سرقة أموال
الدولة ولو بلغتْ الملايين ،
لأنّ لكل مسلم حقا في هذه
الأموال هو ما يسمى بشبهة المُلك
يُسقط الحد فلا يقام أبدًا ، كما
أنه لا يُطبق على المختلس (أي
خائن الأمانة) ولا على الخاطف أو
المنتهب" ( ) وهكذا فإنّ سارق
رغيف العيش تُقطع يده ، بينما
مختلس ملايين الجنيهات تكون
عقوبته الحبس أو السجن أو تطبق
عليه أية عقوبة تعزيرية ، وهي في
كل الأحوال أخف من قطع اليد . أي
أنّ مختلس الملايين أفضل من سارق
الرغيف وفقا للفقه الإسلامي ،
بينما القوانين الوضعية تحكم
على سارق الرغيف بالحبس وربما
يعفو القاضي عنه وفقا لسلطته
التقديرية. كما أنه وفقا لتفسير
الأصوليين الذين يحرّمون بعض
منجزات العصر الحديث ، ويرون
أنها بدعة ضارة ، فإنّ سرقتها
حلال شرعًا، مثل الآلات
الموسيقية والتماثيل واللوحات
الفنية إلخ .
د. الإشكالية الرابعة تتمثل في
ظهور براءة المتهم بعد قطع يده .
وظهور البراءة ليس فرضية ذهنية ،
وإنما هو واقع تكرر كثيرًا سواء
في مصر أو في غيرها من البلاد .
فما هو شعور الإنسان الذي قُطعتْ
يده وهو برئ من التهمة (التي ربما
تكون ملفقة لأسباب سياسية أو
خصومات شخصية) خاصة وأنّ أموال
التعويض (بافتراض حدوثه كما هو
في العالم المتحضر) مهما كان
حجمها لا تعني شيئًا بالقياس على
اليد المقطوعة.
2. حد الزنا:
الجلد مائة جلدة . وهذا الحد يجب
كي يتم تطبيقه ، وجود أربعة شهود
يؤكدون أنهم رأوا الجماع الجنسي
المحرّم بين الرجل والمرأة ، ومع
مراعاة أنه لا يمكن أنْ يمر
الخيط بين جسديهما. ولو أنّ أحد
الشهود تراجع ، فإنه لا يجوز
إقامة حد الزنا ، كما أنّ تصميم
المنازل العصرية ، حيث الشقق
المغلقة ، يصعب معه إمكانية
التلصص على الآخرين في إطار نظام
الخيام التي كانت هي المأوى
السكني في الجزيرة العربية وقت
نزول النص . ورغم هذه الحقائق
فإنّ الجماعات الإسلامية تطالب
بأنْ يكون قانون العقوبات
مطابقا للتشريع الإسلامي .
3. هناك حدود أقل شهرة مثل حد
القذف (ثمانين جلدة) وحد الحرابة
(وهو القتل أو الصلب أو النفي في
الأرض) وعقوبة شرب الخمر وهي
عقوبة تعزيرية لأنها لم ترد في
القرآن أو السنة ، وإنما
استخرجها علي بن أبي طالب قياسًا
على حد القذف . وهذه الحدود ـ كما
يقول المستشار العشماوي ـ "عقوبات
شرطية ، بمعنى أنها لا تُطبق
إلاّ بعد توافر شروط معينة هي
قيام مجتمع من المؤمنين التقاة
العدول ، وتحقيق العدالة
السياسية والاقتصادية
والاجتماعية ابتداءً ، حتى لا
تُستعمل الأحكام الشرعية في
أغراض غير شرعية ، ولكي لا
تُستخدم العقوبات باسم الإسلام
ضد المسلمين من خلال حكومات
ظالمة أو حُكام فسقة أو محاكم
استثنائية أو تُطبق إعتسافا
وظلمًا بناءً على ضبط زائف أو
شهادة مزورة أو حكم جائر كما حدث
في كثير من التطبيقات على مدى
التاريخ الإسلامي ، وفي
التطبيقات المعاصرة على وجه خاص"
( )
ثالثا : المرجعية الدينية
والواقع المتغير:
تتأسس فلسفة القانون على
احتياجات الإنسان وفقا لظروف
عصره الذي يعيش فيه ، ووفقا
لخصائص البيئة التي يعيش على
أرضها ، ووفقا لمجمل ثقافته
القومية. في حين أنّ أصحاب
المرجعية الدينية يتجاهلون كل
هذه الاعتبارات ، وبالتالي تكون
النتيجة أنهم يطلبون من الإنسان
المعاصر أنْ يعيش عصرًا غير عصره
، وبيئة غير بيئته ، وثقافات
قومية أجنبية لا تعبر عن ثقافته
القومية. وفيما يلي بعض الأمثلة
على تعارض أحكام المرجعية
الدينية مع الواقع المتغير:
1. إذا أرادت دولة ما أنْ تُصدر
قانونًا لتنظيم النسل ، وأنه لا
يجوز للزوجين أنْ يكون لهما أكثر
من طفل واحد أو طفليْن إلخ .
انقسم أصحاب المرجعية الدينية
قسمين: الأصوليون يرون أنّ هذا
لا يجوز، وأنه حرام لأنّ الله هو
الرازق ، بينما يرى (فقهاء
السلطة) أنه يجوز وأنه حلال
شرعًا لأنّ الإسلام مع (التنظيم
وليس مع الفوضى) في حين أنّ علوم
العصر الحديث تحسم الموضوع بشكل
علمي ينحصر في مراعاة العوامل
التالية : المساحة الكلية
للأراضي الزراعية والأراضي
العمرانية ، حجم الموارد
الطبيعية ، حجم ونوعية الطاقة
البشرية.. إلخ ، أي أنّ العوامل
الموضوعية هي التي تُحدد العدد
الملائم للسكان . والدليل على
ذلك أنّ بلادًا كثيرة في أوروبا
مثل ألمانيا تشجع زيادة النسل
وتقدم مزايا عديدة للأسرة
لتحقيق هذه الزيادة.
2. إذا أرادت دولة ما أنْ تُصدر
قانونا يبيح نقل الأعضاء
البشرية للمرضى. قال الأصوليون
أنّ هذا حرام لأنه يؤجل لقاء
الإنسان بربه. في حين أنّ شيخًا
مشهورًا وكان نجمًا إعلاميًا ،
بعد أنْ قال هذه الفتوى بشهور
ذهب إلى لندن (بلاد الكفر كما
يسمونها) وأجرى له الأطباء
البريطانيون عملية جراحية دقيقة
، استعاد بعدها عافيته. أما
المشايخ الذين يُطلق عليهم صفة
الاعتدال ، فإنهم يتكلمون فيما
لا يعنيهم ، مثل متى يكون
الإنسان قد مات ؟ هل بتوقف ضربات
القلب ، أم بموت جذع المخ إلخ..
وهي أمور علمية / طبية لا شأن
للمرجعية الدينية فيها.
3. ختان البنات: وفيها انقسم
أصحاب المرجعية الدينية ، بين
مؤيد ومعارض. وكل منهما يستشهد
بذات المرجعية الدينية ، في حين
أنّ هذا الأمر لا يحسمه إلاّ
الأطباء المتخصصون وهل هو في
صالح البنت أم ضد مصلحتها.
4. الادعاء أنّ الادخار في مكاتب
البريد أو في بنوك الدولة حرام
لأنه ربا. ورغم أنّ المصنفين بـ (المعتدلين)
أو بـ (اليسار الإسلامي) فنّدوا
مسألة الربا، وأنّ البنوك
الحديثة لا علاقة لها بمفهوم
الربا الوارد في القرآن ، رغم
ذلك فإنّ الأصوليين يهاجمون
بنوك الدولة ويسعون لاستصدار
تشريع يحرّم التعامل معها،
تمهيدًا لإقامة شركات نصب ونهب
الأموال المسماة حركيًا شركات
توظيف الأموال . وعن البنوك
المساه (المصارف الإسلامية) كتب
المستشار العشماوي أنّ "هذه
المصارف لا تستثمر أموالها في
الإنتاج ـ كما فعل بنك مصر عند
إنشائه حيث أقام دعائم الاقتصاد
المصري ـ لكنها تودع أموالها في
مصارف أجنبية ببلاد أوروبا
وأمريكا، وتأخذ عليها فائدة تصل
إلى 14% سنويًا، توزع منها على
المودعين لديها ما بين 10،8%
سنويًا، زاعمة أنّ ما تقدمه لهم
هو أرباح وليس فائدة ، أي أنها
تلجأ إلى تغيير الاسم فقط مع
بقاء الفعل كفعل غيرها من
المصارف في كل بلاد العالم، وهي
تتحايل لتحقيق أهدافها فتغاير
بين النسبة التي تقدمها
للمودعين بين عام وآخر حتى لا
ينتبهوا إلى حقيقة الأمر" ( )
5. لو أرادت دولة ما أنْ تحقق
مقاصد الشريعة كما وردت في
القرآن العظيم بتطبيق تكنولوجيا
العلم الحديث ، فما هو موقف
السلطة التشريعية ؟ مثال: تنص
آيات الذكر الحكيم أنّ المرأة
المطلقة والأرمل لكل منهما مدة
محددة (= عدة) حتى تقترن بزوج آخر.
والحكمة في ذلك التأكد من براءة
رحمها من الحمل ، لتجنب اختلاط
الأنساب ، فإذا جاء العلم الحديث
، وأصبح من الممكن بواسطة
التكنولوجيا الطبية ، التأكد من
خلو الرحم من الحمل ، فهل يجوز
استصدار تشريع يسمح للمرأة أنْ
تعقد قرانها على زوج آخر بعد
طلاقها أو بعد وفاة زوجها بأيام
أو أسبوع إذا كانت مضطرة للسفر
مع الزوج الجديد ؟ هذا المثال
يضع تحديًا جادًا أمام المجتمع
في العصر الحديث ، ويفرّق بين من
يقدسون الثبات ومن يؤمنون
بالتغير. بين من لا يفهمون روح
النصوص ، وبين من يهتمون بسعادة
الإنسان.
6. إذا أرادت دولة ما استصدار
قانون يعاقب بموجبه كل من يُكفر
الآخر، فما هو موقف السلطة
التشريعية ؟ سيختلف الوضع لو أنّ
أغلبية أعضاء البرلمان من
الأصوليين الذين يرون أنّ
بضاعتهم تعتمد أساسًا على تكفير
كل مختلف مع مرجعيتهم ، وبالتالي
فهم ضد كل من يطالب بإلغاء قانون
الحسبة الذي يُعطي للنيابة
العامة حق إقامة دعوى (الردة)
بناءً على طلب من آحاد الناس .
أما لو كانت أغلبية أعضاء
البرلمان من الليبراليين فإنهم
سيوافقون على مشروع القانون
الذي يعاقب كل من يُكفر الآخر،
وأيضًا سيطالبون بإلغاء قانون
الحسبة.
7. ما هو الموقف لو أنّ الأصوليين
شكّلوا أغلبية مطلقة في
البرلمان (= السلطة التشريعية)
وأرادوا استصدار قانون ينص على
وجوب تطبيق العقوبات البدنية في
بعض الجرائم ، مثل الجلد وقطع
الرقبة ، وقطع اليد على أنْ يكون
ذلك في ميدان عام يسمح للجمهور
بالفرجة والمشاهدة ؟ وما هو
الموقف لو حدث العكس وكانت
الأغلبية في البرلمان لقوى
التيار الليبرالي الذي يطالب
بإلغاء عقوبة الإعدام ؟
إنّ منظمة العفو الدولية ، قد
وسّعت النظرة الإنسانية إلى
المجرم ، إذْ نص قانونها الأساسي
على حث حكومات العالم على أنْ
تُعدّل من قوانينها ، بحيث يتم
تجريم العقوبات البدنية القاسية
، مثل الجلد وقطع اليد والرقبة.
وبالتالي تضمّن القانون الأساسي
لمنظمة العفو الدولية ، حث دول
العالم على إلغاء عقوبة الإعدام
، وذلك من خلال منطلقيْن
أساسييْن: الأول قانون
الاحتمالات الذي يضع قاعدة
أساسية وهي احتمالات ظهور براءة
المتهم بعد تنفيذ الحكم . فما هو
الوضع بعد تنفيذ عقوبة الجلد أو
قطع اليد وإزهاق الروح ؟ في
العقوبات الوضعية (الحبس،
السجن، الغرامة) يحق للمتهم
البريء أنْ يطالب بتعويض أدبي
ومادي ، ولكن كيف يمكن محو الألم
النفسي لمن تم جلده في ميدان عام
، خاصة إذا ظهرت أدلة مؤكدة على
براءته ، وهنا يكون الألم النفسي
مضاعفًا ، ونفس الشيء بالنسبة
لمن قّطعتْ يده. أما الإشكالية
الكبرى فهي الإطاحة برأس إنسان
بريء.
أما المنطلق الثاني لفلسفة
إلغاء عقوبة الإعدام، فهو منطلق
واقعي مستمد من التجارب العديدة
في دول كثيرة ، حيث ثبت بالدليل
القاطع أنّ كثيرين تم تنفيذ
عقوبة الإعدام فيهم ثم تبين أنهم
أبرياء .
إنّ إلغاء عقوبة الإعدام تتأسس
على ثلاثة أسباب :
الأول: مراعاة الشفقة بالجاني ،
حتى ولو كان مدانا ، وهو اعتبار
إنساني بحت ، تمليه فطرة الإنسان
التي يغلب عليها الشفقة ،
متصورًا ذاته مكان الجاني.
الثاني: مراعاة البعد الاجتماعي
والفلسفي والنفسي والاقتصادي
والثقافي مع مجمل الظروف التي
دفعته إلى ارتكاب الجريمة.
الثالث: احتمال براءة المتهم بعد
تنفيذ العقوبة.
نظرًا لهذه الاعتبارات المهمة ،
تبنّتْ منظمات حقوق الإنسان في
أوروبا، ما نص عليه القانون
الأساسي لمنظمة العفو الدولية،
خاصة وأنّ التاريخ الحديث
والمعاصر يُحدثنا عن آلاف
الأبرياء الذين أعدموا لأسباب
سياسية. ففي إيران الخومينية ـ
على سبيل المثال ـ سجّلت منظمة
العفو الدولية "أسماء ما يزيد
على ألفيْ سجين ورد وقوعهم ضحية
لموجة من الإعدامات السياسية
السرية في الفترة من يوليو 88
ويناير 1989" ( ) وقد أوضح (آية
الله يزدي) رئيس الهيئة القضائية
أنّ أعضاء جماعات المعارضة مثل
منظمة مجاهدي خلق الإيرانية ،
مدانون بصورة جماعية "بشن
الحرب على الله" ، "الفساد
في الأرض" ومن ثم فهم معرضون
للحكم عليهم بالإعدام" ( )
أما في السنوات الأولى لما سُمي
بالثورة الخومينية ، فإنّ تقرير
منظمة العفو الدولية ذكر أنّ
الآلاف من المعارضين السياسيين
للحكومة الجديدة ، تم إعدامهم في
السنوات الأولى للثورة
الإيرانية التي قامت عام 1979 ( )
وتعتبر منظمة العفو الدولية أنّ
من بين فضائح الولايات المتحدة
الأمريكية في مجال حقوق الإنسان
، مسألة "الاستخدام المتزايد
لعقوبة الإعدام" ( ) خاصة بعد
أنْ ثبتَ براءة 23 إنسانا بعد
إعدامهم ( )
وفي السودان تم إعدام الشيخ
محمود محمد طه علنا داخل سجن
كوبر يوم 18 يناير 1985 بأوامر من
الرئيس المؤمن الخليفة جعفر
النميري ، علمًا بأنّ الشيخ
محمود طه ، كان على درجة من
التقوى والورع شهد له بهما كل من
تعاملوا معه ، وكان أحد زعماء
الإخوان الجمهوريين ، ولم يكن ضد
تطبيق الشريعة الإسلامية ،
وإنما كان ضد تطبيق نميري
والإسلاميين أتباعه للشريعة
الإسلاميـة ، أي قطع يد الفقير
سارق الرغيف . ورغم نداءات
الاستغاثة من معظم رؤساء الدول
ومنظمات حقوق الإنسان إلى أمير
المؤمنين محمد جعفر النميري
لإنقاذ حياة الشيخ الجليل ، فقد
تم الإعدام العلني ، لمجرد أنه
كان يقف مع العدالة ومع حقوق
الضعفاء ، رغم أنّ مرجعيته كانت
مرجعية دينية.
وفي مصر تم إعدام الشهيديْن محمد
البقري (19.5 سنة) ومصطفى خميس (18
سنة) في مذبحة عمال كفر الدوار
بعد ثلاثة أسابيع من انقلاب أبيب
/ يوليو 1952، بعد محاصرة المصانع
وبيوت الأهالي بالدبابات
واعتقال 567 عاملا والحكم العسكري
بسجن الكثيرين. وتم إعدام
العامليْن المذكوريْن أمام 1500
عامل في ملعب كرة القدم ، وهو
المشهد الذي أيقظ من بئر الأحزان
مذبحة دنشواي التي ارتكبها ضباط
الاحتلال الإنجليزي عام 1906 ضد
الفلاحين المصريين. ومن هنا لم
تكن ثمة مبالغة في وصف أحداث كفر
الدوار في أغسطس 1952 بأنها دنشواي
جديدة على يد الضباط الذين
صدّقوا أنفسهم أمام تعبير (الضباط
الأحرار) ولعل أهم درس في مذبحة
عمال كفر الدوار، أنّ البكباشي
عاطف نصار الذي قرأ الحكم (العسكري)
أمام العمال (1500 عامل) وقبل
الإعدام مباشرة قال إنّ العامل
مصطفى خميس (18 سنة) كان "يحارب
الله ورسوله فحق عليه القتل" (
)
رابعًا : التشريعات الوضعية
والمرجعية الدينية :
تنص معظم دساتير العالم على أنّ
المواطنين متساوون في الحقوق
والواجبات ، بغض النظر عن الدين
أو العرق أو الجنس أو اللغة ،
وبالرغم من ذلك فإنّ الواقع يشهد
تمييزًا واضحًا يفرق بين أبناء
الشعب الواحد . ويكون هذا
التمييز أشد وضوحًا ضد الأقلية
الدينية. وكما هو معروف في فقه
القانون ، أنّ القوانين التي
تصدر تكون مكملة للدستور ومعبرة
عن روحه. فإذا كان الدستور
المصري ينص صراحة على أنّ
المواطنين متساوون في الحقوق
والواجبات ، فهل يمكن استصدار
القوانين التالية لتكون تعبيرًا
حقيقيًا عن الدستور:
1. قانون ينص صراحة على توحيد دور
العبادة لكل المصريين ، لا فرق
بين أبناء دين وأبناء دين آخر،
وتكون المعاملة بالمثل وعلى قدم
المساواة . مع النص على إلغاء كل
القوانين والقرارات السابقة في
هذا الشأن .
2. قانون ينص على إلغاء خانة
الديانة من كل المحررات الرسمية.
3. قانون ينص على ضم المعاهد
الدينية (إسلامية ومسيحية) لتكون
تحت إشراف وزارة التعليم.
4. قانون يوجب على وزارة التعليم
أنْ تُخصص مادة باسم (الأخلاق)
لكل مراحل التعليم الأساسي،
يتعلم فيها الطالب نماذج مختارة
بدقة من القرآن العظيم ومن
الأناجيل الكريمة التي تحض على
الفضيلة واحترام الأسرة وكل
المعاني النبيلة. وتكون هذه
المادة (الأخلاق) بديلا عن حصة
الدين ، كما أنها ستحقق وحدة
أبناء شعبنا المصري ، حيث سيجلس
الطالب المسلم بجوار الطالب
المسيحي ، وبالتالي سيتم تجاوز
التفرقة الحادثة حاليًا ،
وضرورة أنْ تتضمن مادة الأخلاق
نماذج من ديانات الشرق القديم
ونماذج من كتابات الحكماء
المصريين ، لتعميق انتمائنا
لجدودنا الذين شيّدوا الحضارة
المصرية.
5. قانون يُجرّم ويعاقب كل من
يستخدم الميكرفون في أي مناسبة
في الأماكن العامة. وأنْ يكون
الأذان في المساجد بالصوت
البشري . وكل ذلك في ضوء علوم
الطب التي أثبتت خطورة
الميكروفون على قلب الإنسان
بصفة خاصة ، وأنه أسوأ تكنولوجيا
أنتجها العلم الحديث .
هذه القوانين المقترحة (وهي مجرد
أمثلة) تشير بوضوح إلى القوى
التي تؤيدها وتتبناها (أي
الليبراليين) وإلى القوى التي
تعارضها وتهاجمها (أصحاب
المرجعية الدينية) ولعل تصريحات
بعض زعماء الإخوان المسلمين
توضح وتؤكد ما أذهب إليه. فقد
أصدر أحد أعضاء مكتب الإرشاد
بالإخوان المسلمين فتوى بخصوص
بناء الكنائس وقال إنّ الأمر على
ثلاثة أقسام: القسم الأول : بلاد
أحدثها المسلمون وأقاموها
كالمعادي والعاشر من رمضان
وحلوان ، وهذه البلاد (يقصد
المدن الجديدة) وأمثالها لا يجوز
فيها إحداث (يقصد بناء) كنيسة.
القسم الثاني: ما فتحه المسلمون
من البلاد بالقوة كالإسكندرية
بمصر والقسطنطينية بتركيا، فهذه
أيضًا لا يجوز البناء فيها، وبعض
العلماء (يقصد الفقهاء في الدين)
قال بوجوب الهدم لأنها مملوكة
للمسلمين. القسم الثالث: ما فُتح
صلحًا بين المسلمين (يقصد العرب
الذين غزوا مصر) وسكانها.
والمختار هو إبقاء ما وجد بها من
كنائس على ما هي عليه في وقت
الفتح (= الغزو) ومنع بناء أو
إعادة ما هُدم منها ( )
وما هو الموقف القانوني ، وما هي
حدود سلطة التشريع ، لو أنّ
الأغلبية المطلقة في البرلمان
أصبحت في يد التيار الديني الذي
يطالب بفرض الجزية على
المسيحيين في الدولة الإسلامية
مع حرمانهم من الخدمة العسكرية.
وهو ما صرّح به أ. مصطفى مشهور
المرشد العام للإخوان المسلمين
الراحل ( ) أما أ. محمد حبيب الذى
شغل موقع نائب المرشد فقال "نحن
جماعة الإخوان المسلمون نرفض أي
دستور يقوم على القوانين
المدنية العلمانية، وعليه فإنه
لا يمكن للأقباط (يقصد المسيحيين
لأنّ كل المصريين أقباط) أنْ
يُشكلوا كيانًا سياسيًا في هذه
البلاد. وحين تتسلم الجماعة
مقاليد السلطة والحكم في مصر
فإنها سوف تُبدّل الدستور
الحالي بدستور إسلامي يحرّم
بموجبه كافة غير المسلمين من
تقلد أي مناصب عليا في الدولة أو
في القوات المسلحة ، وأنه من
الضروري أنْ نوضح أنّ هذه الحقوق
إنما ستكون قاصرة على المسلمين
وحدهم دون سواهم" ( ) وما ذكره أ.
محمد حبيب هو ترديد والتزام بما
ورد في كتيب باسم (نموذج الدستور
الإسلامي) صدر في لندن عام 1984 نص
فيه على أنّ "مواطنة الدولة حق
لكل مسلم فقط" ( ) بل إنّ الشطط
الأصولي وصل إلى درجة أنْ يعلن أ.
محمد مهدي عاكف مرشد الإخوان
السابق أنّ "الحكم العثماني
لمصر لم يكن احتلالا، ولو أنّ
خليفة من ماليزيا حكم مصر لا
يكون محتلا " ( )
إزاء هذه الأمثلة من تصريحات
زعماء الإخوان المسلمين، فإنّ
السؤال المشروع هو: لو أنّ
التيار الديني سيطر على
السلطتيْن التشريعية
والتنفيذية ، فهل سيُنفذ مشروعه
ويستورد لنا نحن المصريين خليفة
من ماليزيا أو من أفغانستان ؟
ويفرضون الجزية على المسيحيين
ويحرمونهم من الخدمة العسكرية ،
ويقتل السنيون الشيعة
والبهائيين ، ويحطمون الآثار
المصرية كما فعل طلبة الشريعة في
أفغانستان ، ويمنعون استخدام
التليفزيون والراديو، ويمنعون
خروج المرأة من البيت ؟ وإذا كان
خطاب الأصوليين لم يتغير منذ
أكثر من سبعين عامًا، فإنهم
سيطبعون المستقبل بمشروعهم
الماضوي الذي يرفض الحداثة
والديمقراطية والاعتراف بقدرة
الإنسان على صناعة حاضره ،
وقدرته على أنْ يُشرّع لنفسه
القوانين التي تعبر عن الحضارة
في تجلياتها المتعددة ، وأبرزها
رفض الأحادية والانحياز
للتعددية بكل أشكالها. وبالتالي
يكون الأمل في التيار الليبرالي
ومدى قدرته على إقناع الغالبية
الساحقة من المواطنين بأنّ
مصلحة الوطن رهن بأنْ تكون
مرجعيتنا الأساسية للعقل
وقبلتنا الأولى للوطن (مصر) وأنّ
المشروع الأصولي لا يُشكل خطورة
على المسيحيين وحدهم ، وإنما على
كل شعبنا المصري ، حيث وصموا
مجتمعنا بأنه مجتمع جاه