لا تحرروها... كرمى لله!
ميشيل كيل
5/11/2010
في كل مكان وموقع تعرض لتحديات خارجية، اختارت النخب
الحاكمة أحد طريقين: إعداد فضائها الداخلي لاحتوائها، أو التعامل معها
باعتبارها برانية من الضروري مواجهتها من خارج الفضاء الداخلي. هذان الردان
المحتملان تمثلهما حركتان متعارضتان تعبران عن نفسيهما في سياستين
متناقضتين: تذهب أولاهما إلى صد التحدي الخارجي بقوى الداخل، لأنها ترى فيه
بعده الداخلي أيضا، وترى أن من الحكمة والصواب تعبئة داخلها لمواجهته.
بينما تبقي ثانيتهما تحدي الخارج خارجيا إن جاز القول، فتتصدى للتهديد أو
التحدي باعتباره برانيا لم يخترق ولا يستطيع أن يخترق مجالها الخاص، وتتصرف
وكأنه ليس للتحدي علاقة مع أوضاعها الداخلية وأحوالها الذاتية.
في
الحالة الأولى، يتم التعاطي مع التحدي كأمر وجودي، فتتخذ تدابير واحتياطات،
وترسم استراتيجيات وتكتيكات تتكفل بإعداد المجتمع والدولة لمجابهته
والتغلب عليه، مع ما تقتضيه المواجهة من تعديل في السلوك العام والخيارات،
وتغيير في أبنية وهياكل مؤسسات الدولة والسلطة والمجتمع، وإرساء قواعد وأسس
من شأنها إرساء نهج ثابت وجديد يقوم على تبديل موازين القوى تبديلا حثيثا
ومتصاعدا ضد العدو. لا داعي للقول إن الثبات على هذا النهج يتطلب توافقا
وطنيا ومجتمعيا بعيد المدى وعاما، كي لا يكون متقطعا أو ناقصا، ولا ينتكس
أو يرتد على أصحابه، فيؤدي إلى عكس المطلوب منه، ويتسبب بالهزائم بدل تحقيق
الانتصارات. وللعلم، فإن ترجمة أي توافق وطني تتطلب تضحيات يتقاسمها
المواطنون بعدالة، فلا يذهب قسم منهم إلى الجحيم وقسم آخر إلى النعيم، ولا
تكون على حساب هذا ولصالح ذاك، بل تصب جميعها في اتجاه واحد وتخدم غرضا
واحدا هو رد التحدي، ولا يضيع معظمها في دروب وحسابات جانبية، ولا يضع أحد
نفسه خارجها لأي سبب، وإلا كان هناك من يفيد من المشكلات التي تواجه الوطن
والدولة، وانقلب إلى اختراق يضاف إلى مصاعبهما، يجعل التغلب عليها أكثر
صعوبة إن لم يكن مستحيلا. لو شئت ضرب أمثلة عن نماذج تفسر ما أقوله،
لوجدتها متوفرة بكثرة في تاريخ العالم الحديث، أهمها اليوم النموذج الصيني،
الذي يواجه تحديات خارجية هائلة، ذات انعكاسات داخلية خطيرة، من خلال
عملية تجديد داخلي شامل يطاول مختلف جوانب الحياة، يتيح للصين احتواء
التحديات ويحفز نهضتها ويحصنها، فترد بوضعها الداخلي على التحدي وتحتويه،
وتقلب العلاقة بينها وبينه لصالحها، وتجعله عاجزا عن التأثير فيها، بينما
تتعاظم قدرتها على تخطيه وتقلصه وتجعله يتلاشى بمرور الوقت. وقد سبق
لليابان أن فعلت شيئا مشابها بعد عام 1853، عندما نزل الكومندر الأمريكي
بيري في ميناء عاصمتها، وأعلن فتح أسواقها أمام التجارة الخارجية، فردت على
الخطر بتجديد داخلي جذري وشامل لمجتمعها ودولتها، عرف فيما بعد بثورة
الميجي، تكفل برد التحديات والمخاطر ومكن اليابان من ردع خصومها وبلوغ حد
من الحصانة أجبرهم على معاملتها بندية واحترام خياراتها ومصالحها، داخل
مجالها السيادي وفي العالم بأسره. عبأت اليابان ووحدت نخبها الحاكمة
والمالكة والمثقفة، وابتدعت طريقا جديدة في التطور، حدثتها دون أن تقوض
ركائز هويتها وخصوصياتها، فكان هذا التوافق التاريخي الطويل الأمد طريقها
إلى احتواء التحدي الرأسمالي الغربي، والانخراط في نمط من التقدم الاقتصادي
والاجتماعي عادل تقدمه وبزه في أحيان كثيرة، رغم افتقار اليابان آنذاك إلى
ثروات طبيعية وخبرات اقتصادية ورأس مال. في هذين النموذجين، واجهت دولتان
تحديات خارجية بقوى مجتمعيهما، وجددتا نفسيهما بواسطتها، وغادرتا ما كان في
راهنهما من ركود وتقليدية وسمات أوضاعهما الموروثة وأنماط عيشهما وحكمهما
المألوفة، فكان التجديد طريقهما إلى رد التحدي والنجاة بنفسيهما، والانخراط
في العالم من موقع القدرة على صياغته وممارسة تأثير حاسم عليه. بمرور
الوقت، تغيرت طبيعة التحديات، وفقدت حدتها، وصار لمن أطلقها - وللعالم كله -
مصلحة في تقليص مخاطرها، مع أن الصين واليابان لم تتوقفا عن تعظيم قدرتهما
على مواجهتها والتحكم فيها وضبط حركتها والسيطرة على مصادرها، وردها إلى
من أطلقوها.
في الحالة الثانية، حالة مواجهة التحدي كشيء براني، فقد تم
الحفاظ على الأحوال والأوضاع والهياكل الداخلية، وتم الرد على المخاطر
الخارجية بجزء وحسب من القدرات الداخلية، تمحور في حالات النزاعات العنيفة
حول مؤسسة عسكرية امتصت قسما هاما من طاقات وعافية مجتمعاتها ودولها، عجزت
عن تحقيق نجاحات مشابهة لما حققه النموذجان الصيني والياباني، وسببت
استنزافا مريعا لثروات وقدرات بلدانها، التي تبددت في معارك وقتية ومتقطعة،
تسببت في تردي أحوالها، وتهتك مؤسساتها، وانحطاط دولها، وفقر مجتمعاتها،
ودورانها في حلقة مفرغة لم تعرف كيف تخرج منها، مثلما حدث في صراع العرب مع
الصهيونية حول فلسطين. لم تدرك حكوماتنا إلى اليوم حجم التحدي الصهيوني/
الخارجي، ولم تنتقل إلى مواجهته بمجموع قواها الداخلية، أو بتغيرات هيكلية
تمكنها من امتصاص مخاطره، وإقامة بيئة مواجهة تضمن تغلبها على مصدره، والرد
عليه بما يماثل أو يفوق قوته فاعلية وتأثيرا. كان التحدي الخارجي حافزا
للتجديد الداخلي، لكن معظم البلدان العربية رفضت إقامة أوضاع من شأنها
إطلاق تقدم شامل، يحول التحديات إلى فرص بدل أن تكون عامل كبح واحتجاز
داخلي وخارجي يوطد ركود المجتمع والدولة، ويجدد ضعفهما وعجزهما، ويجعل
أوضاع الداخل وتطوره متحولا من متحولات الأهداف الخارجية، فتحكم القوى
الساعية إليها قبضتها على مفاصل مجتمعاتنا ودولنا، كما حدث بعد هزيمة
حزيران (يونيو) عام 1967 وما أعقبها من فرص ضاعت فعززت اضطرابا داخليا عاما
عرفته البلدان المجاورة لفلسطين، أدى إلى انقلابات وتغيرات سياسية في
القمة والقاعدة، مثلت تحولا نحو الأسوأ، تجاهل تماما أن نتائج التحدي
الخارجي تتوقف على نوع الرد الداخلي، وركز أنظاره على السلطة والمشكلات
المتصلة بتثبيتها وتوطيدها، بينما كانت غلبة العدو والقوى الكبرى المؤيدة
له، وخاصة أمريكا، تفعل فعلها في داخل الدول، وتغل يدي نخبها الحاكمة وتزين
لها أن سلامتها تكمن في التحكم بداخلها وتقييد قدرته على الفعل الحر،
وكذلك المشاركة في الشأن العام، التي اعترتها النخب مصدر خطر عظيم تعاملت
معه بطريقتين متكاملتين قوضتا المجتمعات والدول، هما ضبط الداخل والتهوين
من التحدي الخارجي والتهويل بانتصارات حاسمة عليه.
واليوم، وقد بان كم
كان التحدي الخارجي أكبر من السياسات والمواقف العربية، وكم كان العجز عن
مواجهته فاضحا، وفعل الخارج في الداخل مدمرا، وكم اتسمت النخب التي تصدت له
بقصر النظر في خياراتها الكبرى كما في نقلاتها الآنية، صار المواطن العربي
يشعر أنه بلا حماية، مكشوفا وضعيفا، يقول في سره: إذا كان كل هذا الذي حدث
ويحدث قد تم بذريعة تحرير فلسطين، فإنني أناشدكم، بحق الله، أن تتوقفوا عن
تحريرها، وأن تعيدوا النظر في أولياتكم، كي لا تضيع بقية الوطن، وتتصهين
فلسطين والنظم العربية إلى الأبد.
بعد قرابة قرن من خلط الأوليات، حان
وقت مواجهة واقعنا بأعين مفتوحة، وإعادة النظر في حسابات لم تجلب لنا غير
الهزائم والعار، وتبني سياسات مغايرة ترد تحديات الخارج انطلاقا من داخل
عربي سليم ومعافى، ووقف التذرع بالخطر الخارجي من اجل ترويض الشعب وقهر
المجتمع وإرغامهما على قبول ما كانا سيرفضانه حتما، لولا هذه التحديات. نحن
بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لصحوة روحية وفكرية ذات نتائج عملية
تخرجنا مما نحن فيه، تحول داخلنا إلى قلعة لا يخترقها أحد، بدل أن تكون
رهينة اختراق مزدوج : خارجي وداخلي.
هل هذا كثير علينا بعد تجاربنا
المرة وهزائمنا المأساوية ؟ أليس باستطاعتنا نحن أيضا التعلم من أخطائنا
كما تعلمت أمم كثيرة قبلنا، وتتعلم الصين منذ عقود ثلاثة، بنجاح وضعها،
مثلما يمكن أن يضعنا النهج الصحيح، في لائحة الأمم الخارجة من ظلمات واقعها
وتاريخها، إلى رحابة الحرية والقوة؟!