ريخ
الميتاكوندري يكشف تاريخ
الانسان
الميتاكوندري |
تاريخ الإنسان
الحديث:
بين نهر جوبا في
الصومال والهضبة الكينية وبحيرة
فكتوريا إلى جبال القمر وحوض نهر
الكونغو وعلى شريط عرضه 800كم
شمال وجنوب خط الاستواء، انفصلت
قبل ستّة ملايين سنة مجموعة من
القردة الأفريقية إلى نوعين
أحدهما أوصل للإنسان والآخر
للشمبانزي. وقبل أربعة ملايين
سنة بدأ الأول بالانتصاب على
قدميه، وتحرير يديه واستخدامهما
في صناعة الأدوات، ورشق
الحيوانات بالحجارة (أو التأمّل
وحفر أنفه بالسبّابة) هذا
الإنسان البدائيّ يُسمّى :
اوسترالوبيثيكوس.
وقبل مليوني عام ظهر
نوع آخر بحجم أكبر وأكثر مهارة
يُسمّى : هومو .. وقبل مئة إلى
مئتي ألف سنة ظهر نوع مُحسّن من
الهومو بجسم أرشق ومرونة أعلى ..
وإليه ينتسب الإنسان الحديث. إلا
أنّ هذه الصورة للتطوّر التي يقع
الإنسان الحديث على هرمها هي
صورة ناقصة، صورة مبسطة، فالتطوّر البشريّ
ليس خطّا مستقيما من الأدنى
للأعلى بل متاهة وأزقّة مسدودة
وتحوّلات مفاجئة، وكثير ممّا
ندعوه "أدنى" هو احتمالات تطور انتهت
بالفشل عندما بلغت طريقها
المسدود. والرأي السائد بين
علماء بيلوجيا التطور أنّ ظهور نوع جديد كان
لا بدّ أن يحدث وسط المحيط
الحيويّ الذي يعيش فيه النوع
القديم. وهنا يبرز سؤال جوهريّ :
لماذا لم يؤدّ التهجين إلى ذوبان
النوع الجديد وفقدانه ميزاته؟
!
هذه المعضلة قادت البيولوجيين
إلى فهم آليات ما يُسمّى : العزلة
ذات القدرة على تكرار الإنتاج،
فهناك إثباتات عديدة على وجود
هذه العزلة، وعلى تعدد آلياتها، منها يعتمد المظهر
الخارجي، خصوصا في الكائنات
العليا (كالإنسان والقرد) التي
تستخدم إشارات حسّية للتعرف على
الشريك الجنسيّ وجذبه من النظرة
الأولى، وكذلك فإنّ آليات العزل
تبدو جليّة في عالم الجينات،
فعندما تحدث مضاجعة بين نوعين
مختلفين، فإنّ السائل
الكيميائيّ المحيط بالبويضة
لايتعرف على المنويات الغريبة
لذلك لايتفاعل معها لفتح بوابته فيمنعها من اختراق جدار الخلية،
وحتى لو حدث خطأ ما فإنّ
الكرموسومات الغريبة ستواجه معوق آخر إذ لن تتواءم
مع ما في البويضة من كود. وإذا ما حصل
بعض التوافق فالجنين سيكون بغلا
عقيما عاجزا عن التكاثر مستقبلا
(كما في تزاوج الحصان والحمار أو
الأسد والنمر).
والحقيقة أنّ للطبيعة آليات عديدة لتحقيق العزلة المنتجة، فهي تؤكّد أنّ
نشوء نوع جديد ليس أمرا خارقا بل على العكس، فالطبيعة منحت عالم الأحياء
القدرة على تشكيل أنواع جديدة وكأنّها تقوم بتجارب على الحياة، وعندما
ينتج نوع ملائم لمحيطه فإنّه يتوسّع ويتكاثر، وعندما يُظهر عيوبا فإنّه
غالبا ما يحطّ في سلّة مهملات التاريخ. ذلك بفضل ان جميع المكونات ذات
علاقة ببعضها البعض وفي تفاعل مستمر، والعزلة لاتزيد عن كونها استمرار
التطور لمجموعة صغيرة في نطاق مجموعتها بدون التماس مع الجماعة الاكبر
إنّ أقدم جمجمة
للإنسان الحديث، عثر عليها
ريتشارد ليكي على ضفاف الأومو في
أثيوبيا عام 1967 وقُدّر عمرها
بمائة وثلاثين ألف سنة. لكنّ
بقايا هذه المتحجّرات سمحت
بتأويلات أخرى فبعض انتربولوجيي
ما قبل التاريخ مقتنعون بأنّ
التطوّر حصل على درجات فتراهم
يشككون بانقسام الإنسان البدائي
إلى أنواع مختلفة، ويعتقدون أنّ
نوع الهومو (قبل مليوني سنة)
استمرّ وانتشر في آسيا وأفريقيا
وأوروبا وأدّى تكاثره داخل نوعه
إلى ظهور الإنسان الحديث.. أي أنّ
الفروقات بين المجموعات البشرية
(الأعراق) سبقت مرحلة التطوّر
الجسماني للإنسان الحديث..
فالإفريقي بنظرهم ينتمي إلى
هوموسابيا إفريقي والأسيوي
ينتمي جزئيا إلى هومو ايريكوس
والأوروبي جزئيا إلى نياندرتال..
لكنّ هذه الرؤية ظلّت مثار شكّ،
إلى أن تمكّن عام 1987عالم
بيولوجيا الجزيئات بركيلي Berkeley
من جامعة كاليفورنيا، من تحليل
الحمض النووي لكلّ المجموعات (الأعراق)
البشرية على الأرض، وكانت
المفاجأة مذهلة؟
المفاجأة الكبرى:
علماء الجينات:
بيركيلي وولسن (كاليفورنيا) ربكا
كان (جامعة هاواي) مارك ستونكينغ
(معهد ماكس بلانك لايبزيغ) لم
يدرسوا الحمض النووي DNA
للكروموسومات بل ركّزوا على
كيان صغير يُسمّى "ميتوكوندريوم"
وهو موجود في الخلية بأعداد
كبيرة (بالمئات) ولهذا
الميتوكوندريوم وظيفة مهمّة
داخل الخلية، إذ يقوم بتبسيط
المركّبات المعقّدة وتحويلها
إلى جزيئات غنيّة بالطاقة
تحتاجها الخليّة في نشاطها
الحيويّ.. وعلى الأرجح فإنّه
إحدى سلالات البكتيريا التي
عاشت قبل مليار سنة ثم استوطنت
وحيد الخلية ومذّاك بقي يعيش داخل
الخلية ويقوم لقاء استضافتها له
بتزويدها بالطاقة. ولأنّه من
أصول أخرى توجّب أن يحتفظ بحمض
نوويّ بسيط خاص به وهو حلقيّ
الشكل ويتألّف من 1650 نوكليوتيد
فقط، وكلّ إنسان يحوي بداخله
ملايين من هذه الميتوكوندريات
التي يتطابق حمضها النووي مع بعض
الاستثناءات، والفرق بين ما
أحمله وما تحمله (وهنا الإثارة)
أنّنا نأخذه عن طريق الأمّ، لأنّ
المنويات الذكرية تقتصر وظيفتها
على إفراغ شحنتها من
الكروموسومات النووية في البويضة وما
تبقّى في النطفة (بضمنها
الميتوكوندريات) يُطرح خارجا..
لذلك فإنّ بويضات الأمّ هي التي
تمنح الميتوكوندري للأجيال القادمة (ذكورا
أو إناثا) وعليه لا بدّ أن يرجع اصل
كلّ الحمض النووي
للميتوكوندريال إلى مصدر انثوي واحد،
حسب
Spencer Wells
تعود في اصولها الى ثمانية عشرة امرأة،
هن الذين سنطلق عليهن، في موضوعنا، تعبير المرأة الاولى او حواء.
للمزيد في هذا الشأن راجع موضوع
(الاصول المشتركة للبشرية).
هذه النتيجة العلمية
لامفر لها عن ان تكون
الحقيقة.
وللاختصار سأرمز إلى
الحمض النووي الخاص
بالميتوكوندريوم الذي تنقله
الأمّ (DNA of M) والحمض النووي
الخاص بالكروموسوم الذكري
(DNA of Ky)
(والذي يعود الى عشرة ذكور اصليين )
.
إنّ ثلاثة مليارات امرأة ورثن
DNA of M من أمّهاتهن والأمّهات من
الجدّات وهكذا، أي أنّ الثلاثة
مليارات أخذنه من خطوط لمجموعة
سابقة (أقلّ عدديا من المجموعة
الحالية) وخطوط الميتوكوندريال (حاليا
بالمليارات) تتناقص رجوعا عبر
الأجيال، ´ورياضيا سوف تعود إلى
مجموعة بسيطة وبالتالي إلى
أختين وأخيرا إلى أمّ واحدة
أورثت كلّ خطوط DNA of M وبالطبع.
حسناً لاتوجد ام بشرية واحدة للميتاكوندري بالمعنى الحرفي للكلمة،
لان الميتاكوندري ظهر قبل ظهور النوع البشري نفسه،
وللبحث عن الميتاكوندري الاول سنتجاوز حدود النوع البشري.
غير انه امكن الوصول الى اصغر مجموعة من النساء حملت الميتاكوندري المشترك
وعددهن 18 ،
جميع الميتاكوندري البشري اليوم يعود في اصوله اليهن،
هؤلاء سنطلق عليهن الام الاولى.
إنّ هذه المجموعة الصغيرة من الامهات عشن وسط بشر
آخرين، على الاغلب مجموعة صغيرة العدد على العموم، لكنّهن الوحيدات اللواتي
استمرّ خطهن الجيني عبر
الأجيال.
هذه العملية التي تتعقّب رجعيا شرائط الحمض النووي لكلّ البشر تسمّى
Koaleszenz (تعني ذوبان عناصر غير متجانسة)وهي لا تنطبق فقط على DNA of M
بل على DNA of Ky الذي يورثه الأب للأولاد (عندما يموت الذكر بدون إنجاب
يموت معه الكروموسوم y) وهكذا فإن إجراء عملية "كوالِسَنس" تؤدي إلى أن
كلّ DNA of Kyيعود لأب واحد عاش في زمن ما، ليس بالضرورة مع الأمّ الأولى،
لأنّ هذين الحمضين النوويين وصلانا عن طرق مختلفة. (بعض الدراسات أكدت أنّ
"حواء" التي أورثتنا كلّ DNA of M عاشت قبل مئة وخمسين ألف سنة وآدم الذي
أورثنا DNA of Ky عاش في زمن متأخّر) وبما أنّ حساب الكروموسومات الأخرى
لستة مليارات إنسان عملية بالغة التعقيد بسبب تزاوجها في كلّ جيل وخلطها
عبر مساهمة الأب والأمّ، لكن لو أخذنا مثلا اعتباطيا من طرف الكروموسوم
رقم 6 نجده يعود لشخص واحد عاش في الماضي (لشخص جيني واحد ولكنه عدة اشخاص
فيزيائيين من مجموعة اثنية واحدة نسميهم آدم مجازا y) وحسب التقديرات فإنّ
عدد أجيال الإنسان الحديث تبلغ حوالي 6500 جيل (ومجموع البشر الذين ولدوا
مذّاك حوالي 80 مليار) وكلّ مخزوننا من الحمض النووي يعود لحوالي 86000
شخص عاشوا في المائة وخمسين ألف سنة أخيرة بينهم آدم DNA of Ky وحواء DNA
of Mوكما سلف ذكره فإنّ شريط DNA of M يختلف من إنسان لآخر، ومن جيل لجيل
(بسبب التهجين المستمرّ) وعدد هذه التغيّرات على الشريط تدلّ على عدد
الأجيال التي تعاقبت منذ الأمّ الأولى.. عندما نشر بيركيلي نتائج بحثه
(وتحليل DNA of M لكل أعراق البشر) تعرّض لانتقادات كثير من العلماء، ومنذ
التسعينات ومع تقدّم البحث في تحليل الحمض النووي فإنّ النتائج تدعم ما
وصل إليه بيركلي.. هذا أكّدته أيضا لُقى المتحجّرات القديمة في أفريقيا
وهذا ما وصلت إليه مرتا لار (جامعة كمبردج) التي تقول : إنّ المعلومات
الجينية والكرونولوجية تشير إلى أنّ أفريقيا هي أصل الإنسان الحديث.
لقد مرّت آلاف
الأجيال منذ عاش أجدادنا في شرق
أفريقيا وهذا في عمر التطوّر زمن
قصير. لأنّ مجموعة من الشمبانزي
التي تعيش على جبل واحد في
أفريقيا، لديها تغيّرات في DNA of M
ضعف ما لدى الستة مليارات إنسان،
لأنّ الشمبانزي أقدم من الإنسان
وعدد أجياله أضعاف أجيالنا.
وكلّ البشر الحاليين
يبتعدون نفس المسافة الزمنية عن
الإنسان المبكر الذي عاش في شرق
إفريقيا ..بمن في ذلك "سكان
غابات بوتسوانا"،
فالاختلافات بين البشر هي
اختلافات في التاريخ الجيني
الذي يحمل مؤشّرات ذلك الماضي.
لهذا اكتسب "سكان الغابات"
أهمية خاصة، فالإثباتات الجينية
تقود إلى أنّ أقدم هجرات الإنسان
الحديث، كانت إلى جنوب إفريقيا
حيث أجداد "سكان الغابات"
هجرة حدثت في وقت كانت فيه آسيا
وأوروبا لا تزالان مسكونتين
بالإنسان البدائي، ورغم عزلتهم
ووصولهم لطريق مسدود ورغم
اختلاطهم المتأخّر، فإنّ خط
تطورهم التاريخيّ هو الأكثر
استقامة .. والخلاصة : إنّ
الإنسان منذ مئة وخمسين ألف سنة
لم يتغيّر تقريبا، هذا ما تؤكّده
دراسة الحمض النووي للبشر،
وحقّا وكما تقول الفرنسية :Tous
Parents Tous Differents كلّنا أقارب كلّنا
مختلفون.
ولو أنّ البشرية
حافظت على الزواج المختلط Panimixi
أقصد الزواج خارج المجموعة
العرقية لاختفت الفروقات
الظاهرية بين الأمم ولاختفى
مفهوم العرقية، فالبشر يلتقون
عند خطوط الأصل المشترك..لكنّ
السؤال : إذا كان موروثنا من
الحمض النووي يعود لأجداد
مشتركين فلماذا يختلف شريط
الحمض النووي ولا يتطابق لنبدو
كتوائم متشابهة؟ هذا السؤال هو
نواة بيولوجيا التطوّر.
كيف نشأت هذه الأعداد
الغفيرة للحياة من كائن جيني واحد
تكاثر بمضاعفة شريط حمضه
النووي؟! فعندما تنقسم الخلية
تستنسخ الجملة الكروموسومية
وتمنحها للخلية الشقيقة.. إن
ماكينة الجزئيات هذه التي تعيد
إنتاج الحمض النووي ذي مليارات
النوكليوتيدات تعمل بدون خطأ؟
لا أبدا ليس بهذه الدقة وإلا
كانت الأرض ماتزال مسكونة
بالكائن الأوّل.
في الواقع إنّ
الانقسام يُحدث أخطاء حيث
تتبادل بعض النوكليوتيدات
مواقعها وهذا يُحدث تغيّرا Mutation
ما. صحيح أنّ الخلية تملك آلية
لتصحيح الخطأ إلا أنّ هذه الآلية
ليست منزّهة عن الخطأ، فيكون
التصحيح تغيّرا جديدا.
لنفرض مثلا أن إحدى
الأختين (من امّ اولى) قد
تعرّضت لتغيّر في DNA of M ثم هاجرت
إلى مكان آخر؟ لذا فإنّ نسلها
سيحفظ ذلك التغيّر حتى اليوم،
وكلّ شريط مُتغيّر للـ DNA of M
سيشكّل صنفا Haplotype ومجموعة بشرية
تنتمي لهذا الصنف الناجم عن ذلك
التغيّر الجيني.. وبموجب هذه
التغيّرات استطاع العلماء تحديد
"سكان غابات بوتسوانا"
كطلائع للإنسان الحديث لأنّهم
يملكون أقدم التغيّرات في DNA of M .
وبما أنّ الخلية
البشرية تملك كثيرا من الحمض
النووي في كروموسوماتها (أكثر
بأربعين ألف مرّة من DNA of M) فإنّ
كلّ عملية تزاوج تخلق تغيّرات في
كروموسوم الوليد، وتجعل منه
كائنا فريدا لا مثيل له،
وبالعادة يختلف شريط الحمض
النووي للطفل عما لدى والديه
بمائة نوكليوتيد، وعندما يتمّ
بلوغه يعيد إنتاج تلك التغيّرات
التي ورثها في بويضته أو نطفته
ويضيف إليها تغيّرات جديدة
ستمنح النسل القادم فرادته في
هذا العالم .. بمعنى آخر فإنّ كلّ
جيل يترك بصمته على محتوى الحمض
النووي، والنتيجة هي مركّب
معقّد من الجينولوجيا، وفروع
متشعّبة لشجرة الأصول.
ورغم تعقيدات هذه
الشجرة والتغيّرات وآلاف
الأجيال وملايين البشر التي
تهجّن بعضها، فإن العملية تحمل
نظاما.. إنها أشبه بقطرات المطر
التي تهطل على بحيرة وكل قطرة
تُحدث موجة دائرية منتشرة
وتصطدم بموجات أخرى، إلا أنّ
كومبيوترا عالي المستوى، قادر
على تحليل تلك المعلومات ورسم
نموذج موجيّ لقطرات المطر
المتساقطة.. هذا تماما ما يفعله
العلماء لرسم الخطّ التطوّري
للبشر.. فعندما عبر آسيويون طريق
بيرينغ (بين سيبريا والألسكا)
باتجاه أمريكا قبل عشرة آلاف سنة
حملوا معهم تغيّرات جينية فريدة
ما زالت محفوظة في نسلهم حتى
اليوم، فهذه التغيّرات تحكي لنا
أين عاش
الأجداد ومع من تناسلوا..لأنّ
تلك التغيّرات حُفرت في التاريخ
الجيني.