تسريبات ويكيليكس.. هل هي بداية نهاية الصحافة والدبلوماسية الصحافة في مواجهة «الإعلام الجديد» والدبلوماسية في مواجهة لعبة الشفافية
محمد العلمي
أصبح مؤكدا أن تاريخ العلاقات الدولية والصحافة والأنترنت سيُكتَب من الأن فصاعدا بفترة ما قبل وما بعد «ويكيليكس»، الموقع الذي حول العالَم، بالفعل، إلى قرية وأحدة تَسابَق صحافيوهالتحليل وانتقاء القصاصات التي غطت عمليا كل أركان العالم الأربعة، كنتيجة لاهتمامات واشنطن الكونية.
وقد بدأ الدبلوماسيون الأمريكيون، بالفعل، يعانون نوعا من الوحدة في مكاتبهم الفاخرة عبر العواصم العالمية، لأن «المحليين» يتجنبون الحديث إليهم، بصفتهم موظفي الخارجية في الدول المستضيفة، إلا مكرَهين، لكن معظمهم يسألون مخاطبيهم الأمريكيين عما إذا كان محتوى النقاش «مهددا بالكتابة»... موجة الغضبسأل أحد مراسلي وكالة «رويترز» مسؤولا أمريكيا رفيع المستوى عما إذا كانت هناك دولة بعينها يشعر مسؤولوها بغضب شديد، فأجاب المسؤول الأمريكي بسؤال آخر: «هل توجد دولة بعينها لا يشعر مسؤولوها حاليا بغضب شديد؟»...
وباستثناء «المحتوى» الثقيل في بعض الوثائق، كالمتعلق بالأسلحة النووية في كل من إيران وكوريا الشمالية وباكستان، فإن باقي المحتويات لا تتعدى كونها نميمة قد تكون قاسية في بعض الأحيان، إلا أنها نميمة في نهاية المطاف من مبعوثي إمبراطورية يعتقدون أنهم يملكون حقا إلهيا في التدخل والحكم على كل كبيرة وصغيرة، «لأنهم يعرفون أفضل».
كان دبلوماسيو أمريكا أوفياءَ لتعريف أحد نظرائهم السابقين بأن «الدبلوماسية اختُرعت لتضييع الوقت» أو تلك التي ذهبت إلى أن «الدبلوماسيين هم رجال ونساء اختيروا للكذب من أجل وطنهم»... ما قاله الدبلوماسيون الأمريكيون وما نقلوه عن «أصدقائهم» الأجانب لم يأت، في الحقيقة، بجديد، من حيث المحتوى، حتى في القضايا النووية الشائكة، فالعالم كله كان يعرف خوف واشنطن من سقوط إسلام آباد وأسلحتها في أيدي المتطرفين والعالم كله كان يعرف رعب بعض العواصم العربية «المعتدلة» من إيران، في حين لم يترك سلوك كوريا الشمالية العلني مجالا للتخمين.
تعزز هذه الخلاصة محتوى قول آخر، غير لطيف، في حق الدبلوماسيين، كما قال أحد زملائهم أيضا: «إن الدبلوماسي هو الذي يفكر مرتين قبل أن يقول لا شيء»!...
لكن المهدد الحقيقي لمستقبل العمل الدبلوماسي في «ويكيليكس» كان في الشكل وفي تكسير الأمريكيين «زجاجَ» الثقة، الذي قد يستحيل ترميمه، حتى لو تم تغيير الدبلوماسيين، كما بدأت الخارجية الأمريكية في تنفيذ ذلك في بعض العواصم «التي ثرثر فيها هؤلاء كثيرا».
خسرت الدبلوماسية كثيرا في «غزوة ويكيليكس»، وقد يكون من المستحيل عليها استرجاع أو تعويض ما خسرته، لكن تلك الخسارة لن تؤثر كثيرا على سياسات المركز، لأن واشنطن ستواصل التعامل مع باريس، رغم «دلال» رئيسها، ومع برلين، رغم انعدام أي قدرة خلاقة لدى مستشارتها، ومع الرياض، رغم «رأس الثعبان»...
لم يخلُ رد فعل الحكومة الأمريكية، هو الآخر، من نفاق حينما طالبت -بتشنج واضح- برأس جوليان أسانج، مؤسس الموقع، حيا أو ميتا، وحرضت ضده جيشا من «الهاكرز»، لتخريب مواقعه بعد إرغام مضيفيه الشرعيين على الأنترنت على طرده وإغلاق حسابه المصرفي في سويسرا وقرار شركة «فيزا» للبطاقات الائتمانية عدم التعاون مع من يريدون دعمه بالتبرعات...
جاء كل هذا، طبعا، بعد جهود السويد لاستعادته من أجل محاكمته بتهمة الاغتصاب، التي كان للمدعى العام نفسه قد أسقطها في وقت سابق، مما يحمل على الاعتقاد أن وثائق سرية كُتبت في مكان ما، بهدف الانتقام من عدو الإمبراطورية رقم وأحد.
وحسب المطلعين على القضية الرئيسية التي اعتُقِل بسببها أسانج، مرة أخرى، في لندن، فإن تُهَم السيدتين السويديتين تنبع من علاقة جنسية كانت لهما عن طيب خاطر بالسيد أسانج، لكنهما تتهمانه الأن بالاغتصاب، بعد ادعائهما أنه لم يستعمل العازل الطبي!... أمريكا تحتفي بالصحافة!في الوقت الذي كنت أفكر في موضوع هذه الرسالة، وصلتني رسالة إلكترونية من وزارة الخارجية الأمريكية، بتوقيع المتحدث باسم الوزارة، فيليب جي كراولي، يخبرني فيها -كما يخبر الجسم الصحفي في واشنطن- أن الولايات المتحدة قررت استضافة اليوم العالمي لحرية الصحافة لعام 2011...
وقد أكد البيان الصحافي اعتزاز واشنطن باستضافة التظاهرة التي ترعاها منظمة «اليونسكو»، كما يخبرنا البيان بشعار الدورة: «إعلام القرن الحادي والعشرين: آفاق جديدة وعوائق جديدة».
ويواصل كاتب البيان الصحافي -وكأنه لم يقرأ أيا من وثائق «ويكيليكس» أو ردود فعل وزارته على ما جاء فيها- قائل إن الحكومة الأمريكية تضع التكنولوجيا والابتكار في الصدارة في جهودها الدبلوماسية والتنموية. إن وسائل الإعلام الجديدة -أي الأنترنت- ساهمت في قدرة المواطنين في جميع أنحاء العالم عن الإخبار عن ظروفهم الحياتية والتعبير عن آرائهم بشأن الأحداث العالمية، في ظروف معادية أحيانا، لممارستهم حقَّهم في حرية التعبير».
ولم يفت البيانَ التعبيرُ عن القلق من «إصرار بعض الحكومات على إسكات وفرض الرقابة على الأفراد وتقييد التدفق الحر للمعلومات».
لقد ذكَّرني البيان بتقرير الخارجية الأمريكية عن حرية الأديان، في وقت لم يستطع موظفون مسلمون أمريكيون في الكونغرس إقامة صلاة العيد علنا في مقر الكونغرس بسبب موجة الخوف من تهمة الإرهاب على بعد خطوات من مقر الخارجية الأمريكية، أو تقارير الوزارة نفسها عن حقوق الأنسان في العالم، في زمن «غوانتانامو»، الذي أصبح ونزلاءَه في عداد المنسيين.
بالإضافة إلى الطابع العبثي للبيان، ارتقى محتواه إلى مستوى نفاق بعض الزعامات العربية بشأن إيران، لكن تلك الزعامات على الأقل كانت «تسر» بما في قلبها لمخاطبين «ثقاة»، في حين أن الخارجية الأمريكية تصدر هذا البيان في اليوم نفسه الذي تنسف فيه، علناً، كل محتوياته تقريبا.
يقودنا هذا إلى مقولة أخرى حول الدبلوماسيين، إذ قال أحد زملائهم السابقين إن «الدبلوماسيين المعاصرين يعملون على حل كل مشكلة بفم مفتوح».
لم تدّخر الحكومة نفسها، التي تحتفل وتدعو إلى تدفق المعلومة بكل حرية، جهدا لشيطنة جوليان أسانج، الذي لم يفعل أكثر من تنفيذ رغبة في تدفق المعلومة عن طريق «الإعلام الجديد».
حمل رد فعل وزارة الخارجية المتشنج مشرعين على اعتبار الموقع «موقعا إرهابيا» تماما، كما طالب أحدهم بإعادة تسمية البطاطس الفرنسية بطاطس الحرية، بعد أن امتنعت فرنسا جاك شيراك عن مجاراة جورج بوش مغامرتَه في العراق. أسانج على اللائحة السوداءيمضي محامو وزارة العدل حاليا الساعات الطوال في المراجع القانونية القديمة والجديدة للعثور على فصل قانوني قد يساعدهم على إقبار جوليان أسانج مدى الحياة في سجون حكومة تشعر بالقلق من «إصرار بعض الحكومات على إسكات وفرض الرقابة على الأفراد وتقييد التدفق الحر للمعلومات».
وقد وصف مايكل هاكبي، أحد المرشحين الجمهوريين للرئاسة في الأنتخابات الماضية، المسؤول عن التسريب بـ»الخائن»، قبل أن يعرب عن اعتقاده أن «عقوبة الإعدام قد تكون عقوبة لينة في حقه»...
وطلبت الحكومة، التي تحتفل بحرية التعبير وبالإعلام الجديد، من موظفيها عدم الاطلاع على الوثائق، لأن سريتها لا ترفع لمجرد كونها في كل مكان وعلى كل شاشة وعلى صدر الصفحات الأولى لكل جريدة.
وقد أدخلت المذكرة الحكومية الرعب حتى على طلبة جامعة «كولومبيا» في نيويورك، الذين يتطلعون للعمل في سلك الدبلوماسية والذين قدمت لهم نصيحة بعدم الاطلاع على الوثائق «السرية»، لأن ذلك قد يؤثر سلبا على إمكانية توظيفهم في المستقبل.. لا أعتقد أن الحكومة الصينية تملك من «الشجاعة» ما يمكنها من منع بيروقراطييها من الاطلاع على ما هو مشاع...
وكما عممت وزارة الدفاع، التي يُزعَم أنها المسؤولة عن «الثقب» الكبير الذي سال منه «نهر» الوثائق، تحذيرا على الملايين من موظفيها، جاء فيه «هناك إشاعة مفادها أن المعلومات الواردة في «ويكيليكس» لم تعد سرية لأن أصبحت في الشارع العام. هذا غير صحيح!»...
يعني التقيد بمحتوى هذه المذكرة أن أي شخص ينقل محتوى ما قرأه في الأنترنت أو في صحيفة عامة يصبح تحت طائلة القانون بطريقة تحول المجتمع الأمريكي إلى أسوأ ما تصوره جورج أورويل في روايته المخيفة «1984».
فضلا على ذلك، تواجه واشنطن في غضبها على «ويكيليكس» وما قام به القائمون على الموقع «جبلا» من المشاكل الأخلاقية والقانونية في حجم جبل الوثائق المسرَّبة نفسها.
لكن المشكلة الكبرى هي تعريف ما هو سري وهل ترقى النميمة إلى سرية الأمن القومي في نفس مستوى أسرار القنابل النووية ومكان نشرها أو محتوى الحديث الذي دار مثلا بين جورج بوش ونائبه وكبار المساعدين، قبل غزو العراق بأدلة واهية.
وتوصلت «واشنطن بوست»، وفي تحقيق شامل أجرته في وقت سابق من هذا العام حول ما أسمته «أمريكا السرية»، إلى معلومات صادمة حول انتفاخ الحكومة الأمريكية بعد الحادي عشر من شتنبر على شكل بيروقراطية سرية «تكافح الإرهاب» تضم جيشا يتعدى 850 ألف موظف مدني يحملون جميعا شارة تسمح لهم بالاطلاع على المعلومات السرية.
وفي مدينة كواشنطن، التي لا يفوق فيها مستوى النفاق سوى الميل إلى تسريب المعلومات إلى وسائل الإعلام، من المستحيل الاحتفاظ بأي سر يطلع عليه يوميا حوالي مليون مدني وملايين العسكريين في مختلف أنحاء العالم.
تتمثل المشكلة القانونية في رغبة واشنطن الملحة وفي جزء لا يُستهان به من الرأي العام الذي شحن ضد «ويكيليكس» ومؤسسه أسانج، في محاكمة هذا الأخير وفي طبيعة التُّهم التي قد توجه إليه، في الوقت الذي لم يفعل أكثر من المساهمة في تدفق المعلومة.
وقد اقترح مجموعة من الخبراء القانونيين ومتحدثون لا معرفة لهم بالقانون، أيضا، محاكمة أسانج استنادا إلى قانون قديم مناهض للتجسس سُنّ قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1917. لكن المشكلة أنه في الوقت الذي سن القانون لم يكن هناك شيء اسمه «الأنترنت» طبعا.. كما أنه لم توجد أشياء اسمها «وثائق سرية»، لأن القانون كان يعالج أصلا الجاسوسية التقليدية بمعناها المتوارَث عن القرن التاسع عشر.
المشكلة الثانية هي أن القانون، ومنذ دخوله حيز التطبيق، قبل أكثر من تسعين عاما، لم تنجح أي من بنوده في إدانة أي متهم نقل معلومات سرية، بعد أن تم تسريبها بالفعل، ولم يكن مؤتمَنا عليها في المقام الأول.
وقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة وأحدة في فترة ذلك القانون إدانة اثنين من موظفي منظمة «إيباك» المؤيدة لإسرائيل، بتهمة نقل معلومات من أحد أصدقاء إسرائيل في «البنتاغون» إلى الدولة اليهودية. وقد أدين موظف «البنتاغون»، طبعا، لكن ادعاء الحكومة الفدرالية وجد صعوبة عام 2005 في إدانة موظفي «إيباك»، لأن المعلومة أصبحت مفضوحة في الوقت الذي وصلت إليهما وأصبحت -نتيجة لذلك- تحت طائلة حرية التعبير.
لكن المشكلة الأكبر ستُطرَح أمام فقهاء القانون في الحكومة الأمريكية إذا ما قررت واشنطن المضي قدما في جلب أسانج لمواجهة «العدالة» الأمريكية، هي كيف ستبرر عدم ملاحقة «نيويورك تايمز»، التي نقلت عمليا محتويات تلك الوثائق إلى القراء الأمريكيين، سواء على صفحاتها الورقية أو على موقعها في «الإعلام الجديد»، تماما كما فعل جوليان أسانج.
المشكلة الأخرى أن عباقرة القانون في وزارة العدل الأمريكية، الذين تحركهم رغبة جماعية في الانتقام، سيجدون صعوبة في تدبيج أي طلب لترحيل أسانج، المعتقَل حاليا في لندن، لأن معاهدة تبادل المطلوبين بين الحليفين تمنع بريطانيا من ترحيل أي أحد بسبب تهم سياسية. وفي غياب أي تبرير قانوني مقبول، سيجد مبررو مذكرة الترحيل صعوبة في كتابة مذكرة غير سياسية. الإعلام الجديديبقى السؤال الأكبر الذي يواجه الرغبة الجامحة في الانتقام هو هل يعتبر السيد جوليان أسانج ممثلا «للإعلام الجديد»، كما تحتفي به واشنطن في معرض استضافتها القادمة لليوم العالمي لحرية الصحافة؟ أم إن ذلك الاحتفال سيكون كالاحتفال بالديمقراطية حينما تفوز منظمة حماس بالانتخابات؟! لأنه، على الرغم من وجود رغبة جامحة لدى الرأي العام الأمريكي في الانتقام بسبب حشده من «وسائل الإعلام القديمة»، فإن هناك ميلا لدى هذا الرأي العام نفسه إلى التفريق بين كشف الأسرار للعدو وبين نشر الأسرار في وسائل الإعلام. فالسلوك الأول يعتبر جاسوسية، في حين يُنظَر إلى الثاني كخبطة صحافية.
كانت الصحافة، والصحافة الأمريكية منها على الخصوص، من أكبر الخاسرين، أيضا، في عهد ما بعد «ويكيليكس»، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
وبما أن كل الأمور نسبية، فإن الصحافة العربية لم تكن طبعا من الفائزين، إلا في استثناءات قليلة وفي دول قليلة، بعد أن اختار معظمها أسلوبا انتقائيا في «الكشف» عن الوثائق غير السرية، بما يظهر حكمة الزعيم، وتجاهلت ما يظهر نفاقه وطلاق تفكيره عن تفكير الشعب الذي يحكمه...
ينسحب الأمر على كل الدول التي يضيق فيها هامش الحرية، كالصين التي لم تنجح حتى الآن في إيجاد توازن بين تقدمها الصناعي والعلمي وتخلف حرياتها المدنية، وبعد انفضاح ضلوع بعض زعمائها في الهجوم على موقع «غوغل» مثلا، أقدمت سلطات بكين، ببساطة، على إغلاق موقع «ويكيليكس».
فضيحة الصحافة الأمريكية كانت مضاعفة وعلى أكثر من صعيد، لأنها تموت وتحيى على التسريبات، كما تموت وتحيى على محتوى التعديل الأول من الدستور، الذي يضمن حرية التعبير، فضلا على تبجحها بأنها الأفضل في العالم.
قد يكون «هجوم» معظم وسائل الإعلام الأمريكية نابعا -جزئيا على الأقل- من الغيرة، لأنها لم تقم بواجبها في «حفر» بئر الوثائق بشكل أفضل من «ويكيليكس»، فعمدت إلى نشر الوثائق المعارة من الموقع، لكنها عمدت في الوقت نفسه إلى التنديد بالموقع وبمؤسسه، كمن «يأكل النعمة ويسب الملة»...
يعود السبب الثاني، ربما، إلى نظرة متعالية للإعلام القديم تجاه الإعلام الجديد، بدعوى أن صحافيي الأنترنت لا يحتكمون إلى القواعد التقليدية للمهنة، رغم أن الإعلام الجديد أصبح سباقا هذه الأيام إلى فضح ممارسات الحكومة والمسؤولين، بطريقة بدا أنها تستعصي على «الإعلام القديم».
اكتشف سرَّ فضيحة مونيكا لوينسكي، مثلا، التي شغلت أمريكا والعالم في الولاية الثانية من حكم بيل كلينتون، في البداية، صحافي في مجلة «نيوزويك» لكنه «نام عليه» لبضعة أيام، إلى أن نشره موقع «درادج ريبورت» الإلكتروني وفجَّر به فضيحة أدت إلى محاكمة الرئيس، برلمانيا، وكادت تعصف برئاسته برمتها...
هناك من يعتقد أن ما فعله جوليان أسانج على موقعه الإلكتروني كان أفضل بكثير مما تفعله الصحف العالمية الكبرى، التي وزع عليها محتويات «كنوزه»، لأنه نشر الوثائق وترك الحكم للقارئ المهتم، دون أن يعلب له المعلومة، كما تفعل صحيفة «نيويورك تايمز» مثلا.
وعلى ذكر «نيويورك تايمز»، وعكس الاعتقاد واسع النطاق فإنها لم تتوصل هذه المرة بالوثائق السرية من «ويكيليكس» ولكن من زميلتها البريطانية «غارديان»، لأن الموقع وأصحابه كانوا غاضبين على ما يبدو من «نيويورك تايمز» ومن هجومها المتواصل إلى جوليان أسانج وبرادلي مانينيغ، الجندي الأمريكي المتهم بالتسريب في المقام الأول.
هناك جهات أخرى تعتقد أن حرمان «نيويورك تايمز» من «حصتها» هذه المرة من وثائق «ويكيليكس» كان نابعا، أيضا، من طريقة تعامل الصحيفة الأمريكية مع التسريبات السابقة حول حربي العراق وأفغانستان، والتي تم إفراغها من قوتها عبر «وضعها في السياق».
وقد آخذت مؤسسة «فير»، التي تعنى بمراقبة التحيز في الصحافة، على «نيويورك تايمز» انتقائيتها في وثائق «ويكيليكس»، والتي لم تر فيها سوى الموضوع الإيراني، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك في استخلاص عناوين مثيرة لا تدعمها الأدلة أو مضامين الوثائق نفسها. لقد طلعت الصحيفة الأمريكية بعنوان رئيسيي على صفحتها الأولى يحذر قائلا: «إيران تعزز ترسانتها بدعم من كوريا الشمالية».. واستندت في نص الخبر بثقة واضحة تحمل على الاعتقاد أن المعلومة لا يرقى إليها الشك: «تفيد التقديرات الاستخباراتية السرية للولايات المتحدة أن إيران حصلت على مجموعة من الصواريخ المتطورة، بُنيت بتصاميم روسية وتتمتع بقوة أكبر مما كانت تعتقد واشنطن في السابق أنه في حوزة الترسانة الإيرانية، حسب وثيقة دبلوماسية»، كما جاء في «نيويورك تايمز» في الأسبوع الماضي.
اعتمد تأكيد الصحيفة الأمريكية، في كليته، على وثيقة واحدة جاءت في الوثائق المسربة، تتحدث عما دار في اجتماع بين وفد أمريكي وآخر روسي. وواصلت الصحيفة، بطريقة ذكَّرت منتقديها بما كتبته في الأيام التي سبقت حرب الخليج عن ترسانة صدام حسين من أسلحة الدمار الشامل قائلة: «إن الصواريخ ستكون قادرة، لأول مرة، على إعطاء إيران القدرةَ على استهداف عواصم في أوربا الغربية، وبإمكانها أن تصل بسهولة إلى موسكو. وحذر مسؤولون أمريكيون من أن «قوة الدفع القوية لدى هذه الصواريخ قد تساعد على تطوير إيران للصواريخ الباليستية العابرة للقارات»، حسب ما جاء في «نيويورك تايمز».
لكن الصحيفة الأمريكية لم تنشر نص الوثيقة التي وفرت لها كل هذه المعلومات الخطيرة، بطلب من حكومة باراك أوباما، كما أنها لم تتعامل بالريبة المطلوبة مع وثيقة سرية مبنية على كلام بين دبلوماسيين، كما فعلت مع باقي الوثائق. كما أنها لم تنقل ريبة الروس، كما جاء في الوثيقة نفسها: «إن روسيا تشك في القاعدة التي اعتمدتها هذه القناعات وطلبت أدلة عن عمليات إطلاق أو صور أو غيرها. بالنسبة إلى روسيا، فإن «بي إم 25» صواريخ غريبة. سباق اللحظات الأخيرةلم تقم كوريا الشمالية بأي عملية تجريبية لهذه الصواريخ، لكن واشنطن تقول إنها سلمت طهران تسعة عشر (19) صاروخا منها. بالنسبة إلى روسيا، يبدو من الصعب تتبع هذا المنطق، لأنها لم تسجل أن هذا الصاروخ تم تطويره أو تجريبه، ولا تفهم روسيا كيف يمكن عقد صفقة حول صاروخ لم يتمَّ تجريبه... إن الإشارات إلى هذا الصاروخ توجد في الأدبيات السياسية وليس في تقنيات الواقع. باختصار، فإن روسيا تشك في وجود هذا النظام الصاروخي برمته».
بالنسبة إلى منتقدي «نيويورك تايمز»، خاصة من عالم الإعلام الجديد، فإن خلاصاتها تشكل تذكيرا مخيفا بالدرب الذي سلكته الصحيفة الأمريكية نفسها قبيل حرب الخليج واعتذرت عنه بعد ذلك، إلا أنها تعود الآن لترفع من خطورة أعداء أمريكا ولتُعبِّد الطريق أمام حرب محتملة، استنادا إلى وثائق كانت أول من قلل من تثيرها ومن أهميتها...
في واحدة من آخر مقابلاته الصحافية عبر الأنترنت، قبل أن يسلم نفسه للشرطة البريطانية، قال جوليان أسانج، في معرض رده على سؤال حول الأهمية الصحافية لما فعل وعن دور المسرب الأول للوثائق، برادلي مانينغ: «خلال السنوات الأربع الماضية، رفعنا مصدرنا إلى مرتبة القداسة، لأنه يخاطر ويجازف للحصول على كل تسريب صحافي وبدون تلك الجهود سيصبح الصحافيون لا شيء»!...
لقد بدأ الإعلام الجديد، بالفعل، تهديده للإعلام الورقي «القديم» على مستوى الشكل منذ فترة ليست بالقصيرة، لكنه بدأ على ما يبدو تهديده على مستوى المضمون، أيضا.
لقد قضى صحافيو «نيويورك تايمز»، كزملائهم في مختلف أنحاء العالم، أسبوعا كاملا ينقبون في المادة الصحافية الخام التي وضعها بين أيديهم موقع «ويكيليكس»، وإن كان ذلك ليس كافيا للاقتناع بأن قبيلة من الصحافيين عليهم أن يتساءلوا لماذا تراجعت أسهم «بنك أمريكا»، حينما هدد أسانج باستهداف مؤسسة مصرفية أمريكية كبيرة في الحلقة القادمة من التسريبات!...
«نيويورك تايمز» في المرمى
تتعرض «نيويورك تايمز»، التي تعد من أفضل الصحف في أمريكا والعالم، مؤخرا، لانتقادات واسعة، من اليمين ومن اليسار على السواء، وجاء تعاملها مع أحدث تسريب لوثائق «ويكيليكس» لتعميق غضب منتقديها، خاصة من اليسار.
لقد بدأت الصحيفة الأمريكية، التي وضعها الرئيس ريتشارد نيكسون على القائمة السوداء ورفع ضدها قضية وصلت إلى المحكمة العليا في سبعينيات القرن الماضي بسبب ما كان يعرف بوثائق «البنتاغون» عن حرب فيتنام، (بدأت) تتخلى، في نظر منتقديها، عن دورها الريادي في «المراقبة».
وفي واقعة معبرة عن دور الإعلام الجديد في مراقبة الإعلام القديم، ذكّر أحد منتقدي الصحيفة بواقعة الوثائق التي سُرِّبت في لندن عام 2005 عن حرب الخليج. كانت الوثائق التي عُرِفت أيامها بمذكرات «دوانينغ ستريت» عبارة عن محاضر اجتماعات بين مسؤولين كبار في الحكومتين البريطانية والأمريكية تكشف جهودهم لشن الحرب على العراق وجهود التستر على إخفاقات الحكومتين. وقد تزامن نشر المذكرات في الصحف البريطانية مع الانتخابات، وهناك وفسر توقيت التسريب على أنها محاولة لإحراج طوني بلير وحزب العمال. لقد «غطت» صحيفة «نيويورك تايمز» عملية التسريب في صفحاتها الداخلية، وفي «سياق» الانتخابات البريطانية، دون أي تركيز على الطرف الأمريكي، وكأن الحرب جرت في كوكب آخر أو خاضها البريطانيون لوحدهم!...
وشنّ «محاربو» الإعلام الجديد من مدوني الشبكة العنكبوتين حملة قوية على الصحيفة الأمريكية إلى درجة حملت وسيط الصحيفة أو مراقبها الداخلي على نشر شبه اعتذار، وعزا الخطأ إلى «إهمال مكتب التغطيات الخارجية في الصحيفة إشراك قسم التغطيات الوطنية في تلك المعلومات».